التفسير و المفسرون(للمعرفة) المجلد 2

اشارة

سرشناسه : معرفت هادي

عنوان و نام پديدآور : التفسير و المفسرون في ثوبه القشيب تاليف محمدهادي معرفه

مشخصات نشر : مشهد: الجامعه الرضويه للعلوم الاسلاميه 1418ق 1377 -

مشخصات ظاهري : ج.

شابك : 3500 ريال (دوره) ؛ 150000 ريال ( دوره، چاپ چهارم) ؛ ج.1، چاپ چهارم : 978-964-7673-55-6 ؛ 120000 ريال ج.2، چاپ سوم : 978-964-7673-34-1

يادداشت: عربي

يادداشت: ج. 1 (چاپ چهارم: 1429ق. = 1387).

يادداشت : ج 2 (چاپ اول 1419ق = 1377).

يادداشت : ج.2 (چاپ سوم: 1428 ق.=1386).

يادداشت : كتابنامه

موضوع : مفسران.

موضوع : تفسير -- فن

شناسه افزوده : دانشگاه علوم اسلامي رضوي

رده بندي كنگره : ‮ BP91/5 /م 6ت 7 1377

رده بندي ديويي : ‮ 297/171

شماره كتابشناسي ملي : م 77-13769

[الجزء الثانى]

[تتمة التفسير نشأته و تطوّره

المرحلة الخامسة التفسير في عهد التدوين

اشارة

النمط الأول التفسير بالمأثور* أنحاء التفسير بالمأثور:

1- تفسير القرآن بالقرآن 2- تفسير القرآن بالسنة 3- تفسير القرآن بقول الصحابي 4- تفسير القرآن بقول التابعي* آفات التفسير بالمأثور 1- ضعف الأسانيد 2- الوضع في التفسير 3- الإسرائيليات* أشهر كتب التفسير بالمأثور

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 9

شكر و تقدير

و يجدر بنا أن نقدّر خدمات فنّية و علميّة قام بها كل من أصحاب الفضيلة:

نصيري، مرويان، بهادري، اكبري، مريجكاني، شهركي فلاح، على زاده، حاتمي، شيخ حافظ في إنجاز هذا المشروع الضخم و ساهموا فى مراجعته و إخراجاته الفنيّة و إعداد فهارسه و تنضيد حروفه المطبعيّة بالحاسب الإلكتروني و غيرها، في قسم الدراسات القرآنيّة في الجامعة الرضويّة. فنقدّم لهم جزيل شكرنا المتواصل و نبتهل إلى اللّه أن يوفّق الجميع لخدمة الدين و لا سيمّا أساسه القويم القرآن الكريم إنّه تعالى ولى التوفيق.

الجامعة الرضويّة للعلوم الإسلاميّة قسم الدراسات القرآنية

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 11

التفسير في عهد التدوين

كان التفسير في عهد نشوئه إنّما يتلقّى شفاها و يحفظ في الصدور، ثم يتناقل نقل الحديث يدا بيد. هكذا كان التفسير على عهد الرسالة، و على عهد الصحابة و التابعين الأوّل. أما في عهد تابعي التابعين، فجعل يضبط و يثبت في الدفاتر و الألواح؛ و بذلك بدأ عهد تدوين التفسير إلى جنب كتابة الحديث، و ذلك في أواسط القرن الثاني؛ حيث راج تدوين الأحاديث المأثورة عن السلف.

و لعل أوّل من سجل التفسير في الدفاتر و الألواح هو مجاهد بن جبر، توفّي سنة (101). يقول ابن أبي مليكة: «رأيت مجاهدا يسأل ابن عباس عن تفسير القرآن، و معه ألواحه. فيقول له ابن عباس: اكتب. قال: حتى سأله عن التفسير كلّه» «1». و كان أعلم الناس بالتفسير. قال الفضل بن ميمون: «سمعت مجاهدا يقول: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة» «2».

و له تفسير متقطّع و مرتّب على السور، من سورة البقرة إلى نهاية القرآن.

(1) راجع: تفسير الطبري، ج 1، ص 31.

(2) تهذيب التهذيب لابن حجر، ج 10، ص 43.

التفسير و

المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 12

يرويه عنه أبو يسار عبد اللّه بن أبي نجيح الثقفي الكوفي، توفّي سنة (131) و قد صححه الأئمة و اعتمده أرباب الحديث، و قد طبع أخيرا في باكستان سنة (1367 ه ق) حسبما تقدم في ترجمته.

و يذكر ابن حجر عند ترجمته لعطاء بن دينار المصري- و كان من ثقات المصريين، توفّي سنة (126)- أنّ له تفسيرا يرويه عن سعيد بن جبير، قتل سنة (95) و كان في صحيفة. قال: و لا دلالة أنّه سمع من سعيد بن جبير. و عن أبي حاتم أنه أخذه من الديوان؛ و ذلك أنّ عبد الملك بن مروان، توفي سنة (86) سأل سعيدا أن يكتب إليه بتفسير القرآن، فكتب سعيد بهذا التفسير. فوجده عطاء بن دينار في الديوان فأخذه، فأرسله عن سعيد «1».

فهذا صريح في أنّ سعيد بن جبير جمع تفسير القرآن في كتاب، و هذا الكتاب أخذه عطاء بن دينار. و بما أنّ سعيد بن جبير قتل سنة (95) و لا شكّ أنّ تأليفه هذا كان قبل موت عبد الملك سنة (86) فهذا التفسير قد كتب و دوّن قبل هذا الحين.

و يذكر ابن خلكان: أنّ عمرو بن عبيد- شيخ المعتزلة، توفي سنة (144)- كتب تفسيرا للقرآن عن الحسن البصري المتوفى سنة 116 «2».

و لابن جريج، توفّي سنة (150) تفسير كبير في ثلاثة أجزاء، يرويه بواسطة عطاء بن أبي رباح عن ابن عبّاس، توفي سنة (68)، و يرويه عنه محمّد بن ثور.

و قد صححته الأئمة «3». و ذكر أحمد بن حنبل: أنّه أوّل من صنّف الكتب «4».

(1) تهذيب التهذيب، ج 7، ص 198- 199، رقم (382).

(2) وفيات الأعيان لابن خلكان، ج 3، ص 462،

رقم (3. 5).

(3) الإتقان للسيوطي، ج 4، ص 208.

(4) تهذيب التهذيب، ج 6، ص 403- 404.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 13

و أمثال هذه التفاسير ممّا كتب على الألواح أو في صحائف ذلك العهد كثير، كانت تقتضيه طبيعة الأخذ و التلقّي ذلك الحين، و قد قلّ الاعتماد على الحفظ و الضبط في الصدور.

غير أنّ هذه التفاسير كانت مقتصرة على نقل المعاني و روايتها عن التابعين و الأصحاب، و ثبتها في الدفاتر خشية الضياع، و لم يكن التفسير قد توسّع أو دخله الاجتهاد في شكل ملحوظ.

و لعلّ أوّل من توسّع في التفسير و ضمّ إلى جانب المعاني جوانب أخر و لا سيّما التعرّض لأدب القرآن و ذكر خصائص اللّغة، و اجتهد في ذلك، هو أبو زكريا يحيى بن زياد الفرّاء المتوفّى سنة (207).

يذكر ابن النديم في «الفهرست» أنّ أبا العبّاس ثعلب قال: كان السبب في إملاء كتاب الفرّاء في معاني القرآن، أنّ عمر بن بكير كان من أصحابه، و كان منقطعا إلى الحسن بن سهل. فكتب إلى الفرّاء: أنّ الأمير الحسن بن سهل، ربّما سألني عن الشي ء بعد الشي ء من القرآن، فلا يحضرني فيه جواب. فإن رأيت أن تجمع لي أصولا، أو تجعل في ذلك كتابا، أرجع إليه فعلت. فقال الفرّاء لأصحابه:

اجتمعوا حتى أملي عليكم كتابا في القرآن، و جعل لهم يوما، فلمّا حضروا خرج إليهم، و كان في المسجد رجل يؤذّن و يقرأ بالناس في الصلاة. فالتفت إليه الفرّاء، فقال له: اقرأ بفاتحة الكتاب نفسّرها، ثمّ نوفي الكتاب كلّه. فقرأ الرجل و يفسّر الفرّاء. قال أبو العبّاس: لم يعمل أحد قبله مثله، و لا أحسب أنّ أحدا يزيد عليه «1».

(1) الفهرست

لابن النديم، ص 105.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 14

و لا شكّ أنّ تفسير الفرّاء هذا هو أوّل تفسير تعرض لآيات القرآن آية آية، حسب ترتيب المصحف و فسّرها على التتابع، و توسّع فيه. و كانت التفاسير قبله تقتصر على تفسير المشكل، و بصورة متقطّعة، غير مستوعبة لجميع الآيات على التتابع. و قد جنح إلى هذا الرأي الأستاذ أحمد أمين المصري في «ضحى الإسلام» «1».

و على أيّ تقدير، فإنّ ذلك يعدّ أوّل بذرة غرست للتفسير المدوّن بشكل رتيب. فقد كان القرن الثاني من بدايته إلى نهايته، عهد تطوّر التفسير، من مرحلة تناقله بالحفظ إلى مرحلة كتابته بالثبت. كما أخذ بالتوسّع و الشمول أيضا بعد ما كان مقتصرا على النقل بالمأثور.

و ازداد في القرن الثالث فما بعد، في الأخذ في التنوّع، و تلوّنه بألوان العلوم و المعارف و الثقافات التي كانت دارجة في تلك العصور.

تدرّج التفسير و تلوّنه

و في هذا الدور أخذ التفسير يخطو من مرحلة إلى أخرى و يزداد توسّعا و تنوّعا. فقد انتقل من دور التفسير بالمأثور إلى دور الاجتهاد العقلي و إعمال النّظر و الرأي، و استنباط معاني القرآن الكريم في ضوء الأدب- أوّلا- ثمّ في ضوء أنواع العلوم و المعارف الّتي كان ذلك العهد أهلا بها، مضافا إليه بعض النظرات الفلسفية الكلامية، ممّا نشأ على يد أرباب الكلام و ذوي النزعات المذهبية العقائدية، و كانت متنوّعة ذلك العهد. كل ذلك أثّر في التفسير، و زاد في حجمه،

(1) ضحى الإسلام، ج 2، ص 140- 141.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 15

كما جعله على أنواع و أشكال مختلفة.

فمنهم من اقتصر على أسلوب السلف بالاكتفاء بالتفسير بالمأثور من أقوال الصحابة و كبار التابعين، و

منهم من زاد عليه بالتوسّع في اللغة و الأدب، و منهم من تجاوز إلى معارف أخر من فلسفة و كلام؛ و بذلك تلوّن التفسير حسب ألوان الثقافات الموجودة آنذاك.

و لكلّ من هذه الألوان و الأنحاء التفسيرية مميّزاته و مشخّصاته، بها يمتاز كل نوع من التفسير عن سائر الأنواع، و منهم من جمع بين هذه الألوان أو بعضها؛ فكانت تفاسير جامعة تتعرّض لمختلف أبعاد التفسير، كاللغة و الأدب و الكلام، إلى جنب المأثور من الأحاديث الواردة و نقل الأقوال. و قد كثر في العهد المتأخّر هذا النمط الجامع من التفسير، كما قد زاد عليه المتأخّرون جوانب الشّئون الاجتماعية و السياسية الّتي تعرّض لها القرآن، و بسّطوا القول فيها حسب حاجة الزمن.

و هكذا تدرّج التفسير، و اتّجهت الكتب المؤلّفة فيه اتجاهات متنوعة و تحكّمت الاصطلاحات العلمية و العقائد المذهبية في عبارات القرآن الكريم، فظهرت آثار الثقافة الفلسفية و العلمية للمسلمين في تفسير القرآن، كما ظهرت آثار العرفان الصوفي، و آثار النحل و الأهواء فيه ظهورا جليّا.

و ذلك أنّ كل من برع في فنّ من فنون العلم و الأدب، يكاد يقتصر تفسيره على الفنّ الّذي يرع فيه. فالنحويّ تراه لا همّ له إلّا الإعراب، و ذكر ما يحتمل في ذلك من أوجه. و تراه ينقل مسائل النحو و فروعه و خلافاته، و ذلك كالزجّاج، و الواحدي في «البسيط»، و أبي حيّان في «البحر المحيط».

و صاحب العلوم العقلية تراه يعني في تفسيره بأقوال الحكماء و الفلاسفة، كما يذكر شبههم و الردّ عليها، و ذلك كالفخر الرازي في كتابه «مفاتيح الغيب».

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 16

و صاحب الفقه تراه قد عنى بتقريره الأدلّة للفروع الفقهيّة، و الردّ على

من يخالف مذهبه، و ذلك كالجصاص و القرطبي و أمثالهما كثير.

و صاحب التاريخ ليس له شغل إلّا القصص، و ذكر أخبار السلف، ما صحّ منها و ما لم يصحّ، و ذلك كالثعلبي و الخازن و غيرهما.

و أصحاب المذاهب الكلامية إنما يحاولون تأويل الظواهر إلى ما يتّفق و مذاهبهم في الكلام، و يقصرون الكلام في تفاسيرهم على هذا الجانب؛ حيث يتوسعون فيه، و ذلك كالرماني و الجبائي، و القاضي عبد الجبّار، و الزمخشري و الفيض الكاشاني.

و أرباب التصوّف و العرفان الصوفيّ إنما يتّجهون بكل اتّجاهاتهم إلى ناحية تزكية الروح و تطهير النفس، و الترفع بها إلى ذروة الأخلاق الحميدة، كما يحاولون في استخراج المعاني الإشارية- حسبما يزعمون- من الآيات القرآنية بما يتّفق مع مشاربهم، و يتناسب مع رياضاتهم و مواجيدهم في عرفان الذات.

و من هؤلاء ابن عربي، و أبو عبد الرحمن السلمي، و القشيري في «لطائف الإشارات»، و الفيض الكاشاني في أكثر مواضع تفسيره.

و هكذا فسّر كل صاحب فنّ أو مذهب بما يتناسب مع فنّه أو يشهد لمذهبه.

و قد استمرّت هذه النزعة العلمية و العقائدية، و راجت في فترة غير قصيرة رواجا عظيما، كما راجت في عصر متأخّر تفسيرات يحاول أهلها أن يحملوا آيات القرآن كل العلوم ما ظهر منها و ما لم يظهر، كأنّ هذا فيما يبدو وجه وجوه إعجاز القرآن و صلاحيته، لأن يتمشى مع الزمن، فيما زعموا.

أما في عصرنا الحاضر فقد راج اللّون الأدبي الاجتماعي على التفسير، و وجدت بعض محاولات علميّة، في كثير منها تكلّف باهت و غلوّ ظاهر و سنتكلّم عن مختلف هذه الألوان، بما وسع لنا المقال إن شاء اللّه.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 17

كان التفسير في اجتيازه

تلك المراحل و تطوّره مع سير الزمان، قد وجدت له ألوان و ظهرت أشكال، أشرنا إليها. غير أنّ هذه الأشكال و الألوان لم تزل مستمرة، و دام وجودها في كل عصر من الأعصار. و من ثمّ فإنّ المفسرين لم يزالوا يتنوّعون في التفسير، و تظهر على أيديهم أنواع من التفسير، حسب مختلف براعاتهم في الفنون و العلوم، و تخصّصاتهم في أنحاء المعارف و الثقافات؛ و بذلك نستطيع أن ننوّع التفسير منذ عهد تدوينه فإلى الآن، إلى أنواع مختلفة:

و لقد كان التفسير في بدء نشوئه متقطّعا و مترتّبا حسب ترتيب السور و الآيات. كان المفسّر يراجع شيخه في مواضع من القرآن، كان قد أشكل عليه فهمه، فيسأله عنه و يسجّله في دفتره، مبتدئا من أوّل القرآن إلى آخره. هذا هو نمط التفسير المأثور عن السلف، المحفوظ بعضه إلى اليوم، كتفسير مجاهد و غيره.

فأوّل نوع من التفسير الذي جاء إلى الوجود هو «التفسير بالمأثور» و متقطعا، و لكن مرتّبا حسب ترتيب السور و الآيات. ثم بعده أخذ في تشكّل أكثر و انسجام أبلغ، مضافا إليه بعض التوسّع و التنوّع، كما عرفت.

و لكن ظهر إلى جنب هذا النوع من التفسير الترتيب، نوع آخر تعرض للجوانب الفقهيّة أو اللغويّة فقط، تاركا جوانبه الأخر، و هذا نوع من «التفسير الموضوعي» الذي ظهر إلى عالم الوجود، من أوّل يومه و لا يزال.

فهذه كتب آيات الأحكام، و كتب غريب القرآن، هي تفاسير موضوعيّة، مقتصرة على جانب فهم الأحكام، و استنباط فروع المسائل من القرآن، و هكذا تفسير ما ورد في القرآن من غريب الألفاظ.

و هكذا تنوّع التفسير من أوّل يومه إلى تفسير رتيب و تفسير موضوعي، غير أنّ التفسير الرّتيب كان مقتصرا

في الأكثر على المأثور من الأقوال و الآثار،

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 18

و الموضوعي على الفقه و اللغة فحسب. و زاد المتأخرون جانب الناسخ و المنسوخ في القرآن، و أسباب النزول، و غيرهما من مواضيع قرآنية، أفردوا لها كتبا تبحث عنها بالخصوص.

و التفسير الرتيب مذ نشأ، نشأ على نمطين: تفسير بمجرد المأثور من الآراء و الأقوال، و تفسير اجتهادي معتمد على الرأي و النظر و الاستدلال العقلاني.

و من هذا النمط الثاني التفاسير التي غلب عليها اللّون المذهبي أو الكلامي أو الصوفي العرفاني- و هو من التفسير الباطني في مصطلحهم- و كذلك اللغوي و الأدبي و ما شاكل. و هناك من جمع بين هذه الأبعاد المتنوّعة، فجاء تفسيره جامعا لمختلف الجوانب التي تعرّض لها المفسّرون المتخصّصون.

و قد شاع هذا النمط الجامع من التفسير في العصور المتأخّرة، فكانت تفاسير جامعة بين العقل و النقل، مضافا إليه جانب أدب القرآن، أمثال تفسير أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي- من أكبر علماء القرن السادس- و بحق أسمى تفسيره ب «مجمع البيان»؛ حيث كان من أحسن التفاسير و أجمعهن لمختلف جوانب القرآن الكريم. و هكذا تفسير أبي عبد اللّه محمّد بن أحمد القرطبي- من علماء القرن السابع- المسمّى ب «الجامع لأحكام القرآن»، فإنه تفسير جامع نافع، و غيرهما كثير، و سنتعرّض لها.

و أما التفاسير المقتصرة على مجرد النقل فأقدمها من حيث البسط و الشمول تفسير «جامع البيان» تأليف أبي جعفر محمّد بن جرير الطبري المتوفّى سنة (310)، ثم «الدرّ المنثور» لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي المتوفّى سنة (911)، و بعدهما تفسير «نور الثقلين» لعبد علي بن جمعة العروسي الحويزي المتوفّى سنة (1091)» و «البرهان في

تفسير القرآن» للسيد هاشم بن

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 19

سليمان البحراني التوبلي الكتكاني المتوفّى سنة (1109)، و هذان اقتصرا على المأثور عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام. و قد زاد عليهما و بسط الكلام في هذا النوع من التفسير المولى صالح البرغاني القزويني المتوفّى سنة (1294)، له تفسير كبير معتمد على المأثور من أحاديث أهل البيت عليهم السّلام.

و أما المناهج التفسيرية التي يسلكها المفسّر و يتّجه نحوها في تفسيره للآيات القرآنية، فتختلف حسب اختلاف اتجاهات المفسرين و أذواقهم، و أيضا حسب معطياتهم و مواهبهم في العلوم و المعارف و أنحاء الثقافات، فمنهم من لا يعدو النقل، معتقدا أن لا سبيل للعقل في تفسير كلامه تعالى، و منهم من أجاز للعقل التدخّل فيه، و يرى للرأي و النظر و الاجتهاد مجالا واسعا في التفسير؛ حيث قوله تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «1» و قوله تعالى:

وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ «2» فللتّدبّر في القرآن، و التفكّر حول آياته و مفاهيمه مجال واسع، قد فتح القرآن ذاته أبوابه بمصراعين. غير أنّ بعضهم أسرف في التعقّل، و ربّما التحق بالتوهّم المتكلّف فيه.

و على أيّ تقدير، فالمنهج الذي انتهجه المفسرون إمّا نقليّ أو اجتهاديّ.

و قد عرفنا سبيل النقلي و اعتماده على المأثور من الآراء و الأقوال، إما مع شي ء من البيان و التوضيح، كما سلكه أبو جعفر الطبري، أو مجرد النقل من غير نظر و بيان، كالذي انتهجه جلال الدين السيوطي و السيد البحراني.

و أما النظري الاجتهادي فمعتمده إما مجرد الرأي الخاصّ حسب عقيدته

(1) محمّد/ 24.

(2) النحل/ 44.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص:

20

و مذهبه، فهذا كأكثر تفاسير أهل الباطن. أو مجموعة مصادر التفسير من المنقول و المعقول، و هذا هو الشائع من التفاسير المعتبرة الدارجة بين المسلمين، منذ العهد الأول و لا يزال.

و لنذكر هذين النمطين من التفسير، اللّذين بدئ بهما منذ أوّل يومه، و نذكر شيئا من آفاتهما.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 21

النمط الأول التفسير بالمأثور
اشارة

يعتمد التفسير النقلي أو التفسير بالمأثور على ما جاء في القرآن نفسه من البيان و التفصيل أولا، ثم على ما

نقل عن المعصوم: النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو الأئمة من خلفائه المرضيين عليهم السّلام

، و بعده على المأثور من الصحابة الأخيار و التابعين لهم بإحسان رضي اللّه عنهم، ممّا جاء بيانا و توضيحا لجوانب أبهم من القرآن.

و كان إدراج ما روي عن التابعين في التفسير بالمأثور، من جهة أنّ أقدم كتب التفسير بالمأثور كتفسير ابن جرير و غيره اعتمد على أقوال التابعين و آرائهم في التفسير، على نحو اعتماده على المأثور من المعصوم. فنراهم قد أردفوا ما نقل عن التابعين إلى جنب المنقول عن الصحابة، بل إلى جنب أحاديث الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و سائر الأئمة عليهم السّلام.

و لنتكلم عن أنحاء التفسير بالمأثور، و مقدار صحته، و مدى اعتباره، في

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 22

عالم التفسير:

[أنحاء التفسير بالمأثور]
1- تفسير القرآن بالقرآن

لا شك أنّ أتقن مصدر لتبيين القرآن هو القرآن نفسه؛ لأنّه

ينطق بعضه ببعض، و يشهد بعضه على بعض «1»- كما قال الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام

- حيث ما جاء منه مبهما في موضع منه، قد جاء مفصّلا و مبيّنا في موضع آخر، بل و في القرآن تبيان لكل شي ء جاء مبهما في الشريعة، فلأن يكون تبيانا لنفسه أولى.

و من ذلك جاء

قولهم: «القرآن يفسر بعضه بعضا»

كلام معروف.

و تفسير القرآن بالقرآن على نمطين: منه ما أبهم في موضع و بيّن في موضع آخر- فكان أحدهما متناسبا مع الآخر تناسبا معنويّا أو لفظيّا- كما في قوله تعالى:

حم. وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «2» و قد جاء

تبيين هذه الليلة المباركة بليلة القدر في سورة القدر: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «3» و قد بيّن في سورة البقرة أنها واقعة في شهر رمضان: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «4».

فقد تبين من مجموع ذلك: أن القرآن نزل في ليلة مباركة هي ليلة القدر من شهر رمضان.

و من ذلك أيضا قوله تعالى:

(1) نهج البلاغة، خ 133، ص 192 (صبحي صالح).

(2) الدخان/ 1- 3.

(3) القدر/ 1.

(4) البقرة/ 185.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 23

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ. وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ «1» ما هذه الحيلولة و كيف هي، و هو تهديد لاذع بأولئك الزائفين المتمرّدين عن الشريعة و الدين.

و هذا الإبهام يرتفع عند مراجعة قوله تعالى: وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ. أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ «2». فعرفنا أنها نسيان الذات، فالذي يجعل من شريعة اللّه وراء ظهره، إنما حرم نفسه و نسي حظّه، فقد تاه في غياهب ضلالة الجهل و العمى.

و هكذا قوله تعالى: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها. وَ اللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ. وَ هُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ «3» ما هو المقصود من «الأرض» هنا في هذه الآية، و كيف يقع نقصانها؟

أمّا الأرض فالمقصود منها هو العمران منها، و ليس المراد هي الكرة الأرضيّة.

و يشهد لذلك قوله تعالى بشأن المحاربين المفسدين في الأرض: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا. أَوْ يُصَلَّبُوا. أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ. أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ. ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي

الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ «4». فإنّ النفي من الأرض، يراد به الإبعاد عن العمران ليظل حيرانا بين البراري و القفار.

أما كيف يقع النقصان؟

فقد فسّره الإمام أبو جعفر محمّد بن علي الباقر عليه السّلام و كذا ولده الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام بفقد العلماء، و أن عمارة الأرض

(1) الأنفال/ 24.

(2) الحشر/ 19.

(3) الرعد/ 41.

(4) المائدة/ 33.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 24

سوف تزول و تندثر عند ذهاب علمائها و خيار أهلها

، و هكذا ورد تفسير الآية بذلك عن ابن عباس «1».

و من هذا النمط أيضا قوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا «2».

ما هذه الأمانة التي كان الإنسان صالحا لحملها، دون سائر المخلوق؟

فجاءت آية أخرى تفسّرها بالخلافة: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً «3».

ثمّ ما هذه الخلافة الّتي منحت للإنسان، و حظي بها هذا المخلوق دون سائر الخلق؟

كانت آية ثالثة تفسر الخلافة بقدرة الإبداع و إمكان التصرّف في ساحة الوجود: أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ «4» وَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً «5» فقدرة الإنسان التسخيريّة و إمكان تصرّفه في عالم الوجود، علوّه و سفله، هي قدرته الإبداعيّة الّتي تمثّل قدرة اللّه الحاكمة على عالم الوجود بذاته المقدّسة.

فجاءت كل آية تفسّر أختها، و القرآن يفسّر بعضه بعضا.

(1) راجع: تفسير البرهان للبحراني، ج 2، ص 301- 302.

(2) الأحزاب/ 72.

(3) البقرة/ 30.

(4) لقمان/ 20.

(5) الجاثية/ 13.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص:

25

و النمط الآخر من تفسير القرآن بالقرآن، كان ما جاء فيه البيان غير مرتبط ظاهرا لا معنويّا و لا لفظيّا مع موضع الإبهام من الآية الأخرى، سوى إمكان الاستشهاد بها لرفع ذلك الإبهام.

مثال ذلك، آية السرقة؛ حيث أبهم فيها موضع قطع اليد،

فقد بيّن الإمام أبو جعفر محمد بن علي الجواد عليه السّلام أنّه من موضع الأشاجع (مفصل أصول الأصابع) مستشهدا لذلك بقوله تعالى: وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً «1» حيث إنّ السارق إنّما جنى على نفسه؛ فتعود عقوبته إلى ما يمسّه من الأعضاء، و بما أن مواضع السجود للّه تعالى، لا يشركه فيها أحد، و راحة الكف من مواضع السجود للّه، فلا موضع للقطع فيها «2».

و جميع الآيات التي بظاهرها التشبيه، يفسّرها قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ «3» حيث إنّها تنفي التشبيه على الإطلاق، فلا بدّ هناك في آيات التشبيه من تأويل صحيح

2- تفسير القرآن بالسنّة

لا شك أن مجموعة أحكام الشريعة و فروع مسائلها، جاءت تفاصيل عمّا أبهم في القرآن و أجمل من عموم و إطلاق. و هكذا ما ورد في لسان المعصوم و فعله و تقريره، بيانا لمختلف أبعاد الشريعة، هي بيانات عمّا جاء في القرآن من

(1) الجنّ/ 18.

(2) راجع: تفسير العياشي، ج 1، ص 319- 320.

(3) الشورى/ 11.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 26

رءوس الأحكام و الأخلاق و الآداب.

قال اللّه تعالى مخاطبا نبيّه الكريم: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ «1». فقد كانت وظيفة النبيّ الأساسيّة هي بيان و تبيين ما جاء في الذكر الحكيم، و كل ما صدر عنه في بيان أبعاد الشريعة، فإنّما هو تفسير للقرآن الكريم.

هذا

فضلا عمّا سئل عن معاني القرآن، حيثما أبهم على الصحابة، فبيّنه لهم في شرح و تبيين، على ما أسلفنا في الكلام عن التفسير المأثور عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و هكذا ما ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام تفسيرا لما أبهم أو تفصيلا لما أجمل في القرآن الكريم. و قد تكلّمنا عن دور أهل البيت في التفسير في فصل خاص.

3- تفسير القرآن بقول الصحابي

و نحن قد تكلّمنا عن قيمة تفسير الصحابي الّذي تربّى في أحضان الرسالة، و قد أخذ العلم مباشرة من منهله العذب السائغ، و كان ممن تفقّه على يده الكريمة، و تحت هديه و إرشاده المستقيم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلا بدّ أنّهم- أي صحابته الأخيار- أقرب الناس فهما إلى معاني القرآن الحكيمة، و أهداهم إلى معالمه الرشيدة.

هذا ابن مسعود يقول: «كان الرجل منا إذا تعلّم عشر آيات، لم يجاوزهنّ حتى

(1) النحل/ 44.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 27

يعلم معانيهنّ و العمل بهنّ» «1».

و هذا

الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام يقول: «و إنما هو تعلّم من ذي علم ... علم علّمه اللّه نبيّه فعلّمنيه و دعا لي بأن يعيه صدري و تضطمّ عليه جوانحي» «2».

إلى غير ذلك من تصريحات تنبؤك عن مدى حرصه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على تعليم صحابته و تثقيفهم الثقافة الإسلامية القرآنية الكاملة.

4- تفسير القرآن بقول التابعي

لا شك أنّ التابعين هم أمسّ جانبا بأحاديث الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و العلماء من صحابته الأخيار، و كانوا أقرب فهما لمعاني القرآن الكريم؛ حيث قربهم بأصول معاني اللغة الفصحى غير المتحوّرة، الباقية على صفوها الأوّل، كما كانت الحوادث و الوقائع المقترنة بنزول الآيات، و الموجبة أحيانا للنزول، كانت تلك الحوادث و الأسباب و الموجبات في متناولهم القريب، كما كان باب الفهم و السؤال لديهم مفتوحا، و بالتّالي كان باب العلم بأسباب النّزول و فهم معاني القرآن و السؤال عن مواضع الإبهام فيه منفتحا لهم بمصراعين، الأمر الذي لم يحظ بها من تأخر من أرباب التفسير.

هذا، و مع ذلك إنما نعتبر قول التابعي شاهدا و مؤيّدا، و ليس

حجّة على الإطلاق، كما كان حديث المعصوم عليه السّلام حجة برأسه، أو قول الصحابي بالنسبة و في الغالب الأكثر حجة معتبرة، فإنّما يقع قول التابعي في الدرجة الثالثة من

(1) تفسير الطبري، ج 1، ص 27 و 30.

(2) نهج البلاغة، خ 128، ص 186 (صبحى صالح).

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 28

الاعتبار، و ليس على إطلاقه.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 29

آفات التفسير بالمأثور
اشارة

علمنا أن التفسير النقلي يشمل ما كان تفسيرا للقرآن بالقرآن، و ما كان تفسيرا للقرآن بالسنّة، و ما كان موقوفا على الصحابة، أو المروي عن التابعين. أما تفسير القرآن بالقرآن بعد وضوح الدلالة، أو بما ثبت من السنّة الصحيحة فذلك ممّا لا خلاف فيه و لا شك يعتريه؛ لأنه من أحسن الطرق إلى فهم معاني كلامه تعالى، و أمتنها و أتقنها.

و أما ما أضيف إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو إلى أحد الأئمة الأطهار، و كان في سنده ضعف أو في متنه وهن، فذلك مردود غير مقبول، ما دام لم تصح نسبته إلى المعصوم.

و أما تفسير القرآن بالمروي عن الصحابة و التابعين، فقد تسرّب إليه الخلل، و تطرّق إليه الضعف و الوهن الكثير، إلى حدّ كاد يفقدنا الثقة بكل ما روي من ذلك- كما قال الأستاذ الذهبي «1»- حيث و فرة أسباب الضعف و الوهن في ذلك الخضمّ من المرويّات، في كتب التفسير المعزوّة إلى الصحابة و التابعين. و قد

(1) التفسير و المفسرون، ج 1، ص 156.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 30

خلط سليمها بسقيمها؛ بحيث خفي وجه الصواب.

و لقد كانت كثرة المروي من ذلك كثرة جاوزت الحدّ، و بخاصّة ما إذا وجدنا

التناقض و تضارب الأقوال، و كثيرا ما تضادّ ما نسب إلى شخص واحد، كالمرويات عن ابن عباس، كان ذلك من أكبر عوامل زوال الثقة بها أو بالأكثرية الساحقة منها، الأمر الذي يستدعي التثبّت لديها، و إمعان النظر و البحث و التمحيص.

هذا الإمام أحمد بن حنبل يصرّح بأنه لم يثبت في التفسير شي ء، يقول: ثلاث كتب لا أصل لها: المغازي، و الملاحم، و التفسير. قال المحققون من أصحابه:

مراده أنّ الغالب أنه ليس لها أسانيد صحاح متّصلة «1».

و هذا الإمام محمد بن إدريس الشافعي يقول: لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلّا شبيه بمائة حديث «2». مراده: عدم صحّة الإسناد إليه في الكثير من المرويّات عنه.

و هذا الكلام، و إن كان مبالغا فيه، إلّا أنّه يدلّنا على مبلغ ما دخل في التفسير النقلي من الروايات المكذوبة المصطنعة، فضلا عن الضعاف و المراسيل.

و على أيّ تقدير فأسباب الوهن في التفسير النقلي تعود إلى الأمور الثلاثة التالية:

أوّلا: ضعف الأسانيد و إرسالها أو حذفها رأسا؛ مما يوجب القدح في التفسير بالمأثور.

و ثانيا: كثرة الوضع و الدسّ و التزوير في الحديث و التفسير، بما أوجب

(1) الإتقان، ج 4، ص 180.

(2) المصدر نفسه، ص 209.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 31

زوال الثقة به.

و ثالثا: و فرة الإسرائيليّات في التفسير و التاريخ بما شوّه وجه التفسير.

و لنتكلّم عن هذه الأمور الثلاثة في شي ء من التوضيح:

1- ضعف الأسانيد

مما أوجب الوهن في وجه التفسير النقلي، ضعف الأسانيد بكثرة المجاهيل أو ضعاف الحال أو الإرسال أو حذف الإسناد رأسا، و ما إلى ذلك مما يوجب ضعف الطريق في الحديث المأثور.

هذا إذا كنّا نرافق علماء الأصول- أصول الفقه- في أساليبهم في توثيق الأسانيد

أو تضعيفها، و جرينا معهم على غرار ما نجري في فقه الأحكام، و ملاحظة شرائط استنباطها من دلائل الكتاب و السنّة. فإن كانت الشرائط هناك تجري هنا- في باب التفسير- أيضا، كانت نفس الأساليب واجبة الاتّباع، غير أنّ باب التفسير يختلف عن الفقه اختلافا في الجذور.

الفقه: استنباط أحكام و تكاليف ترجع إلى عمل المكلّفين، إما فعلا أو تركا، إلزاما أو رجحانا. فلا بد للفقيه من أن يستوثق في الاستنباط، و يبني الفروع على أصول متينة. و الاستيثاق و الاطمئنان إنّما يحصلان بحصول الظن الغالب المعتبر شرعا و عقلائيا؛ فيجب عليه اتباعه، و إن لم يحصل له القطع و اليقين؛ لأنّ ظنّه هذا حجّة معتبرة.

أما التفسير- و كذا التاريخ- فليس الأمر كذلك؛ حيث طريق الاستيثاق و الحجّية تختلف أساليبه عن أساليب الفقه. إذا لا حجّية تعبّديّة هنا، كما كانت حجّة تعبّدا هناك. فإنّ دليل التعبّد قاصر الشمول هنا؛ إذ لا عمل يوجب التعبّد فيه.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 32

إنما هو عقيدة و ركون نفس، إن حصلت أسبابه حصل، و إلّا فلا، و لا معنى للتعبّد في العقيدة و الرأي أو في وقوع حادثة أو عدم وقوعها.

مثلا: لا معنى للتعبّد بأن تفسير الآية الفلانية كذا؛ إذ التفسير: كشف القناع عن وجه اللفظ المبهم، فإن ارتفع الإبهام و انكشف المعنى، أصبح موضع القبول و الإذعان به، و إن لم يرتفع الإبهام، فلا موضع للقبول و الإذعان تعبّدا محضا.

و هذا نظير الأحداث التاريخية، إنما يذعن بها إذا حصل الاطمئنان الشخصي بوقوعها من أي سبب كان، و لا يمكن التعبّد بوقوع حدث تاريخي إطلاقا.

و هذا معنى قولهم: لا اعتبار بالخبر الواحد في باب التفسير و التاريخ و العقائد؛

إذ لا يوجب علما و لا عملا، حيث المطلوب في هذه الأبواب هو العلم، الذي لا يحصل بخبر الواحد بمجرده، كما لا عمل- فعلا أو تركا- هنا، كي يستدعي الخبر الواحد التعبّد به. و من ثمّ اختص باب التعبّد في اعتبار الخبر الواحد بالفقه؛ حيث العمل هناك محضا.

إذن فما قيمة الحديث- الخبر الواحد- في باب التفسير و كذا التاريخ؟ الأمر الذي يجب الإمعان فيه: قيمة الخبر الواحد في باب التفسير و التاريخ إنما هي بملاحظة المتن الوارد فيه، دون مجرد السّند. فإن كان مضمون الخبر- و هو محتوى الحديث الوارد- ما يعالج دفع مشكلة إبهام في الأمر، فنفس المتن شاهد على صدقه، و إلّا فلا دليل على التعبّد به.

فالحديث المأثور عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو عن أحد الأئمة عليهم السّلام أو أحد الصحابة العلماء أو التابعين الكبار، إن كان يزيد في معرفة أو يرفع من إبهام في اللفظ أو المعنى فهو شاهد صدقه؛ ذلك أنهم أعرف بمواضع النزول و أقرب تناولا فيه؛ حيث قرب عهدهم به، أو أنهم حضروا الحادثة فنقلوها.

و للعقلاء طريقتهم في قبول خبر الثقة بل من لم يظهر فسقه علانية

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 33

فيعتمدونه؛ و عليه جاء قوله تعالى: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا «1»، فقد أقرّ العقلاء على قبولهم للنبإ ما لم يكن الآتي به متجاهرا بالفسق، ممن لا يتورّع الكذب، و لا يخاف اللّه في سرّه و علانيته.

فمن عرف بالصدق و الأمانة قبل نبؤه، و من عرف بالكذب و الخيانة ترك، و من كان مجهولا تريّثنا، فإن ظهرت منه دلائل الصدق قبلناه و إلّا رفضناه.

إذن فشرط قبول الخبر احتفافه بقرائن الصدق: من

وجوده في أصل معتبر، و كون الراوي معروفا بالصدق و الأمانة، و على الأقلّ غير معروف بالكذب و الخيانة، و سلامة المتن و استقامته، مما يزيد علما أو يزيل شكّا. و أن لا يخالف معقولا أو منقولا ثابتا في الدين و الشريعة، الأمر الذي إذا توفّر في حديث أوجب الاطمئنان به و إمكان ركون النفس إليه؛ و عليه فلا يضرّه حتى الإرسال في السند إن وجدت سائر شرائط القبول

2- الوضع في التفسير
اشارة

كان الوضع و التزوير من أهمّ أسباب الوهن في التفسير المأثور. فقد كانت الدواعي متوفرة للدّسّ و الاختلاق في المأثور من التفسير، إلى جنب الوضع في الحديث، فهناك أسباب سياسيّة و أخرى مذهبيّة و كلاميّة، و ربما عاطفيّة، كانت عن قصور النظر لا عن سوء نيّة. و العمدة أنّ القرآن كان المحور الأساسي الذي يدور عليه رحى الدين و السياسة و السلوك آنذاك، فلا بدّ لكل منتحلي مسلك من المسالك أن يتشبّث بعرى القرآن، و يجعل من آياته الكريمة وسيلة ناجعة، لبلوغ

(1) الحجرات/ 6.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 34

أهدافه إن خيرا و إن شرا، الأمر الذي جعل من سوق الكذب و التزوير في التفسير و الحديث رابحة ذلك العهد.

و قد بدئ ذلك على يد معاوية، حيث كان يجعل الجعائل على وضع الحديث أو قلبه تمشية لسياسته الغاشمة ذلك الحين «1»، و راج ذلك طول عهد الأمويين و بعدهم العباسيين؛ حيث أخذ بالتوسع و الاطّراد.

قال الأستاذ الذهبي: و كان مبدأ ظهور الوضع في سنة إحدى و أربعين بعد وفاة الإمام أمير المؤمنين حين اختلف المسلمون سياسيّا، و تفرّقوا شيعا، و وجد من أهل البدع و الأهواء من روّجوا لبدعهم و تعصّبوا لأهوائهم. و

دخل في الإسلام من تبطّن الكفر و التحف الإسلام بقصد الكيد له و تضليل أهله. فوضعوا ما وضعوا من روايات باطلة ليصلوا بها إلى أغراضهم السيئة و رغباتهم الخبيثة «2».

قال الأستاذ أبو ريّة: و قد أجمع الباحثون و العلماء المحققون، على أنّ نشأة الاختراع في الرواية و وضع الحديث على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنما كان في أواخر عهد عثمان و بعد الفتنة التي أودت بحياته، ثم اشتد الاختراع و استفاض بعد مبايعة الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام فإنه ما كاد المسلمون يبايعونه بيعة تامّة، حتى ذرّ قرن الشيطان الأموي ليغتصب الخلافة من صاحبها، و يجعلها حكما أمويا. و قد كان وا أسفاه! «3» و في ذلك يقول الإمام الشيخ محمد عبده: و توالت الأحداث بعد الفتنة

(1) راجع: شرح النهج لابن أبي الحديد، ج 4، ص 63، و سيأتي ذلك عند الكلام عن الوضع للسياسة.

(2) التفسير و المفسرون، ج 1، ص 158.

(3) أضواء على السنّة المحمّدية، ص 118.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 35

الكبرى، و نقض بعض المبايعين للخليفة الرابع الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام ما عقدوا، و كانت حروب بين المسلمين انتهى فيها أمر السلطان إلى الأمويين! غير أنّ بناء الجماعة قد انصدع، و انفصمت عرى الوحدة بينهم، و تفرّقت بهم المذاهب في الخلافة، و أخذت الأحزاب في تأييد آرائهم، كل ينصر رأيه على رأى خصمه بالقول و العمل، و كانت نشأة الاختراع في الرواية و التأويل، و غلا كل قبيل «1».

أهم أسباب الوضع

ذكروا لوضع الحديث و الكذب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و على أصحابه الخيار و الأئمة الأطهار أسبابا

كثيرة، نأتي على أهمّها:

1- ما وضعه الزنادقة اللّابسون لباس الإسلام غشّا و نفاقا، و قصدهم بذلك إفساد الدين و إيقاع الخلاف و الافتراق بين المسلمين. قال حمّاد بن زيد:

وضعت الزنادقة أربعة آلاف حديث. قال أبو ريّة: هذا بحسب ما وصل إليه علمه و اختباره في كشف كذبها «2»، و إلّا فقد أكثر الزنادقة من وضع الأحاديث في أعداد هائلة. فهذا عبد الكريم بن أبي العوجاء- و كان خال معن بن زائدة و ربيب حماد بن سلمة، و كان يدسّ الأحاديث في كتب حماد- فلما أخذ و أتي به إلى محمد بن سليمان بن على، فأمر بضرب عنقه لزندقته، فلما أيقن بالقتل قال: و اللّه لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أحرّم فيها الحلال و أحلّ فيها الحرام.

(1) رسالة التوحيد، (ط 1)، ص 7- 8.

(2) الأضواء، ص 121.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 36

و لقد فطّرتكم في يوم صومكم و صوّمتكم في يوم فطركم. فهذا زنديق واحد يضع آلاف حديث، فكيف بغيره و هم كثيرون. و أيضا روى حماد بن زيد عن جعفر بن سليمان، قال: سمعت المهدي يقول: أقرّ عندي رجل من الزنادقة أنه وضع أربعمائة حديث، فهى تحوّل في أيدي الناس.

كما روى ابن الجوزي بإسناده إلى حماد بن زيد، يقول: وضعت الزنادقة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أربعة عشر ألف حديث «1».

و أخرج جلال الدين السيوطي بإسناده إلى ابن مبارك، أنه قال بشأن حديث فضائل السور المعزوّة إلى أبي بن كعب: أظنّ الزنادقة وضعته «2»؛ و ذلك تشويها لسمعة القرآن الكريمة.

و ذكر ابن الجوزي أن جماعة من الكذّابين ندموا على كذبهم و تنصّلوا من ذلك. فقد

حدّث عن أبي شيبة، قال: كنت أطوف بالبيت و رجل من قدّامي يقول:

اللّهم اغفر لي، و ما أراك تفعل! فقلت: يا هذا قنوطك أكثر من ذنبك؟! فقال:

دعني، فقلت: أخبرني، فقال: إني كذبت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خمسين حديثا، و طارت في الناس، ما أقدر أن أردّ منها شيئا و قال ابن لهيعة: دخلت على شيخ و هو يبكي فقلت: ما يبكيك؟ فقال: وضعت أربعمائة حديث أدرجتها إدراجا مع الناس، فلا أدري كيف أصنع؟! «3»

(1) الموضوعات لابن الجوزي، ج 1، ص 37- 38.

(2) اللئالئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، ج 1، ص 267، و راجع: الموضوعات، ج 1، ص 241.

(3) الموضوعات، ج 1، ص 49.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 37

2- الوضع لنصرة المذاهب في أصول الدين و فروعه. فإنّ المذاهب و الآراء لما تشعّبت، جعل كل فريق يستفرغ ما بوسعه لإثبات مذهبه و دعم عقيدته، لا سيّما بعد ما فتح باب المجادلة و المناظرة في المذاهب و الآراء. و لم يكن المقصود من ذلك إلّا إفحام الجانب الآخر مهما بلغ ثمن ذلك، و لو بالحطّ من كرامة الدين.

فقد روى ابن الجوزي بإسناده إلى الدار قطني عن أبي حاتم ابن حبان، قال:

سمعت عبد اللّه بن علي يقول: سمعت محمد بن أحمد بن الجنيد يقول:

سمعت عبد اللّه بن يزيد المعرّي يقول عن رجل من أهل البدع رجع عن بدعته، فجعل يقول: انظروا هذا الحديث ممّن تأخذونه، فإنّا كنّا إذا رأينا رأيا جعلنا له حديثا.

و بإسناده إلى ابن لهيعة قال: سمعت شيخا من الخوارج تاب و رجع، و هو يقول: إن هذه الأحاديث دين، فانظروا عمّن تأخذون دينكم، فإنّا

كنّا إذا هوينا أمرا صيّرناه حديثا. و عن آخر، قال: كنّا إذا اجتمعنا استحسنّا شيئا جعلناه حديثا «1».

قال أبو ريّة: و ليس الوضع لنصرة المذاهب محصورا في المبتدعة و أهل المذاهب في الأصول، بل إن من أهل السنة المختلفين في الفروع من وضع أحاديث كثيرة لنصرة مذهبه أو تعظيم إمامه.

من ذلك ما رواه الأحناف، قدحا في الشافعي و مدحا لأبي حنيفة،

بإسناد رفعوه إلى أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «يكون في أمّتي رجل يقال له: محمد بن إدريس، أضرّ على أمّتي من إبليس. و يكون في أمتي رجل يقال له: أبو حنيفة، هو سراج أمّتي».

(1) الموضوعات، ج 1، ص 38- 39.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 38

و قد رواه الخطيب مقتصرا على ما ذكروه في أبي حنيفة، و قال: موضوع وضعه محمد بن سعيد المروزي البورقي، و هكذا حدّث به في بلاد خراسان ثم حدّث به في العراق، و زاد فيه:

«و سيكون في أمّتي رجل يقال له: محمد بن إدريس، فتنته أضرّ على أمّتي من فتنة إبليس».

قال أبو ريّة: و هذا الإفك مما لا يحتاج إلى بيان بطلانه، و مع هذا تجد فقهاء الأحناف المعتبرين يذكرون في كتبهم الفقهيّة شقّ الحديث الذي يصف أبا حنيفة بأنه سراج الأمّة و يسكنون إليه، بل يستدلّون به على تعظيم إمامهم على سائر الأئمة.

الأمر الذي اضطرّ الشافعيّة إزاء ذلك أن يضعوا في إمامهم حديثا يفضّلونه على كل إمام، و هذا نصّه:

«أكرموا قريشا فإنّ عالمها يملأ طباق الأرض علما».

و أنصار الإمام مالك لم يلبثوا أن وضعوا في إمامهم هذا

الحديث: «يخرج الناس من المشرق إلى المغرب، فلا يجدون أعلم من عالم أهل

المدينة»

. و أحاديث مشابهة وضعوها بهذا الشأن «1».

هذا فضلا عن الدسّ و التزوير فى الأحاديث لنصرة المذهب.

هذا أبو العباس القرطبي- في شرح صحيح مسلم- يقول: أجاز بعض فقهاء أهل الرأي، نسبة الحكم الذي دلّ عليه القياس الجليّ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نسبة قوليّة. فيقولون في ذلك: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كذا و كذا؛ و لهذا نرى كتبهم مشحونة بأحاديث تشهد متونها بأنّها موضوعة؛ لأنها تشبه فتاوي الفقهاء،

(1) أضواء على السنة المحمّدية، ص 122. و راجع: الغدير (ج 5، ص 277- 288) للعلامة الأميني تجد فصلا مشبعا بهذه المدسوسات من المناقب و المكرمات.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 39

و لا تليق بجزالة كلام سيّد المرسلين، كما لا يقيمون لها أسنادا.

قال أبو شامة في مختصر كتابه «المؤمّل»: مما يفعله شيوخ الفقه في الأحاديث النبوية و الآثار المرويّة، كثرة استدلالهم بالأحاديث الضعيفة على ما يذهبون إليه، نصرة لقولهم، و ينقصون في ألفاظ الحديث، و تارة يزيدون فيه. قال: و ما أكثره في كتب أبي المعالي و صاحبه أبي حامد «1».

3- شدّة الترهيب و زيادة الترغيب لأجل هداية الناس. فقد تساهل الوعّاظ و علماء الأخلاق في تصحيح ما يروونه بهذا الشأن، و ربما تنازل بعضهم فأجاز الاختلاق في ذلك، ما دام الغرض هو هداية الناس، و ليس إغواءهم. فقد كان الوضع للّه، و برّر بعضهم ذلك بأنه إنما كذب لرسول اللّه و لم يكذب عليه.

يقول أبو ريّة عن العبّاد و الصوفية: إنه راجت عليهم الأكاذيب و حدّثوا عن غير معرفة و لا بصيرة، فيجب أن لا يعتمد على الأحاديث التي حشيت بها كتب الوعظ و

الرقائق و التصوّف، من غير بيان تخريجها و درجتها. و لا يختص هذا الحكم بالكتب التي لا يعرف لمؤلّفها قدم في العلم، ككتاب «نزهة المجالس» المملوء بالأكاذيب في الحديث و غيره. بل إنّ كتب أئمة العلماء ك «الإحياء للغزالي» لا تخلو من الموضوعات الكثيرة «2».

قلت: و هكذا بعض كتب الوعظ و الإرشاد عندنا، ككتاب «الأنوار النعمانية» للسيد نعمة اللّه الجزائري، مملوء بالأكاذيب و المخاريق، و مثله كتاب «خزائن الجواهر» للشيخ علي أكبر النهاوندي فيه من المخاريق الطامّات. و أيضا كتب

(1) المختصر، ص 21، (الأضواء، ص 122).

(2) الأضواء، ص 122- 123.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 40

المقاتل و المراثي من المتأخرين، ككتاب «محرق القلوب» للمولى مهدي النراقي، و كتاب «أسرار الشهادة» لآقا بن عابد الدربندي المملوء بالأكاذيب و الطامّات.

و أمثال هذه الكتب كثير مع الأسف، كتبتها أيدي أناس ضعاف العقول، ممن تساهلوا في أمر الدين، و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، سامحهم اللّه.

أخرج ابن الجوزي بإسناده إلى محمود بن غيلان قال: سمعت مؤمّلا يقول:

حدّثني شيخ بفضائل سور القرآن الذي يروى عن أبي بن كعب. فقلت للشيخ: من حدّثك؟ قال: حدّثني رجل بالمدائن و هو حيّ، فصرت إليه. فقال: حدّثني شيخ بواسط و هو حيّ، فصرت إليه. فقال: حدّثني شيخ بالبصرة، فصرت إليه. فقال:

حدثني شيخ بعبادان، فصرت إليه. فأخذ بيدي فأدخلني بيتا فإذا فيه قوم من المتصوّفة و معهم شيخ. فقال: هذا الشيخ حدّثني. فقلت: يا شيخ من حدّثك؟

فقال: لم يحدّثني أحد، و لكنّا رأينا الناس قد رغبوا عن القرآن، فوضعنا لهم هذا الحديث ليصرفوا وجوههم إلى القرآن «1».

و من ثمّ قال يحيى بن سعيد القطان: لم نر الصالحين في شى ء أكذب منهم

في الحديث.

و أوّله مسلم بأنّه يجري الكذب على لسانهم و لا يتعمدون الكذب «2».

قال القرطبي في «التذكار» لا التفات لما وضعه الواضعون و اختلقه المختلقون من الأحاديث الكاذبة و الأخبار الباطلة في فضل سور القرآن، و غير ذلك من فضائل الأعمال، و قد ارتكبها جماعة كثيرة وضعوا الحديث حسبة- كما زعموا- يدعون الناس إلى فضائل الأعمال، كما روي عن أبي عصمة نوح بن أبي

(1) الموضوعات، ج 1، ص 241. و اللئالئ المصنوعة للسيوطي، ج 1، ص 227- 228.

(2) مقدمة صحيح مسلم؛ الحديث، رقم 40، ج 1، ص 13- 14.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 41

مريم المروزي و محمد بن عكاشة الكرماني، و أحمد بن عبد اللّه الجويباري، و غيرهم. قيل لأبي عصمة: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضل سور القرآن سورة سورة؟ فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن و اشتغلوا بفقه أبي حنيفة و مغازي محمد بن إسحاق، فوضعت هذا الحديث حسبة! و قال: قد ذكر الحاكم و غيره من شيوخ المحدثين: أن رجلا من الزهّاد انتدب في وضع أحاديث في فضل القرآن و سوره. فقيل له: لم فعلت هذا؟ فقال:

رأيت الناس زهدوا في القرآن فأحببت أن أرغّبهم فيه! فقيل له: فإن

النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من كذب عليّ متعمدا فليتبوّأ مقعده من النار».

فقال: أنا ما كذبت عليه، إنما كذبت له.

قال تحذيرا من الأحاديث الموضوعة: و أعظمهم ضررا، قوم منسوبون إلى الزهد، وضعوا الحديث حسبة! فيما زعموا، فتقبّل الناس موضوعاتهم ثقة منهم بهم و ركونا إليهم، فضلّوا و أضلّوا «1».

و هذا ميسرة بن عبد ربّه- كان كذّابا وضّاعا- وضع في

فضل قزوين أربعين حديثا. قال أبو زرعة: كان يقول: إني أحتسب في ذلك. و قال ابن الطبّاع: قلت لميسرة: من أين جئت بهذه الأحاديث: «من قرأ كذا فله كذا»؟ قال: وضعته أرغّب الناس فيه. و قد وصفه جماعة بالزهد.

و هكذا كان الحسن- الراوي عن المسيّب بن واضح- ممن يضع الحديث حسبة.

و كان نعيم بن حماد يضع الحديث في تقوية السّنة «2».

(1) التذكار للقرطبي، ص 155- 156. (الغدير، ج 5، ص 275- 276).

(2) راجع: الغدير، ج 5، ص 268 و 269.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 42

و كان الهيثم الطائي يقوم عامة الليل بالصلاة، فإذا أصبح يجلس و يكذب، و أمثاله كثير من الزهاد كانوا من الوضّاعين حسبة للّه فيما زعموا «1».

قال ابن الجوزي: منهم قوم وضعوا الأحاديث في الترغيب و الترهيب؛ ليحثّوا الناس بزعمهم على الخير و يزجروهم عن الشرّ. و هذا تعاط على الشريعة، و مضمون فعلهم أن الشريعة ناقصة تحتاج إلى تتمة، فقد أتممناها. ثم أسند إلى أبي عبد اللّه النهاوندي، قال: قلت لغلام خليل: هذه الأحاديث التي تحدّث بها من الرقائق؟ فقال: وضعناها لنرقّق بها قلوب العامّة. و كان غلام خليل هذا يتزهّد و يهجن شهوات الدنيا و يتقوّت الباقلاء تصوّفا. و غلقت أسواق بغداد يوم موته «2».

4- وضع الحديث تزلفا لدى الأمراء. كان بعض ضعفاء النفوس من المحدّثين الضعيفي الإيمان يتزلّفون لدى الأمراء و السلاطين، بوضع أحاديث تروقهم، أو تشيد من شناعاتهم في السياسة و الحكم.

كان الرشيد يعجبه الحمام و اللّهو به، فأهدي إليه حمام، و عنده

أبو البختري القاضي «3»، فقال: روى أبو هريرة عن النبي أنه قال: لا سبق إلّا في خفّ أو حافر أو جناح.

فزاد جناح

. و قد وضعها تزلّفا لدي الرشيد، فأعطاه جائزة سنيّة. و لمّا

(1) و قد أفرد العلامة الأميني فصلا أورد أسماءهم فيه (الغدير، ج 5، ص 275- 277).

(2) الموضوعات، ج 1، ص 39- 40.

(3) أبو البختري، وهب بن وهب، انتقل من المدينة إلى بغداد في خلافة هارون الرشيد، فولّاه القضاء بعسكر المهدي (المحلة المعروفة بالرصافة بالجانب الشرقي من بغداد) ثم عزله و ولاه القضاء بمدينة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد بكار بن عبد اللّه الزبيري، و جعل إليه ولاية حربها، مع القضاء. ثم عزله، فقدم بغداد و أقام بها إلى أن هلك سنة 200.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 43

خرج قال الرشيد: و اللّه لقد علمت أنّه كذّاب، و أمر بالحمام أن يذبح. فقيل له:

و ما ذنب الحمام؟ قال: من أجله كذب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «1». و حكى ابن الجوزي نظير هذه القصة لغياث بن إبراهيم بمحضر المهدي العباسي «2».

و هكذا

حدّث الرشيد: أن جعفر بن محمد حدّثه عن أبيه: أنّ جبرائيل نزل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عليه قباء أسود و منطقة.

و إنما قال ذلك؛ لأن ذلك كان شعار العباسيين. فدخل يحيى بن معين، فقال له: كذبت يا عدوّ اللّه، و قال للشرطيّة خذوه ... فقال فيه المعافى التميمي:

ويل و عول لأبي البختري إذا توافى الناس في المحشر

من قوله الزور و إعلانه بالكذب في الناس على جعفر

إلى آخر الأبيات، و هي مشهورة. و لما بلغ ابن المهدي موته قال: الحمد للّه الذي أراح المسلمين منه «3».

و

روى ابن الجوزي عن زكريا بن

يحيى الساجي، قال: بلغني أن أبا البختري دخل على الرشيد- و هو قاض- و هارون إذ ذاك يطيّر الحمام، فقال: هل تحفظ في هذا شيئا؟ فقال: حدّثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: «إن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يطيّر الحمام». فقال هارون: أخرج عنّي. ثم قال: لو لا أنه رجل من قريش لعزلته.

قال ابن الجوزي: هذا الحديث من عمل أبي البختري، و اسمه وهب بن

(1) راجع: تفسير القرطبي (المقدمة)، ج 1، ص 79- 80.

(2) الموضوعات، ج 1، ص 42.

(3) لسان الميزان لابن حجر، ج 6، ص 233.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 44

وهب. كان من كبار الوضّاعين «1».

و

روى حديث القباء الأسود، قال: لما قدم الرشيد المدينة أعظم أن يرقى منبر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في قباء أسود و منطقة. فقال أبو البختري: «حدّثنا جعفر بن محمد عن أبيه قال: نزل جبرئيل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عليه قباء أسود و منطقة، محتجزا فيها بخنجر».

قال يحيى بن معين: وقفت على حلقة أبي البختري و هو يحدّث بهذا الحديث، مسندا عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر. فقلت له: كذبت يا عدوّ اللّه، على رسول اللّه. قال: فأخذني الشرط. فقلت: هذا يزعم أنّ رسول ربّ العالمين نزل على النبي و عليه قباء. فقالوا لي: هذا و اللّه قاصّ كذّاب. و أفرجوا عني «2».

و الأحاديث في أولاد العباس و ملكهم، و لا سيّما الزيّ العباسي الذي تزيّا به جبرائيل، كثيرة، أوردها ابن الجوزي في موضوعاته و فنّدها خير تفنيد فراجع «3».

5- الوضع نزولا مع سياسة الطغاة. كان

معاوية أوّل من وضع سياسته على وضع الأحاديث و قلبها، تمشية مع أهدافه المرتذلة، في التغلّب على واقع الإسلام الرفيع.

قال الأستاذ أبو ريّة: لا بد لنا أن نكشف عن ناحية خطيرة من نواحي الوضع في الحديث، كان لها أثر بعيد في الحياة الإسلامية، و لا يزال هذا الأثر يعمل عمله

(1) الموضوعات، ج 3، ص 12.

(2) الموضوعات، ج 3، ص 47- 48.

(3) المصدر، ج 2، ص 30- 37.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 45

في الأفكار العفنة و العقول المتخلّفة و النفوس المتعصبة. ذلك أن السياسة قد دخلت في هذا الأمر، و أثّرت فيه تأثيرا بالغا، فسخّرته ليؤيّدها في حكمها، و جعلته من أقوى الدعائم لإقامة بنائها.

و قد علا موج هذا الوضع السياسي و طغا ماؤه في عهد معاوية الذي أعان عليه و ساعده بنفوذه و ماله، فلم يقف وضّاع الحديث عند بيان فضله و الإشادة بذكره، بل أمعنوا في مناصرته، و التعصّب له، حتى رفعوا مقام الشام الذي يحكمه إلى درجة لم تبلغها مدينة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا البلد الحرام الذي ولد فيه. و أسرفوا في ذلك إسرافا كثيرا، و أكثروا حتى ألّفت في ذلك مصنّفات «1».

و ذكر ابن أبي الحديد عن شيخه أبي جعفر الإسكافي: أن معاوية وضع قوما من الصحابة و قوما من التابعين، على رواية أخبار قبيحة في علي عليه السّلام تقتضي الطعن فيه و البراءة منه، و جعل لهم على ذلك جعلا يرغب في مثله، فاختلقوا ما أرضاه. منهم: أبو هريرة، و عمرو بن العاص، و المغيرة بن شعبة، و من التابعين عروة بن الزبير.

روى الزهري أن عروة بن الزبير حدّثه،

قال: حدّثتني عائشة، قالت: كنت عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذ أقبل العباس و علي. فقال: يا عائشة، إن هذين يموتان على غير ملّتي- أو قال- غير ديني.

و في حديث آخر عنه، قال: حدثتني عائشة، قالت: كنت عند النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذ أقبل العباس و علي، فقال: يا عائشة، إن سرّك أن تنظري إلى رجلين من أهل النار، فانظري إلى هذين قد طلعا.

و أما

عمرو بن العاص فقد أخرج عنه البخاري و مسلم بإسناد متصل إليه،

(1) الأضواء، ص 126- 127.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 46

قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء. إنما وليّى اللّه و صالح المؤمنين».

و

أما أبو هريرة فروي عنه الحديث الذي معناه: أن عليا عليه السّلام خطب ابنة أبي جهل في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأسخطه، فخطب، و قال: لاها اللّه، لا تجتمع ابنة ولي اللّه و ابنة عدوّ اللّه أبي جهل، إنّ فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما يؤذيها. فإن كان عليّ يريد ابنة أبي جهل فليفارق ابنتي، و ليفعل ما يريد.

و أيضا

روى أبو جعفر عن الأعمش قال: لما قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة «1»، جاء إلى مسجد الكوفة، فلما رأى كثرة من استقبله من الناس جثا على ركبتيه، ثم ضرب صلعته مرارا، و قال: يا أهل العراق، أ تزعمون أنّي أكذب على اللّه و على رسوله «2» و أحرق نفسي بالنار! و اللّه لقد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «إن لكل نبيّ حرما،

و إنّ حرمي بالمدينة ما بين عير إلى ثور. فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة اللّه و الملائكة و الناس أجمعين»، و أشهد أنّ عليا أحدث فيها

. فلما بلغ معاوية قوله أجازه و أكرمه و ولّاه إمارة المدينة «3».

(1) هو العام الذي نزل فيه الإمام السبط الأكبر عن الحكم لمعاوية الطاغية، حقنا لدماء المسلمين سنة 41. و سمّوه عام الجماعة. قال أبو ريّة: و هو في الحقيقة كان عام التفرقة.

الأضواء- بالهامش- ص 216.

(2) قال أبو ريّة: يبدو من هذا القول أن كذب أبي هريرة على النبي كان قد أشتهر من أول يومه حتى عم الآفاق. لأنه قال ذلك و هو بالعراق، و أن الناس جميعا كانوا يتحدثون عن هذا الكذب في كل مكان. قلت: و لقد كان معروفا بالكذب قبل ذلك. روى ابن أبي الحديد في الشرح (ج 4، ص 67- 68): أن عمر ضربه بالدرّة، و قال له: قد أكثرت من الرواية و أحر بك أن تكون كاذبا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

(3) راجع: شرح النهج لابن أبى الحديد، ج 4، ص 63- 68.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 47

و أيضا روى عن شيخه أبي جعفر: أن معاوية بذل لسمرة بن جندب- الرجل الوقح- مائة ألف درهم حتى يروي أنّ هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ. وَ إِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ «1» و أنّ الآية الأخرى نزلت في ابن ملجم،

و هي قوله تعالى: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ «2» فلم يقبل، فبذل له مائتي ألف درهم فلم يقبل، فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل، فبذل له أربعمائة ألف فقبل، و روى ذلك «3».

نعم كان معاوية يرى لنفسه ما يضاهي به عليا في مثل مقامه و مرتبته، و من ثمّ كان يحاول الانتشال من مقامه الوضيع ليتسنّى له المقابلة مع مثل أمير المؤمنين عليه السّلام فكان يجعل الجعائل للوضع في تفضيله و تفضيل بلاده التي كان يحكمها، و حاضرة ملكه، كان يجهد جهده في ذلك.

قال أبو ريّة: و معاوية- كما هو معروف- أسلم هو و أبوه يوم فتح مكة، فهو بذلك من الطلقاء. و كان كذلك من المؤلّفة قلوبهم الذين كانوا يأخذون ثمنا لإسلامهم. و هو الذي هدم مبدأ الخلافة الرشيدة في الإسلام، فلم تقم لها من بعده إلى اليوم قائمة. و قد اتخذ دمشق حاضرة لملكه، و قد وضعوا فيه و في تفضيل الشام أحاديث نسبوها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نذكر منها: ما

أخرجه الترمذي أنّ النبي قال لمعاوية: اللّهم اجعله هاديا مهديا

. و

في حديث آخر أنّ النبي قال:

(1) البقرة/ 204- 205.

(2) البقرة/ 207.

(3) شرح النهج، ج 4، ص 73.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 48

اللّهم علّمه الكتاب و الحساب و قه العذاب- و هناك زيادة-: و أدخله الجنّة

. و على كثرة ما جاء في فضائل معاوية من أحاديث لا أصل لها، فإن إسحاق بن راهويه و هو الإمام الكبير و شيخ البخاري قد قال: إنه لم يصح في فضائل معاوية شي ء «1».

و للعلامة الأميني هنا مقال

ضاف بشأن المغالاة في فضائل معاوية، و قد أردفها بما ورد في ذمّه من أحاديث صحاح لا مغمز في إسنادها، جعلنا في غنى عن الكلام فيه هنا، فراجع «2».

و هكذا ذكر الأستاذ أبو ريّة: أن إشادة كهّان اليهود- يريد كعبا و أذنابه- إلى أنّ ملك النبي سيكون بالشام إنما هو لأمر خبي ء في أنفسهم. و قد تبيّن أن الشام ما كان لينال من الإشادة بذكره و الثناء عليه، إلّا لقيام دولة بني أميّة فيه، تلك الدولة التي قلبت الحكم من خلافة عادلة إلى ملك عضوض، و التي تحت كنفها و في أيامها نشأت الفرق الإسلاميّة التي فتت في عضد الدولة الإسلاميّة و مزّقتها تمزيقا، و استفاض فيها وضع الحديث. فكان جديرا بكهنة اليهود أن ينتهزوا هذه الفرصة و ينفخوا في نار الفتنة، و يمدّوها بجيوش الأكاذيب و الكيد. و كان من هذه الأكاذيب أن بالغوا في مدح الشام و أهله، و أنّ الخير كل الخير فيه، و الشر كل الشر في غيره «3».

و مما قاله هؤلاء الكهنة بهذا الشأن: إن ملك النبي سيكون بالشام،

روى البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة- تلميذ كعب- مرفوعا: الخلافة بالمدينة

(1) الأضواء، ص 128.

(2) الغدير، ج 10، ص 138، فما بعد.

(3) الأضواء، ص 170.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 49

و الملك بالشام

. و عن كعب: أهل الشام سيف من سيوف اللّه ينتقم اللّه بهم ممن عصاه.

و من

حديث: ستفتح عليكم الشام، فإذا خيّرتم المنازل فيها فعليكم بمدينة يقال لها: «دمشق»- و هي حاضرة الأمويين- فإنها معقل المسلمين في الملاحم، و فسطاطها منها بأرض يقال لها: «الغوطة».

و قد جعلوا دمشق هذه، هي الربوة التي ذكرت في القرآن

الكريم:

وَ آوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَ مَعِينٍ «1» و ذلك في حديث مرفوع إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد جعلها أبو هريرة من مدائن الجنّة أيضا في

حديث رفعه إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هذا نصّه: «أربع مدائن من مدائن الجنّة: مكة، و المدينة، و بيت المقدس، و دمشق» «2» . و هكذا نرى معاوية الذي تعلّم من كعب كيف يضع الحديث، يصف نفسه بأنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وعده بأنه سيلي الخلافة من بعده.

قال في خطبته لمّا عاد من العراق إلى الشام بعد بيعة الإمام الحسن عليه السّلام سنة (41): «أيها الناس، إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: إنك ستلي الخلافة من بعدي، فاختر الأرض المقدسة، فإنّ فيها الإبدال» «3» قال أبو ريّة: و ما كاد معاوية يذكر أن الشام أرض الأبدال إلّا و ظهرت أحاديث مرفوعة عن هؤلاء الأبدال و قد أوردها السيوطي في «الجامع الصغير» «4».

(1) المؤمنون/ 50.

(2) الأضواء، ص 129.

(3) شرح نهج البلاغة، ج 4، ص 72.

(4) الأضواء، ص 130- 131.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 50

و بذلك نكشف عن جانب خطير من كيد الدهاء اليهودي للمسلمين و دينهم و ملكهم.

ذلك أنهم لم يكتفوا بما قالوه في الشام بل زادوا على ذلك بأن جعلوا الطائفة الظاهرة على الحق تكون في الشام كذلك، و حتى نزول عيسى الذي قالوا عنه:

سيكون بأرضه.

فقد جاء في الصحيحين: «لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحق لا يضرّهم من خذلهم و لا من خالفهم، حتى يأتي أمر اللّه و هم كذلك

.

روى البخاري: هم بالشام «1» . و

في رواية أبي أمامة الباهلي: أنهم لما سألوا النبي قال:

بيت المقدس و أكناف بيت المقدس «2».

و

في مسلم عن أبي هريرة: أن النبي قال: لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة

. قال أحمد و غيره: هم أهل الشام.

و في «كشف الخفاء»: أن كعب الأحبار قال: أهل الشام سيف من سيوف اللّه، ينتقم اللّه بهم من العصاة.

قال أبو ريّة: و لعل العصاة هنا هم الذين لا ينضوون تحت لواء معاوية، و يتبعون غيره. و غيره هو الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام «3».

(1) صحيح البخاري، ج 4، ص 252.

(2) نهاية الإرب، ج 1، ص 333.

(3) الأضواء، ص 170- 171. و من طريف ما يذكر هنا: أنّ رجلا لقى كعب الأحبار فسلم عليه و دعا له. فسأله كعب: ممن هو؟ فقال: من أهل الشام. قال: لعلك من الجند الذين يدخلون الجنة منهم سبعون ألفا بغير حساب. قال الرجل: و من هم؟ قال: أهل دمشق. قال: لست منهم. قال: فلعلك من الجند الذين ينظر اللّه إليهم في كل يوم مرتين، قال: و من هم؟ قال:

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 51

نعم وجد أهل الحقد على الإسلام في معاوية و الشام أرضيّة خصبة لبذر النفاق و التفريق بين كلمة المسلمين، فعادوا عليا عليه السّلام حيث وجدوه المثال الأتم لحقيقة الإسلام الناصعة، و أفرغوا عداءهم له و للإسلام، في قالب الثناء على معاوية و الشام بلد الأبدال، فيما اختلقوه.

أخرج ابن الجوزي من طريق عبد اللّه بن أحمد بن حنبل، قال: سألت أبي ما تقول في عليّ و معاوية؟ فأطرق، ثم قال: ايش أقول فيهما، أن

عليا عليه السّلام كان كثير الأعداء، ففتّش أعداؤه له عيبا فلم يجدوا، فعمدوا إلى رجل- يريد معاوية- قد حاربه و قاتله فأطروه، كيدا منهم لعليّ عليه السّلام «1».

قال ابن حجر: فأشار بهذا إلى ما اختلقوه لمعاوية من الفضائل مما لا أصل له.

قال: و قد ورد في فضائل معاوية أحاديث كثيرة، ليس فيها ما يصح من طريق الإسناد. و بذلك جزم إسحاق بن راهويه و النسائي و غيرهما «2».

و من طريف الأمر، أنّ البخاري في كتاب «الفضائل» نراه عنون الباب الذي خصّه بمعاوية، بقوله: «باب ذكر معاوية»، و لم يجرأ أن يعنونه بلفظة «الفضائل» كما في سائر الأبواب، و بالفعل لم يأت فيه شيئا مذكورا «3»، و هكذا ابن الجوزي «4» و غيره. و من ثم قال ابن حجر في الشرح: عبّر البخاري في هذه

أهل فلسطين. قال الرجل: أنا منهم. و في لفظ: قال: لعلك من الجند الذين يشفع شهيدهم بسبعين، قال: و من هم؟ قال: أهل حمص. (تاريخ ابن عساكر، ج 1، ص 57.) قال أبو ريّة:

و حمص هذه هي البلدة التي دفن فيها جثمان كعب.

(1) الموضوعات، ج 2، ص 24.

(2) فتح البارى بشرح البخاري، ج 7، ص 81.

(3) صحيح البخاري، ج 5، ص 35.

(4) الموضوعات، ج 2، ص 15.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 52

الترجمة بقوله «ذكر» و لم يقل: «فضيلة» و لا «منقبة»، لكون «الفضيلة» لا تؤخذ من حديث الباب «1»، أي لا تستفاد فضيلة من الحديث الذي ذكره تحت هذه الترجمة، و قد عرفت أنه لم يصح فيه حديث.

و روى الذهبي قال: سئل النسائي- و هو بدمشق- عن فضائل معاوية، فقال:

أ لا يرضى رأسا برأس، حتى

يفضّل!؟ قال الذهبي: فما زالوا يدافعونه حتى أخرج من المجلس، و حمل إلى الكوفة، فتوفيّ بها «2».

و هكذا استمر الحال بعد معاوية ما دامت السلطة الأموية قائمة. فهذا هشام بن عبد الملك نراه يفرض على أتباعه و متملّقيه من علماء ذلك العصر أن يرووا أنّ الآية: وَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ «3» نزلت في عليّ عليه السّلام فأقرّوه على ذلك «4».

6- الوضع نزولا مع رغبة العامّة، و رغبة فيما بأيديهم من حطام الدنيا. و هذه مهنة القصّاصين، يقصّون على الناس القصص و الأساطير البائدة و يحدّثونهم الغرائب و العجائب، ليستدرّوا ما لديهم من نقود و إعانات و فضول طعام.

و قد كان وضع الحديث لإرضاء الناس و ابتغاء القبول عندهم، و استمالتهم لحضور مجالسهم الوعظية، و توسيع حلقاتهم، أمرا رائجا و لا يزال.

(1) فتح الباري، ج 7، ص 81.

(2) سير أعلام النبلاء، ج 14، ص 132. و هو الذي

روى حديث «اللّهم لا تشبع بطنه»، ص 129. (3) النور/ 11.

(4) الموضوعات في الآثار و الأخبار، هاشم معروف الحسنى، ص 137 و 199.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 53

قال القرطبي في مقدمة تفسيره: منهم (من الوضّاع و الكذّابين) قوم من السؤّال و المكدين، يقفون في الأسواق و المساجد، فيضعون على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أحاديث بأسانيد صحاح قد حفظوها، فيذكرون الموضوعات بتلك الأسانيد «1».

قال ابن الجوزي: هناك قوم شقّ عليهم الحفظ، فضربوا نقد الوقت، و ربّما رأوا أن الحفظ معروف، فأتوا بما يغرب مما يحصل مقصودهم، فهؤلاء قسمان، أحدهما: القصّاص، و معظم البلاء منهم يجري؛ لأنهم يزيدون أحاديث تثقف و ترقّق، و الصحاح يقلّ فيها

هذا. ثم إنّ الحفظ يشقّ عليهم و يتفق عدم الدين، و من يحضرهم جهّال، فيقولون. و لقد حكى لي فقيهان ثقتان عن بعض قصّاص زماننا و كان يظهر النسك و التخشع، أنه حكى لهما، قال: يوم عاشوراء، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من فعل اليوم كذا فله كذا، و من فعل كذا فله كذا، إلى آخر المجلس. فقالا له: و من أين حفظت هذه الأحاديث؟ فقال: و اللّه ما حفظتها، و لا أعرفها، بل في وقتي قلتها.

قال: و لا جرم كان القصّاص شديدي النعير، ساقطي الجاه، لا يلتفت الناس إليهم، فلا لهم دنيا و لا آخرة. و قد صنّف بعض قصّاص زماننا كتابا فذكر فيه:

«أن الحسن و الحسين دخلا على عمر بن الخطاب و هو مشغول، فلما فرغ من شغله رفع رأسه فرآهما، فقام فقبّلهما، و وهب لكل واحد منهما ألفا، و قال: اجعلاني في حلّ، فما عرفت دخولكما، فرجعا و شكراه بين يدي أبيهما عليّ عليه السّلام. فقال عليّ: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: عمر بن الخطاب نور في الإسلام و سراج لأهل الجنّة. فرجعا فحدّثاه. فدعا بدواة و قرطاس و كتب: بسم اللّه الرحمن

(1) تفسير القرطبي، ج 1، ص 79.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 54

الرحيم، حدّثني سيدا شباب أهل الجنة عن أبيهما المرتضى عن جدّهما المصطفى أنه قال: عمر نور الإسلام في الدنيا و سراج أهل الجنّة في الجنة.

و أوصى أن تجعل في كفنه على صدره، فوضع. فلما أصبحوا وجدوه على قبره، و فيه: صدق الحسن و الحسين و صدق أبوهما و صدق رسول اللّه صلّى اللّه

عليه و آله و سلّم: عمر نور الإسلام و سراج أهل الجنة».

قال ابن الجوزي: و العجب بهذا الذي بلغت به الوقاحة إلى أن يضيف مثل هذا. و ما كفاه حتى عرضه على كبار الفقهاء، فكتبوا عليه تصويب ذلك التصنيف.

فلا هو عرف أنّ مثل هذا محال و لا هم عرفوا. و هذا جهل متوفّر، علم به أنّه من أجهل الجهال الذين ما شمّوا ريح النقل، و لعلّه قد سمعه من بعض الطرقيين «1».

قال الإمام أحمد بن حنبل: أكذب الناس السؤّال و القصّاص.

و عن أبي قلابة: ما أمات العلم إلّا القصّاص.

و كان أبو عبد الرحمن يقول: اتّقوا القصّاص «2».

و كان الذي أحدث القصص- في المساجد- هو معاوية بن أبي سفيان. فقد أخرج الزبير بن بكار في أخبار المدينة عن نافع و غيره من أهل العلم، قالوا: إنما القصص محدث أحدثه معاوية حين كانت الفتنة «3».

لكن سيوافيك في قصة الإسرائيليات أنّ القصص في المساجد، حدث في أواخر عهد عمر، حين استجازه تميم الداري فأجازه أن يقصّ قائما في مسجد

(1) الموضوعات، ج 1، ص 44- 45.

(2) الأضواء لأبي ربة، ص 124.

(3) المصدر نفسه.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 55

المدينة «1». و هكذا استمر على عهد عثمان، حتى كان الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام هو الذي طرد القصّاص من المساجد على عهده «2»، الأمر الذي قد أصرّ معاوية على تداومه في المساجد، منذ أن أجازه عمر بن الخطاب.

و كان الذي أشاع القصّ في المساجد هو كعب الأحبار؛ حيث انتهز الفرصة أيام الفتنة لبثّ مخاريقه بين المسلمين كيدا بالإسلام؛ و ذلك أن وجد من سياسة معاوية إمكان إشاعة أساطيره بين الناس.

كان كعب قد توعّده عمر بالنفي إلى

أرض القردة إذا هو روى إسرائيلياته أو ما كان يلصقه بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من أحاديث خرافة (ستوافيك في حقل الإسرائيليات).

فلم يجد كعب تلقاء هذا التهديد مناصا من أن يذعن في غيظ و موجدة، ثم أخذ يسعى في الخفاء لكي يحقق أغراضه التي أسلم من أجلها. قال أبو ريّة: و ما لبث أن أتيحت له فرصة المؤامرة التي دبّرتها جمعيّة سريّة لقتل عمر، فاشترك هو فيها، و نفخ في نارها.

فلما خلا له الجوّ بقتله، أطلق العنان لنفسه لكي يبثّ ما شاء الكيد اليهودي أن يبثّ من الخرافات الإسرائيليّات التي تشوّه بهاء الدين، يعاونه في ذلك تلاميذه الكبار أمثال: عبد اللّه بن عمرو بن العاص، و عبد اللّه بن عمر بن الخطاب، و أبي هريرة.

و قد درس هذا الكاهن اليهودي في ملامح معاوية تحقيق أهدافه و إمكان رواج إسرائيلياته، فلم يدع تلك الفرصة، و اغتنمها منذ عهد عثمان.

ذلك أنه لما اشتعلت نيران الفتنة في زمن عثمان و اشتد زفيرها، حتى التهمت

(1) سير أعلام النبلاء، ج 2، ص 447.

(2) فجر الإسلام لأحمد أمين، ص 159- 160.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 56

عثمان فقتلته و هو- أي كعب الأحبار- في بيته، لم يدع هذا الكاهن الماكر هذه الفرصة تمرّدون أن يبتهلها، بل أسرع ينفخ في نارها، و يسهم بكيده اليهودي فيها ما استطاع إلى ذلك سبيلا. و قد كان من كيده في هذه الفتنة أن أرهص بيهوديّته بأنّ الخلافة بعد عثمان ستكون لمعاوية.

فقد روى وكيع عن الأعمش عن أبي صالح: أنّ الحادي كان يحدو بعثمان يقول:

إن الأمير بعده عليّ و في الزبير خلق رضيّ «1»

فقال كعب: بل هو

صاحب البغلة الشهباء- يعني معاوية- و كان يراه يركب بغلة، فبلغ ذلك معاوية فأتاه، فقال: يا أبا إسحاق ما تقول هذا؟ و هاهنا عليّ و الزبير و أصحاب محمد! قال: أنت صاحبها- لعله أردف ذلك بقوله: إنّي وجدت ذلك في التوراة- كما هي عادته.

و قدّر معاوية هذه اليد الجليلة لكعب، و أخذ يغمره بإفضاله.

و قد عرف من تاريخ هذا الكاهن أنه تحوّل إلى الشام في عهد عثمان، و عاش تحت كنف معاوية، فاستصفاه معاوية لنفسه و جعله من خلصائه، لكي يروي من أكاذيبه و إسرائيلياته ما شاء أن يروي في قصصه؛ لتأييده، و تثبيت قوائم دولته.

و قد ذكر ابن حجر العسقلاني بأنّ معاوية هو الذي أمر كعبا بأن يقصّ في الشام «2». و هو الذي بثّ أحاديث تفضيل الشام و أهلها، سواء بنفسه أو على يد تلامذته.

(1) النزاع و التخاصم فيما بين بني أمية و بني هاشم، للمقريزي، ص 51.

(2) الإصابة، ج 3، ص 316 و راجع: الأضواء، ص 179- 181.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 57

أقسام الوضّاعين

قسّم ابن الجوزي الرواة الذين وقع في حديثهم الموضوع و الكذب و المقلوب إلى خمسة أقسام:

القسم الأول: قوم غلب عليهم الزهد و التقشّف، فتغفّلوا عن الحفظ و التمييز. و منهم من ضاعت كتبه أو احترقت أو دفنها، ثم حدّث من حفظه فغلط.

فهؤلاء تارة يرفعون المرسل، و تارة يسندون الموقوف، و تارة يقلبون الإسناد، و تارة يدخلون حديثا في حديث.

و القسم الثاني: قوم لم يعانوا على النقل، فكثر خطاؤهم و فحش، على نحو ما جرى للقسم الأول.

و القسم الثالث: قوم ثقات لكنهم اختلطت عقولهم في آخر أعمارهم، فخلطوا في الرواية.

و القسم الرابع: قوم متغفّلون، فمنهم من

كان يلقّن فيتلقّن، و منهم من يروي حديثا فيظن أنه سمعه و لم يسمعه، أو يظن جواز إسناد ما لم يسمع. و قد قيل لبعضهم: هذه الصحيفة سماعك؟ فقال: لا، و لكن مات الذي رواها فرويتها مكانه. و منهم من كان بعض أولاده يضع له الحديث، فيدوّن و لا يعلم.

و القسم الخامس: قوم تعمدوا الكذب، و هؤلاء على ثلاثة أصناف:

الصنف الأول: قوم رووا الخطأ من غير أن يعلموا أنه خطأ. فلما عرفوا وجه الصواب أنفوا أن يرجعوا، فأصرّوا على خطائهم، أنفة أن ينسبوا إلى غلط.

و الصنف الثاني: قوم رووا عن كذّابين و عن ضعفاء يعلمونهم، لكنهم دلّسوا في أسمائهم. فالكذب من أولئك المجروحين، و الخطأ القبيح من هؤلاء المدلّسين.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 58

و الصنف الثالث: قوم تعمّدوا الكذب الصريح.

و هؤلاء، منهم الزنادقة، وضعوا الحديث قصدا إلى إفساد الشريعة، و إيقاع الشك في قلوب العامة، و التلاعب بالدين، أمثال: ابن أبي العوجاء وضع أربعة آلاف حديث. و غيره ممن وضعوا كميّات كبيرة، أحلّوا بها الحرام و حرّموا بها الحلال.

و منهم، أصحاب العصبيّة الجاهلة، كانوا يضعون الحديث نصرة لمذهبهم، و سوّل لهم الشيطان أنّ ذلك جائز.

و منهم، أهل التصوّف و التقشّف، وضعوا الحديث في الترغيب و الترهيب، ليحثّوا الناس- بزعمهم- على فعل الخير و ترك الشر، و هذا تعاط على الشريعة، و مضمون فعلهم أن الشريعة ناقصة تحتاج إلى تتمّة فقد أتمّوها.

و منهم، قوم استجازوا وضع الأسانيد لكل كلام حسن، فقد حدّث محمد بن خالد عن أبيه قال: سمعت محمد بن سعيد يقول: لا بأس إذا كان الكلام حسنا أن تضع له إسنادا.

و منهم قوم وضعوا الحديث تزلّفا إلى سلطان أو نيلا إلى نوال،

كما وضع غياث بن إبراهيم

حديث «لا سبق في جناح»

تزلّفا إلى المهدي، و كان يحبّ الحمام.

و منهم من كان يضع الحديث جوابا لسائليه ليحظى منزلة رفيعة لديه.

و منهم من كان يضع الحديث لقدح أو مدح في أناس لأغراض مختلفة، كالأحاديث الموضوعة في قدح و مدح الشافعي و أبي حنيفة.

و منهم من كان يضع الغريب من الحديث، استجلابا لأنظار العامة، كما كان يفعله القصّاص؛ و معظم البلاء منهم يجري، لأنهم يزيدون أحاديث تثقف و ترقق، و الصحاح يقل فيها هذا. لا جرم كان القصّاص شديدي النعير ساقطي

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 59

الجاه، لا التفات إليهم، ليست لهم دنيا و لا آخرة.

و من هؤلاء القصّاص شحّاذون، يضعون الحديث و يسندوه إلى من شاءوا، و لا سيما من كان معروفا لدى العامة بالجاه و القبول.

قال جعفر بن محمد الطيالسي: صلى أحمد بن حنبل و يحيى بن معين في مسجد الرصافة. فقام بين أيديهم قصّاص، فقال: حدثنا أحمد بن حنبل و يحيى بن معين، قالا: حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن أنس، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قال: لا إله إلّا اللّه، خلق اللّه كل كلمة منها طيرا منقاره من ذهب و ريشه من مرجان ...» و أخذ في قصّة نحو عشرين ورقة. فجعل أحمد ينظر إلى يحيى، و يحيى ينظر إلى أحمد، فقال له: أنت حدّثته بهذا؟ فقال: و اللّه ما سمعت بهذا إلّا الساعة، فلما فرغ من قصصه و أخذ القطيعات، ثم قعد ينتظر بقيّتها، أشار إليه يحيى بيده أن تعال، فجاء متوهما النوال. فقال له يحيى: من حدّثك بهذا الحديث؟ فقال: أحمد بن حنبل

و يحيى بن معين. فقال: أنا يحيى و هذا أحمد، ما سمعنا بهذا قطّ في حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإن كان لا بدّ و الكذب فعلى غيرنا! فقال له: أنت يحيى بن معين؟ قال: نعم. قال: لم أزل أسمع أنّ يحيى بن معين أحمق، ما تحقّقته إلّا الساعة. قال له يحيى: كيف علمت أنّي أحمق؟ قال: كأن ليس في الدنيا يحيى بن معين و أحمد بن حنبل غيركما. قد كتبت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل و يحيى بن معين. فوضع أحمد كمّه على وجهه، و قال: دعه يقوم. فقام كالمستهزئ بهما «1».

(1) الموضوعات، ج 1، ص 35- 46.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 60

أقطاب الوضّاعين

قال الحافظ أبو عبد الرحمن النسائي- صاحب السنن-: الكذّابون المعروفون بوضع الحديث على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أربعة: ابن أبي يحيى بالمدينة، و الواقدي ببغداد، و مقاتل بن سليمان بخراسان، و محمد بن سعيد بالشام، يعرف بالمصلوب «1».

أمّا ابن أبي يحيى، فهو: أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، و اسمه سمعان الأسلمي المدني. روى عن الزهري و يحيى بن سعيد الأنصاري، و روى عنه الثوري و الإمام الشافعي. رمي بالقدر و التشيّع و الكذب. قال ابن عدي:

لم أجد لإبراهيم حديثا منكرا إلّا عن شيوخ يحتملون. و قد حدّث عنه ابن جريج و الثوري و الكبار. له كتاب صنّفه في المسانيد أسماه «الموطّأ» أضعاف موطّأ مالك، و أحاديثه كثيرة، رواه عنه الشافعي بمصر، و كان يكنّى عنه. و في مسند الشافعي عنه أحاديث، و كان يقول عنه: لأن يخرّ إبراهيم من بعد، أحب إليّ من أن

يكذب، و كان ثقة في الحديث. و قال أبو أحمد ابن عدي: سألت أحمد بن محمد بن سعيد- يعني ابن عقدة- فقلت له: تعلم أحدا أحسن القول في إبراهيم غير الشافعي؟ فقال: نعم، حدثنا أحمد بن يحيى الأودي، قال: سمعت حمدان بن الأصبهاني، قلت: أ تدين بحديث إبراهيم بن أبي يحيى؟ قال: نعم. ثم قال لي أحمد بن محمد بن سعيد: نظرت في حديث إبراهيم كثيرا و ليس بمنكر الحديث. قال ابن عدي: و هذا الذي قاله، كما قال. و قد نظرت أنا أيضا في حديثه الكثير فلم أجد فيه منكرا إلّا عن شيوخ يحتملون، و إنما روي المنكر من قبل الراوي عنه أو من قبل شيخه. قال: و هو من جملة من يكتب حديثه.

(1) ملحق كتابه في الضعفاء و المتروكين، ص 123.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 61

نعم يقال: إنّ الرجل كان يقع في بعض السلف، و من ثم اتّهم و رمي بالاعتزال تارة، و بالرفض و التشيع أخرى «1».

في حين أنّ الرجل مستقيم لا بأس به، و لا مغمز فيه سوى جانب إخلاصه لأهل البيت و صحبته للأئمة من ذرّية الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قد عده الشيخ أبو جعفر الطوسي من رجال الإمامين الباقر و الصادق عليهما السّلام. قال: إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى أبو إسحاق مولى أسلم، مدنيّ. روى عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام، و كان خاصّا بحديثنا، و العامّة تضعّفه لذلك.

ذكر يعقوب بن سفيان في تاريخه في أسباب تضعيفه عن بعض الناس، أنّه سمعه ينال من الأوّلين. و ذكر بعض ثقات العامة أنّ كتب الواقدي سائرها- أي جميعها- إنما

هي كتب إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، نقلها الواقدي و ادّعاها، و لم نعرف منها شيئا منسوبا إلى إبراهيم. و له كتاب مبوّب في الحلال و الحرام عن جعفر بن محمد عليه السّلام، و للشيخ إليه طريق «2».

و الواقدي هو: محمد بن عمر بن واقد الأسلمي، مولاهم الواقدي المديني القاضي، صاحب التصانيف و المغازي، العلامة الامام أبو عبد اللّه، أحد أوعية العلم على ضعفه. سمع من صغار التابعين، فمن بعدهم بالحجاز و الشام و غير ذلك. و قد اتفقوا على تضعيفه غير جماعة، فوثّقوه كإبراهيم الحربي، قال:

الواقدي أمين الناس على أهل الإسلام، كان أعلم الناس بأمر الإسلام. و قال

(1) راجع: سير أعلام النبلاء، ج 8، ص 450، رقم 119. و تهذيب التهذيب، ج 1، ص 158، رقم 284.

(2) راجع: الفهرست للشيخ أبي جعفر الطوسي، ص 3.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 62

إبراهيم بن جابر الفقيه: سمعت أبا بكر الصاغاني- و ذكر الواقدي- فقال: و اللّه لو لا أنّه عندي ثقة ما حدّثت عنه، قد حدّث عنه أبو بكر بن أبي شيبة، و أبو عبيد، و غيرهما. و لإبراهيم الحربي شهادة أخرى قال: سمعت مصعب بن عبد اللّه يقول: الواقدي ثقة مأمون. و سئل معن بن عيسى عن الواقدي، فقال: أنا أسأل عن الواقدي؟! الواقدي يسأل عنّي! قال الذهبي: و سألت ابن نمير عنه فقال: أما حديثه هاهنا فمستو، و أما حديث أهل المدينة، فهم أعلم به. و عن يزيد بن هارون: الواقدي ثقة. الحربي قال: سمعت أبا عبد اللّه يقول: الواقدي ثقة.

و تجاه ذلك من ضعّفوه: قال يحيى بن معين: أغرب الواقدي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

و سلّم عشرين ألف حديث. و قال يونس بن عبد الأعلى: قال لي الشافعي: كتب الواقدي كذب. و عن ابن معين: ليس الواقدي بشي ء. و قال مرة:

لا يكتب حديثه. و عن أحمد بن حنبل: الواقدي كذّاب.

قال الذهبي: و قد تقرر أنّ الواقدي ضعيف، يحتاج إليه فى الغزوات و التاريخ، أمّا في الفرائض فلا ينبغي أن يذكر. فهذه الكتب الستة و مسند أحمد، نراهم يترخّصون في إخراج أحاديث أناس ضعفاء، بل و متروكين، و مع هذا لا يخرجون للواقدي شيئا. قال: مع أنّ وزنه عندي مع ضعفه أنّه يكتب حديثه و يروى، لأني لا أتّهمه بالوضع، و قول من أهدر فيه مجازفة من بعض الوجوه «1».

قلت: و هذا المنهج الذي انتهجه الذهبي هو الأرجح في النظر؛ لأنّ الرجل رجل التاريخ و السير و المغازي، و ليس من رجال الفقه و الحديث و التفسير.

و العمدة أنه لم يكن ممن يضع و إن خلط الغثّ بالسمين و الخرز بالدر الثمين،

(1) سير أعلام النبلاء، ج 9، ص 454- 469، رقم 172. و تاريخ بغداد، ج 3، ص 3- 21.

و غيرهما من أمّهات كتب التراجم.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 63

شأن سائر أرباب التاريخ و السير كابن جرير و ابن الأثير و أبي الفداء و غيرهم من أعلام التاريخ. ولد سنة (130)، و مات سنة (217) ببغداد، و هو قاض بعسكر المهدي من قبل المأمون.

و مقاتل بن سليمان بن بشير الخراساني المروزي. أصله من بلخ و انتقل إلى البصرة، و دخل بغداد و حدّث بها. و كان مشهورا بتفسير كتاب اللّه، و له تفسير معروف. أخذ العلم عن مجاهد و عطاء و الضحّاك و غيرهم من كبار التابعين.

و

كان من العلماء الأجلّاء. قال الإمام الشافعي: الناس كلّهم عيال على مقاتل بن سليمان في التفسير. و كان تفسيره هذا موضع إعجاب العلماء من أول يومه، و قد اتّهمه من لا خلاق له حسدا عليه. قال إبراهيم الحربي و قد سئل ما بال الناس يطعنون عليه؟ فقال: حسدا منهم له. و له حديث عن الإمام أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام يرفعه إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يدل على رفيع منزلته لدى أئمة أهل البيت عليهم السّلام. و قد عده الشيخ أبو جعفر الطوسي من أصحاب الباقر و الصادق عليهما السّلام. و قد أتينا على ترجمته- و أنّ الرجل صالح لا مغمز فيه- عند الكلام عن الطرق إلى ابن عباس «1» توفّي سنة (150).

و أما محمد بن سعيد المصلوب، فهو من أهل دمشق، اتّهم بالزندقة فصلبه أبو جعفر. و هو الذي وضع

الحديث المروي من طريقه، عن حميد عن أنس مرفوعا: «أنا خاتم النبيين، لا نبيّ بعدي، إلّا أن يشاء اللّه»

فقد وضع و افترى هذا

(1) راجع: تاريخ بغداد، ج 13، ص 160- 169. و ابن خلكان، ج 5، ص 255، رقم 733.

و غيرهما من أمهات التراجم.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 64

الاستثناء، تأييدا لمذهبه في الزندقة «1». ثم أخذ يدّعي النبوة «2». و كان يضع الحديث و يضع الأسانيد. قال: لا بأس إذا كان الكلام حسنا أن تضع له إسنادا.

و عن أحمد بن حنبل قال: عمدا، كان يضع الحديث «3».

و قال ابن الجوزي: و الكذّابون و الوضّاعون خلق كثير، قد جمعت أسماءهم في كتاب «الضعفاء و المتروكين». و كان من كبار الكذّابين: وهب بن وهب القاضي، و محمد بن

السائب الكلبي، و محمد بن سعيد الشامي، المصلوب، و أبو داود النخعي، و إسحاق بن نجيح الملطي، و غياث بن إبراهيم النخعي، و المغيرة بن سعيد الكوفي، و أحمد بن عبد اللّه الجويباري، و مأمون بن أحمد الهروي، و محمد بن عكاشة الكرماني، و محمد بن القاسم الكانكاني.

و روى بإسناده عن أبي عبد اللّه محمد بن العباس الضبّي، قال: سمعت سهل بن السري يقول: قد وضع أحمد بن عبد اللّه الجويباري، و محمد بن عكاشة الكرماني، و محمد بن تميم الفارابي، على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أكثر من عشرة آلاف حديث «4».

و للعلامة الأميني فهرس بأسماء الكذّابين ممّن كان يكذب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صريحا من غير أن يتورّع. أورده في كتابه القيّم «الغدير» بعنوان

(1) تفسير القرطبي، ج 1، ص 78.

(2) هامش ملحق الضعفاء للنسائي، ص 124.

(3) ميزان الاعتدال للذهبي، ج 3، ص 561، رقم 7592.

(4) الموضوعات، ج 1، ص 47- 48.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 65

«سلسلة الكذّابين و الوضّاعين» «1» ذكر فيها الأهم ممن كان يضع الحديث، و نحن نقتطف منها نماذج:

إبراهيم بن الفضل الأصبهاني أبو منصور توفّي سنة (530) أحد الحفاظ كذّاب. كان يقف في سوق أصفهان و يروي من حفظه بسنده، و كان يضع في الحال. قال معمّر: رأيته في السوق و قد روى مناكير بأسانيد الصحاح، و كنت أتأمّله مفرطا أظنّ أنّ الشيطان تبدّى على صورته.

إبراهيم بن هدبة البصري، كذّاب خبيث حدّث بالأباطيل و وضع على أنس.

كان رقّاصا بالبصرة يدعى إلى العرائس فيرقص لهم، و كان يشرب المسكر. بقى إلى سنة (200).

أحمد

بن الحسن بن أبان البصري من كبار شيوخ الطبراني، كان كذابا دجّالا يضع الحديث على الثقات.

أحمد بن داود، ابن أخت عبد الرزاق، من أكذب الناس، عامّة أحاديثه مناكير.

أحمد بن عبد اللّه الشيباني أبو علي الجويباري، كذّاب، يضع الحديث، دجّال. قال البيهقي: إنّي أعرفه حقّ المعرفة بوضع الأحاديث على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقد وضع عليه أكثر من ألف حديث. و سمعت الحاكم يقول:

هذا كذّاب خبيث، وضع كثيرا في فضائل الأعمال، لا تحلّ رواية حديثه بوجه.

و قال ابن حبّان: دجّال من الدجاجلة، روى عن الأئمة ألوف أحاديث، ما حدّثوا بشي ء منها.

أحمد بن عبد اللّه بن محمد أبو الحسن البكري، كذّاب دجّال واضع القصص التي لم تكن قطّ، فما أجهله و أقلّ حياءه. قاله الذهبي في «ميزان الاعتدال».

(1) راجع: الغدير، ج 5، ص 209- 275.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 66

أحمد بن محمد بن محمد أبو الفتح الغزالي الطوسي الواعظ المفوّه المتوفّى سنة (520)، أخو أبي حامد، كان يضع، و الغالب على كلامه التخليط و الأحاديث الموضوعة، و كان يتعصّب لإبليس و يعذره.

أحمد بن محمد بن الصلت، وضّاع، لم يكن في الكذّابين أقلّ حياء منه.

أحمد بن محمد بن غالب الباهلي أبو عبد اللّه المتوفّى سنة (275)، غلام الخليل، من كبار الزهّاد ببغداد، كذّاب وضّاع، و كان دجّالا.

إسحاق بن بشر البخاري أبو حذيفة المتوفّى سنة (206)، قد أجمعوا على أنّه كذّاب يضع الحديث.

إسحاق بن ناصح، من أكذب الناس، يحدّث عن النبي عن ابن سيرين، برأي أبي حنيفة.

إسحاق بن نجيح الملطي الأزدي، دجّال، أكذب الناس، عدوّ اللّه، رجل سوء، خبيث، كان يضع الحديث.

إسحاق بن وهب الطهرمسي، كذّاب متروك، كان يضع صراحا.

إسماعيل بن

علي بن المثنّى الواعظ الأسترابادي المتوفّى (448)، كذّاب ابن كذّاب، كان يقصّ و يكذب، يركّب المتون الموضوعة على الأسانيد الصحيحة.

بشير بن نمير البصري المتوفّى (238)، كان ركنا من أركان الكذب، كذّاب يضع الحديث.

الحسن بن علي الأهوازي أبو علي المتوفّى سنة (446)، كذّاب في الحديث و القراءة، كان من أكذب الناس، صنّف كتابا أتى بالموضوعات و الفضائح.

الحسن بن علي أبو علي النخعي المعروف بأبي الاشنان. قال ابن عدي:

رأيته ببغداد يكذب كذبا فاحشا و يحدّث عن قوم لم يرهم، و كان يلزق أحاديث قوم تفرّدوا به، على قوم ليس عندهم.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 67

الحسن بن علي بن زكريّا أبو سعيد العدوي البصري، شيخ قليل الحياء كذّاب أفّاك، يضع الحديث على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يسرق الحديث، و يلزقه على قوم آخرين، و يحدّث عن قوم لا يعرفون، و عامة أحاديثه إلّا القليل موضوعات، يتيقّن أنّه هو الذي وضعه. كذّاب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول عليه ما لم يقله. قال ابن حبّان: لعلّه قد حدّث عن الثقات بالأشياء الموضوعة، ما يزيد على ألف حديث.

الحسن بن عمارة بن المضرب أبو محمد الكوفي المتوفّى سنة (153)، فقيه كبير كذّاب ساقط متروك، و كان يضع الحديث. قال شعبة: من أراد أن ينظر إلى أكذب الناس فلينظر إلى الحسن بن عمارة.

الحسين بن حميد بن ربيع الكوفي الخزّاز المتوفّى (282)، كذّاب ابن كذّاب ابن كذّاب.

الحسين بن محمد البزري المتوفّى سنة (423)، كذّاب، أحد المشايخ الأربعة الكذّابين ببغداد.

حمّاد بن عمر النصيبي. قال يحيى بن معين: إنّه من المعروفين بالكذب و وضع الحديث.

داود بن المحبّر أبو سليمان البصري نزيل بغداد،

و المتوفّى بها (206)، كذّاب وضّاع على الثقات، صاحب مناكير، متروك الحديث.

ربيع بن محمود المارديني المتوفّى (652)، دجّال مفتر ادّعى الصحبة و التعمير توفي سنة (599).

زكريا بن يحيى المصري أبو يحيى الوكّار المتوفّى (254)، كذّاب من الكذّابين الكبار، و كان فقيها صاحب حلقة. و من الصلحاء و العبّاد و الفقهاء.

سليمان بن داود البصري أبو أيّوب المعروف بالشاذكوني المتوفّى (234)،

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 68

أحد الحفّاظ، كذّاب خبيث، كان يضع الحديث في الوقت، و كان يتعاطى المسكر و يتماجن.

سليمان بن عمرو أبو داود النخعي. كان أكذب الناس على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم معروف بوضع الحديث، و كان رجلا صالحا في الظاهر، إلّا أنه كان يضع الحديث وضعا. قال الخطيب: كان ببغداد رجال يكذبون و يضعون، منهم أبو داود النخعي.

و قال الحاكم: لست أشكّ في وضعه الحديث على تقشّفه و كثرة عبادته.

صالح بن بشير أبو بشر المرّي البصري، قاصّ كذّاب، متروك الحديث.

عامر بن صالح حفيد الزبير بن العوّام، كذّاب خبيث، عدوّ للّه.

عبد اللّه بن الحارث الصنعاني، شيخ دجّال يضع الحديث وضعا، حدّث عن عبد الرزّاق بنسخة كلّها موضوعة.

عبد اللّه بن عبد الرحمن الكلبي الأسامي، من أكذب خلق اللّه، روى بالأباطيل.

عبد اللّه بن علّان بن رزين الخزاعي الواسطي، كان كذّابا، كثير الكذب و التزوير.

عبد المنعم بن إدريس اليماني المتوفّى (228)، قصّاص كذّاب خبيث، يضع الحديث.

كثير بن عبد اللّه بن عمرو المزني المدني، ركن من أركان الكذب.

محمد بن شجاع أبو عبد اللّه الثلجي الحنفي المتوفّى (266)، فقيه العراق في وقته. كان كذّابا، يضع الحديث في التشبيه. احتال في إبطال الحديث عن رسول اللّه، و ردّه نصرة لأبي حنيفة و رأيه.

محمد بن محمد

بن عبد الرحمن أبو الفتح الخشّاب، كان يضرب به المثل في الكذب و التخيّلات و وضعها، و كان منهمكا على الشرب. قال فيه إبراهيم بن

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 69

عثمان العربي:

أوصاه أن ينحت الأخشاب والده فلم يطقه و أضحى ينحت الكذبا

نوح بن مريم أبو عصمة المروزي المتوفّى (173)، شيخ كذّاب، كان يضع الحديث. وضع حديث فضائل القرآن الطويل.

هنّاد بن إبراهيم النسفي، كذّاب وضّاع، راوية للموضوعات و البلايا. توفّي سنة (465).

وهب بن وهب القاضي أبو البختري القرشي المدني، أكذب الناس. توفّي سنة (200)، كذّاب خبيث، دجّال عدوّ اللّه، كان يضع الحديث وضعا. و كان عامّة الليل يضع الحديث. قال فيه سويد بن عمرو بن الزبير:

إنا وجدنا ابن وهب حدثنا عن النبي أضاع الدين و الورعا

يروي أحاديث من إفك مجمّعة أفّ لوهب و ما روى و ما جمعا

إلى آخر أبيات.

قال ابن عدي: أبو البختري من الكذّابين الوضّاعين، و كان يجمع في كل حديث يرويه أسانيد من جسارته على الكذب، و وضعه على الثقات.

يحيى بن هاشم الغسّاني السمسار أبو زكريا، كذّاب، دجّال هذه الأمّة كان يضع الحديث و يسرقه.

أبو المغيرة شيخ، من أكذب الناس و أخبثهم.

فهؤلاء أربعون شيخا من كبار المحدّثين الوضّاعين، المعروفين بالكذب و الاختلاق، اخترناهم من سبعمائة شيخ كذّاب، أوردهم العلامة الأميني في «الغدير». و لعلك تستغرب هذا العدد الهائل من الكذّابين على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث عدم المبالاة في الفرية في الدين. و لكن لا غرابة فيمن سوّلت له نفسه

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 70

و أنساه الشيطان ذكر ربّه. فهؤلاء ممن استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر اللّه إِنَّ

هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ «1» صدق اللّه العلي العظيم.

و بعد، فهذا غيض من فيض، احتمله سيل الكذّابين ممن اجترءوا على اللّه و اجترحوا السيئات، فشوّهوا وجه الحديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و لقد صدق حيث

قوله في خطبته في حجة الوداع: «قد كثرت عليّ الكذابة و ستكثر. فمن كذب عليّ متعمدا فليتبوّأ مقعده من النار. فإذا أتاكم الحديث فاعرضوه على كتاب اللّه و سنّتي، فما وافق كتاب اللّه و سنّتي فخذوه، و ما خالف كتاب اللّه و سنّتي فلا تأخذوا به» «2».

فقد زالت الثقة بكتب الحديث من أهل الحشو، مع هذا الخضمّ من الموضوعات المدسوسة في الحديث و التفسير.

أنحاء الموضوعات

كانت الأكاذيب تتنوّع حسب تنوّع الأسباب الداعية للكذب و الاختلاق، فهناك كذب سياسي و آخر تحمّس مذهبي أو تعصّب جاهلي أو تزلّف لدى أمير أو رغبة في جاه أو استمالة للعامّة؛ لغرض استدرار ما لديهم من نقود و قطيعات، و ما أشبه ذلك.

و قد تكفّلت الكتب المخصّصة لبيان الموضوعات كلّ هذه الجوانب،

(1) الأعراف/ 139.

(2) بحار الانوار، ج 2، ص 225.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 71

و رتّبتها في فصول و أبواب، و نحن نورد من ذلك أمثلة نموذجية:

فممّا وضعته يد السياسة الغاشمة، ما

رواه داود بن عفّان عن أنس مرفوعا: «الأمناء سبعة: اللّوح، و القلم، و إسرافيل، و ميكائيل، و جبرائيل، و محمد، و معاوية».

و داود هذا من الوضّاعين. قال الذهبي: روى عن أنس بنسخة موضوعة. و قال ابن حبّان: كان يدور بخراسان و يضع على أنس «1».

و ذكره ابن كثير في تاريخه (8: 120) قال: هذا أنكر من الأحاديث التي قبله،

و أضعف إسنادا.

و عن واثلة مرفوعا: «أن اللّه ائتمن على وحيه جبريل و أنا و معاوية. و كاد أن يبعث معاوية نبيّا من كثرة علمه و ائتمانه على كلام ربّي. يغفر اللّه لمعاوية ذنوبه، و وقاه حسابه، و علّمه كتابه، و جعله هاديا مهديا، و هدى به».

قال الحاكم: سئل أحمد بن عمر الدمشقي- و كان عالما بحديث الشام- عن هذا الحديث، فأنكره جدّا. أخرجه ابن عساكر في تاريخه (7: 322) «2».

و ممّا وضع تزلّفا لدى الأمراء ما

أخرجه الخطيب في تاريخه (13: 452) قال: لما قدم الرشيد المدينة، أعظم أن يرقى منبر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في قباء أسود و منطقة، فقال أبو البختري: حدّثني جعفر بن محمد الصادق عن أبيه قال: نزل جبريل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عليه قباء و منطقة، مخنجرا فيها بخنجر

، و في ذلك قال المعافي التيمي:

ويل و عول لأبي البختري إذا ثوى للناس في المحشر

(1) ميزان الاعتدال، ج 2، ص 12- 13، رقم 2632.

(2) الغدير، ج 5، ص 308.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 72

من قوله الزور و إعلانه بالكذب في الناس على جعفر

و اللّه ما جالسه ساعة للفقه في بدو و لا محضر

و لا رآه الناس في دهره يمرّ بين القبر و المنبر

يا قاتل اللّه ابن وهب لقد أعلن بالزور و بالمنكر

يزعم أنّ المصطفى أحمدا أتاه جبريل التقي السري

عليه خفّ و قبا أسود مخنجرا في الحقو بالخنجر «1»

مما وضع في الفضائل ما

أخرجه الخطيب في تاريخه (2: 97) عن أنس قال: لما نزلت سورة التّين على رسول اللّه

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فرح لنا فرحا شديدا حتى بان لنا شدّة فرحه، فسألنا ابن عباس- بعد ذلك- عن تفسيرها، فقال: أمّا التِّينِ فبلاد الشام، وَ الزَّيْتُونِ فبلاد فلسطين، وَ طُورِ سِينِينَ فطور سينا الذي كلّم اللّه موسى، وَ هذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ فبلد مكة، لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ محمد، ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ، عبّاد اللّات و العزّى، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أبو بكر و عمر، فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ عثمان، فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ عليّ، أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ بعثك فيهم و جمعكم على التقوى.

قال الخطيب: هذا الحديث بهذا الإسناد باطل، لا أصل له يصح فيما نعلم.

و ذكر الذهبي في «الميزان» (3: 32) أن العلة فيه محمد بن بيان فقد رواه بقلّة حياء من اللّه، و هكذا ذكر ابن الجوزي في «الموضوعات» «2».

و

روى القرطبي في تفسيره مرسلا رفعه إلى أبيّ بن كعب، قال: قرأت على

(1) الغدير، ج 5، ص 311.

(2) المصدر، ص 320.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 73

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ الْعَصْرِ. ثمّ قلت: ما تفسيرها يا نبي اللّه؟ قال: وَ الْعَصْرِ قسم من اللّه أقسم ربّكم بآخر النهار، إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ أبو جهل، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا أبو بكر، وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ عمر، وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ عثمان، وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ عليّ «1».

و روى الصفوري في «نزهة المجالس» قال: قال ابن عباس في قوله تعالى:

وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ «2»: إذا كان يوم القيامة تنصب كراسي من ياقوت أحمر، فيجلس أبو بكر على كرسيّ، و عمر على كرسيّ، و عثمان

على كرسيّ، و عليّ على كرسيّ، ثمّ يأمر اللّه الكراسي فتطير بهم إلى تحت العرش، فتسبل عليهم خيمة من ياقوتة بيضاء. ثمّ يؤتى بأربع كاسات، فأبو بكر يسقي عمر، و عمر يسقي عثمان، و عثمان يسقي عليّا، و عليّ يسقي أبا بكر، ثمّ يأمر اللّه جهنّم أن تتمخّض بأمواجها، فتقذف الروافض على ساحلها، فيكشف اللّه عن أبصارهم، ينظرون إلى منازل أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيقولون: هؤلاء الذين سعد الناس بمتابعتهم و شقينا نحن بمخالفتهم، ثم يردّون إلى جهنم بحسرة و ندامة «3».

و أيضا في قوله تعالى: وَ حَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَ دُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنا «4» قال: إنّ نوحا لما عمل السفينة جاءه جبرئيل بأربعة مسامير مكتوب

(1) تفسير القرطبي، ج 20، ص 180.

(2) الحجر/ 47.

(3) نزهة المجالس، ج 2، ص 217. و راجع: أسباب النزول للواحدي، ص 207. و للعلّامة الأميني هنا تفنيد لاذع فراجع: الغدير، ج 10، ص 134- 136.

(4) القمر/ 13.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 74

على كلّ مسمار «ع»: عين عبد اللّه، و هو أبو بكر، و عين عمر، و عين عثمان، و عين على، فجرت السفينة ببركتهم «1».

أورد ابن الجوزي بإسناده إلى ابن عباس، قال: لما نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ جاء العبّاس إلى عليّ، فقال له: قم بنا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فسألاه عن ذلك. فقال: يا عم، إنّ اللّه جعل أبا بكر خليفتي عن دين اللّه و وحيه، فاسمعوا له تفلحوا، و أطيعوا ترشدوا.

و

في حديث آخر: فأطيعوه بعدي تهتدوا، و اقتدوا به ترشدوا

. قال ابن عبّاس: ففعلوا فرشدوا.

قال ابن

الجوزي: هذا حديث لا يصحّ، و مدار الطريقين على عمر بن إبراهيم، و هو الكردي. قال: الدار قطني: كان كذّابا يضع الحديث.

قال: هكذا روى أبو بكر الجوزقي من حديث أبي سعيد عن عمر، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لما عرج بي إلى السماء، قلت: اللّهمّ اجعل الخليفة من بعدي عليّ بن أبي طالب، فارتجّت السماوات، و هتف بي الملائكة من كل جانب: يا محمد اقرأ وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «2» قد شاء اللّه أن يكون من بعدك أبا بكر الصديق.

قال ابن الجوزي: هذا حديث موضوع، وضعه يوسف بن جعفر، و كان يضع الحديث «3».

(1) نزهة المجالس، ج 2، ص 214.

(2) الإنسان/ 30.

(3) الموضوعات، ج 1، ص 315- 316.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 75

و مما وضع في المجون و الدجل ما رواه أبو صالح عمرو بن خليف الحتاوي، بإسناد وضعه عن ابن عباس، قال: قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أدخلت الجنة فرأيت فيها ذئبا، فقلت: أ ذئب في الجنة؟! قال: إنّي أكلت ابن شرطيّ. قال ابن عباس: هذا و إنما أكل ابنه، فلو أكله رفع في علّييّن «1». قال الأميني: ليت ابن عباس كان يفصح عن أنه لو كان أكل مدير الشرطة أين كان يرفع؟! «2» و قد عدّ ذلك من خزايات الحتاوي.

و روى محمد بن مزيد بإسناده عن أبي منظور- و كانت له صحبة- قال: لمّا فتح اللّه على نبيّه خيبر أصابه من سهمه أربعة أزواج نعال، و أربعة خفاف، و عشرة أواق ذهب و فضّة، و حمار أسود. قال: فكلّم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله

و سلّم الحمار، فقال له: ما اسمك؟ قال: يزيد بن شهاب، أخرج من نسل جدّي ستّون حمارا كلّهم لم يركبه إلّا نبيّ، و لم يبق من نسل جدّي غيري و لا من الأنبياء غيرك، أتوقّعك أن تركبني، و قد كنت لرجل من اليهود كنت أعثر به عمدا. فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قد سميتك يعفورا، يا يعفور، أ تشتهي الإناث؟ قال: لا. و كان النبي يركبه في حاجة، فإذا نزل بعث به إلى باب الرجل، فيأتي الباب فيقرعه برأسه، فإذا خرج إليه صاحب الدار أومأ إليه أن أجب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فلما قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جاء إلى بئر كانت لأبي الهيثم ابن التّيهان فتردّى فيها فصارت قبرا له، جزعا منه على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

قال ابن الجوزي: هذا حديث موضوع، فلعن اللّه واضعه، فإنّه لم يقصد إلّا القدح في الإسلام و الاستهزاء به. قال أبو حاتم ابن حبّان: لا أصل لهذا الحديث،

(1) لسان الميزان، ج 4، ص 363، رقم 1061.

(2) الغدير، ج 5، ص 249.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 76

و إسناده ليس بشي ء، و لا يجوز الاحتجاج بمحمد بن مزيد «1».

و مما وضع شيئا على مقام النبوّة، حديث القضيب الممشوق:

روى أبو جعفر الصدوق في أماليه بإسناد فيه ضعف، رفعه إلى ابن عباس، قال: لما مرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لبلال: هلمّ، عليّ بالناس. فاجتمع الناس، فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم متعصّبا بعمامته، متوكّيا على قوسه حتى صعد المنبر،

فحمد اللّه و أثنى عليه، ثم قال: «معاشر أصحابي، أيّ نبيّ كنت لكم، أ لم أجاهد بين أظهركم، أ لم تكسر رباعيّتي، أ لم يعفر جبيني، أ لم تسل الدماء على حرّ وجهي حتى كنفت لحيتي، أ لم أكابد الشدّة و الجهد مع جهّال قومي، أ لم أربط حجر المجاعة على بطني؟

قالوا: بلى يا رسول اللّه، لقد كنت للّه صابرا و على منكر بلاء اللّه ناهيا، فجزاك اللّه عنا أفضل الجزاء. قال: و أنتم فجزاكم اللّه. ثم قال: إن ربّي عزّ و جل حكم، و أقسم أن لا يجوزه ظلم ظالم، فناشدتكم باللّه، أيّ رجل منكم كانت له قبل محمد مظلمة إلّا قام فليقتصّ منه. فالقصاص في دار الدنيا أحبّ إليّ من القصاص في دار الآخرة على رءوس الملائكة و الأنبياء. فقام إليه رجل من أقصى القوم، يقال له:

سوادة بن قيس. فقال له: فداك أبي و أمّي يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنك لما أقبلت من الطائف استقبلتك و أنت على ناقتك العضباء، و بيدك القضيب الممشوق، فرفعت القضيب و أنت تريد الراحلة فأصاب بطني، فلا أدري عمدا أو خطأ؟ فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: معاذ اللّه أن أكون تعمّدت.

ثم قال: يا بلال، قم إلى منزل فاطمة فائتني بالقضيب الممشوق. فخرج بلال،

(1) الموضوعات، ج 1، ص 294.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 77

و هو ينادي في سكك المدينة، معاشر الناس، من ذا الذي يعطي القصاص من نفسه قبل يوم القيامة، فهذا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يعطي القصاص من نفسه قبل يوم القيامة. و طرق بلال الباب على فاطمة عليها السّلام

و هو يقول: يا فاطمة قومي فوالدك يريد القضيب الممشوق. فأقبلت فاطمة و هي تقول: يا بلال، و ما يصنع والدي بالقضيب، و ليس هذا يوم القضيب! فقال بلال: يا فاطمة، أما علمت أنّ والدك قد صعد المنبر و هو يودّع أهل الدين و الدنيا، فصاحت فاطمة و قالت: وا غمّاه لغمّك يا أبتاه، من للفقراء و المساكين و ابن السبيل يا حبيب اللّه و حبيب القلوب.

ثم ناولت بلالا القضيب، فخرج حتى ناوله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أين الشيخ؟ فقال الشيخ: ها أنا ذا يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأبي أنت و أمّي. فقال: تعال، فاقتصّ منّي حتى ترضى. فقال الشيخ: فاكشف لي عن بطنك يا رسول اللّه، فكشف عن بطنه. فقال الشيخ: بأبي أنت و أمّي يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أ تأذن لي أن أضع فمي على بطنك؟ فأذن له، فقال: أعوذ بموضع القصاص من بطن رسول اللّه من النار يوم النار.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا سوادة بن قيس، أ تعفو أم تقتصّ؟ فقال: بل أعفو، يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فقال: اللّهم اعف عن سوادة بن قيس كما عفا عن نبيك محمّد «1».

و رواه ابن شهرآشوب في كتاب «المناقب» مرسلا «2». و رجال إسناد الصدوق في هذا الحديث أكثرهم مجاهيل أو ضعاف، فضلا عن عدم استقامة المتن على أصول المذهب؛ إذ لا يشرع القصاص في غير العمد،

(1) الأمالي لأبي جعفر الصدوق، (ط نجف)، المجلس 92، الحديث

رقم 6، ص 567- 568.

(2) المناقب، ج 1، ص 234- 235.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 78

كما لا قصاص في الضرب بالعصا. و لعل واضع هذا الحديث غفل عن مباني شريعة القصاص في الإسلام، أو لعلّه أراد الحطّ من سيّد الأنبياء، في حادثة وضعها على خلاف الشريعة.

هذا، و سوادة بن قيس، مجهول في زمرة أصحاب رسول اللّه، لم يأت له ذكر في التراجم. نعم ذكر ابن حجر ما يقارب هذه القصة بشأن سوادة بن غزية الأنصاري تارة، و بشأن سواد بن عمرو أخرى، و ذكر القصة في يوم بدر.

كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يعدّل الصفوف و في يده قدح (هو السهم قبل أن يراش) فمرّ بسواد بن غزية فطعن في بطنه، فقال: أوجعتني فأقدني، فكشف عن بطنه، فاعتنقه و قبّل بطنه، فدعا له بخير.

قال أبو عمر: رويت هذه القصة لسواد بن عمرو. قال ابن حجر: لا يمتنع التعدّد، لا سيما مع اختلاف السبب.

روى عبد الرزاق عن ابن جريج عن الإمام جعفر بن محمد عن أبيه: أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يتخطّى بعرجون فأصاب به سواد بن غزية

، فذكر القصة، و

عن معمر عن رجل عن الحسن نحوه. لكن قال: فأصاب به سوادة بن عمرو، و كان يصيب من الخلوف فنهاه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و فيها: فلقيه ذات يوم و معه جريدة فطعنه في بطنه، فقال:

أقدني يا رسول اللّه؟ فكشف عن بطنه فقال له: اقتصّ. فألقى الجريدة و طفق يقبّله. قال الحسن: حجزه الإسلام «1».

و القصة- كما رواه أبو جعفر الصدوق- رواها ابن الجوزي بإسناده إلى أبي نعيم الأصبهاني، أسنده إلى وهب

بن منبّه عن جابر بن عبد اللّه و ابن عباس و ذكر

(1) الإصابة، ج 2، ص 95- 96، رقم 3582.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 79

القصة بطولها لكن جاء بدل سوادة بن قيس، رجل يقال له: «عكّاشة» و القصة أطول مما ذكره الصدوق، و على الغرائب أشمل.

قال ابن الجوزي بعد سردها بكمالها: هذا حديث موضوع، كافأ اللّه من وضعه و قبح من يشين الشريعة بمثل هذا التخليط البارد، و الكلام الذي لا يليق بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا بالصحابة، و المتهم به: عبد المنعم بن إدريس. قال أحمد بن حنبل: كان يكذب على وهب. و قال يحيى: كذّاب خبيث «1».

و هكذا ذكر جلال الدين السيوطي القصة في الموضوعات «2».

3- الإسرائيليّات
اشارة

إسرائيليّات: جمع إسرائيليّة، و هي قصّة أو أسطورة تروى عن مصدر إسرائيلي، سواء أ كان عن كتاب أو شخص، تنتهي إليه سلسلة إسناد القصة.

و النسبة فيها إلى إسرائيل، و هو لقب يعقوب النبي عليه السّلام، و إليه تنسب اليهود، فيقال: بنو إسرائيل، سواء أ كانوا منسوبين إليه بالنسب، أو بالإيمان. فكل من آمن باليهوديّة فهو إسرائيليّ، سواء أ كان منتسبا إلى أحد الأسباط أم لم يكن «3».

و اللّفظة عبريّة تعطي معنى: الغلبة على اللّه؛ حيث القصّة الأسطورية في مصارعة يعقوب مع اللّه ليلة كاملة، و غلبته عليه عند الصباح «4».

(1) الموضوعات، ج 1، ص 201- 295.

(2) اللئالي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، ج 1، ص 277- 282.

(3) صرّح بهذا التعميم جيمس هاكس في قاموس الكتاب المقدس، ص 53.

(4) راجع: سفر التكوين، إصحاح 32، عدد 25 «فقال له اللّه: ما اسمك؟ قال: يعقوب. فقال

التفسير و

المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 80

و «إسرا» بمعنى الغلبة، و «ئيل» بمعنى القدرة الكاملة، لقب الإله، و تلقّب به الأصنام أيضا «1». فمعنى «إسرائيل»: الغالب على القدرة الكاملة، و هو اللّه تعالى- في زعمهم-، و قد أصبح لقب يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم؛ لأنه صارع مع اللّه و غلب عليه.

و لفظ «إسرائيليّات» و إن كان بظاهره يدل على القصص الذي يروى أصلا عن مصادر يهوديّة، يستعمله علماء التفسير و الحديث، و يطلقونه على ما هو أوسع و أشمل من القصص اليهوديّة. فهو في اصطلاحهم يدل على كل ما تطرّق إلى التفسير و الحديث و التاريخ من أساطير قديمة، منسوبة في أصل روايتها إلى مصدر يهودي أو نصراني أو غيرهما، بل توسّع بعض المفسرين و المحدّثين فعدّوا من الإسرائيليات ما دسّه أعداء الإسلام من اليهود و غيرهم على التفسير و الحديث، من أخبار لا أصل لها حتى في مصدر قديم. و إنما هي من صنع أعداء الإسلام، صنعوها بخبث نيّة و سوء طويّة، ثم دسّوها على التّفسير و الحديث ليفسدوا بها عقائد المسلمين.

و إنما أطلق لفظ الإسرائيليات على كل ذلك، من باب التّغليب للّون اليهودي على غيره؛ لأنّ غالب ما يروى من هذه الخرافات و الأباطيل، يرجع في أصله إلى مصدر يهودي؛ و لأنهم الفئة التي كانت العرب الأوائل و كذا المسلمون في العهد الأوّل يرجعون إليها في الأغلب الأكثر. و اليهود قوم بهّت، و هم أشدّ الناس عداوة و بغضا للإسلام و المسلمين، كما قال سبحانه:

لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل إسرائيل، لأنك جاهدت مع الله و الناس و قدرت».

(1) قاموس الكتاب المقدس، ص 53 و 142.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 81

لَتَجِدَنَّ

أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ... «1». و اليهود كانوا أكثر أهل الكتاب صلة بالمسلمين. و ثقافتهم كانت أوسع من ثقافات غيرهم، و حيلهم التي يصلون بها إلى تشويه جمال الإسلام كانت ماكرة خادعة، و كان لهم نصيب كبير في هذا الهشيم المركوم من الإسرائيليّات الدخيلة. فمن أجل هذا كلّه، غلب اللّون اليهودي على غيره من ألوان الدخيل على التفسير و الحديث، و أطلق عليه كلّه لفظ «الإسرائيليّات».

الإسرائيليّات في التفسير و الحديث

كانت العرب منذ أوّل يومها تزعم من أهل الكتاب، و لا سيّما اليهود القاطنين بين أظهرهم، أهل دين و ثقافة و معرفة بشئون الحياة، و من ثم كانوا يراجعونهم فيما تتوق إليه نفوسهم في معرفة شئون الخليقة و تواريخ الأمم السالفة و الأنبياء و ما إلى ذلك. و هكذا بعد ظهور الإسلام كانوا يفضّلون مراجعة أهل الكتاب في معرفة شئون الإسلام و الدعوة.

و لا سيّما و قد حدا بهم القرآن إلى مساءلة أهل الذكر و الكتاب. قال تعالى مخاطبا لهم: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ «2». و هذا من باب وَ ما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ «3».

المخاطب، و إن كان هو النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لكن المقصود غيره ممّن شكّ في

(1) المائدة/ 82.

(2) يونس/ 94.

(3) يس/ 22.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 82

رسالته، فليراجعوا أهل الكتاب في معرفة سمات نبي الإسلام. و هذا كان في إبّان الدعوة؛ حيث كان يرجى الصدق من أهل الكتاب.

و هكذا قوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا

نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «1».

و قوله: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَ الزُّبُرِ «2».

و قوله: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ ... «3».

إلى غيرها من آيات، تخاطب المشركين، فيما لو ارتابوا في صحة ما جاء به القرآن، أن يراجعوا أهل الكتاب.

و قد حسب بعض المسلمين الأوائل، أنّ ذلك تجويز لهم أيضا في مراجعة اليهود، فيسألوهم عن بعض شئون الشريعة، و لا سيّما في أصول معارفها و شئون الخليقة و تاريخ الأنبياء.

لكنّ الأمر لم يستمرّ على ذلك حتى جاء النهي الصريح عن مراجعة أهل الكتاب؛ و ذلك بعد أن عرف منهم الخبث و اللّؤم في تضليل المسلمين، و تشويه سمعة الإسلام، و تضعيف العقائد.

(1) الأنبياء/ 7.

(2) النحل/ 43.

(3) الإسراء/ 101.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 83

قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ. لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا. وَدُّوا ما عَنِتُّمْ. قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَ ما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ. قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ «1».

(البطانة): ما يستبطنه الإنسان من ثيابه التي تلي جسده، أي لا تتخذوا أصحاب سرّ من غيركم.

لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا، أي لا يقصّرون في إفساد ذهنيّاتكم عن الإسلام، و منه الخبل: فساد العقل. و رجل مخبّل: فاسد الرأي.

وَدُّوا ما عَنِتُّمْ، أي كانت غاية جهدهم إيقاع العنت بكم. و العنت: المشقّة الروحية، و القلق الفكري.

و من ثمّ أصدر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نهيه الصريح عن مراجعة أهل الكتاب، بما أنهم لا يخلصون النصيحة للمسلمين، و لا يأبهون إن

حقا قالوا أو باطلا، ما دامت الغاية هي إيقاع الفساد و العنت بين المؤمنين.

فقد أخرج أحمد في مسنده و كذا ابن أبي شيبة و البزّار من حديث مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري، قال: إنّ عمر بن الخطاب أتى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه عليه (و في نسخة أحمد: فقرأه النّبي) فغضب، فقال: أ متهوّكون فيها يا ابن الخطاب؟! و الذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقيّة. لا تسألوهم عن شي ء فيخبروكم بحق فتكذّبوا به، أو بباطل فتصدّقوا به. و الذي نفسي بيده لو أن موسى عليه السّلام كان حيّا ما وسعه إلّا أن يتّبعني «2».

(1) آل عمران/ 118.

(2) مسند أحمد بن حنبل، ج 3، ص 387. و راجع: فتح الباري في شرح البخاري لابن حجر

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 84

المتهوّك: الذي خاس عقله، فيرد في الأمور من غير رويّة و لا تعقّل، كالمتهوّر غير المبالي.

و هذا اللحن من الخطاب غاية في الاستنكار على صنيع قبيح لا يليق بشأن إنسان عاقل متدبّر بصير. فقد وبّخ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عمر في صنيعه هذا، و أنه راجع اليهود في بعض مسائله، و هذا الإسلام ناصع جليّ بين يديه يجيب على جميع مسائل الإنسان في الحياة، لا إبهام فيه و لا قصور.

فقد أبان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن نبي اللّه موسى عليه السّلام لو أدرك هذا الزمان، لكان الواجب نبذ ما لديه، و الأخذ بما جاء به نبي الإسلام، فكيف بالمسلمين يراجعون اليهود في مخاريق قديمة العهد، لا وزن لها و لا اعتبار،

و أنها مزيج أباطيل قد يوجد في طيّها بعض الحقيقة، مما لا يمكن الوثوق من صحتها، ما دامت ضائعة بين الأباطيل.

و قد عقد البخاري في صحيحه بابا عنونه

بقول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شي ء» «1» . و ذكر فيه حديث معاوية عن كعب الأحبار: إن كان من أصدق هؤلاء المحدّثين الذين يحدّثون عن أهل الكتاب، و إن كنّا مع ذلك لنبلو عليه الكذب.

قوله: «نبلو عليه الكذب»، أي نختبره فنجد في أخباره كذبا. هذا الحديث قاله

- ج 13، ص 281. قال ابن حجر: رجاله موثوقون إلّا أنّ في مجالد ضعفا ... غير أنّ البخاري قال: إنّه صدوق. و قال يعقوب بن سفيان: تكلم الناس فيه و هو صدوق. قال ابن عدي: له عن الشعبي عن جابر أحاديث صالحة. قلت: و هذا الحديث من هذا الطريق الصالح.

راجع: تهذيب التهذيب، ج 10، ص 40- 41.

(1) صحيح البخاري، ج 9، ص 136. و راجع: ج 3، ص 237.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 85

معاوية عند ما حج في خلافته «1».

و

روى بإسناده عن أبي هريرة، قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانيّة و يفسّرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا تصدّقوا أهل الكتاب و لا تكذّبوهم، و قولوا آمنّا باللّه و ما أنزل إلينا و ما أنزل إليكم» «2».

أقول: ويل تلك الفئة من المنتحلين بالإسلام، يتركون القرآن العربيّ الفصيح، و يستمعون إلى سفاسف عبريّة يفسرها ذوو الأحقاد من أهل الكتاب.

و هذا كان في أخريات حياة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث كان أبو هريرة «3» ممن يستمع

إلى مثل تلك السفاسف، فجاء النهي، و الأمر بالاقتناع بما جاء به القرآن.

و روى حديث ابن عباس في الاستنكار لمراجعة بعض المسلمين لأهل الكتاب، و سنذكره.

هذا، و مع ذلك كان من المسلمين من لم ينته عن مراجعة أهل الكتاب أو النظر في كتبهم و رسائلهم، بغية الحصول على مطالب كان يزعم افتقادها في أحاديث المسلمين.

و قد راجت هذه العادة الجاهليّة- التي كانت تضعف حينا و تقوى حينا آخر- بعد وفاة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث انسدّ على كثير من الناس باب علم اللّه المتمثّل في شخصية الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم متغافلين عن خلفائه العلماء أبواب علومه الفيّاضة، و لا سيّما باب علم النبيّ علي أمير المؤمنين عليه السّلام و من كان على حذوه كابن عباس

(1) راجع: فتح الباري، ج 13، ص 282.

(2) صحيح البخاري، ج 9، ص 136.

(3) لأنّ أبا هريرة أسلم بعد فتح خيبر سنة سبع من الهجرة.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 86

و ابن مسعود و أضرابهما، فتركوا السبيل السويّ و لجأوا إلى معوّج الطريق.

هذا ابن عباس يناديهم فيقول:

«كيف تسألون أهل الكتاب عن شي ء، و كتابكم الذي أنزل على رسول اللّه أحدث «1»، تقرءونه محضا لم يشبّ «2». و قد حدّثكم أنّ أهل الكتاب بدّلوا كتاب اللّه و غيّروه و كتبوا بأيديهم الكتاب، و قالوا: هو من عند اللّه ليشتروا به ثمنا قليلا.

أ لا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم. لا و اللّه ما رأينا منهم رجلا قطّ يسألكم عن الذي أنزل عليكم» «3».

و كان من الآثار السيّئة التي خلّفتها مراجعة أهل الكتاب رغم نهي النبي عنها أن

خلطت الأكاذيب الإسرائيلية بالتفسير و الحديث الوارد عن النبي و الخيار من صحابته الأجلّاء، فشوّهت وجه التفسير، فضلا عن التاريخ و الحديث. و سوف نذكر نماذج من هذا التشويه، و لا سيّما في التفسير بالمأثور.

قال ابن خلدون:

و صار التفسير على صنفين: تفسير نقلي مسند إلى الآثار المنقولة عن السلف، و هي معرفة الناسخ و المنسوخ و أسباب النزول و مقاصد الآي، و كل ذلك لا يعرف إلّا بالنقل عن الصحابة و التابعين، و قد جمع المتقدمون في ذلك و أروعوا، إلّا أنّ كتبهم و منقولاتهم تشتمل على الغثّ و السمين و المقبول

(1) في نسخة: «أحدث الأخبار باللّه».

(2) لم يشب: من الشوب و هو الخلط، أي لم يشبه شي ء، كناية عن عدم الدسّ فيه و التحريف، كما كان عليه كتب السالفين.

(3) صحيح البخاري، ج 9، ص 136. و ج 3، ص 237. و في الموضعين بعض الاختلاف في لفظ الحديث.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 87

و المردود. و السبب في ذلك: أنّ العرب لم يكونوا أهل كتاب و لا علم، و إنّما غلبت عليهم البداوة و الأمّيّة، و إذا تشوّقوا إلى معرفة شي ء مما تتشوّق إليه النفوس البشريّة، في أسباب المكوّنات و بدء الخليقة و أسرار الوجود، فإنّما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم، و يستفيدونه منهم، و هم أهل التوراة من اليهود، و من تبع دينهم من النصارى. و أهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم، و لا يعرفون من ذلك إلّا ما تعرفه العامّة من أهل الكتاب، و معظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهوديّة، فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم ممّا لا تعلّق له بالأحكام الشرعيّة التي

يحتاطون لها، مثل أخبار بدء الخليقة و ما يرجع إلى الحدثان و الملاحم و أمثال ذلك. و هؤلاء مثل كعب الأحبار و وهب بن منبّه و عبد اللّه بن سلام و أمثالهم، فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم في أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم. و تساهل المفسرون في مثل ذلك، و ملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات، و أصلها- كما قلنا- عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية و لا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك، إلّا أنّهم بعد صيتهم و عظمت أقدارهم، لما كانوا عليه من المقامات في الدين و الملّة، فتلقّيت بالقبول من يومئذ «1».

هل تجوز مراجعة أهل الكتاب؟

و هل هناك ما يبرّر مراجعة أهل الكتاب؟

زعم الكثير من الكتّاب المتأخرين- تبريرا لمواقف لفيف من الصحابة الذين صمدوا على الرجوع إليهم، و لا سيّما مسلمة أهل الكتاب- أن هناك دلائل على

(1) المقدمة، ص 439- 440، آخر الفصل الخامس فيما ذكره بشأن التفسير.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 88

الجواز، إمّا في زمن متأخر عن المنع الذي كان في ابتداء الأمر، أو في شئون لا تمسّ أحكام الشريعة في مثل القصص و التواريخ، أو فيما لم تمسّه يد التحريف و قد توافق مع ما جاء به القرآن الكريم، أو نحو ذلك.

هذا ابن تيميّه يذكر عن السدّيّ الكبير (هو أبو محمّد إسماعيل بن عبد الرحمن الكوفي توفّي سنة 127) أنه كان في بعض الأحيان ينقل ما يحكى من أقاويل أهل الكتاب، التي أباحها- فيما زعم-

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث قال: بلّغوا عني و لو آية، و حدّثوا عن بني إسرائيل و لا حرج، و من كذب عليّ متعمدا فليتبوّأ مقعده من النار «1»،

رواه البخاري عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص.

و لهذا كان عبد اللّه بن عمرو قد أصاب يوم اليرموك زاملتين «2» من كتب أهل الكتاب، فكان يحدّث منهما، بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك «3».

قال: و لكن هذه الأحاديث الإسرائيليّة تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد، فإنها على ثلاثة أقسام:

أحدها: ما علمنا صحّته ممّا بأيدينا ممّا يشهد له بالصدق.

و الثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه.

و الثالث: ما هو مسكوت عنه، لا من هذا القبيل و لا من هذا القبيل، فلا نؤمن به و لا نكذّبه، و تجوز حكايته، لما تقدم «4». و غالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني و لهذا اختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا كثيرا، في مثل أسماء أهل

(1) رواه البخاري في باب ما ذكر عن بني إسرائيل من كتاب الأنبياء، ج 4، ص 207.

(2) الزاملة: هي الملفّة، و ربما كانت حمل بعير، و قد فسر أبو شهبة الزاملتين بحمل بعيرين. (الإسرائيليّات و الموضوعات، ص 92)

(3) سنأتي على تفسير هذا الحديث بغير ما فهمه هؤلاء.

(4) من عدم تصديقهم و لا تكذيبهم فيما يحكونه. ذكر ذلك في ص 19 من رسالته.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 89

الكهف و أسماء الطيور التي أحياها اللّه لإبراهيم، مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلّفين في دنياهم و دينهم. و لكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز «1».

و يستدل الذهبي لجواز مراجعة أهل الكتاب و النقل عنهم فيما لا يخالف الشريعة بآيات، زعم دلالتها على إباحة الرجوع إليهم، قال:

و إذا نحن نظرنا في القرآن الكريم، وجدنا من آياته البيّنات ما يدعو نبي الإسلام

و جماعة المسلمين إلى أن يرجعوا إلى علماء أهل الكتاب من اليهود و النصارى ليسألوهم عن بعض الحقائق التي جاءت في كتبهم، و جاء بها الإسلام فأنكروها، أو أغفلوها، ليقيم عليهم الحجّة، و لعلّهم يهتدون.

و من هذه الآيات الدالّة على إباحة رجوع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من تبع دينه من المسلمين إلى أهل الكتاب قوله تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ «2»، و قوله: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «3»، و قوله:

وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا «4». قال: و معناه: و اسأل أممهم و علماء دينهم. قال الفراء مبيّنا وجه المجاز في الآية: هم إنما يخبرونه عن كتب الرسل، فإذا سألهم فكأنه سأل الأنبياء عليهم السّلام، و قوله: وَ سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ، و قوله: فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ، و قوله:

(1) مقدمته في أصول التفسير، ص 45- 46، (المطبعة السلفية) و راجع: مقدمة تفسير ابن كثير، ج 1، ص 4.

(2) يونس/ 94.

(3) الأنبياء/ 7، و النحل/ 43.

(4) الزخرف/ 45.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 90

سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ «1».

قال: كل ما تقدم من أمر اللّه لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بسؤال أهل الكتاب، يدلّ على جواز الرجوع إليهم، و لكن لا في كل شي ء، بل فيما لم تصل له يد التحريف و التبديل من الحقائق التي تصدق القرآن و تلزم المعاندين منهم و من غيرهم الحجّة «2».

قال: و على هذا فما جاء موافقا لما

في شرعنا تجوز روايته، و عليه تحمل الآيات الدالّة على إباحة الرجوع إلى أهل الكتاب، و عليه أيضا يحمل

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «حدّثوا عن بني إسرائيل و لا حرج»

؛ إذ المعنى: حدّثوا عنهم بما تعلمون صدقه.

و أما ما جاء مخالفا لما في شرعنا أو كان لا يصدّقه العقل، فلا تجوز روايته؛ لأن حديث الإباحة لا يتناول ما كان كذبا. و أما ما سكت عنه شرعنا، و لم يكن ما يشهد لصدقه و لا لكذبه و كان محتملا، فحكمه أن نتوقف في قبوله فلا نصدّقه و لا نكذّبه؛ و على هذا يحمل

قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا تصدّقوا أهل الكتاب و لا تكذّبوهم».

أما روايته فجائز على أنها مجرّد حكاية لما عندهم؛ لأنها تدخل في عموم الإباحة المفهومة، من

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «حدّثوا عن بني إسرائيل و لا حرج» «3».

و أضاف قائلا: ما ثبت من أن بعض الصحابة كأبي هريرة و ابن عباس، كانوا يراجعون بعض من أسلم من أهل الكتاب، يسألونهم عمّا في كتبهم، و ما روي من

(1) الإسرائيليات في التفسير و الحديث، محمد حسين الذهبي، ص 60- 61، الأعراف/ 163، الإسراء/ 101، البقرة/ 211.

(2) المصدر، ص 63.

(3) الإسرائيليّات في التفسير و الحديث، ص 64- 65.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 91

أنّ عبد اللّه بن عمرو بن العاص أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب فكان يحدّث منهما، لا يعارض ما رواه البخاري من إنكار ابن عباس على من يسأل أهل الكتاب.

و لا ما

رواه عبد الرزاق في مسنده عن ابن مسعود من نهيه عن سؤال

أهل الكتاب بقوله: «لا تسألوا أهل الكتاب، فإنّهم لن يهدوكم و قد أضلّوا أنفسهم».

و لا ما رواه أحمد من إنكار الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على عمر لمّا أتاه بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب

بقوله: «أ متهوّكون فيها يا ابن الخطاب».

قال: «نعم لا تعارض بين هذا و ذاك؛ لأن صحابة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كانوا أعرف الناس بأمور دينهم، و كان لهم منهج سديد و معيار دقيق في قبول ما يلقى إليهم من الإسرائيليّات، ما كانوا يرجعون إليهم في كل شي ء، و إنما كانوا يرجعون إليهم لمعرفة بعض جزئيّات الحوادث و الأخبار.

قال: أما إنكار الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنكار الصحابة على من كان يرجع إليهم، فقد كان في مبدأ الإسلام و قبل استقرار الأحكام، مخافة التشويش على عقائدهم و أفكارهم «1».

قال ابن حجر: «و كأنّ النهي وقع قبل استقرار الأحكام الإسلاميّة و القواعد الدينيّة خشية الفتنة. ثم لمّا زال المحذور وقع الإذن في ذلك، لما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار» «2».

(1) الإسرائيليّات في التفسير و الحديث، ص 66- 67.

(2) راجع: فتح الباري، ج 6، ص 320.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 92

مناقشة دلائل الجواز

غير أن هذه الدلائل غير وافية بإثبات المطلوب، و لا هي تبرّر مراجعة أهل الكتاب في شي ء من تفسير القرآن الحكيم أو تاريخ الأنبياء عليهم السّلام.

ذلك لأنّ اليهود الذين جاوروا العرب كانوا أهل بادية مثلهم- كما قال ابن خلدون- لا علم لهم و لا تحقيق بمعرفة الصحيح من الأخبار، سوى ما شاع لديهم من أخبار عامّيّة ممّا لا يمكن الوثوق بها. أما علماؤهم

فكانوا أهل دجل و تزوير، كانوا يكتبون الكتاب بأيديهم- كما حكى عنهم القرآن- و يزوّرون الحديث و يقولون: هذا من عند اللّه، و ما هو من عند اللّه، ليشتروا به ثمنا قليلا، بغية حطام الدنيا الرذيلة.

و من ثمّ كان المنع من ذلك شديدا كما عرفت في مناهي النبي و أصحابه الكبار عن ذلك، و لم يدل على جوازه شي ء من الأخبار و الآثار.

أمّا الآيات التي زعموها مبيحة لذلك، فالاستدلال بها عقيم؛ لأنها من باب «إيّاك أعني و اسمعي يا جارة». كان الخطاب في ظاهره مع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم غير أنّ المقصود غيره من المتشكّكين في أمر الرسالة، و ليسوا هم المسلمين أيضا، بل الكفّار و المنافقون هم المقصودون، بدليل صدر الآية و ذيلها: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ «1».

و العجب من الذهبي كيف يزعم أنّ هذه الآية جاءت رخصة للنبي في مراجعة أهل الكتاب؟! أو هل يشكّ النبي فيما أنزل إليه؟! أو هل يمتري النبي في صدق رسالته كي يؤمر بالانتهاء منه؟!

(1) يونس/ 94.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 93

لا شك أنّ المقصود غيره من الذين كانوا يتشكّكون في صدق رسالته، و لقد كان المرجع الوحيد الذي يمكن أولئك المتشكّكين اللّجوء إليه هم (أهل الكتاب) الذين جاورهم، و ليس النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بمقصود البتة، و لا المسلمون المعتقدون بصحة الرسالة.

و هكذا قوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَ الزُّبُرِ «1» خطاب محض موجّه إلى العرب الجاهليّ.

أما

حديث «حدّثوا عن بني إسرائيل و لا

حرج»

فهو كناية عن التوسّع في تفضيع شأنهم؛ حيث كلّ ما حدّثته عنهم من رذائل و فضائح فهو حقّ لا مرية فيه؛ حيث توسّعهم في ارتكاب الآثام و ركوبهم جميع القبائح المحتملة بشأنهم، كما جاء في المثل: «حدّث عن البحر و لا حرج» كناية عن التوسّع في الأمر، و أنه كل ما قلت عنه فهو صحيح. و منه قولهم بشأن معن بن زائدة الشيباني و كان من أجواد العرب: «حدّث عن معن و لا حرج»، كناية عن توسّعه في المكرمات، فكل ما حدّثت عنه من فضيلة، فهو صدق واقع «2».

فهذا تعبير كنائي عن مطلق التوسّع في أمر إن شينا أو زينا، و ليس المقصود التحدّث، بمعنى الرواية و النقل عنهم.

و يتأيّد هذا المعنى، بما

ورد في لفظ أحمد: «تحدّثوا عن بني إسرائيل و لا حرج، فإنكم لا تحدّثون عنهم بشي ء إلّا و قد

(1) النحل/ 43.

(2) راجع: مجمع الأمثال للميداني رقم 1103، ج 1، ص 207. و فرائد الأدب للأب لويس معلوف.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 94

كان فيهم أعجب منه» «1» ، أي كلّ ما حدّثت عنهم من فضيحة أو رذيلة شانئة، فهو صدق؛ لأنهم أوسع فضاحة و أكثر رذالة مما يحتمل بشأنهم.

و

في لفظه الآخر: «حدّثوا عن بني إسرائيل و لا حرج، و حدّثوا عنّي و لا تكذبوا» «2».

ففي هذه المقارنة بين التوسّع في الحديث عن بني إسرائيل، و التقيّد لدى الحديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دلالة واضحة على صدق الحديث عنهم مهما كان الحديث، أما عند التحدّث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيجب تحرّي الصدق، و لئلا يكون كذبا عليه. فإنّه من

كذب عليه متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار.

أقطاب الروايات الإسرائيليّة
اشارة

عند ما نتصفح كتب السير و التفاسير و أخبار الملاحم، نجد أنّ أكثريّة ما يروى من الإسرائيليّات تكاد تدور على أقطاب ثمانية، كانوا هم الأساس لشياع الأساطير الإسرائيليّة بين المسلمين.

و هم: عبد اللّه بن سلام، و كعب الأحبار، و محمد بن كعب القرظي، و وهب بن منبّه، و تميم بن أوس الداري، و عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، و عبد اللّه بن عمرو بن العاص، و أبو هريرة.

أما الأوّلان فهما من مسلمة أهل الكتاب. و الثلاثة بعدهما ممّن ولدوا عن أبوين كتابيّين. و الأخيران أسلما عن شرك. و لكن أخذا علمهما ممن سبقهما من

(1) مسند أحمد بن حنبل، ج 3، ص 13.

(2) المصدر، ص 56.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 95

أهل الكتاب.

أما الخمسة الأول فكانت لهم إلمامة بثقافات موروثة من أهل الكتاب، لكن لا على حدّ التحقيق و النقد، بل على حدّ الشياع العام- حسبما نبّه عليه ابن خلدون- لأنهم كانوا أيضا كإخوانهم العرب، من البائدة القاطنين في الجزيرة.

كان هؤلاء جميعا، يقصّون على الناس- في حلقات إما في أندية أو جوامع- القصص و الأخبار البائدة، و يحوكون لهم غرائب الآثار الأساطيريّة، و ربما كانت مهيّجة، و من ثمّ كانت لهم أسواق رائجة في الأوساط العامّيّة؛ الأمر الذي أشاع عنهم الكثير من الأساطير الإسرائيلية، و أخذ عنهم أهل السير و التاريخ، و أدرجوها ضمن كتبهم في التفسير و الحديث و التاريخ.

و إليك إلمامة قصيرة بحياة هؤلاء الأقطاب الثمانية:

1- عبد اللّه بن سلام

اسمه الحصين بن سلام بن الحارث الإسرائيلي، حليف النوافل من الخزرج، و هم بنو عوف، كان حبرا من أحبار اليهود، فأسلم عند مقدم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المدينة،

و قيل: قبل وفاته بسنتين،

فسمّاه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عبد اللّه.

قال ابن حجر: و كان من بني قينقاع «1».

قيل: إنه جاء إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: إنّي قد قرأت القرآن و التوراة. فقال:

«اقرأ بهذا ليلة، و بهذا ليلة»

. قال الإمام شمس الدين الذهبي: إسناده ضعيف «2».

لأنّ الراوي له هو إبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي، و هو متروك الحديث.

(1) الإصابة، ج 2، ص 320.

(2) سير أعلام النبلاء، ج 2، ص 418- 419.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 96

و بعضهم اتّهمه. قال الأستاذ شعيب الأرناءوط: فالحديث ضعيف جدّا، بل يكاد يكون موضوعا، فإنه مخالف

لحديث جابر بن عبد اللّه الأنصاري: أنّ عمر بن الخطاب أتى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: إنا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا، أ فترى أن نكتب بعضها؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أ متهوّكون كما تهوّكت اليهود و النصارى؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقيّة. و لو كان موسى حيّا لما وسعه إلّا اتّباعي».

قال: و هو حديث حسن «1».

كان عبد اللّه بن سلام ممن يحوك الأحاديث ليستجلب أنظار العامّة و يرفع بمنزلته لديهم، من ذلك ما حاكه حول صفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في التوراة، كان يمليها على العامّة تزلّفا إليهم. فكان يذكر من أوصاف الرسول الراهنة، و يقول:

وجدتها كذلك في التوراة «2»، و كان يدّعي أنه أعلم اليهود و أخبرهم بكتب السالفين «3».

و قد حكيت حوله أحاديث في فضله و نبله، غير أنها ضعيفة الإسناد موهونة. توفّي بالمدينة سنة (43).

2- كعب الأحبار

هو كعب بن ماتع الحميري من آل ذي

رعين أو من آل ذي الكلاع «4». و يكنّى

(1) هامش سير أعلام النبلاء. أخرج الحديث عن «مجمع الزوائد، ج 1، ص 173- 174».

(2) أوردها ابن سعد في الطبقات (ط ليدن)، ج 1، ص 87، ص 14.

(3) الإصابة، ج 2، ص 321، و سير الأعلام، ج 2، ص 416.

(4) و ربما رجّح الثاني، لما

رواه الطبراني من طريق يحيى بن أبي عمرو الشيباني عن عوف بن التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 97

أبا إسحاق، من كبار أحبار اليهود، كان أبوه كاهنا، و ورث الكهانة من أبيه. ولد قبل الهجرة باثنتين و سبعين سنة، و أسلم بعد وفاة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أوائل خلافة عمر.

و هلك أيام عثمان سنة (32). فقد عاش (104) سنة.

كان من أهل اليمن- من يهودها- فهاجر إلى المدينة عند ما أسلم، ثم تحوّل إلى الشام، فاستصفاه معاوية و جعله من مستشاريه، لما زعم فيه من كثرة العلم «1».

و هو الذي أمره أن يقصّ في بلاد الشام؛ و بذلك أصبح أقدم الإخباريين في موضوع الأحاديث اليهودية المتسرّبة إلى الإسلام. و بواسطة كعب و ابن منبّه و سواهما من اليهود الذين أسلموا تسرّبت إلى الحديث طائفة من أقاصيص التلمود- الإسرائيليات- و ما لبثت هذه الروايات أن أصبحت جزءا من الأخبار التفسيرية و التاريخية في حياة المسلمين.

افتجر هذا الكاهن لإسلامه سببا عجيبا ليتسلّل به إلى عقول المسلمين

مالك، أنه دخل المسجد يتوكّأ على ذي الكلاع، و كعب يقصّ على الناس، فقال عوف لذي الكلاع: أ لا تنهى ابن أخيك هذا عمّا يفعل؟ قيل: إنه نهاه و ذكّره بحديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و

سلّم: «لا يقصّ على الناس إلّا أمير أو مأمور أو متكلّف محتال» فأمسك كعب عن القصص حتى أمره معاوية، فصار يقصّ بعد ذلك.

(الإصابة، ج 3، ص 315- 316)

(1) قال معاوية في وصف علمه: ألا إنّ كعب الأحبار أحد العلماء، إن كان عنده علم كالثمار و إن كنّا فيه لمفرطين.

و الذي يدل على مبلغ علمه الموهوم ما قاله هو لقيس بن خرشة القيسي: ما من شبر في الأرض إلّا و هو مكتوب في التوراة التي أنزل اللّه على موسى، ما يكون عليه و ما يخرج منه إلى يوم القيامة، يعني أنه يعلم بذلك. (راجع: تهذيب التهذيب، ج 8، ص 439، و الاستيعاب في ترجمة قيس بن خرشة، هامش الإصابة، ج 3، ص 243).

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 98

و قلوبهم. فقد أخرج ابن سعد بإسناد صحيح- حسبما ذكره أبو ريّة- عن سعيد بن المسيّب قال: قال العباس بن عبد المطلب لكعب: ما منعك أن تسلم على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أبي بكر، حتى أسلمت الآن على عهد عمر؟

فقال: إنّ أبي كتب لي كتابا من التوراة و دفعه إليّ، و قال: اعمل بهذا. و ختم على سائر كتبه، و أخذ عليّ بحق الوالد على ولده أن لا أفضّ الخاتم. فلمّا كان الآن، و رأيت الإسلام يظهر و لم أر بأسا، قالت لي نفسي: لعلّ أباك غيّب عنك علما كتمك، فلو قرأته، ففضضت الخاتم، فقرأته، فوجدت فيه صفة محمّد و أمّته.

فجئت الآن مسلما. فوالى العباس «1».

قلت: و لا يخفى ما في هذا التبرير من تفاهة إن لم يكن في طيّها سفاهة تصحبها خباثة.

و كان عمر يكرهه و يسي ء

الظنّ به، لما كان قد أفسد في الحديث و أشاع الأكاذيب. قال له يوما و قد أحضره: لتتركنّ الأحاديث أو لألحقنّك بأرض القردة «2»، يعني أرض اليهود التي هي أصله. و

روى أهل السير أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام كان يذمّه، و يقول عنه: إنّ كعب الأحبار لكذّاب

. و قد كان منحرفا عن علي عليه السّلام، كما ذكره ابن ابي الحديد «3».

(1) الطبقات، ج 7، ق 2، ص 156. و راجع: الإصابة، ج 3، ص 316. و الأضواء لأبي ربّة، ص 147- 148.

(2) أخرجه أبو زرعة الدمشقي في تاريخه، ج 1، ص 544. راجع: هامش سير أعلام النبلاء، ج 3، ص 490. و رواه ابن كثير في البداية و النهاية، ج 8، ص 108، ط السعادة (راجع الإسرائيليات للذهبي، ص 96).

(3) شرح النهج، ج 4، ص 77.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 99

و من سخافاته ما روي عن سعد الجاري مولى عمر، قال: إنّ عمر دعا أمّ كلثوم- و كانت تحته- فوجدها تبكي. فقال لها: ما يبكيك؟ فقالت: هذا اليهودي- تعني كعبا- يقول: إنك على باب من أبواب جهنّم! فقال عمر: ما شاء اللّه، و اللّه إني لأرجو أن يكون ربّي خلقني سعيدا. ثم أرسل إلى كعب فدعاه، فلمّا جاءه قال: يا أمير المؤمنين لا تعجل عليّ، و الذي نفسي بيده، لا ينسلخ ذو الحجة حتى تدخل الجنّة.

فقال عمر: أي شي ء هذا، مرّة في الجنة و مرّة في النّار؟! فقال: يا أمير المؤمنين، و الذي نفسي بيده، إنا لنجدك في كتاب اللّه- يعني به التوراة- على باب من أبواب جهنم، تمنع الناس أن يقعوا فيها. فإذا متّ لم يزالوا يقتحمون

فيها إلى يوم القيامة «1».

و يروي الطبري أنه جاء إلى عمر قبل مقتله بثلاثة أيام، و قال له: اعهد، فإنّك ميّت في ثلاثة أيام. قال: و ما يدريك؟ قال: أجده في كتاب اللّه عزّ و جل في التوراة! قال عمر: إنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟ قال: اللّهمّ، لا، و لكن أجد صفتك و حليتك، و أنه قد فنى أجلك «2».

قال أحمد أمين تعقيبا على هذه القصّة: و هذه القصّة إن صحّت دلّت على وقوف كعب على مكيدة قتل عمر، ثم وضعها هو في هذه الصبغة الإسرائيليّة. كما

(1) طبقات ابن سعد، ج 3، ق 1، ص 240، س 4- 12.

(2) جاء في تاريخ الطبري، ج 3، ص 264 (مطبعة الاستقامة) حوادث سنة (23): أن عمر كان لا يحسّ ألما و لا وجعا حتى كان من الغد جاءه كعب فقال: يا أمير المؤمنين ذهب و بقي يومان. ثم جاءه من غد الغد فقال: ذهب يومان و بقي يوم و ليلة، و هي لك إلى صبيحتها.

فلما كان الصبح خرج إلى الصلاة فطعنه أبو لؤلؤة.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 100

تدلّنا على مقدار اختلاقه فيما ينقل «1».

و هكذا ذكر أبو ريّة: و ممّن اشترك في مؤامرة قتل عمر، و كان له أثر كبير في تدبيرها كعب الأحبار. و هذا لا يمتري فيه أحد إلّا الجهلاء «2».

و ذكر ابن سعد أنّ كعبا كان يقول: كان في بني إسرائيل ملك إذا ذكرناه ذكرنا عمر، و إذا ذكرنا عمر ذكرناه. و كان إلى جنبه نبيّ يوحى إليه. فأوحى اللّه إلى النبيّ أن يقول له: اعهد عهدك و اكتب وصيّتك فإنّك ميّت إلى ثلاثة أيام، فأخبره النبي بذلك.

فلما كان في اليوم الثالث وقع بين الجدر و بين السرير؛ ثم جاء إلى ربّه فقال: اللهمّ إن كنت تعلم أنّي كنت أعدل في الحكم، و إذا اختلفت الأمور اتّبعت هواك و كنت و كنت، فزدني في عمري حتى يكبر طفلي و تربو أمّتي. فأوحى اللّه إلى النبيّ أنه قد قال كذا و كذا، و قد صدق، و قد زدته في عمره خمس عشرة سنة، ففي ذلك ما يكبر طفله و تربو أمّته.

فلما طعن عمر قال كعب: لئن سأل عمر ربّه ليبقينّه اللّه. فأخبر بذلك عمر، فقال عمر: اللّهمّ، اقبضني إليك غير عاجز و لا ملوم «3».

و ذكر أيضا: لمّا طعن عمر، جاء كعب فجعل يبكي بالباب، و يقول: و اللّه لو أنّ أمير المؤمنين يقسم على اللّه أن يؤخّره لأخّره. فدخل ابن عباس عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، هذا كعب يقول كذا و كذا! قال: إذن و اللّه لا أسأله. ثم قال: ويل لي و لأمّي إن لم يغفر اللّه لي «4».

(1) فجر الإسلام، ص 161.

(2) أضواء على السنة المحمدية، ص 155.

(3) الطبقات، ج 3، ق 1، ص 257، س 2- 12.

(4) المصدر، ص 262، س 19.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 101

و من ثمّ كان ما يحكيه كعب عن الكتب القديمة، ليس بحجة عند أحد من أهل العلم و التحقيق، و لم يثبته أهل الحديث الأوائل. قال شعيب الأرناءوط:

و أخطأ من زعم أنه خرّج له البخاري و مسلم، فإنّهما لم يسندا من طريقه شيئا من الحديث. و إنّما جرى ذكره في الصحيحين عرضا. قال: و لم يؤثر عن أحد من المتقدمين توثيق كعب إلّا أنّ بعض الصحابة- يعني

معاوية- أثنى عليه بالعلم «1».

و قد سمعت قول معاوية- صديقه الوفيّ- بشأنه، حينما حجّ في خلافته: إن كان من أصدق هؤلاء المحدّثين الذين يحدّثون عن أهل الكتاب، و إن كنّا مع ذلك لنبلو عليه الكذب «2».

قال ابن حجر: و روى عنه من الصحابة عبد اللّه بن عمر و عبد اللّه بن الزبير و أبو هريرة و معاوية «3»، و ذكر ابن عباس أيضا. لكنّا قد فنّدنا ذلك بتفصيل. و في «الطبقات»: أن تبيع ابن امرأة كعب حمل من كعب علما كثيرا «4».

قال أحمد أمين: و أما كعب الأحبار فيهوديّ من اليمن، و من أكبر من تسرّبت منهم أخبار اليهود إلى المسلمين. و قد أخذ عنه اثنان، هما أكبر من نشر علمه: ابن عباس! و أبو هريرة. و ما نقل عنه يدل على علمه الواسع بالثقافة اليهوديّة و أساطيرها. جاء في «الطبقات الكبرى» حكاية عن رجل دخل المسجد فإذا عامر بن عبد اللّه بن عبد قيس جالس إلى كتب و بينها سفر من أسفار التوراة و كعب يقرأ. و قد لاحظ بعض الباحثين أن بعض الثقات كابن قتيبة و النووي

(1) هامش سير أعلام النّبلاء، ج 3، ص 490. و معاوية هو الذي أثنى عليه بالعلم. راجع: فتح الباري، ج 13، ص 282.

(2) راجع: البخاري بهامش الفتح، ج 13، ص 282.

(3) الإصابة، ج 3، ص 316.

(4) الطبقات، ج 7، ق 2، ص 160، س 10.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 102

لا يروي عنه أبدا. و ابن جرير يروي عنه قليلا «1».

قال الذهبي بعد نقل كلام أحمد أمين: و هذا يدلّنا على أن كعبا كان لا يزال بعد إسلامه يرجع إلى التوراة

و التعاليم الإسرائيليّة «2».

قلت: أمّا رواية ابن عباس عن كعب فشي ء موضوع، و لم تثبت روايته عنه، و هو الناقم على مراجعي أهل الكتاب على ما أسلفنا. نعم، كان أبو هريرة لقلّة بضاعته كثيرا ما يراجع أهل الكتاب، و لا سيّما كعبا، كان يعدّ شيخه و مرشده في هذا الطريق. و كان أبو هريرة أكثر من نشر عن كعب و أفاض بمعلوماته الجمّة عن مثله.

قال الأستاذ أبو ريّة- و نعم ما قال-: «إن كعبا أظهر الإسلام خداعا، و طوى قلبه على يهوديّته، و أنّه سلّط قوّة دهائه على سذاجة أبي هريرة لكي يستحوذ عليه و ينيمه، ليلقّنه كل ما يريد أن يبثّه في الدين الإسلامي من خرافات و أوهام.

و أنه قد طوى أبا هريرة تحت جناحه حتى جعل يردّد كلامه بالنصّ، و يجعله حديثا مرفوعا «3».

قال: و قد استطاع هذا اليهوديّ أن يدسّ من الخرافات و الأوهام و الأكاذيب في الدين، ما امتلأت به كتب التفسير و الحديث و التاريخ، فشوّهتها و أدخلت الشك إليها. و ما زالت تمدّنا بإضرارها «4».

(1) فجر الإسلام، ص 160- 161.

(2) التفسير و المفسرون، ج 1، ص 188.

(3) الإسرائيليات في التفسير و الحديث للذهبي ص 95. قال أبو ريّة في الأضواء، ص 164:

يرجع إلى كتابنا «شيخ المضيرة» ليعلم كيف اتصل أبو هريرة بكعب الأحبار، و كيف وقع في فخّه.

(4) أضواء على السنة المحمدية، ص 164.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 103

3- تميم بن أوس الدّاري

هو أبو رقيّة، تميم بن أوس بن حارثة أو خارجة الداري، اللّخمي الفلسطيني.

و الدار: بطن من لخم، فخد من يعرب بن قحطان.

و قد تميم و أخوه نعيم في وفد كانوا عشرة نفر من بني

الدار على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد منصرفه من تبوك سنة (9) فأسلما و كانا نصرانيّين. قال أبو نعيم: كان تميم راهب عصره و عابد فلسطين.

يقال: إن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخذ عنه قصّة «الجسّاسة» و الدّجّال، فحدّث عنه بذلك على المنبر

، فكان ذلك منقبة له «1».

و التمس من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يهب له قريتين من قرى فلسطين، إن فتح اللّه عليه الشام. قال: كانت لنا جيرة من الروم، و لهم قريتان يقال لإحداهما: حبرى و الأخرى بيت عينون، فإن فتح اللّه عليك الشام فهبهما لي. قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فهما لك.

و كتب له كتابا. فلمّا قام أبو بكر بالأمر أعطاه ذلك «2». و قيل: إنّه جاء بالكتاب إلى عمر فقال: أنا شاهد ذلك فأمضاه. و

ذكر اللّيث أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال له: «ليس لك أن تبيع» فجعلها وقفا عليه.

قال ابن جريج: فهي في أيدي أهله إلى اليوم «3».

أخرجه أبو عبيد من طريق عبد اللّه بن صالح كاتب اللّيث عنه «4».

و قد بالغ أصحاب التراجم بشأنه و ذكروا له كرامات و مناقب، منها قصّة

(1) و الجسّاسة: دابّة- فيما زعمه هذا الراهب النصراني- كان رآها في جزيرة من البحر كانت تجسّ الأخبار لدجّال. أوردها مسلم في الفتن و أشراط الساعة (ج 8، ص 203) و أحمد في مسنده، ج 6، ص 373- 374 و الطبراني و غيرهم، و سنذكر قصّتها.

(2) الإصابة، ج 1، ص 183- 184، و الطبقات، ج 1، ق 2، ص 75.

(3) سير أعلام النبلاء، ج 2،

ص 442- 443.

(4) الأموال لأبي عبيد بن سلّام، ص 349- 350.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 104

مدافعته النار حتى أطفأها، كما ذكره ابن حجر، قال: له قصّة مع عمر فيها كرامة واضحة لتميم و تعظيم كثير من عمر له- فذكرها في ترجمة معاوية بن حرمل- و هي: أنّ معاوية بن حرمل- صهر مسيلمة الكذّاب و الذي ارتدّ معه- جاء إلى المدينة تائبا، فلبث في المسجد لا يؤوي و لا يطعم شيئا. قال فأتيت عمر، فقلت: تائب من قبل أن تقدر عليه. قال: من أنت؟ قلت: معاوية بن حرمل.

قال: اذهب إلى خير المؤمنين، فأنزل عليه.

قال: و كان تميم الداري إذا صلّى ضرب بيديه على يمينه و شماله فذهب برجلين، فصلّيت إلى جنبه. فأخذني، فأوتينا بطعام. فبينا نحن ذات ليلة؛ إذ خرجت نار بالحرّة، فجاء عمر إلى تميم يستنجده، فقال: قم إلى هذه النار. فقال:

يا أمير المؤمنين: و من أنا! و ما أنا، و ما تخشى أن يبلغ من أمري! يستصغر نفسه.

فلم يزل به عمر حتى قام معه، و تبعتهما. فانطلقا إلى النار. فجعل تميم يحوشها (أي يدفعها إلى الداخل) بيده حتى دخلت الشعب، و دخل تميم خلفها.

فجعل عمر يقول: ليس من رأى كمن لم ير! قالها ثلاثا. قال: فخرج و لم تضرّه النار «1».

قال الذهبي: هذه القصة سمعها عفان من حماد بن سلمة عن الجريري عن أبي العلاء عن ابن حرمل. قال: و ابن حرمل لا يعرف.

قلت: قد أهمل معاوية بن حرمل في كتب ترجمة الرجال.

و هذا الكاهن المسيحي- الذي بقيت معه نزعته المسيحية (الرهبنة) إلى ما

(1) ابن حجر في الإصابة في ترجمة معاوية بن حرمل، ج 3، ص 497. و سير أعلام

النبلاء، ج 2، ص 446- 447.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 105

بعد إسلامه- هو أوّل من سن القصّ في المسجد، و تكاد تتّفق الروايات على أنه أوّل قاصّ في الإسلام «1». و ذلك كان على عهد عمر بن الخطاب، و لعله في أواخر ولايته. روى الزهري عن السائب بن يزيد، قال: أوّل من قصّ تميم الداري، استأذن عمر، فأذن له فقصّ قائما «2». و روى عن ابن شهاب، أنّ أوّل من قصّ في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تميم الداري، استأذن عمر أن يذكّر الناس فأبى عليه، حتى كان آخر ولايته فأذن له أن يذكّر الناس في يوم الجمعة قبل أن يخرج عمر. و استأذن تميم عثمان بن عفّان فأذن له أن يذكّر يومين في الجمعة، فكان تميم يفعل ذلك.

قال أحمد أمين: و قد نما القصص بسرعة؛ لأنه يتّفق و ميول العامّة، و أكثر القصاص من الكذب حتى رووا أن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام طردهم من المساجد، و استثنى الحسن البصري، لتحرّيه الصدق «3».

و أما قصّة «الجسّاسة»،

فقد ذكر مسلم في كتاب الفتن و أشراط الساعة، بإسناده عن الحسين بن ذكوان عن ابن بريدة عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس، و كانت من المهاجرات الأول، قالت: سمعت منادي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ينادي:

الصلاة جامعة، فخرجت إلى المسجد، فصلّيت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فكنت في صفّ النساء التي تلي ظهور القوم. قالت: فلمّا قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صلاته جلس على المنبر و هو يضحك، فقال: ليلزم كل إنسان مصلّاه، ثم قال: أ تدرون

لم جمعتكم؟ قالوا: اللّه و رسوله أعلم. قال: إنّي و اللّه ما جمعتكم لرغبة و لا لرهبة،

(1) كما قال أحمد أمين، فجر الإسلام ص 159.

(2) سير أعلام النبلاء، ج 2، ص 447.

(3) فجر الإسلام، ص 159- 160.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 106

و لكن جمعتكم لأنّ تميما الداري كان رجلا نصرانيا فجاء و بايع و أسلم، و حدّثني حديثا وافق الذي كنت أحدّثكم عن مسيح الدجّال. حدّثني أنه ركب في سفينة بحريّة مع ثلاثين رجلا من لخم و جذام، فلعب بهم الموج شهرا في البحر، ثم أرفئوا إلى جزيرة في البحر حتى مغرب الشمس. فجلسوا في أقرب (جمع قارب و هو الزورق) السفينة فدخلوا الجزيرة، فلقيهم دابّة أهلب «1» كثير الشعر لا يدرون ما قبله من دبره من كثرة الشعر، فقالوا: ويلك ما أنت؟ فقالت: أنا الجسّاسة! «2» قالوا: و ما الجسّاسة؟ قالت: أيّها القوم انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير (الدير هو القصر) فإنّه إلى خبركم بالأشواق. قال (أي الداري): لما سمّت لنا رجلا فرقنا (أي فزعنا) منها أن تكون (أي الدابّة) شيطانة. قال: فانطلقنا سراعا حتى دخلنا الدير، فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قطّ خلقا، و أشدّه وثاقا، مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد. قلنا: ويلك ما أنت؟ قال: قد قدرتم على خبري، فأخبروني ما أنتم؟ قالوا: نحن أناس من العرب. فقصّوا عليه قصّتهم، فقال: أخبروني عن نخل بيسان! «3» قلنا: عن أيّ شأنها تستخبر؟ قال: أسألكم عن نخلها هل تثمر؟ قلنا له: نعم. قال: أما أنه يوشك أن لا تثمر. قال: أخبروني عن بحيرة الطبريّة! قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل فيها ماء؟

قالوا: هي كثيرة الماء. قال: أما أنّ ماءها يوشك أن يذهب. قال: أخبروني عن عين زغر «4».

(1) غليظ الشعر.

(2) في الهامش: سميّت جسّاسة لتجسّسها الأخبار للدجّال. قال صاحب التحفة: هي دابّة الأرض التي تخرج في آخر الزمان. راجع: شرح النووي. ج 18، ص 78.

(3) بيسان، مدينة بالأردن بالغور الشامي، و هي بين حوران و فلسطين. يقال عنها: إنها لسان الأرض و بها عين يقال: إنها من الجنة فيها ملوحة يسيرة. (معجم البلدان، ج 1، ص 527)

(4) على وزان زفر: بلدة في الجانب القبلي من الشام.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 107

قالوا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل في العين ماء، و هل يزرع أهلها بماء العين؟ قلنا له: نعم، هي كثيرة الماء، و أهلها يزرعون من مائها. قال: أخبروني عن نبيّ الأميّين ما فعل؟ قالوا: قد خرج من مكّة و نزل يثرب. قال: أقاتله العرب؟

قلنا: نعم. قال: كيف صنع بهم، فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب و أطاعوه. قال: قد كان ذلك؟ قلنا: نعم. قال: أما أنّ ذاك خير لهم أن يطيعوه، و إنّي أخبركم عنّي: إنى أنا المسيح «1»، و إنى أوشك أن يؤذن لي في الخروج، فأخرج فأسير في الأرض، فلا أدع قرية إلّا هبطتها في أربعين ليلة، غير مكة و طيبة، فهما محرّمتان عليّ كلتاهما، كلّما أردت أن أدخل واحدة منهما استقبلني ملك بيده السيف صلتا «2» يصدّني عنها، و أنّ على كلّ نقب منها ملائكة يحرسونها.

قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و طعن بمخصرته في المنبر: هذه طيبة هذه طيبة هذه طيبة، يعني المدينة «3».

هذه القصة على غرابتها

في سندها ضعف؛ لأنها رويت بطريقين: مسلم في «الصحيح»، و أحمد في «المسند». و كلاهما ينتهي إلى عامر الشعبي، غير أنّ الذي يروي عن الشعبي في المسند، هو مجالد بن سعيد، و كان يكذب في الحديث.

قال عمرو بن علي: سمعت يحيى بن سعيد يقول لبعض أصحابه: أين تذهب؟

قال: إلى وهب بن جرير أكتب السيرة عن أبيه عن مجالد بن سعيد! قال: تكتب

(1) أي المسيح الدجّال الذي زعموا أنه يخرج في آخر الزمان.

(2) أي مسلولا.

(3) صحيح مسلم، ج 8، ص 203- 205. و رواه أحمد في المسند، ج 6، ص 373، باختلاف يسير.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 108

كذبا كثيرا، لو شئت أن يجعلها إلى مجالد كلّها عن الشعبي عن مسروق عن عبد اللّه، فعل. و قال أبو طالب عن أحمد: ليس بشي ء. يرفع حديثا كثيرا لا يرفعه الناس. و قال الدوري عن ابن معين: لا يحتج بحديثه. و قال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ضعيف واهي الحديث. كان يحيى بن سعيد يقول: لو أردت أن يرفع لي مجالد حديثه كلّه رفعه، إلى غيرها من شهادات بضعفه في الحديث، و رفعه الحديث لمكان ضعفه «1». و قال محمد بن حبّان: كان ردي ء الحفظ يقلب الأسانيد و يرفع المراسيل، لا يجوز الاحتجاج به «2».

و في مسند مسلم وقع: ابن بريدة عن الشعبي. و ابن بريدة هذا هو عبد اللّه بن بريدة أخو سليمان. قال البزار: فحيث أبهم علقمة و محارب و محمد و كذا الأعمش عند ابن حجر فالمراد: سليمان بن بريدة. و أمّا من عدا هؤلاء حيث أبهموا فهو عبد اللّه بن بريدة «3»- كما هنا- لأنّ الذي أبهم في

إسناد مسلم هو الحسين بن ذكوان.

و عبد اللّه بن بريدة هذا، قد ضعّف حديثه أحمد، و كانوا يرجّحون أخاه سليمان عليه. قال إبراهيم: له عن أبيه أحاديث منكرة. و تعجّب من الحاكم كيف زعم أنّ سند حديثه من رواية الحسين بن واقد عن عبد اللّه بن بريدة عن أبيه أصح الأسانيد لأهل مرو «4».

(1) تهذيب التهذيب، ج 10، ص 40.

(2) كتاب المجروحين و الضعفاء لابن حبان، ج 3، ص 10.

(3) راجع: الكنى في تهذيب التهذيب، ج 12، ص 286.

(4) تهذيب التهذيب، ج 5، ص 158.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 109

4- وهب بن منبّه

هو وهب بن منبّه بن كامل اليماني الصنعاني. و قال أحمد بن حنبل: كان من أبناء فارس. قيل: إن منبّها من خراسان من أهل هراة، أخرجه كسرى من هراة إلى اليمن، فأسلم في عهد النبي و حسن إسلامه فسكن ولده في اليمن، و كان وهب بن منبّه يختلف إلى هراة و يتفقد أمرها. كان يقول: قرأت بضعة و سبعين كتابا من كتب الأنبياء. ولد سنة (34) و مات سنة (110). قيل: ضربه يوسف بن عمر حتى مات «1».

و قد أكثر من سرد الإسرائيليّات، و نسب إليه قصص كثيرة، كانت مثارا للنيل منه و الطعن عليه، حتى رمي بالكذب و التدليس، و إفساد عقول المسلمين.

5- محمد بن كعب القرظي

هو محمد بن كعب سليم القرظي، كان أبوه من سبى قريظة، من أولاد كهنة اليهود. ولد سنة (39) و مات سنة (117). كان يقصّ في المسجد، فسقط عليه السقف، فمات هو و جماعة معه «2».

فقد كان من القصّاصين، يقصّون على الناس عن كتب السلف و أساطيرهم، و فيها كان حتفه.

(1) تهذيب التهذيب، ج 11، ص 166- 168.

(2) تهذيب التهذيب، ج 9، ص 420- 422.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 110

6- عبد اللّه بن عمرو بن العاص

قيل: كان اسمه العاص فغيّره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و سماه عبد اللّه.

أسلم قبل أبيه عمرو، و عمرو أسلم قبل الفتح سنة ثمان. ولد قبل الهجرة بسبع سنين، و مات سنة (65). فقد عاش (72) سنة.

هو أوّل من أشاع الإسرائيليّات بعد وفاة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم زعم أنه أصاب يوم اليرموك «1» زاملتين «2» من كتب اليهود، فكان يحدّث منهما. و يبرّر ذلك بما

رواه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قوله: «حدّثوا عن بني إسرائيل و لا حرج». رواه البخاري بإسناده عنه «3». هكذا فهم من هذا الحديث، جواز الرواية عنهم، حسبما ذكره ابن تيميّة «4».

و

أضاف إليه حديثا آخر اختلقه بهذا الشأن، قال: رأيت فيما يرى النائم كأنّ في إحدى إصبعيّ سمنا و في الأخرى عسلا فأنا ألعقهما. فلمّا أصبحت ذكرت ذلك للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: تقرأ الكتابين، التوراة و الفرقان. و من ثمّ كان

(1) يرموك: واد بناحية الشام كانت به حرب بين المسلمين و الروم في أواخر أيّام أبي بكر.

و كان عبد اللّه بصحبة أبيه في تلك الحرب؛ حيث أصاب

زاملتين من كتب اليهود فيما زعم.

(2) الزاملة: الملفّة، من زمّل الشي ء بثوبه أو في ثوبه: لفّه. و ربما كانت حمل بعير، و هكذا عبّر عنها ابن حجر في الفتح (ج 1، ص 184)، قال: إنّ عبد اللّه كان قد ظفر في الشام بحمل جمل من كتب أهل الكتاب، فكان ينظر فيها و يحدّث منها، و من ثمّ تجنّب الأخذ عنه كثير من أئمة التابعين.

و عبّر عنها أبو شهبة: بحمل بعيرين. (الإسرائيليات و الموضوعات في كتب التفسير، ص 54).

(3) صحيح البخاري، ج 4، ص 207.

(4) مقدمته في التفسير، ص 45.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 111

يقرأهما «1».

و كانت له صحيفة يسمّيها «الصادقة» زعم أنه كتبها من أحاديث الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن إجازته له في كتابتها. قال: استأذنت النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في كتاب ما سمعت منه فأذن لي فكتبته.

فكان يسمّي صحيفته تلك الصادقة.

قال مجاهد: رأيت عنده صحيفة فسألت عنها، فقال: هذه الصادقة، فيها ما سمعت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليس بينى و بينه فيها أحد «2».

روى البخاري بإسناده إلى همّام بن منبّه عن أخيه وهب، قال: سمعت أبا هريرة يقول: ما من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أحد أكثر حديثا عنه منّي إلّا ما كان من عبد اللّه بن عمرو، فإنه كان يكتب و لا أكتب «3».

و لقد كان ضعيف الرأي وهن السلوك، كان قد صحب أباه في الوقوف مع معاوية في وقعة صفين، في حين أنه كان يعلم أنّهم كانوا هم الفئة الباغية على ما وصفهم بها رسول اللّه صلّى اللّه

عليه و آله و سلّم و قد اعتذر لذلك بأنّه كان لوصيّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إيّاه أن يتابع أباه عمرو بن العاص. و قد نسي قوله تعالى:

وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ «4».

و كذا قوله تعالى:

(1) سير أعلام النبلاء، ج 3، ص 86. و مسند أحمد، ج 2، ص 222. و حلية الأولياء، ج 1، ص 286.

(2) الطبقات، ج 2، ق 2، ص 125.

(3) جامع البخاري، ج 1، ص 39، باب كتابة العلم. و راجع: الفتح، ج 1، ص 184.

(4) البقرة/ 170.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 112

وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما «1».

و مع ذلك نراه قد تابع أباه في ضلال كان يعلمه.

أخرج ابن سعد عن الغنوي، قال: بينا نحن عند معاوية؛ إذ جاءه رجلان يختصمان في رأس عمّار، يقول كل واحد منهما؛ أنا قتلته. فقال عبد اللّه بن عمرو:

ليطب به أحدكما نفسا لصاحبه، فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «تقتله الفئة الباغية». فقال معاوية: أ لا تغني عنّا مجنونك يا عمرو «2» فما بالك معنا؟! قال: إن أبي شكاني إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: أطع أباك حيّا و لا تعصه. و أنا معكم و لست أقاتل «3».

7- أبو هريرة

أما أبو هريرة فقد اختلف في اسمه، كما لم يعرف أصله و نسبه و نشأته، و لا شي ء من تاريخه قبل إسلامه، غير ما ذكر

هو عن نفسه، من أنّه كان يلعب بهرّة صغيرة، و أنه كان معدما فقيرا خامل الذكر، يخدم الناس على شبع بطنه. قال:

كنت أرعى غنم أهلي، و كانت لي هرّة صغيرة، فكنت أضعها باللّيل في شجرة، و إذا كان النهار ذهبت بها معي فلعبت بها، فكنّوني «أبا هريرة». قال: نشأت يتيما

(1) لقمان/ 15.

(2) هكذا في النسخ، و لعله: مجونك، هو المزاح في وقاحة.

(3) و هكذا

أخرج ابن سعد عن عبد اللّه بن الحارث، قال: إني لأسير مع معاوية في منصرفه عن صفّين بينه و بين عمرو بن العاص. فقال عبد اللّه: يا أبة، سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول لعمار: ويحك يا ابن سميّة، تقتلك الفئة الباغية. فقال عمرو لمعاوية: أ لا تسمع ما يقول هذا! فقال معاوية: ما تزال تأتينا بهنة تدحض بها في بولك. أ نحن قتلناه؟! إنما قتله الذين جاءوا به!! (الطبقات، ج 3، ق 1، ص 180- 181) التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 113

و هاجرت مسكينا، و كنت أجيرا لبسرة بنت غزوان بطعام بطني و عقبة رجلي، فكنت أخدم إذا نزلوا، و أحدو إذا ركبوا.

قدم أبو هريرة بعد أن تخطّى الثلاثين من عمره، و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حينذاك في غزوة خيبر التي وقعت عام (7) من الهجرة، قال ابن سعد: قدم الدوسيّون فيهم أبو هريرة و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بخيبر فكلّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أصحابه في أن يشركوا أبا هريرة في الغنيمة، ففعلوا. و لفقره اتخذ سبيله إلى الصّفّة (موضع مظلّل في مؤخّرة مسجد النبي من

الناحية الشمالية). قال أبو الفداء: و أهل الصّفّة أناس فقراء لا منازل لهم و لا عشائر، ينامون في المسجد و يظلّون فيه. و كانت صفّة المسجد مثواهم، فنسبوا إليها. و كان إذا تعشّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يدعو منهم طائفة يتعشّون معه، و يفرّق منهم طائفة على الصحابة ليعشّوهم.

روى مسلم عنه، قال: كنت رجلا مسكينا أخدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على ملاء بطني. و في رواية: كنت ألزم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على ملاء بطني. و كان أكولا، إذا كان يطعم في بيت أحد الصحابة، كان بعضهم ينفر منه.

و روى البخاري عنه، قال: أستقرئ الرجل الآية و هي معي، كي ينقلب بي فيطعمني. و كان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب، كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته. و روى الترمذي عنه: و كنت إذا سألت جعفر عن آية لم يجبني حتى يذهب بي إلى منزله. قال أبو ريّة: و من أجل هذا كان جعفر في رأي أبي هريرة أفضل الصحابة جميعا، فقدّمه على أبي بكر و عمرو علي و عثمان و غيرهم من كبار الصحابة.

فقد أخرج الترمذي و الحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة: ما احتذى النعال و لا ركب المطايا و لا وطئ التراب، بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أفضل من جعفر بن

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 114

أبي طالب «1».

كان أبو هريرة يلقّب بشيخ المضيرة (طعام يطبخ باللّبن المضر، أي الحامض) و قد نالت هذه المضيرة من عناية العلماء و الكتاب و الشعراء ما لم ينله مثلها من

أصناف المآكل و الحلويّات. و ظلّوا يتندرون بها و يغمزون أبا هريرة قرونا طويلة من أجلها.

قال الثعالبي، و كان أبو هريرة تعجبه المضيرة جدّا، فيأكل مع معاوية، فإذا حضرت الصلاة صلّى خلف عليّ عليه السّلام، فإذا قيل له في ذلك، قال: مضيرة معاوية أدسم و أطيب، و الصلاة خلف عليّ أفضل و أتمّ. و من كلامه: ما شممت رائحة أطيب من رائحة الخبز الحار، و ما رأيت فارسا أحسن من زبد على تمر «2».

و قد أخذ العلماء على أبي هريرة كثرة حديثه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع قلّة صحبته و قلة بضاعته حينذاك، و من ثمّ رموه بالتدليس و الاختلاق. كان يسمع الحديث من أحد الصحابة ثم يدلّس، فيرفعه إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و كان كثيرا ما يسمع الحديث من أهل الكتاب و لا سيّما كعب الأحبار، فيسنده إلى النبيّ أو أحد كبار صحابته تدليسا و تمويها على العامّة.

فقد روى مسلم عن بسر بن سعيد، قال: اتّقوا اللّه و تحفّظوا من الحديث.

فو اللّه لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدّث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يحدّث عن كعب الأحبار، ثم يقوم، فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن كعب، و حديث كعب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و في رواية: يجعل ما قاله كعب

(1) راجع: فتح الباري، ج 7، ص 62.

(2) الأضواء لأبي ريّة، ص 195- 199.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 115

عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

و ما قاله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن كعب. فاتقوا اللّه و تحفّظوا في الحديث.

و قال يزيد بن هارون: سمعت شعبة يقول: أبو هريرة كان يدلّس، أي يروي ما سمعه من كعب و ما سمعه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا يميّز هذا من هذا. و قال ابن قتيبة: و كان أبو هريرة يقول: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كذا، و إنما سمعه من الثقة عنده فحكاه. و كانت عائشة أشدّهم إنكارا على أبي هريرة. و ممن اتّهم أبا هريرة بالكذب عمر و عثمان و عليّ و غيرهم، فكما قال الأستاذ الرافعي: «كان أوّل راوية اتّهم في الإسلام» «1».

و الحديث بشأن تدليس أبي هريرة و إنكار الصحابة عليه ذو شجون، عرضه بتفصيل الأستاذ أبو ريّة في كتابيه: «شيخ المضيرة»، و «الأضواء». و كان هذا العرض القصير مستقى منه «2».

أخذ أبو هريرة عن كعب الأحبار الشي ء الكثير، غير أن السّيّئ الذي كان يرتكبه، إسناد ما سمعه من كعب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما نوّهنا عنه.

قال أبو ريّة: ذكر علماء الحديث في باب «رواية الصحابة عن التابعين، أو رواية الأكابر عن الأصاغر» إنّ أبا هريرة و العبادلة «3» و معاوية و أنس و غيرهم، قد رووا عن كعب الأحبار اليهودي الذي أظهر الإسلام خداعا، و طوى قلبه على

(1) راجع: تاريخ آداب العرب، ج 1، ص 278.

(2) راجع: الأضواء، ص 202- 206.

(3) هم: عبد اللّه بن عمرو بن العاص. و عبد اللّه بن عمر. و عبد اللّه بن عباس، غير أن الأخير

مكذوب عليه، و قد فصّلنا الكلام فيه.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 116

يهوديّته.

قال: و يبدو أنّ أبا هريرة كان أكثر الصحابة انخداعا به، و ثقة فيه، و رواية عنه و عن إخوانه، من سائر أهل الكتاب. و يتبيّن من الاستقراء أنّ كعب الأحبار قد سلّط قوّة دهائه على سذاجة أبي هريرة لكي يستحوذ عليه، و ينيمه ليلقّنه كلّ ما يريد أن يبثّه في الدين الإسلامي، من خرافات و أوهام. و كان له في ذلك أساليب غريبة و طرق عجيبة.

فقد روى الذهبي في «طبقات الحفاظ» في ترجمة أبي هريرة أنّ كعبا قال فيه- أي في أبي هريرة-: ما رأيت أحدا لم يقرأ التوراة، أعلم بما فيها من أبي هريرة!! فانظر مبلغ دهاء هذا الكاهن و مكره بأبي هريرة، الذي يتجلّى في درس تاريخه أنّه كان رجلا فيه غفلة و غرّة؛ إذ من أين يعلم أبو هريرة ما في التوراة و هو لا يعرفها، و لو عرفها لما استطاع أن يقرأها.

و مما يدلّك على أنّ هذا الحبر الداهية قد طوى أبا هريرة تحت جناحه حتى جعله يردّد كلام هذا الكاهن بالنصّ، و يجعله حديثا مرفوعا إلى النبيّ، ما نورد لك شيئا منه.

روى البزار عن أبي هريرة: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: إنّ الشمس و القمر ثوران في النار يوم القيامة!! فقال الحسن: و ما ذنبهما؟ فقال: أحدّثك عن رسول اللّه، و تقول: ما ذنبهما؟!

و هذا الكلام نفسه قد قاله كعب بنصّه، فقد روى أبو يعلى الموصلي، قال كعب: يجاء بالشمس و القمر يوم القيامة كأنّهما ثوران عقيران، فيقذفان في

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 117

جهنم، يراهما من عبدهما «1».

و

روى

الحاكم في «المستدرك» و الطبراني- و رجاله رجال الصحيح- عن أبي هريرة: أنّ النبي قال: إنّ اللّه أذن لي أن أحدّث عن ديك رجلاه في الأرض و عنقه مثبتة تحت العرش، و هو يقول: سبحانك ما أعظم شأنك! قال: فيرد عليه ما يعلم ذلك من حلف بي كاذبا

. و هذا الكلام من قول كعب، و نصّه: أن للّه ديكا عنقه تحت العرش و براثنه في أسفل الأرض، فإذا صاح صاحت الدّيكة، فيقول: سبحان القدوس الملك الرحمن لا إله غيره «2».

و

روى أبو هريرة: أنّ رسول اللّه قال: النيل و سيحان و جيحان و الفرات من أنهار الجنة

، و هذا القول نفسه قاله كعب: أربعة أنهار الجنة وضعها اللّه في الدنيا:

فالنيل نهر العسل في الجنة، و الفرات نهر الخمر في الجنة، و سيحان نهر الماء في الجنة، و جيحان نهر اللبن في الجنة «3».

و قال ابن كثير في تفسيره: إنّ حديث أبي هريرة في يأجوج و مأجوج، و نصّه- كما رواه أحمد- عن أبي هريرة: أن يأجوج و مأجوج ليحفرون السدّ كلّ يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذين عليهم: ارجعوا فستحفرونه غدا، فيعودون ... و قد روى أحمد هذا الحديث عن كعب، قال ابن كثير: لعل أبا هريرة تلقّاه من كعب، فإنّه كثيرا ما كان يجالس كعبا و يحدّثه «4». و بيّن في

(1) حياة الحيوان للدميري، ج 1، ص 257.

(2) نهاية الأرب للنوبري، ج 10، ص 220.

(3) الأضواء لأبي ربّة، ص 208.

(4) تفسير ابن كثير، ج 3، ص 104- 105.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 118

مواضع كثيرة من تفسيره ما أخذه أبو هريرة من كعب.

و

في الصحيحين من حديث

أبي هريرة: أنّ اللّه خلق آدم على صورته.

و هذا الكلام قد جاء في الإصحاح الأوّل من التوراة (العهد القديم) و نصّه هناك:

«و خلق اللّه الإنسان على صورته، على صورة اللّه خلقه» «1».

و

روى مسلم عن أبي هريرة: أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بيدي! فقال: خلق اللّه التربة يوم السبت، و خلق فيها الجبال يوم الأحد، و خلق الشجر يوم الاثنين، و خلق المكروه يوم الثلاثاء، و خلق النور يوم الأربعاء، و بثّ فيها الدواب يوم الخميس، و خلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة. و قد روى هذا الحديث أحمد و النّسائي أيضا عن أبي هريرة.

قال البخاري و ابن كثير و غيرهما: إن أبا هريرة قد تلقّى هذا الحديث عن كعب الأخبار؛ لأنه يخالف نص القرآن في أنه خلق السماوات و الأرض في سنة أيّام «2».

قال أبو ريّة: و قد بلغ من دهاء كعب و استغلاله لسذاجة أبي هريرة و غفلته، أن كان يلقّنه ما يريد بثّه في الدين الإسلامي من خرافات و ترّهات، حتى إذا رواها أبو هريرة عاد هو فصدق أبا هريرة، و ذلك ليؤكّد هذه الإسرائيليّات، و ليمكّن لها في عقول المسلمين، كأنّ الخبر جاء عن أبي هريرة، و هو في الحقيقة عن كعب

(1) قال أبو ريّة: من روايات هذا الحديث: و طول آدم ستون ذراعا. و قد انتقد هذا الحديث ابن حجر في شرح البخاري، قال: و يشكل على هذا من الآن، الآثار للأمم السالفة كديار عاد و ثمود، فإنّ مساكنهم تدلّ على أنّ فأماتهم لم تكن مفرطة في الطول، على حسب ما يقتضيه الترتيب الذي ذكره أبو هريرة. و أنكر مالك هذا الحديث.

(الأضواء، ص 208- 209 بالهامش)

(2) الأضواء، ص 207- 210.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 119

الأحبار.

و إليك مثلا ما

رواه أحمد عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه قال: «إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلّها مائة عام، اقرءوا إن شئتم: و ظلّ ممدود» «1» . و لم يكد أبو هريرة يروي هذا الحديث حتى أسرع كعب، فقال: صدق و الذي أنزل التوراة على موسى و الفرقان على محمد، لو أنّ رجلا ركب حقّة أو جذعة ثم دار بأعلى تلك الشجرة ما بلغها حتى يسقط هرما! و هكذا كانا- كعب و أبو هريرة- يتعاونان على نشر مثل هذه الخرافات. و من العجيب أن يروي مثل هذا الخبر الغريب أيضا وهب بن منبّه في أثر غريب، فيرجع إليه من أراده «2».

هلك أبو هريرة سنة (59) عن (80) سنة بقصره بالعقيق، و حمل إلى المدينة و دفن بالبقيع، و صلى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، و كان أميرا على المدينة تكريما له. و لما كتب الوليد إلى عمّه معاوية ينعى إليه أبا هريرة، أرسل إليه معاوية: «انظر من ترك، و ادفع إلى ورثته عشرة آلاف درهم، و أحسن جوارهم، و افعل إليهم معروفا». قال أبو ريّة: و هكذا يترادف رفدهم له حتى بعد وفاته «3».

قال السيد رشيد رضا بشأن أبي هريرة: كان إسلامه في سنة (7 ه)، فصحب رسول اللّه ثلاث سنين و نيفا، فأكثر أحاديثه لم يسمعها من النبي. و إنما سمعها من الصحابة و التابعين. فإذا كان جميع الصحابة عدولا في الرواية- كما يقول جمهور المحدّثين- فالتابعون ليسوا كذلك، و قد ثبت أنه كان يسمع من كعب الأحبار، و أكثر أحاديثه عنه، على

أنه صرّح بالسماع من النبي،

في حديث «خلق اللّه التربة

(1) الأضواء، ص 210.

(2) راجع: تفسير ابن كثير، ج 2، ص 513- 514.

(3) الأضواء، ص 218.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 120

يوم السبت»

و قد جزموا بأن هذا الحديث أخذه عن كعب. و كان يكثر في أحاديثه النقل بالمعنى و الإرسال- أي لا يذكر اسم الصحابي الذي سمع منه- و رواية الحديث بالمعنى كانت مثارا لمشكلات كثيرة. كما أنه انفرد بأحاديث كثيرة، كان بعضها موضع الإنكار أو مظنّته لغرابة موضوعها، كأحاديث الفتن و الإخبار ببعض المغيّبات، إلى غيرها من علل ذكرها أهل النقد في الحديث «1».

8- ابن جريج

هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، من أصل رومي نصراني. ولد سنة (80) و مات سنة (150). و هو من أوّل من صنف الكتب بالحجاز. قال الذهبي:

هو قطب الإسرائيليّات في عهد التابعين. قال: و لو أنّا رجعنا إلى تفسير ابن جرير الطبري و تتبّعنا الآيات التي وردت في النصارى، لوجدنا كثيرا مما يرويه ابن جرير في تفسير هذه الآيات يدور على عبد الملك الذي يعبّر عنه دائما ب «ابن جريج» «2».

قال عبد اللّه بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: من أوّل من صنف الكتب؟ قال:

ابن جريج و ابن أبي عروبة. و كان رحّالة في طلب العلم، فقد ولد بمكة ثم طوّف في كثير من البلاد. و قد رويت عن ابن جريج أجزاء كثيرة في التفسير عن ابن عباس، منها الصحيح و منها غير الصحيح؛ لأنه لم يقصد الصحّة فيما جمع، بل روى كل ما ذكر في كل آية من صحيح أو سقيم «3».

(1) مجلة المنار، ج 19، ص 97 (الأضواء، ص 218- 219).

(2) التفسير

و المفسرون، ج 1، ص 198.

(3) الإتقان، ج 2، ص 188.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 121

قال الإمام مالك بشأنه: كان ابن جريج حاطب ليل، لا يبالي من أين يأخذ.

و عن أحمد بن حنبل: إذا قال ابن جريج: قال فلان و قال فلان و أخبرت، جاء بمناكير. و إذا قال: أخبرني و سمعت، فحسبك به.

و قال الدارقطني، تجنّب تدليس ابن جريج، فإنه قبيح التدليس، لا يدلّس إلّا فيما سمعه من مجروح «1».

مبدأ نشر الإسرائيليّات

قد عرفت منع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من مراجعة أهل الكتاب، منعه الباتّ، حتى الاستنساخ من كتبهم فضلا عن الرجوع إلى أقاويلهم. و من ثمّ لم يكن يجرأ أحد من الصحابة أن يراجع أهل الكتاب أو يأخذ عنهم شيئا من الأخبار، و ذلك ما دام النبيّ على قيد الحياة.

و في حديث عمر الآنف، لمّا زجره النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على استنساخه عن كتب القوم، قام و قال متندّما على ما فرط منه: «رضيت باللّه ربّا، و بالإسلام دينا، و بك رسولا» «2».

(1) تهذيب التهذيب، ج 6، ص 402- 406.

(2)

حدّث عمر عن نفسه، قال: انتسخت كتابا من أهل الكتاب، ثم جئت به في أديم، فقال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما هذا في يدك يا عمر؟ قلت: كتاب نسخته لنزداد به علما إلى علمنا، فغضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى احمرّت وجنتاه، ثم نودي بالصلاة جامعة، فقال: يا أيها الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم و خواتيمه، و اختصر لي اختصارا. و لقد أتيتكم بها بيضاء نقيّة، فلا تهوّكوا، و لا يغرّنكم

المتهوّكون. فقمت و قلت: رضيت باللّه ربّا و بالإسلام دينا و بك نبيّا . التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 122

و هكذا انتهج المسلمون منهجا سليما عن شوب أكدار أهل الكتاب، مدّة حياته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و مدّة أيام أبي بكر، و طرفا من أيّام عمر.

ثم لمّا توسّعت رقعة الإسلام و فاضت بلاد المسلمين بكثرة الوافدين، و فيهم الأجانب عن روح الإسلام، ممّن لا معرفة له بأصول الشريعة، نرى أنّ هذا السّد المنيع قد أزيل، و جعلت أكاذيب أهل الكتاب تتسرّب بين المسلمين، و لم تزل تتوسّع دائرتها مع توسّع البلاد.

هذا كعب الأحبار، أتى بخزعبلاته في هذا العهد، و أبدى عبد اللّه بن عمرو بن العاص بمفترياته عن زاملتيه أيضا في هذا العهد، كما كظّ أبو هريرة بمخاريقه في هذا الدور المتأخّر عن حياة الرسول. و هكذا نرى عمر بن الخطاب قد أذن لتميم بن أوس الداري أن يقصّ قصصه قائما في المسجد النبويّ، علانية على رءوس الأشهاد في هذا العهد «1»، كما أصاخ بأذنيه لمخاريق كعب. يقول ابن كثير بعد ما ساق الروايات في أن الذّبيح هو إسحاق: و هذه الأقوال كلّها مأخوذة عن

(تفسير ابن كثير، ج 2، ص 467) و

روى أحمد بإسناده عن عبد اللّه بن ثابت قال: جاء عمر بن الخطاب إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إني مررت بأخ لي من قريظة فكتب لي جوامع من التوراة، أ لا أعرضها عليك! قال: فتغيّر وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. قال عبد اللّه بن ثابت: فقلت لعمر:

أ لا ترى ما بوجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال عمر: رضينا باللّه تعالى ربّا، و بالإسلام دينا، و بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رسولا. قال: فسرى عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال: و الذي نفس محمد بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه و تركتموني لضللتم، إنكم حظّي من الأمم و أنا حظّكم من النبيين. (مسند أحمد، ج 4، ص 265- 266) (1) سير أعلام النبلاء، ج 2، ص 447.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 123

كعب الأحبار، فإنّه لما أسلم في الدولة العمريّة جعل يحدّث عمر عن كتبه قديما، فربّما استمع له عمر، فترخّص الناس في استماع ما عنده، و نقلوا ما عنده عنه، غثها و سمينها، و ليس لهذه الأمّة حاجة إلى حرف واحد مما عنده «1».

فقد كان العقد الثاني بعد وفاة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عهد رواج القصص الأسطورية و الإسرائيليات، حسبما قال الدكتور أبو شهبة: إنّ بدعة القصّ قد حدثت في آخر عهد الفاروق: عمر بن الخطاب «2».

و هل كان هناك نكير على هذا الفعيل؟

كان عمر بين حين و آخر يشدّد النكير على هذا الصنيع، و لكن من غير تداوم عليه، فكان هناك- رغم تشديد عمر- أناس يقومون بنسخ أو ترجمة كتب العهد القديم، و التّحديث عنها بين المسلمين، أما المراجعة إلى أهل الكتاب و القصّ على الناس فقد تعارف و شاع ذلك العهد.

أخرج الحافظ أبو يعلى الموصلي عن خالد بن عرفطة، قال: كنت جالسا عند عمر، إذ أتي برجل مسكنه السوس «3». فقال له عمر: أنت فلان بن فلان العبدي؟

قال: نعم. قال:

و أنت النازل بالسوس؟ قال: نعم. فضربه بقناة معه. فقال الرجل:

ما لي يا أمير المؤمنين؟! فقال له عمر: اجلس، فجلس، فقرأ عليه: بسم الله الرحمن الرحيم. الر، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.

(1) راجع تفسير ابن كثير، ج 4، ص 17.

(2) الإسرائيليات و الموضوعات، ص 89.

(3) سوس: مدينة شوش التي بها قبر دانيال، من أرض خوزستان.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 124

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَ إِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ «1»، فقرأها عليه ثلاثا و ضربه ثلاثا. فقال له الرجل: ما لي يا أمير المؤمنين؟ فقال: أنت الذي نسخت كتاب دانيال؟ قال: مرني بأمرك أتّبعه، قال: انطلق فامحه بالحميم و الصوف الأبيض، ثم لا تقرأه و لا تقرئه أحدا من الناس، فلئن بلغني عنك أنّك قرأته أو أقرأته أحدا من الناس لأنهكتك عقوبة.

ثم قال له عمر: اجلس، فجلس بين يديه، فقال: انطلقت أنا فانتسخت كتابا من أهل الكتاب، ثم جئت به في أديم. فقال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما هذا في يدك يا عمر؟! قلت: كتاب نسخته لنزداد به علما إلى علمنا، فغضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى احمرّت وجنتاه، ثم نودي بالصلاة جامعة، فقالت الأنصار: أغضب نبيّكم؟، السلاح السلاح. فجاءوا حتى أحدقوا بمنبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: «يا أيّها الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم و خواتيمه، و اختصر لي اختصارا، و لقد أتيتكم بها بيضاء نقيّة، فلا تهوّكوا و لا يغرنّكم المتهوّكون». قال عمر: فقمت و قلت: رضيت باللّه

ربّا و بالإسلام دينا و بك رسولا، ثم نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

. و يقرب من ذلك ما

أخرجه الحافظ أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي عن جبير بن نضير، حدّثهم، قال: إن رجلين كانا بحمص في خلافة عمر، فأرسل إليهما في من أرسل من أهل حمص، و كانا قد اكتتبا من اليهود صلاصفة «2»، فأخذاها معهما يستفتيان فيها أمير المؤمنين، يقولون: إن رضيها لنا أمير المؤمنين ازددنا فيها رغبة، و إن نهانا عنها رفضناها. فلما قدما عليه قالا: إنّا بأرض أهل الكتاب، و إنا نسمع منهم كلاما تقشعرّ منه جلودنا، أ فنأخذ منه أو نترك؟ فقال:

لعلّكما كتبتما منه شيئا! فقالا: لا. قال عمر: سأحدّثكما:

(1) يوسف/ 1- 3.

(2) صلاصفة: جمع صلصفة هي الصحيفة.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 125

انطلقت في حياة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى أتيت خيبر، فوجدت يهوديّا يقول قولا أعجبني، فقلت: هل أنت مكتبي مما تقول؟ قال: نعم، فأتيت بأديم فأخذ يملي عليّ حتى كتبت في الأكراع «1». فلمّا رجعت، قلت: يا نبي اللّه- و أخبرته- قال:

ائتني به. فانطلقت أرغب عن الشي ء رجاء أن أكون جئت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ببعض ما يحبّ. فلمّا أتيت به قال: اجلس اقرأ عليّ. فقرأت ساعة، ثم نظرت إلى وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإذا هو يتلوّن. فتحيّرت من الفرق «2»، فما استطعت أن أجيز منه حرفا. فلما رأى الذي بي رفعه «3» ثم جعل يتبعه رسما رسما فيمحوه بريقه، و هو يقول: لا تتّبعوا هؤلاء فإنهم قد هوكوا و تهوّكوا «4»، حتى محاه عن آخره

حرفا حرفا.

قال عمر: فلو علمت أنّكما كتبتما شيئا جعلتكما نكالا لهذه الأمّة. قالا: و اللّه ما نكتب منه شيئا أبدا. فخرجا بصلاصفتهما، فحفرا لها، فلم يألوا أن يعمّقا، و دفناها، فكان آخر العهد منها «5».

و لكن هل أثّر تشديد عمر في الحدّ عن مراجعة أهل الكتاب؟

إنه لم يشدّد على مراجعتهم، و إنما شدّد على الكتابة من كتبهم كما شدّد على كتابة الحديث. و من ثمّ نراه قد أجاز للداري أن يقصّ على الناس، كما شاع القصّ في مسجد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فضلا عن سائر المساجد ذلك العهد.

(1) الأكراع: جمع الكرع: مقدم عظم الساق، و المقصود: العظام الرقيقة.

(2) الفرق: الفزع.

(3) أي أخذه منّي.

(4) الهوك: الحمق.

(5) راجع: تفسير ابن كثير، ج 2، ص 467- 468.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 126

و هكذا سار على منهجه في إجازة القصّ في المساجد، من جاء بعده من الخلفاء. و أصبح ذلك مرسوما إسلاميا فيما بعد، كما حثّ عليه معاوية في إجازته لكعب أن يقصّ على الناس حسبما عرفت.

و بعد، فإنّ عصر الصحابة و هي الفترة بين وفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ظهور التابعين في عرصة الفتيا و التفسير كان عصر نشوء الإسرائيليّات و تسرّبها في التفسير و الحديث، فضلا عن التاريخ، ذلك أنّ غالبيّة الشئون التاريخيّة كانت ممّا يرجع عهدها إلى تاريخ الأمم الماضية و الأنبياء الماضين، و كان المرجع الوحيد لدى العرب حينذاك لمعرفة أحوالهم و تواريخهم هي التوراة و أهل الكتاب، فكانوا يراجعونهم و يأخذون عنهم بهذا الشأن.

قال الأستاذ الذهبي: نستطيع أن نقول: إنّ دخول الإسرائيليّات في التفسير، أمر يرجع إلى عهد

الصحابة، و ذلك نظرا لاتّفاق القرآن مع التوراة و الإنجيل في ذكر بعض المسائل «1» مع فارق واحد، هو الإيجاز في القرآن و البسط و الإطناب في التوراة و الإنجيل. و لقد كان الرجوع إلى أهل الكتاب، مصدرا من مصادر التفسير عند الصحابة «2». فكان الصحابي إذا مرّ على قصّة من قصص القرآن يجد من نفسه ميلا إلى أن يسأل عن بعض ما طواه القرآن منها و لم يتعرّض له، فلا يجد من يجيبه على سؤاله سوى هؤلاء النفر الذين دخلوا في الإسلام، و حملوا إلى

(1) للأستاذ عبد الوهاب النجّار في «قصص الأنبياء» محاولة في استخراج قصص القرآن من التوراة، و مقارنة بين ما جاء في القرآن بصورة موجزة، و جاءت في التوراة (العهد القديم) مبسطة.

(2) لا نصادقه في هذا الرأي، و إنما كان يراجع أهل الكتاب من قلّت بضاعته من الأصحاب.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 127

أهله ما معهم من ثقافة دينيّة، فألقوا إليهم ما ألقوا من الأخبار و القصص «1».

و نحن إذ نصادق الذهبي في أن الصحابة- على وجه الإجمال- كانوا يراجعون أهل الكتاب، فيما أبهم عليهم من قصص القرآن، و كان أولئك يلقون إليهم ما كان لديهم من قصص و أساطير.

لكن لا نصادقه في حكمه ذلك على الصحابة على وجه العموم؛ إذ كان علماء الصحابة يأبون الرجوع إلى غيرهم من ذوي المعلومات الكاسدة، بل كانوا يستنكرون من يراجعهم في قليل أو كثير؛ حيث وفرة المعلومات الصحيحة لدى علماء الأصحاب الكبار. و قد كان مستقاها مساءلة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مهبط الوحي و معدن علوم الأوّلين و الآخرين، فلم يدعوا صغيرة و لا كبيرة إلّا

سألوا عنها الرسول الكريم.

هذا ابن عباس حبر الأمّة و ترجمان القرآن ينادي برفيع صوته: هلّا من مستفهم أو مستعلم. و يستنكر على أولئك الذين يراجعون أهل الكتاب و لديهم الرصيد الأوفر من ذخائر العلوم. فقد كان ابن عباس يسي ء الظنّ بأهل الكتاب حتى المسلمة منهم.

روى البخاري بإسناده إلى ابن عباس، كان يقول:

«يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب، و كتابكم الذي أنزل على نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أحدث الأخبار باللّه تقرءونه لم يشب «2». و قد حدّثكم اللّه أنّ أهل الكتاب بدّلوا ما كتب اللّه و غيّروا بأيديهم الكتاب، فقالوا هو من عند اللّه ليشتروا به

(1) التفسير و المفسرون، ج 1، ص 169.

(2) لم يشب، أي كان محفوظا عن الدسّ فيه، فهو كلام اللّه الخالص، من غير أن تشوّهه يد التدليس.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 128

ثمنا قليلا. أ فلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسائلتهم، و لا و اللّه ما رأينا منهم رجلا قطّ يسألكم عن الذي أنزل عليكم» «1».

و هذا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، سفط العلم و باب مدينة علم الرسول، و كذا عبد اللّه بن مسعود و أبيّ بن كعب و أمثالهم من أوعية العلم، لم يحتمل بشأنهم الرجوع إلى كتابيّ قطّ. و هذا معلوم بالضرورة من التاريخ.

نعم إنما كان يراجع أهل الكتاب من الأصحاب، من لا بضاعة له و لا سابقة علم، أمثال عبد اللّه بن عمر بن العاص، و عبد اللّه بن عمرو بن الخطاب، و أبي هريرة و أضرابهم، من المفلّسين المعوزين.

و قد سمعت مراجعة عبد اللّه بن عمرو بن العاص إلى أهل الكتاب و لا سيّما

زاملتيه اللتين زعم أنه عثر عليهما في واقعة اليرموك، و كذا أبو هريرة تربية كعب الأحبار.

و قد ذكر أصحاب التراجم: أن عبد اللّه بن عمر بن الخطاب كان ممن نشر علم كعب، و كان راوية له.

هذا عماد الدين ابن كثير عند كلامه عن قصّة هاروت و ماروت يحكم بوضع هذه القصّة، و أنّ منشأها روايات إسرائيليّة تدور حول ما نقله عبد اللّه بن عمر بن الخطاب عن كعب الأحبار، و هي مما ألصقها زنادقة أهل الكتاب بالإسلام، و أنّ روايات الرفع إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم غريبة جدّا، قال:

«و أقرب ما يكون في هذا أنه من رواية عبد اللّه بن عمر عن كعب الأحبار لا

(1) راجع: صحيح البخاري، باب لا يسأل أهل الشرك عن الشهادة، ج 9، ص 237. و ج 3، ص 136، باب لا تسألوا أهل الكتاب.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 129

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما قال عبد الرزاق في تفسيره عن الثوري عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر عن كعب الأحبار. و هكذا روى ابن جرير بإسناده إلى سالم أنه سمع ابن عمر يحدّث عن كعب الأحبار» «1».

و هذا أبو هريرة يراجع كعبا و عبد اللّه بن سلام في معرفة الساعة في يوم الجمعة، لا يوافقها عبد مسلم و هو قائم يصلّي، يسأل اللّه تعالى شيئا إلّا أعطاه إياه «2»، فيجيباه بأنها آخر ساعة من نهار يوم الجمعة، فيرد عليهما كيف و هي ساعة لا ينبغي الصلاة فيها. فيراجع كعب التوراة و يرى الحقّ مع أبي هريرة، و كذا ابن سلام، و يجيبه بأن الجلوس في

انتظار الصلاة كأنّه في الصلاة «3».

و هكذا تداومت مراجعة كتب العهدين و أهل الكتاب على عهد التابعين و تابعي التابعين و من بعدهم، على أثر تساهل السلف في ذلك، و صارت مهنة القصّ على الناس عادة مألوفة بين المسلمين على طول التاريخ.

فقد كانت هناك فئة تقصّ بالمساجد، و تذكّر الناس بمواعظها و ترغّبهم و ترهّبهم. و لما كان هؤلاء- على أمثال أسلافهم المعوزين- ليسوا أهل علم و دراية، و كان غرضهم استمالة العوامّ، فجعلوا يختلقون القصص و الأساطير الخرافيّة، و روّجوا الأباطيل. و في هذا الكثير من الإسرائيليّات و الخرافات العامّيّة، ما يتصادم مع العقيدة الإسلامية، و قد تلقّفها الناس منهم؛ لأنّ من طبيعة

(1) تفسير ابن كثير، ج 1، ص 138. و راجع تاريخه البداية و النهاية أيضا، ج 1، ص 37. و هكذا تفسير الطبري، ج 1، ص 363. حيث يحدّث ابن عمر عن كعب صريحا.

(2) البخاري في باب الجمعة، ج 2، ص 13.

(3) القسطلاني في شرحه للحديث المذكور، ج 2، ص 190 (الذهبي، ج 1، ص 170- 171.

و أبو شهبة، ص 103- 104).

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 130

العوام الميل إلى العجائب و الغرائب.

يقول ابن قتيبة بشأن القصّاصين و شعوذتهم:

إنهم يميلون وجه العوام إليهم، و يستدرّون ما عندهم بالمناكير و الأكاذيب من الأحاديث. و من شأن العوامّ القعود عند القاصّ ما كان حديثه عجيبا خارجا عن فطر العقول، أو كان رقيقا يحزن القلوب. فإن ذكر الجنة قال: فيها الحوراء من مسك أو زعفران، و عجيزتها ميل في ميل، و يبوّئ اللّه وليّه قصرا من لؤلؤة بيضاء، فيها سبعون ألف مقصورة، في كل مقصورة سبعون ألف قبّة، و لا يزال

هكذا في السبعين ألفا، لا يتحول عنها «1».

و من هؤلاء القصّاص، من كان يبتغي الشهرة و الجاه بين الناس. و منهم، من كان يقصد التعيّش و الارتزاق. و منهم، من كان سيّئ النيّة خبيث الطويّة، يقصد الإفساد في عقائد الناس، و ربما حجب جمال القرآن و تشويه سمعة الإسلام، بما يأتي من تفاسير باطلة و خرافات تتنافى العقول.

قال أبو شهبة: و قد حدثت بدعة القصّ في آخر عهد عمر، و فيما بعد صارت حرفة، و دخل فيه من لا خلاق له في العلم، و قد ساعدهم على الاختلاق، أنهم لم يكونوا من أهل الحديث و الحفظ، و غالب من يحضرهم جهّال. فجالوا و صالوا في هذا الميدان و أتوا بما لا يقضي منه العجب «2».

و يظهر أنه اتخذ القصص أداة سياسيّة وراء ستار التذكير و الترهيب، يستعين بها أرباب السياسات في دعم سياساتهم و توجيه العامّة نحوها، كالتي نشاهدها.

و قد حدثت في عهد معاوية، و هو أوّل من أبدع مزج السياسة بالوعظ الإرشادي،

(1) تأويل مختلف الحديث، ص 279- 280.

(2) الإسرائيليّات و الموضوعات، ص 89- 90.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 131

و من ثمّ ارتفع شأن القصص حتى أصبح عملا رسميا يعهد إلى رجال رسميّين يعطون عليه أجرا. و في كتاب «القضاة» للكندي أن كثيرا من القضاة كانوا يعيّنون قصّاصا أيضا. و أوّل من قصّ بمصر سليمان بن عتر التجيبي في سنة (38)، و جمع له القضاء و القصص، ثم عزل عن القضاء و أفرد بالقصص.

و هكذا أمر معاوية- في هذا الوقت- رجالا يقصّون في المساجد بعد صلاة الصبح و بعد المغرب، يدعون له و لأهل ولايته كل صباح و مساء «1».

و صورة

القصص: أن يجلس القاصّ في المسجد و حوله الناس، فيذكّرهم اللّه و يقصّ عليهم حكايات و أحاديث و قصصا عن الأمم السالفة، و أساطير و نحو ذلك، و لا يتحرّون الصدق ما دام الغرض هو الترغيب و الترهيب و التوجيه الخاص، مهما كانت الوسيلة، جريا مع قاعدة «الغاية تبرّر الواسطة».

قال اللّيث بن سعد: هما قصصان: قصص العامّة، و قصص الخاصّة. فأمّا قصص العامّة فهو الذي يجتمع إليه النفر من الناس يعظهم و يذكّرهم. فذلك مكروه لمن فعله و لمن استمعه.

و أمّا قصص الخاصّة فهو الذي جعله معاوية، ولّى رجلا على القصص، فإذا سلّم من صلاة الصبح جلس و ذكر اللّه و حمده و مجّده و صلى على النبي، و دعا للخليفة و لأهل ولايته و حشمه و جنوده، و دعا على أهل حربه و على المشركين كافّة «2».

و قد نما القصص بسرعة؛ لأنه كان يتفق و ميول العامّة، فضلا عن اتفاقها مع الاتّجاهات السياسيّة الظالمة في الأغلب. و قد أكثر القصّاص من الأكاذيب

(1) فجر الإسلام، ص 160.

(2) خطط المقريزى، ج 2، ص 253، ط اميريّة.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 132

و الافتعالات، يصحبها كثير من التهم و الافتراءات، فأتوا بالطامّات الكبرى و ضلالات.

و قد عدّ الغزالي ذلك من منكرات المساجد المحرّمة و المبتدعات الباطلة، قال: فلا يجوز حضور مجلسه، إلّا على قصد إظهار الردّ عليه، فإن لم يقدر فلا يجوز سماع البدعة، قال اللّه تعالى لنبيه: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ «1».

و قد عرفت أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام طردهم من المساجد و استثنى الحسن البصرى، لأنه كان يتحرّى الصدق في قوله «2».

و من صفاقاتهم في ذلك، ما

روي

أنّه صلّى أحمد بن حنبل، و يحيى بن معين بمسجد الرصافة. فقام بين أيديهم قاصّ، فقال: حدّثنا أحمد بن حنبل و يحيى بن معين، قالا: حدّثنا عبد الرزاق عن معمّر عن قتادة عن أنس، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قال: لا إله إلّا اللّه خلق اللّه من كل كلمة طيرا منقاره من ذهب و ريشه من مرجان ...» و أخذ في قصّة نحوا من عشرين ورقة.

فجعل أحمد ينظر إلى يحيى، و يحيى ينظر إلى أحمد، يسأل أحدهما الآخر:

هل أنت حدّثته بهذا؟! قال: و اللّه ما سمعت بهذا إلّا هذه الساعة.

فلما انتهى الخطيب القاصّ أشار إليه يحيى، فجاء متوهّما نوالا، فقال له: من حدّثك بهذا؟ قال: أحمد بن حنبل و يحيى بن معين. فقال يحيى: أنا يحيى بن معين و هذا أحمد بن حنبل، ما سمعنا بهذا قطّ في حديث رسول اللّه. فإن كان و لا بدّ من الكذب فعلى غيرنا. فقال القاصّ: لم أزل أسمع أن يحيى بن معين

(1) إحياء العلوم لأبي حامد الغزالي، ج 2، ص 331، ط 1939. الأنعام/ 68.

(2) فجر الإسلام، ص 159- 160.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 133

و أحمد بن حنبل أحمقان، ما تحقّقته إلّا السّاعة. فقال له يحيى: و كيف؟ قال:

كأنّه ليس في الدنيا أحمد بن حنبل و يحيى بن معين غيركما. لقد كتبت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل و يحيى بن معين!! فما كان منهما إلّا أن رضيا من النقاش بالسلامة «1».

و من يدري، فلعلّهما لو أطالا معه القول، لنالهما ما نال الشعبي، فقد دخل مسجدا، فإذا رجل عظيم اللّحية، و حوله أناس يحدّثهم، و هو

يقول: إنّ اللّه خلق صورين، في كل صور نفختان. قال: فخففت صلاتي، ثم قلت له: اتّق اللّه يا شيخ، إنّ اللّه لم يخلق إلّا صورا واحدا. فقال لي: يا فاجر، أنا يحدّثني فلان و فلان، و ترد عليّ! ثم رفع نعله و ضربني، فتتابع القوم عليّ ضربا. فو اللّه ما أقلعوا عنّي حتى قلت لهم: إنّ اللّه خلق ثلاثين صورا في كل صور نفختان!! «2».

و هكذا كان القصّاص مصدر شرّ و بلاء على الإسلام و المسلمين.

أقسام الإسرائيليات
اشارة

قسّم الأستاذ الذهبي، الإسرائيليات تقسيمات ثلاثة:

1- تقسيمها إلى صحيح أو ضعيف أو موضوع.

2- و إلى موافقتها لما في شريعتنا أو مخالفتها أو مسكوت عنها.

3- و إلى ما يتعلّق بالعقائد أو بالأحكام أو بالمواعظ و الحوادث و العبر.

و أخيرا حكم عليها بأنّها متداخلة، يمكن إرجاع بعضها إلى بعض، كما

(1) راجع: تفسير القرطبي، ج 1، ص 79.

(2) الإسرائيليات و الموضوعات، ص 90.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 134

يمكن أن ندخلها تحت الأقسام الثلاثة التالية: مقبول، و مردود، و متردّد فيه بين القبول و الردّ «1».

فالأحسن تقسيمها- حسب تقسيم الدكتور أبي شهبة- إلى موافق لما في شرعنا، و مخالف، و مسكوت عنه «2».

و تقسيم آخر أيضا لعلّه أولى: إما منقول بالحكاية شفاها- و هو الأكثر المروي عن كعب الأحبار و ابن سلام و ابن منبّه و أمثالهم- أو موجود بالفعل في كتب العهدين الموجودة بأيدينا اليوم، و هذا كأكثر ما ينقله أئمّة الهدى، و لا سيّما الإمام أبو الحسن الرضا عليه السّلام احتجاجا على أهل الكتاب، و ليس اعتقادا بمضمونه.

ثم إنّ المنقول شفاها أو الموجود عينا إمّا موافق لشرعنا أو مخالف أو مسكوت عنه. و لكل حكمه الخاص، نوجزه

فيما يلي:

أما المنقولات الشفاهية، حسبما يحكيه أمثال كعب و ابن سلام و غيرهما، فجلّها إن لم نقل كلّها، موضوع مختلق، لا أساس له، و إنما مصدرها شائعات عامّيّة أسطوريّة، أو أكاذيب افتعلها مثل كعب و ابن سلام، أو عبد اللّه بن عمرو و أضرابهم؛ إذ لم نجد في المرويّات عن هؤلاء ما يمكن الوثوق إليه. فهي بمجموعتها مردودة عندنا، حسبما تقتضيه قواعد النقد و التمحيص.

إنّنا نسي ء الظنّ بأمثال هؤلاء ممن لم يخلصوا الولاء للإسلام و لم يمحضوا النصح للمسلمين، كما لا نثق بصحّة معلوماتهم غير الصادرة عن تحقيق رصين، سوى الاعتماد على الشائعات العامّيّة المبتذلة إن لم تكن مفتعلة. إنّنا نجد في طيّات كلامهم بعض الخبث و اللّؤم المتخذ تجاه موضع الإسلام القويم، و ربّما

(1) الإسرائيليات للذهبي، ص 47- 54.

(2) الإسرائيليات و الموضوعات، ص 106- 114.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 135

كان حقدا على ظهور الإسلام و غلبة المسلمين. فحاولوا التشويه من سمعة الإسلام و التزعزع من عقائد المسلمين.

هذا هو الطابع العام الذي يتّسم به وجه الإسرائيليّات على وجه العموم.

قال الأستاذ أحمد أمين: و أما كعب الأحبار أو كعب بن ماتع اليهوديّ، كان من اليمن، و كان من أكبر من تسرّبت منهم أخبار اليهود إلى المسلمين، و كان كلّ تعاليمه- على ما وصل إلينا- شفويّة، و ما نقل عنه يدلّ على علمه الواسع بالثقافة اليهوديّة و أساطيرها.

قال: و نرى أنّ هذا القصص هو الذي أدخل على المسلمين كثيرا من أساطير الأمم الأخرى كاليهوديّة و النصرانيّة، كما كان بابا دخل منه على الحديث كذب كثير، و أفسد التاريخ بما تسرّب منه من حكاية وقائع و حوادث مزيّفة، أتعبت الناقد و أضاعت معالم الحق

«1».

و هكذا قال ابن خلدون فيما سبق من كلامه: فإنّما يسألون أهل الكتاب قبلهم، و هم أهل التوراة من اليهود و من تبع دينهم من النصارى. و أهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم، و لا يعرفون من ذلك إلّا ما تعرفه العامّة من أهل الكتاب، و معظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهوديّة، فلمّا أسلموا بقوا على ما كان عندهم، و هؤلاء مثل كعب الأحبار و وهب بن منبّه و عبد اللّه بن سلام و أمثالهم، فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم، و هي أخبار موقوفة عليهم.

و تساهل المفسّرون في مثل ذلك و ملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات، و أصلها- كما قلنا- عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية، و لا تحقيق عندهم

(1) فجر الإسلام، ص 160- 161.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 136

بمعرفة ما ينقلونه من ذلك «1».

فعلى ما ذكره العلّامة ابن خلدون تكون جلّ المنقولات عن هؤلاء الكتابيّين، لا وثوق بها؛ حيث مصدرها الشياع القومي، و لكل قوم أساطيرها المسطّرة في تاريخ حياتها، يحكونها و ينقلونها يدا بيد، و هذا التنقّل حصل فيها التحريف و التبديل الكثير، بما ألحقها بالخرافات و الأوهام، و هؤلاء أصحاب القوميّات المختلفة، دخلوا في الإسلام و معهم ثقافاتهم و تاريخهم، أتوا بها و بثّوها بين المسلمين.

قال الأستاذ أحمد أمين: إن كثيرا من الشعوب المختلفة ذوات التواريخ دخلت في الإسلام، فأخذوا يدخلون تاريخ أممهم و يبثّونه بين المسلمين، إما عصبيّة لقومهم أو نحو ذلك. فكثير من اليهود أسلموا و معهم ما يعلمون من تاريخ اليهوديّة و أخبار الحوادث، حسبما روت التوراة و شروحها، فأخذوا يحدّثون المسلمين بها، و هؤلاء ربطوها بتفسير القرآن أحيانا، و بتاريخ الأمم

الأخرى أحيانا. إن شئت فاقرأ ما في الجزء الأوّل من «تاريخ الطبري» تجد منه الشي ء الكثير، مثل ما أسند عن عبد اللّه بن سلام، أنه تعالى بدأ بالخلق يوم الأحد، و فرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة، فخلق فيها آدم على عجل «2»- حسبما جاء في التوراة- و كثير من هذا النوع روي حول ما ورد في القرآن من قصص الأنبياء.

كذلك كان للفرس تاريخ، و كان لهم أساطير، فلما أسلموا رووا تاريخهم و رووا أساطيرهم، و كذلك فعل النصارى. فكانت هذه الروايات و الأساطير عن

(1) مقدمة ابن خلدون، ص 439- 440.

(2) تاريخ الطبري، ج 1، ص 24.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 137

الأمم المختلفة مبثوثة بين المسلمين، و مصدرا من مصادر الحركة التاريخيّة عندهم «1».

و عليه فنشطب على جميع ما ينقل عن أهل الكتاب فيما يمسّ تفسير القرآن أو تاريخ الأنبياء إذا كان نقلا بالشفاه و ليس مستندا إلى نصّ كتاب قديم معتمد؛ حيث مصدرها الشياع العام، و لا اعتبار به أصلا. و سنورد أمثلة لإسرائيليّات دخلت على الإسلام، و كان مصدرها الشياع و الأسطوريّة.

و لعلك تقول: بعض ما نقل عن أهل الكتاب كان مصدره النقل من الكتاب، إما يكتبونه منه أو ينقلونه عنه، كما في زاملتي عبد اللّه بن عمرو بن العاص، كان ينقل من كتب زعم العثور عليها في واقعة يرموك. و كما في نسخة عمر بن الخطاب التي جاء بها إلى النبيّ، اكتتبها من كتب اليهود فيما حسب.

لكن لا يذهب عليك أن لا وثوق بنقلهم و لو عن كتاب، ما دام الدسّ و التزوير شيمة يهوديّة جبلوا عليها من قديم يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ أي من عند أنفسهم

ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كذبا و زورا لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا «2».

و هذا هو الذي فهمه ابن عباس منذ أوّل يومه فحذّر الأخذ عنهم بتاتا، قائلا:

و قد حدّثكم اللّه أنّ أهل الكتاب بدّلوا ما كتب اللّه و غيّروا بأيديهم الكتاب، فقالوا هو من عند اللّه ليشتروا به ثمنا قليلا، أ فلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسائلتهم «3».

(1) فجر الإسلام، ص 157.

(2) البقرة/ 79.

(3) جامع البخاري، ج 3، ص 237.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 138

أمّا المراجعة إلى كتب السلف و تواريخهم من يونان أو فرس أو الهند أو اليهود أو غيرهم، فإنّ ذلك شي ء آخر، يجب العمل فيه وفق سنن النقد و التمحيص، و على مناهج السبر و التحقيق، حسب المتعارف المعهود.

أما التوراة، ففيها من الغثّ و السمين الشي ء الكثير، و هو الكتاب الوحيد الذي احتوى على تاريخ الأنبياء و أممهم فيما سلف، مصحوبا بالأساطير و الخرافات، شأن سائر كتب التاريخ القديمة. و التوراة كتاب تاريخ، قبل أن يكون كتابا سماويا، و إنما سمّيت بالتوراة، لاحتوائها على تعاليم اليهود، و التي جاء بها موسى من شرائع وقعت موضع الدسّ و التحريف، و من ثمّ فالمراجعة إليها بحاجة إلى نقد و تحقيق، و ليس أخذا برأسه.

و في العهد القديم جاءت تفاصيل الحوادث مما أوجز بها القرآن و طواها في سرد قضايا قصار، أخذا بمواضع عبرها دون بيان التفصيل، فتجوز المراجعة إلى تلكم التفاصيل لرفع بعض المبهمات في القضايا القرآنية، و لكن على حذر تام وفق التفصيل التالي:

فالموجود في كتب السلف- فيما يمسّ المسائل القرآنية- إما موافق مع شرعنا في أصول مبانيه و في الفروع، أو مخالف أو مسكوت

عنه.

فالمخالف منبوذ لا محالة، لأنّ ما خالف شريعة اللّه فهو كذب باطل، و أمّا المسكوت عنه فالأخذ به و تركه سواء، شأن سائر أحداث التاريخ.

و إليك أمثلة على ذلك:

1- أمثلة على الموافقة:

أ- جاء في المزامير، المزمور (37) عدد (10):

«أما الودعاء فيرثون الأرض و يتلذّذون في كثرة السلامة».

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 139

و في عدد (22): «لأنّ المباركين منه يرثون الأرض و الملعونين منه يقطعون».

و في عدد (29): «الصدّيقون يرثون الأرض و يسكنونها إلى الأبد».

و جاء تصديق ذلك في القرآن، في قوله تعالى، في سورة الأنبياء/ 105:

وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ «1».

قوله: مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ حيث البشارة في مزامير داود (الزبور) جاءت بعد مواعظ و تذكير.

ب- و جاء في سفر التثنية الصحاح (32) ع (3) وصيّة جامعة لنبي اللّه موسى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جاء فيها وصف الربّ تعالى بالعدل و الحكمة و العظمة، على ما جاء به القرآن الكريم.

يقول فيها: «إنّي باسم الربّ أنادي، أعطوا عظمة لإلهنا، هو الصخر الكامل صنيعه «2»، إنّ جميع سبله عدل، إله أمانة لا جور فيه، صديق و عادل هو».

ج- و جاء في لاويّين اصحاح (12) ع (4) شريعة الختان، كما هو في الإسلام:

«و في اليوم الثامن يختن لحم غرلته». و الغرلة: القلفة، و هي جلدة عضو التناسل.

د- و في سفر التثنية اصحاح (14) ع (8) جاء تحريم لحم الخنزير، لأنه نجس لا يجترّ.

«... و الخنزير، لأنه يشقّ الظلف، لكنه لا يجترّ، فهو نجس لكم».

(1) الأنبياء/ 105.

(2) الصخر هنا: كناية عن الحجر الأساسي، فيه القوة و الصلابة.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 140

2- أمثلة على المخالفة:

و الأمثلة على مخالفة ما جاء في التوراة الموجودة مع ما في القرآن فهي كثيرة جدّا، فضلا عن مخالفته للفطرة و العقل الرشيد، على ما فصّلناه في مباحثنا عن

الإعجاز التشريعي للقرآن، و مقارنة بعض ما جاء فيه، مع ما في كتب العهدين «1».

إنّك تجد في كتب العهدين مخالفات كثيرة مع شريعة العقل فضلا عن شريعة السماء، فمثلا تجد فيها ما يتنافى و مقام عصمة الأنبياء ما يذهلك:

ففي سفر التكوين (1 ص 19، ع 130): أنّ ابنتي لوط سقتا أباهما الخمر فاضطجعتا معه.

و في (الملوك الأوّل، 1 ص 11): أنّ سليمان عبد أوثانا، نزولا إلى رغبة نسائه.

و في (الخروج، 1 ص 32، ع 21- 24): أنّ هارون هو الذي صنع العجل و ليس السامريّ.

كما تفرض التوراة عقوبة البهائم (الخروج، ا ص 21، ع 28).

و نجاسة من مسّ ميتا إلى سبعة أيّام (سفر العدد، ا ص 19، ع 11- 16).

و أمثالها كثير.

3- أمثلة على المسكوت عنه

و الأمثلة على المسكوت عنه في شرعنا على ما جاء في كتب السالفين أيضا كثيرة في كثير، كان شأنها شأن سائر الأحداث التاريخيّة التي جاءت في الكتب القديمة.

(1) التمهيد في علوم القرآن، ج 6، ص 310- 312.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 141

و لعلّ

الحديث الوارد: «لا تصدّقوا أهل الكتاب و لا تكذّبوهم» «1» ناظر إلى هذا النوع من المسكوت عنه في شرعنا، لا نعلم صدقه عن كذبه؛ لأنّهم خلطوا الحقّ بالباطل. فلو صدّقناه فلعله الباطل، أو كذّبناه فلعله الحقّ.

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «فيخبروكم بحقّ فتكذّبوا به، أو بباطل فتصدّقوا به» «2».

و هكذا قال عبد اللّه بن مسعود:

«لا تسألوا أهل الكتاب، فإنّهم لن يهدوكم- أي لن يخلصوا لكم النصح- و قد أضلّوا أنفسهم، فتكذّبوا بحقّ أو تصدّقوا بباطل» «3».

و عليه فيجب الحذر فيما لم نجد صدقه و لا كذبه في المأثور من شرعنا الإسلاميّ و يلزم

إجراء قواعد النقد و التمحيص- التثبّت- فيما وجدناه في كتب القوم من آثار و أخبار.

هذه قصّة يوسف صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جاءت مواضع عبوها في القرآن و ترك الباقي، و قد تعرّض لتفاصيلها العهد القديم. و هكذا سائر قصص الأنبياء، و فيها الغثّ و السمين.

نماذج من إسرائيليات مبثوثة في التفسير
اشارة

سبق القول بأن في التفسير من الإسرائيليات طامّات و ظلمات، أصبحت مثارا للشكّ و الطعن و التقوّل على الإسلام و مقدّساته. و يرجع أكثر اللّوم على الأوائل الذين زجّوا بتلكم الأساطير اليهوديّة و غيرها في التفسير و الحديث

(1) جامع البخاري، ج 9، ص 136.

(2) مسند أحمد، ج 3، ص 387.

(3) فتح الباري بشرح البخاري، ج 13، ص 259.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 142

و التاريخ، و هكذا تساهل أهل الحديث في جمع و ثبت تلكم الإسرائيليّات في كتبهم، أمثال أبي جعفر الطبري، و جلال الدين السيوطي، و أضرابهما من أرباب كتب التفسير بالمأثور.

و قد أخذ على تفسير ابن جرير، أنّه يذكر الروايات من غير بيان و تمييز بين صحيحها و سقيمها، و لعلّه كان يحسب أنّ ذكر السند- و لو لم ينصّ على درجة الرواية قوّة و ضعفا- يخلي المؤلّف عن المؤاخذة و التبعات. و تفسيره هذا مشحون بالروايات الواهية و المنكرة و الموضوعات و الإسرائيليّات، و ذلك فيما يذكره في الملاحم و الفتن و في قصص الأنبياء، و حتى في مثل قصص نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما في قصة زينب بنت جحش، على ما يرويها القصّاص و المبطلون، و أمثالها كثير.

كما أخذ على تفسير «الدرّ المنثور»، أنّه و إن عزى الروايات إلى مخرجيها، لكن لم يبيّن منزلتها

من الصحة و الضعف أو الوضع، و ليس كل قارئ يمكنه معرفة ذلك بمجرد ذكر السند أو المصدر المخرج منه، و لا سيّما في عصورنا المتأخّرة. و لعلّه أيضا من المحدّثين الذين يرون أن إبراز السند أو المخرج يخلي من العهدة و التبعة. و في الكتاب إسرائيليّات و بلايا كثيرة، و لا سيّما في قصص الأنبياء؛ و ذلك مثل ما ذكره في قصّة هاروت و ماروت، و في قصّة الذبيح و أنّه إسحاق، و في قصّة يوسف، و في قصّة داود، و سليمان، و في قصّة إلياس.

و أسرف في ذكر المرويّات في بلاء أيّوب. و معظمها مما لا يصحّ و لا يثبت، و إنّما هو من الإسرائيليات التي سردها بنو إسرائيل و أكاذيبهم على الأنبياء.

و هذان التفسيران هما الأساس لبثّ و نشر الإسرائيليّات، فيما تأخر من كتب التفسير. و سنعرض منها نماذج:

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 143

1- الإسرائيليات في قصّة هاروت و ماروت «1»

روى السيوطي في «الدر المنثور»، في تفسير قوله تعالى: وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَ مارُوتَ «2» روايات كثيرة و قصصا عجيبة، رويت عن ابن عمر، و ابن مسعود، و عليّ، و ابن عباس، و مجاهد، و كعب، و الربيع، و السدّي. رواها ابن جرير الطبري في تفسيره، و ابن مردويه، و الحاكم، و ابن المنذر، و ابن أبي الدنيا، و البيهقي، و الخطيب في تفاسيرهم و كتبهم «3».

و خلاصتها: أنه لما وقع الناس من بني آدم فيما وقعوا فيه من المعاصي و الكفر باللّه، قالت الملائكة في السماء: أيّ ربّ، هذا العالم إنّما خلقتهم لعبادتك، و طاعتك، و قد ركبوا الكفر، و قتل النفس الحرام، و أكل المال الحرام، و السرقة، و الزنى،

و شرب الخمر، فجعلوا يدعون عليهم، و لا يعذرونهم، فقيل لهم: إنهم في غيب، فلم يعذروهم. و في بعض الروايات: أن اللّه قال لهم: لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم، قالوا: سبحانك، ما كان ينبغي لنا. و في رواية أخرى: قالوا: لا، فقيل لهم: اختاروا منكم ملكين آمرهما بأمري، و أنهاهما عن معصيتي. فاختاروا هاروت و ماروت، فأهبطا إلى الأرض، و ركّبت فيهما الشهوة، و أمرا أن يعبدا اللّه، و لا يشركا به شيئا، و نهيا عن قتل النفس الحرام، و أكل المال

(1) تركنا القلم هنا بيد الدكتور محمد بن محمد أبي شهبة في كتابه «الإسرائيليّات و الموضوعات» فقد استوفى هذا الجانب استيفاء كاملا و استقصى الإسرائيليّات بشكل رتيب، و من ثم فقد اكتفينا على ما ذكره، مع شي ء من التصرّف و التلخيص أو الزيادة أحيانا. راجع: كتابه من ص 159 إلى ص 305.

(2) البقرة/ 102.

(3) الدرّ المنثور، ج 1، من ص 97- 103. و تفسير ابن جرير، ج 1، ص 362- 367، ط بولاق.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 144

الحرام، و السرقة، و الزنى و شرب الخمر. فلبثا على ذلك في الأرض زمانا، يحكمان بين الناس بالحقّ، و ذلك في زمان إدريس. و في ذلك الزمان امرأة حسنها فى سائر الناس كحسن الزهرة في سائر الكواكب و أنها أتت عليهما فخضعا لها بالقول، و أنهما أراداها «1» على نفسها، فأبت إلّا أن يكونا على أمرها و دينها، و أنهما سألاها عن دينها، فأخرجت لهما صنما، فقالا: لا حاجة لنا في عبادة هذا. فذهبا فصبرا ما شاء اللّه، ثم أتيا عليها، فخضعا لها بالقول، و أراداها على نفسها، فأبت إلّا

أن يكونا على دينها، و أن يعبدا الصنم الذي تعبده، فأبيا، فلما رأت أنهما قد أبيا أن يعبدا الصنم، قالت لهما: اختارا إحدى الخلال الثلاث: إما أن تعبدا هذا الصنم، او تقتلا النفس، أو تشربا هذا الخمر. فقالا: كلّ هذا لا ينبغي، و أهون الثلاثة شرب الخمر، و سقتهما الخمر، حتى إذا أخذت الخمر فيهما وقعا بها «2». فمر بهما إنسان، و هما في ذلك، فخشيا أن يفشي عليهما، فقتلاه، فلمّا أن ذهب عنهما السكر، عرفا ما قد وقعا فيه من الخطيئة، و أرادا أن يصعدا إلى السماء، فلم يستطيعا. و كشف الغطاء فيما بينهما، و بين أهل السماء، فنظرت الملائكة إلى ما قد وقعا فيه من الذنوب، و عرفوا أنّ من كان في غيب فهو أقل خشية؛ فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض. فلما وقعا فيما وقعا فيه من الخطيئة؛ قيل لهما: اختارا عذاب الدنيا، أو عذاب الآخرة، فقالا: أمّا عذاب الدنيا فينقطع، و يذهب و أما عذاب الآخرة فلا انقطاع له، فاختارا عذاب الدنيا، فجعلا ببابل، فهما بها يعذّبان معلّقين بأرجلهما. و في بعض الروايات، أنهما علّماها الكلمة التي يصعدان بها إلى السماء، فصعدت، فمسخها اللّه، فهي هذا الكوكب المعروف

(1) راوداها عن نفسها.

(2) أي فعلا بها الفاحشة.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 145

بالزهرة «1».

و يذكر السيوطي أيضا في كتابه؛ ما رواه ابن جرير، و ابن أبي حاتم، و الحاكم و صحّحه «2»، و البيهقي في سننه، عن عائشة: أنها قدمت عليها امرأة من دومة الجندل، و أنها أخبرتها أنها جي ء لها بكلبين أسودين فركبت كلبا، و ركبت امرأة أخرى الكلب الآخر، و لم يمض غير قليل، حتى وقفتا

ببابل. فإذا هما برجلين معلّقين بأرجلهما، و هما هاروت و ماروت، و استرسلت المرأة التي قدمت على عائشة في ذكر قصّة عجيبة غريبة.

و يذكر ايضا: أن ابن المنذر أخرج من طريق الأوزاعي، عن هارون بن رباب، قال: دخلت على عبد الملك بن مروان و عنده رجل قد ثنّيت له و سادة، و هو متّكئ عليها، فقالوا: هذا قد لقي هاروت و ماروت، فقلت هذا، قالوا نعم، فقلت: حدّثنا رحمك اللّه، فأنشأ الرجل يحدّث بقصة عجيبة غريبة «3».

و كل هذا من خرافات بني إسرائيل، و أكاذيبهم التي لا يشهد لها عقل، و لا نقل، و لا شرع، و لم يقف بعض رواة هذا القصص الخرافي الباطل عند روايته عن بعض الصحابة و التابعين، و لكنهم أوغلوا باب الإثم، و التجنّي الفاضح، فألصقوا هذا الزور إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و رفعوه إليه.

فقد قال السيوطيّ: أخرج سعيد، و ابن جرير، و الخطيب في تاريخه، عن نافع، قال: سافرت مع ابن عمر، فلما كان من آخر الليل قال: يا نافع، انظر هل طلعت الحمراء؟ قلت: لا، مرّتين أو ثلاثا، ثم

(1) الزهرة، كرطبة- يعني بضم الزاي و فتح الهاء-: نجم في السماء كما في القاموس و غيره.

(2) تصحيح الحاكم غير معتد به؛ لأنه معروف أنه متساهل في الحكم بالتصحيح، كما قال ابن الصلاح و غيره. و قد صحّح أحاديث تعقّبها الإمام الذهبي و حكم عليها بالوضع.

(3) الدر المنثور، ص 101 و تفسير الطبري، ج 1، ص 366.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 146

قلت: قد طلعت. قال: لا مرحبا بها، و لا أهلا. قلت: سبحان اللّه!! نجم مسخّر، سامع، مطيع!! قال:

ما قلت لك إلّا ما سمعت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قال: إن الملائكة قالت: يا رب كيف صبرك على بني آدم في الخطايا و الذنوب؟ قال: إني ابتليتهم و عافيتكم. قالوا: لو كنّا مكانهم ما عصيناك. قال: فاختاروا ملكين منكم، فلم يألوا جهدا أن يختاروا فاختاروا هاروت و ماروت، فنزلا، فألقى اللّه عليهم الشبق. قلت: و ما الشبق؟ قال: الشهوة، فجاءت امرأة يقال لها: الزهرة، فوقعت في قلبيهما، فجعل كل واحد منهما يخفي عن صاحبه ما في نفسه، ثم قال أحدهما للآخر: هل وقع في نفسك ما وقع في قلبي؟ قال: نعم فطلباها لأنفسهما، فقالت:

لا أمكّنكما حتى تعلّماني الاسم الذي تعرجان به إلى السماء، و تهبطان، فأبيا، ثم سألاها أيضا، فأبت، ففعلا، فلمّا استطيرت طمسها اللّه كوكبا، و قطع أجنحتهما. ثم سألا التوبة من ربّهما، فخيّرهما بين عذاب الدنيا، و عذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا على عذاب الآخرة، فأوحى اللّه إليهما: أن ائتيا «بابل» «1». فانطلقا إلى بابل، فخسف بهما، فهما منكوسان بين السماء و الأرض، معذّبان إلى يوم القيامة.

ثمّ ذكر أيضا رواية أخرى، مرفوعة إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا تخرج في معناها عما ذكرنا «2»، و لا ينبغي أن يشك مسلم عاقل فضلا عن طالب حديث في أن هذا موضوع على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مهما بلغت أسانيده من الثبوت، فما بالك إذا كانت أسانيدها واهية، ساقطة، و لا تخلو من وضّاع، أو ضعيف، أو مجهول؟! و نصّ على وضعه أئمة الحديث!!

(1) بابل: بلد من بلاد العراق قرب الكوفة و الحلة.

(2) الدر المنثور، ج 1، ص 97

و تفسير الطبري، ج 1، ص 364- 365.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 147

و قد حكم بوضع هذه القصّة الإمام أبو الفرج ابن الجوزي «1»، و نصّ الشهاب العراقي على أنّ من اعتقد في هاروت و ماروت أنهما ملكان يعذّبان على خطيئتهما مع الزهرة، فهو كافر باللّه تعالى العظيم «2». و قال الإمام القاضي عياض في «الشفا»: و ما ذكره أهل الأخبار، و نقله المفسرون في قصة هاروت و ماروت، لم يرد فيه شي ء لا سقيم «3»، و لا صحيح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ليس هو شيئا يؤخذ بالقياس.

و كذلك حكم بوضع المرفوع من هذه القصّة الحافظ عماد الدين ابن كثير.

و أما ما ليس مرفوعا فبيّن أنّ منشأه روايات إسرائيلية أخذت عن كعب و غيره ألصقها زنادقة أهل الكتاب بالإسلام. قال ابن كثير في تفسيره بعد أن تكلم على الأحاديث الواردة في هاروت و ماروت، و أن روايات الرفع غريبة جدّا:

«و أقرب ما يكون في ذلك أنه من رواية عبد اللّه بن عمر، عن كعب الأحبار، كما قال عبد الرزاق في تفسيره، عن الثوري، عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد اللّه عن ابن عمر، عن كعب: و رفع مثل هذه الإسرائيليات إلى النبي كذب و اختلاق، ألصقه زنادقة أهل الكتاب، زورا و بهتانا. و ذكر مثل ذلك في البداية و النهاية» «4».

قال أبو شهبة: و هذا الذي قاله ابن كثير هو الحق الذي لا ينبغي أن يقال غيره.

و ليس أدلّ على هذا من أن ابن جرير رواها بالسند الذي ذكره ابن كثير، و بغيره عن ابن عمر، عن كعب الأحبار «5». و لكن بعض

الرواة غلطا، أو لسوء نية رفعها

(1) الموضوعات، ج 1، ص 187.

(2) روح المعاني، ج 1، ص 341.

(3) لعله أراد به الضعيف، و اعتبر ما روى مرفوعا ساقطا عن الاعتبار.

(4) البداية و النهاية، ج 1، ص 37.

(5) تفسير الطبري، ج 1، ص 363.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 148

و نسبها إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كذا ردّها المحققون من المفسرين الذين مهروا في معرفة أصول الدين، و أبت عقولهم أن تقبل هذه الخرافات كالإمام الرازي، و أبي حيان، و أبي السعود، و الآلوسي.

ثم هذه من ناحية العقل غير مسلّمة، فالملائكة معصومون عن مثل هذه الكبائر، التي لا تصدر إلّا من عربيد. و قد أخبر اللّه عنهم بأنهم لا يعصون اللّه ما أمرهم، و يفعلون ما يؤمرون. كما ورد في بعض الروايات التي أشرنا إليها آنفا ردّ لكلام اللّه، و

في رواية أخرى: أن اللّه قال لهما: لو ابتليتكما بما ابتليت به بني آدم لعصيتماني، فقالا: لو فعلت بنا يا ربّ ما عصيناك!!، و ردّ كلام اللّه كفر، ننزّه عنه من له علم باللّه و صفاته، فضلا عن الملائكة.

ثم كيف ترفع الفاجرة إلى السماء، و تصير كوكبا مضيئا؟! و ما النجم الذي يزعمون أنه «الزهرة»، و زعموا أنه كان امرأة، فمسخت؟ إلّا في مكانه، من يوم أن خلق اللّه السماوات و الأرض.

و هذه الخرافات التي لا يشهد لها نقل صحيح، و لا عقل سليم هي كذلك مخالفة لما صار عند العلماء المحدثين أمرا يقينيا، و لا أدري ما ذا يكون موقفنا أمام علماء الفلك، و الكونيّات، إذا نحن لم نزيّف هذه الخرافات، و سكتنا عنها، أو انتصرنا

لها؟!.

و إذا كان بعض العلماء المحدثين «1» مال إلى ثبوت مثل هذه الروايات التي لا نشك في كذبها، فهذا منه تشدّد في التمسك بالقواعد، من غير نظر إلى ما يلزم من الحكم بثبوت ذلك من المحظورات. و نحن لا ننكر أن بعض أسانيدها صحيحة أو حسنة، إلى بعض الصحابة أو التابعين، و لكن مرجعها و مخرجها من

(1) هو الحافظ ابن حجر، و تابعه السيوطي.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 149

إسرائيليات بني إسرائيل، و خرافاتهم، و الراوي قد يغلط، و بخاصة في رفع الموقوف، و قد حققنا هذا في مقدمات البحث، و أنّ كونها صحيحة في نسبتها، لا ينافي كونها باطلة في ذاتها. و لو أنّ الانتصار لمثل هذه الأباطيل يترتّب عليه فائدة ما؛ لغضضنا الطرف عن مثل ذلك، و لما بذلنا غاية الجهد في التنبيه إلى بطلانها، و لكنّها فتحت على المسلمين باب شر كبير، يجب أن يغلق.

قال الإمام أبو محمد الحسن بن علي العسكريّ عليه السّلام و قد سئل عن الذي يقوله الناس بشأن الملكين هاروت و ماروت، و أنهما عصيا اللّه،

قال: «معاذ اللّه من ذلك، إنّ الملائكة معصومون محفوظون من الكفر و القبائح بألطاف اللّه تعالى.

فقد قال اللّه عزّ و جل فيهم: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ «1».

و قال: وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَنْ عِنْدَهُ- يعني الملائكة- لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ «2».

و قال- في الملائكة-: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ. وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ

«3».

و هكذا سأل الخليفة المأمون العباسي الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام عمّا يرويه الناس من أمر «الزهرة» و أنها كانت امرأة، فتن بها هاروت و ماروت، و ما

(1) التحريم/ 6.

(2) الأنبياء/ 19- 20.

(3) الأنبياء/ 26- 28.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 150

يرويه الناس من أمر «سهيل»، و أنه كان عشّارا باليمن.

فقال الإمام: كذبوا في قولهم: إنّهما كوكبان، و إنّما كانتا دابّتين من دوابّ البحر. و غلط الناس إنّهما كوكبان، و ما كان اللّه تعالى ليمسخ أعداءه أنوارا مضيئة، ثم يبقيهما ما بقيت السماء و الأرض.

و

قال الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام في تفسير الآية:

كان بعد نوح عليه السّلام قد كثرت السحرة و المموّهون، فبعث اللّه تعالى ملكين إلى نبي ذلك الزمان بذكر ما يسحر به السحرة و ذكر ما يبطل به سحرهم و بردّ كيدهم.

فتلقّاه النبيّ عن الملكين و أدّاه إلى عباد اللّه بأمر اللّه، و أمرهم أن يقفوا به على السحر و أن يبطلوه، و نهاهم أن يسحروا به الناس.

و هذا كما يدلّ على السّم ما هو، و على ما يدفع به غائلته. ثم يقال لمتعلّم ذلك: هذا السّمّ فمن رأيته سمّ فادفع غائلته بكذا، و إيّاك أن تقتل بالسّم أحدا.

و

قال الإمام أبو جعفر محمد بن علي الباقر عليه السّلام بشأن الشياطين في الآية:

لما مات سليمان النبيّ عليه السّلام وضع الشيطان السحر و كتبه في كتاب ثم طواه، و كتب على ظهره: هذا ما وضع آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم، من أراد كذا فليعمل كذا، ثم دفنه تحت سرير سليمان، ثم استثاره لهم فقرأه، فقال الكافرون: ما كان سليمان يغلبنا إلّا

بهذا، فقال اللّه:

وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ- بأعمال السحر- وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ «1».

إذن فليس في الآية ما يدلّ- و لو من بعد- على هذه القصة المنكرة، و ليس

(1) راجع: تفسير البرهان للسيد هاشم البحراني، ج 1، ص 136- 138. البقرة/ 102.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 151

السبب في نزول الآية ذلك، و إنّما السبب أنّ الشياطين في ذلك الزمن السحيق كانوا يسترقون السمع من السماء، ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفّقونها، و يلقونها إلى كهنة اليهود و أحبارهم. و قد دوّنها هؤلاء في كتب يقرءونها، و يعلّمونها الناس، و فشا ذلك في زمن سليمان عليه السّلام حتى قالوا: هذا علم سليمان و ما تمّ لسليمان ملكه إلّا بهذا العلم، و به يسخّر الإنس، و الجن، و الريح التي تجري بأمره. و هذا من افتراءات اليهود على الأنبياء، فأكذبهم اللّه بقوله:

وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ «1».

ثم عطف عليه: وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ... فالمراد بما أنزل هو «علم السحر» الذي نزلا ليعلّماه الناس، حتى يحذروا منه، فالسبب في نزولهما هو تعليم الناس أبوابا من السحر، حتى يعلم الناس الفرق بين السحر و النبوة، و أن سليمان لم يكن ساحرا، و إنما كان نبيّا مرسلا من ربّه. و قد احتاط الملكان غاية الاحتياط، فما كان يعلّمان أحدا شيئا من السحر حتى يحذّراه، و يقولا له: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ أي بلاء و اختبار، فلا تكفر بتعلّمه و العمل به. و أما من تعلّمه للحذر منه، و ليعلم الفرق بينه و بين النبوّة و المعجزة؛ فهذا لا شي ء فيه، بل هو أمر مطلوب، مرغوب فيه،

إذا دعت الضرورة إليه. و لكن الناس ما كانوا يأخذون بالنصيحة، بل كانوا يفرّقون به بين المرء و زوجته، و ذلك بإذن اللّه و مشيئته.

و قد دلت الآية على أن تعلّم السحر لتحذير الناس من الوقوع فيه و العمل به مباح، و لا إثم فيه، و أيضا تعلّمه لإزالة الاشتباه بينه و بين المعجزة و النبوة مباح، و لا إثم فيه. و إنّما الحرام و الإثم في تعلّمه أو تعليمه للعمل به، فهو مثل ما قيل:

عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه و من لا يعرف الشر من الناس يقع فيه

(1) لأن تعلم السحر للعمل به كفر.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 152

و اليهود- عليهم غضب اللّه- لما جاءهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كانوا يعلمون أنّه النبيّ الذي بشّرت به التوراة، حتى كانوا يستفتحون به على المشركين قبل ميلاده و بعثته، فلمّا جاءهم ما عرفوا، كفروا به، و نبذوا كتابهم التوراة، و كتاب اللّه القرآن وراء ظهورهم، و بدل أن يتّبعوا الحقّ المبين، اتّبعوا السحر الذي توارثوه عن آبائهم و الذي علّمتهم إياه الشياطين. و كان الواجب عليهم أن ينبذوا السحر، و يحذّروا الناس من شرّه؛ و ذلك كما فعل الملكان: هاروت و ماروت من تحذير الناس من شروره، و العمل به. و هذا هو التفسير الصحيح للآية، لا ما زعمه المبطلون الخرفون؛ و بذلك يحصل التناسق بين الآيات، و تكون الآية متآخية متعانقة. و لا أدري ما الصلة بين ما رووه من إسرائيليات، و بين قوله: وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ... «1».

و العجب أن مثل ابن جرير

حوّم حول ما ذكرناه في تفسير الآية، ثم لم يلبث أن ذكر ما ذكر «2».

و الخلاصة: على القارئ أن يحذر من هذه الإسرائيليات، سواء وجدها في كتاب تفسير، أو حديث أو تاريخ أو مواعظ، أو أدب أو ....

2- إسرائيليّة في المسوخ من المخلوقات

و يوغل بعض زنادقة أهل الكتاب، فيضعون على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خرافات في خلق بعض أنواع الحيوانات التي زعموا أنها مسخت. و لو أن هذه الخرافات

(1) البقرة/ 102.

(2) تفسير ابن جرير، ج 1، ص 359 و 360.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 153

نسبت إلى كعب الأحبار و أمثاله أو إلى بعض الصحابة و التابعين، لهان الأمر، و لكن عظم الإثم أن ينسب ذلك إلى المعصوم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هذا اللّون من الوضع و الدسّ من أخبث و أقذر أنواع الكيد للإسلام و نبيّ الإسلام.

فقد قال السيوطي بعد ما ذكر طامّات و بلايا في قصّة هاروت و ماروت، من غير أن يعلّق عليها بكلمة:

أخرج الزبير بن بكار في الموفّقيات، و ابن مردويه، و الديلمي، عن عليّ: أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سئل عن المسوخ «1»، فقال: هم ثلاثة عشر: الفيل، و الدبّ، و الخنزير، و القرد، و الجرّيث «2»، و الضبّ، و الوطواط، و العقرب، و الدعموص، و العنكبوت، و الأرنب، و سهيل، و الزهرة. فقيل: يا رسول اللّه، و ما سبب مسخهن؟- و إليك التخريف و الكذب الذي نبرئ ساحة رسول اللّه منهما- فقال:

أمّا الفيل فكان رجلا جبارا لوطيا، لا يدع رطبا و لا يابسا. و أمّا الدبّ فكان مؤنثا يدعو الناس إلى نفسه. و أمّا الخنزير فكان من

النصارى الذين سألوا المائدة، فلما نزلت كفروا. و أمّا القردة فيهود اعتدوا في السبت. و أمّا الجرّيث فكان ديوثا «3»، يدعو الرجال إلى حليلته. و أمّا الضب فكان أعرابيا يسرق الحاج بمحجنه. و أمّا الوطواط فكان رجلا يسرق الثمار من رءوس النخل. و أمّا العقرب فكان رجلا لا يسلم أحد من لسانه. و أمّا الدعموص «4» فكان نمّاما يفرق بين

(1) جمع مسخ، أي الممسوخ من حالة إلى حالة أخرى.

(2) في القاموس «الجرّيث كسكّيت: سمك».

(3) الديوث: الذي لا يغار على زوجته.

(4) الدعموص- بضم الدال-: دويبة أو دودة سوداء، تكون في الغدران إذا أخذ ماؤها في النضوب.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 154

الأحبّة. و أمّا العنكبوت فامرأة سحرت زوجها. و أمّا الأرنب فامرأة كانت لا تطهر من حيضها. و أمّا سهيل فكان عشّارا باليمن. و أمّا الزهرة فكانت بنتا لبعض ملوك بني إسرائيل افتتن بها هاروت و ماروت!!

أ لا قبّح اللّه من وضع هذا الزور و الباطل، و نسبه إلى من لا ينطق عن الهوى.

و مما لا يقضي منه العجب أن السيوطي ذكر هذا الهراء من غير سند، و لم يعقّب عليه بكلمة استنكار. و مثل هذا لا يشكّ طالب علم في بطلانه، فضلا عن عالم كبير. و قد حكم عليه ابن الجوزي بالوضع، و قد ذكره السيوطي في «اللّئالئ»، و تعقّبه بما لا يجدي، و كان من الأمانة العلمية أن يشير إلى هذا.

و بعد هذا الكذب و التخريف ينقل السيوطي ما

رواه الطبراني في الأوسط بسند- ضعيف- كذا قال، عن عمر بن الخطاب، قال: جاء جبرئيل إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في غير حينه، ثم ذكر قصة

طويلة في وصف النار، و أن النبيّ بكى، و جبريل بكى، حتى نوديا: لا تخافا إن اللّه أمّنكما أن تعصياه «1» . و أغلب الظن:

أنه من الإسرائيليّات التي دسّت في الرواية الإسلامية.

3- الإسرائيليّات في بناء الكعبة: البيت الحرام و الحجر الأسود

و كذلك أكثر السيوطي في تفسيره «الدر المنثور» عند تفسير قوله تعالى:

وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «2»:

(1) الدر المنثور، ج 1، ص 102 و 103.

(2) البقرة/ 127.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 155

من النقل عن الأزرقي، و أمثاله من المؤرّخين و المفسّرين الذين هم كحاطبي ليل، و لا يميّزون بين الغثّ و السمين، و المقبول و المردود، في بناء البيت، و من بناه قبل إبراهيم؛ أهم الملائكة أم آدم؟ و الحجر الأسود؛ و من أين جاء؟ و ما ورد في فضلهما. و قد استغرق في هذا النقل الذي معظمه من الإسرائيليّات التي أخذت عن أهل الكتاب بضع عشرة صحيفة «1»، لا يزيد ما صح منها أو ثبت عن عشر هذا المقدار.

قال أبو شهبة: و لو أنه اقتصر على الرواية التي رواها البخاري في صحيحه «2»، و رواها غيره من العلماء، لأراحنا و أراح نفسه، و لما أفسد العقول، و سمّم النفوس بكل هذه الإسرائيليّات، التي نحن في غنية عنها، بما تواتر من القرآن، و ثبت من السنة الصحيحة. و في الحق: أن ابن جرير كان مقتصدا في الإكثار من ذكر الإسرائيليّات في هذا الموضع، و إن كان لم يسلم منها، و ذكر بعضها؛ و ذلك مثل ما رواه بسنده عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص، قال: لما أهبط اللّه آدم من الجنة قال: إني مهبط معك بيتا يطاف

حوله كما يطاف حول عرشي، و يصلّى عنده، كما يصلّى عند عرشي. فلما كان زمن الطوفان، رفع، فكان الأنبياء يحجّونه، و لا يعلمون مكانه «3»، حتى بوّأه اللّه إبراهيم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أعلمه، مكانه، فبناه من خمسة أجبل: من حراء، و ثبير، و لبنان، و جبل الطور، و جبل الخمر.

و أعجب من ذلك ما رواه بسنده عن عطاء بن أبي رباح، قال: «لما أهبط اللّه آدم من الجنة كان رجلاه في الأرض، و رأسه في السماء!! يسمع كلام أهل السماء،

(1) الدر المنثور، ج 1، ص 125- 137.

(2) صحيح البخاري- كتاب أحاديث الأنبياء- باب «و اتخذ اللّه إبراهيم خليلا».

(3) و لا أدري كيف يحجّونه و لا يعلمون مكانه؟

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 156

و دعاءهم، يأنس إليهم؛ فهابته الملائكة، حتى شكت إلى اللّه في دعائها، و في صلاتها فخفضه إلى الأرض فلما فقد ما كان يسمع منهم استوحش حتى شكا ذلك إلى اللّه في دعائه و في صلاته، فوجّه إلى مكّة، فكان موضع قدمه قرية، و خطوه مفازة، حتى انتهى إلى مكّة، و أنزل اللّه ياقوتة من ياقوت الجنة، فكانت على موضع البيت الآن، فلم يزل يطوف به، حتى أنزل اللّه الطوفان، فرفعت تلك الياقوتة، حتى بعث اللّه إبراهيم فبناه؛ فذلك قول اللّه تعالى: وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ «1» إلى غير ذلك مما مرجعه إلى أخبار بني إسرائيل و خرافاتهم.

و لم يصح في ذلك خبر عن المعصوم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يرحم اللّه الإمام الحافظ ابن كثير، فقد بيّن لنا منشأ معظم هذه الروايات التي هي من صنع بني إسرائيل، و

دسّ زنادقتهم،

فقد قال فيما رواه البيهقي في «الدلائل»، من طرق عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «بعث اللّه جبريل إلى آدم، فأمره، ببناء البيت، فبناه آدم، ثم أمره بالطواف به، و قال له: أنت أول الناس، و هذا أول بيت وضع للناس».

قال ابن كثير: إنه من مفردات ابن لهيعة، و هو ضعيف، و الأشبه- و اللّه أعلم- أن يكون موقوفا على عبد اللّه بن عمرو بن العاص، و يكون من الزاملتين «2» اللتين أصابهما يوم اليرموك، من كتب أهل الكتاب، فكان يحدّث بما فيهما «3».

و قال في «بدايته»: و لم يجي ء في خبر صحيح عن المعصوم أن البيت كان مبنيا قبل الخليل عليه السّلام، و من تمسّك في هذا بقوله: مَكانَ الْبَيْتِ فليس بناهض

(1) تفسير ابن جرير، ج 1، ص 428 و 429. الحج/ 26.

(2) الزاملة: البعير الذي يحمل عليه المتاع.

(3) تفسير ابن كثير، ج 1، ص 383 و تفسير البغوي، ج 1، ص 115 و فتح الباري، ج 6، ص 310.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 157

و لا ظاهر، لأن مراده: مكانه المقدّر في علم اللّه تعالى، المقرّر في قدرته، المعظّم عند الأنبياء موضعه، من لدن آدم إلى زمان إبراهيم «1».

4- الإسرائيليات في قصة التابوت

و من الإسرائيليات التي التبس فيها الحق بالباطل ما ذكره غالب المفسرين في تفاسيرهم، في قصة طالوت، و تنصيبه ملكا على بني إسرائيل، و اعتراض بني إسرائيل عليه، و إخبار نبيهم لهم بالآية الدالة على ملكه، و هي التابوت؛ و ذلك عند قوله تعالى: وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ

وَ بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «2».

فقد ذكر ابن جرير، و الثعلبي، و البغوي، و القرطبي، و ابن كثير، و السيوطي في «الدر»، و غيرهم في تفاسيرهم، كثيرا من الأخبار عن الصحابة و التابعين، و عن وهب بن منبّه، و غيره من مسلمة أهل الكتاب في وصف «التابوت»، و كيف جاء، و علام يشتمل؟، و عن «السكينة» و كيف صفتها؟

فقد ذكروا في شأن التابوت أنه كان من خشب الشمشاد «3»، نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين، كان عند آدم إلى أن مات، ثم عند شيث، ثم توارثه أولاده، إلى

(1) البداية و النهاية، ج 1، ص 163 و ج 2، ص 299.

(2) البقرة/ 248.

(3) في «البغوي» بالمعجمتين و الدال المهملة، و في «القرطبي» بالمعجمة ثم ميم ثم سين مهملة آخره راء، و في بعض التفاسير، و الذال المعجمة.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 158

إبراهيم، ثم كان عند إسماعيل، ثم يعقوب، ثم كان في بني إسرائيل، إلى أن وصل إلى موسى عليه السّلام فكان يضع فيه التوراة و متاعا من متاعه، فكان عنده إلى أن مات.

ثم تداوله أنبياء بني إسرائيل إلى وقت شمويل، و كان عندهم حتى عصوا، فغلبوا عليه؛ غلبهم عليه العمالقة.

و هذا الكلام و إن كان محتملا للصدق و الكذب، لكنّنا في غنية، و لا يتوقّف تفسير الآية عليه.

و قال بعضهم: إن التابوت إنما كان في بني إسرائيل، و لم يكن من عهد آدم عليه السّلام، و أنه الصندوق الذي كان يحفظ فيه موسى عليه السّلام التوراة. و لعل هذا أقرب إلى الحقّ و الصواب.

و كذلك أكثروا

من النقل في «السكينة»،

فروي عن علي بن أبي طالب عليه السّلام: هي ريح فجوج «1» هفّافة، لها رأسان و وجه كوجه الإنسان.

و قال مجاهد: حيوان كالهرّ، لها جناحان و ذنب، و لعينيه شعاع، إذا نظر إلى الجيش انهزم.

و قال محمد بن إسحاق، عن وهب بن منبّه: «السكينة» رأس هرّة ميّتة، إذا صرخت في التابوت بصراخ هرّ أيقنوا بالنصر. و هذا من خرافات بني إسرائيل و أباطيلهم.

و عن وهب بن منبّه أيضا قال: «السكينة» روح من اللّه تتكلم، إذا اختلفوا في شي ء تتكلّم، فتخبرهم ببيان ما يريدون.

و عن ابن عباس: «السكينة» طست من ذهب، كانت تغسل فيه قلوب الأنبياء، أعطاه اللّه موسى عليه السّلام.

(1) شديد المرور في غير استواء، و لا أدري كيف يكون للريح رأسان، و وجه كوجه الإنسان؟.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 159

و الحق أنه ليس في القرآن ما يدل على شي ء من ذلك، و لا فيما صح عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنما هذه من أخبار بني إسرائيل التي نقلها إلينا مسلمة أهل الكتاب، و حملها عنهما بعض الصحابة و التابعين، و مرجعها إلى وهب بن منبّه، و كعب الأحبار، و أمثالهما.

قال أبو شهبة: و الذي ينبغي أن تفسّر به «السكينة» أن المراد بها الطمأنينة، و السكون الذي يحلّ بالقلب، عند تقويم التابوت أمام الجيش. فهي من أسباب السكون، و الطمأنينة؛ و بذلك تقوى نفوسهم، و تشتدّ معنوياتهم؛ فيكون ذلك من أسباب النصر. فهو مثل قوله تعالى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ... «1»، أي طمأنينته، و ما ثبت به قلبه، و مثل قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ

«2»، و قوله: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَ كانُوا أَحَقَّ بِها وَ أَهْلَها ... «3». فالمراد ب «السكينة» طمأنينة القلوب، و ثبات النفوس.

5- الإسرائيليّات في قصّة قتل داود جالوت

و من الإسرائيليّات ما يذكره المفسرون في قصّة قتل داود- و هو جندي صغير في جيش طالوت- جالوت الملك الجبّار؛ و ذلك عند تفسير قوله تعالى:

(1) التوبة/ 40.

(2) الفتح/ 4.

(3) الفتح/ 26.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 160

فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَ لكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ «1».

فقد ذكر الثعلبي، و البغوي، و الخازن، و صاحب «الدر المنثور»، و غيرهم، في تفاسيرهم، ما خلاصته: أنه عبر النهر فيمن عبر مع طالوت- ملك بني إسرائيل- إيشا: أبو داود، في ثلاثة عشر ابنا له، و كان داود أصغرهم، و كان يرمي بالقذافة «2» فلا يخطئ، و أنه ذكر لأبيه أمر قذافته تلك، و أنه دخل بين الجبال، فوجد أسدا فأخذ بأذنيه، فلم يهجه، و أنه مشى بين الجبال، فسبّح، فما بقي جبل حتى سبّح معه، فقال له أبوه: أبشر فإن هذا خير أعطاك اللّه تعالى إياه.

فأرسل جالوت إلى طالوت أن أبرز إليّ، أو أبرز إليّ من يقاتلني، فإن قتلني فلكم ملكي، و إن قتلته فلي ملككم. فشقّ ذلك على طالوت، فنادى في عسكره:

من قتل جالوت زوّجته ابنتي، و ناصفته ملكي. فهاب الناس جالوت، فلم يجبه أحد.

فسأل طالوت نبيهم أن يدعو اللّه تعالى، فدعا اللّه في ذلك، فأتى بقرن فيه دهن القدس، و تنّور من حديد، فقيل: إنّ صاحبكم

الذي يقتل جالوت هو الذي يوضع هذا القرن على رأسه، فيغلي الدهن حتى يدهن منه رأسه، و لا يسيل على وجهه، بل يكون على رأسه كالإكليل «3»، و يدخل هذا التنّور فيملؤه، و لا يتقلقل فيه.

(1) البقرة/ 251.

(2) شي ء يقذف به كالمقلاع فلا يخطئ هدفه.

(3) ما يلبسه الملوك على رءوسهم.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 161

فدعا طالوت بني إسرائيل، فجرّبهم، فلم يوافقه منهم أحد، فأوحى اللّه إلى نبيهم: أن في ولد «إيشا» من يقتل اللّه به جالوت. فدعا طالوت إيشا، فقال: أعرض هذا على بنيك، فأخرج له اثني عشر رجلا أمثال السواري «1»، فجعل يعرضهم على القرن، فلا يرى شيئا، فقال لإيشا: هل بقي لك ولد غيرهم؟ فقال: لا، فقال نبي هذا الزمان: يا رب إنه زعم أن لا ولد له غيرهم، فقال اللّه: كذب، فقال هذا النبي لإيشا: إن اللّه كذّبك!!.

فقال إيشا: صدق اللّه، يا نبي اللّه، إن لي ابنا صغيرا، يقال له: داود، استحييت أن يراه الناس لقصر قامته و حقارته، فخلّفته في الغنم يرعاها، و هو فى شعب كذا و كذا. و كان داود رجلا قصيرا، مسقاما، مصفارا، أزرق، أمعر «2»، فدعاه طالوت، و يقال: بل خرج إليه، فوجد الوادي قد سال بينه و بين الزريبة التي كان يريح إليها، فوجده يحمل شاتين يجيز بهما السيل، و لا يخوض بهما الماء، فلما رآه قال: هذا هو لا شك فيه، هذا يرحم البهائم، فهو بالناس أرحم. فدعاه، و وضع القرن على رأسه، ففاض- يعني من غير أن يسيل على وجهه- فقال طالوت: هل لك أن تقتل جالوت، و أزوّجك ابنتي، و أجري خاتمك في ملكي؟، قال: نعم، قال: و

هل آنست من نفسك شيئا تتقوّى به على قتله؟ قال: نعم، و ذكر بعض ذلك.

فأخذ طالوت داود، و ردّه إلى عسكره. و في الطريق مرّ داود بحجر، فناداه يا

(1) جمع سارية، و هي العمود، أي أنهم كالعمد الطويلة.

(2) أمعر: قليل الشعر، أو نحيف الجسم، و هذا من أكاذيب بني إسرائيل، و رميهم الأنبياء بأبشع الصفات. فقاتلهم اللّه أنى يؤفكون، و ما كان لأبيه و قد أخبره داود بما ذكره أول القصة، أن ينتقصه، و يصفه بهذه الأوصاف.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 162

داود احملني، فإني حجر هارون الذي قتل بي ملك كذا، فحمله في مخلاته، ثم مرّ بآخر، فناداه قائلا: إنه حجر موسى الذي قتل به ملك كذا، فأخذه في مخلاته، ثم مرّ بحجر ثالث، فناداه قائلا له: احملني، فإني حجرك الذي تقتل بي جالوت، فوضعه في مخلاته.

فلما تصافوا للقتال، و برز جالوت، و سأل المبارزة، انتدب له داود، فأعطاه طالوت فرسا، و درعا، و سلاحا، فلبس السلاح، و ركب الفرس، و سار قريبا، ثم لم يلبث أن نزع ذلك، و قال لطالوت: إن لم ينصرني اللّه لم يغن عني هذا السلاح شيئا!!، فدعني أقاتل جالوت كما أريد، قال: فافعل ما شئت، قال: نعم.

فأخذ داود مخلاته، فتقلّدها، و أخذ المقلاع، و مضى نحو جالوت. و كان جالوت من أشد الرجال، و أقواهم، و كان يهزم الجيش وحده، و كان له بيضة فيها ثلاثمائة رطل حديد «1»، فلما نظر إلى داود ألقى اللّه في قلبه الرعب. و بعد مقاولة بينهما، و توعّد كل منهما الآخر أخرج داود حجرا من مخلاته، و وضعه في مقلاعه، و قال: باسم إله إبراهيم، ثم أخرج الآخر و

قال: باسم إله إسحاق، و وضعه في مقلاعه، ثم أخرج الثالث و قال: باسم إله يعقوب، و وضعه في مقلاعه؛ فصارت كلها حجرا واحدا و دوّر داود المقلاع، و رمى به، فسخر له اللّه الريح، حتى أصاب الحجر أنف البيضة، فخلص إلى دماغه، و خرج من قفاه، و قتل من ورائه ثلاثين رجلا، و هزم اللّه تعالى الجيش، و خرّ جالوت قتيلا. فأخذه

(1) البيضة: ما يلبسه المحارب على رأسه، و هذا من أكاذيبهم، و تخريفاتهم، و لا أدري و لا أي عاقل يدري كيف يمكن لجالوت أن يحارب، و على رأسه هذا القدر من الحديد؟. أي نحو مائة و خمسين كيلوجراما من الحديد، و لعل الرطل في زمانهم كان أثقل من رطلنا اليوم، فيكون حمل على رأسه ما يزيد على ثلاثة قناطير من الحديد. و مما ذكروه في وصفه أن ظله كان ميلا، و هذا و لا شك خرافة.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 163

يجره، حتى ألقاه بين يدي طالوت، ففرح جيش طالوت فرحا شديدا، و انصرفوا إلى مدينتهم سالمين، و الناس يذكرون بالخير داود.

فجاء داود طالوت، و قال له: أنجز لي ما وعدتني، فقال: و أين الصّداق؟

فقال له داود: ما شرطت عليّ صداقا غير قتل جالوت، ثم اقترح عليه طالوت أن يقتل مائتي رجل من أعدائهم، و يأتيه بغلفهم «1»، ففعل، فزوّجه طالوت ابنته، و أجرى خاتمه في ملكه. فمال الناس إلى داود، و أحبّوه، و أكثروا ذكره؛ فحسده طالوت، و عزم على قتله. فأخبر ابنة طالوت رجل من أتباعه، فحذّرت داود، و أخبرته بما عزم أبوها عليه. و بعد مغامرة من طالوت لقتل داود، و مكيدة و حيلة من داود،

أنجى اللّه داود منه. فلما أصبح الصباح، و تيقّن طالوت أن داود لم يقتل، خاف منه، و توجّس خيفة، و احتاط لنفسه، و لكن اللّه أمكن داود منه ثلاث مرات، و لكن لم يقتله. ثم كان أن فرّ داود من طالوت في البرية، فرآه طالوت ذات يوم فيها، فأراد قتله، و لكن داود دخل غارا، و أمر اللّه العنكبوت، فنسجت عليه من خيوطها؛ و بذلك نجا من طالوت، و لجأ إلى الجبل، و تعبّد مع المتعبّدين.

فطعن الناس في طالوت بسبب داود، و اختفائه، فأسرف طالوت في قتل العلماء و العباد، ثم كان أن وقعت التوبة في قلبه، و ندم على ما فعل، و حزن حزنا طويلا، و صار يطلب من يفتيه أنّ له توبة فلم يجد، حتى دلّ على امرأة عندها اسم اللّه الأعظم، فذهب إليها، و أمن روعها فانطلقت به إلى قبر «شمويل»، فخرج من قبره و أرشده إلى طريق التوبة، و هو أن يقدّم ولده و نفسه في سبيل اللّه حتى يقتلوا، ففعل. و جاء قاتل طالوت إلى داود ليخبره بقتله، فكانت مكافأته على ذلك

(1) الغلفة- بضم الغين-: القطعة التي تقطع من الصبي عند الختان.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 164

أنّ قتله. و أتى بنو إسرائيل إلى داود، و أعطوه خزائن طالوت، و ملّكوه على أنفسهم. و قد استغرق ذلك من تفسير البغوي بضع صحائف «1».

قال أبو شهبة: و في هذا الذي ذكروه الحق و الباطل، و الصدق، و الكذب، و نحن في غنية عنه بما في أيدينا من القرآن و السنّة و ليس في كتاب اللّه ما يدلّ على ما ذكروه، و لسنا في حاجة إلى شي ء من هذا

في فهم القرآن و تدبّره، فلا تلق إليه بالا، و ارم به دبر أذنيك، فإنّ فيه تجنّيا على من اصطفاه اللّه ملكا عليهم، و كذبا على نبي اللّه داود.

و أمّا الإمام العلامة ابن كثير، فقد أعرض عن ذكره، و نبّه إلى أنه من الإسرائيليات، فقال في قوله تعالى: وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ: ذكروا في الإسرائيليّات «2» أنه قتله بمقلاع كان في يده رماه به. فأصابه، فقتله، و كان طالوت قد وعده إن قتل جالوت أن يزوّجه ابنته، و يشاطره نعمته، و يشركه في أمره، فوفى له، ثم آل الملك إلى داود عليه السّلام مع ما منحه اللّه من النبوة العظيمة؛ و لهذا قال تعالى: وَ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ الذي كان بيد طالوت، وَ الْحِكْمَةَ أي النبوة بعد شمويل، وَ عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ من العلم الذي اختصه به عليه السّلام.

(1) تفسير ابن كثير، ج 1، ص 303 و تفسير البغوى، ج 1، ص 232- 233.

(2) و يؤكّد أنّه من الإسرائيليّات أن هذا جلّه مأخوذ من التوراة: انظر التوراة- سفر صمويل الأول- الإصحاح 16، 17، 18، 19 يحصل لك اليقين بهذا.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 165

6- الإسرائيليّات في قصص الأنبياء و الأمم السابقة

و قد جاء في كتب التفسير- على اختلاف مناهجها- إسرائيليّات كواذب، و مرويّات بواطل، لا يحصيها العدّ، و ذلك فيما يتعلق بقصص الأنبياء و المرسلين و الأمم و الأقوام السابقين. و قد رويت عن بعض الصحابة، و التابعين و تابعيهم، و ورد بعضها مرفوعا إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كذبا، و زورا.

و هذه المرويات و الحكايات لا تمّت إلى الإسلام، و إنما هي من خرافات بني إسرائيل و أكاذيبهم، و افتراءاتهم على اللّه،

و على رسله، رواها عن أهل الكتاب الذين أسلموا، أو أخذها من كتبهم بعض الصحابة و التابعين، أو دسّت عليهم، بل فيها ما حرفوا لأجله التوراة، و ذلك مثل ما فعلوا في قصة إسحاق بن إبراهيم، و أنه هو الذبيح، كما سيأتى.

و لا يمكن استقصاء كل ما ورد من الإسرائيليات، و إلّا لاقتضى هذا مجلدات كبارا، و لكني سأكتفي بما هو ظاهر البطلان، و لا يتّفق و سنن اللّه في الأكوان، و ما يخلّ بالعقيدة الصحيحة في أنبياء اللّه و رسله التي يدل عليها العقل السليم، و النقل الصحيح.

7- ما ورد في قصّة آدم عليه السّلام
اشارة

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ «1» فمن تلك الإسرائيليّات ما رواه ابن جرير «2» في تفسيره بسنده عن وهب بن

(1) البقرة/ 36.

(2) هذا ابن جرير، و قد شك في اللفظ الذي سمعه ممن أخذ عنه: أ هو ذريّته أم زوجته؟ فيذكر

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 166

منبّه قال: لما أسكن اللّه آدم و ذريّته أو زوجته- الشك من أبي جعفر، و هو في أصل كتابه «و ذريته»- و نهاه عن الشجرة، و كانت شجرة غصونها متشعّبة بعضها في بعض، و كان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم «1»، و هي الثمرة التي نهى اللّه آدم عنها و زوجته، فلما أراد إبليس أن يستزلّهما دخل في جوف الحيّة، و كانت للحيّة أربعة قوائم، كأنها بختيّة «2» من أحسن دابّة خلقها اللّه. فلما دخلت الحية الجنة خرج من جوفها إبليس، فأخذ من الشجرة التي نهى اللّه عنها آدم و زوجته، فجاء بها إلى حواء، فقال: انظري إلى هذه الشجرة، ما أطيب ريحها، و أطيب طعمها، و أحسن لونها! فأخذت حواء فأكلت منها، ثم

ذهبت بها إلى آدم، فقالت له مثل ذلك، حتى أكل منها؛ فبدت لهما سوءاتهما. فدخل آدم في جوف الشجرة، فناداه ربه: يا آدم أين أنت؟ قال: أنا هنا يا رب. قال: أ لا تخرج؟ قال: أستحيي منك يا رب. قال: ملعونة الأرض التي خلقت منها، لعنة يتحوّل ثمرها شوكا. ثم قال: يا حواء، أنت التي غررت عبدي، فإنك لا تحملين حملا إلّا حملتيه كرها، فإذا أردت أن تضعي ما في بطنك أشرفت على الموت مرارا. و قال للحية: أنت التي دخل الملعون في جوفك حتى غرّ عبدي، ملعونة أنت لعنة تتحوّل قوائمك في بطنك، و لا يكن لك رزق إلّا التراب، أنت عدوّة بني آدم، و هم أعداؤك. قال عمرو: قيل لوهب: و ما كانت الملائكة تأكل!! قال: يفعل اللّه ما يشاء «3». قال ابن جرير:

و روى ابن عباس نحو هذه القصة.

ذلك رعاية للأمانة في الرواية، و الظاهر لفظ «زوجته» لأن آدم عليه السّلام لم تكن له ذريّة في الجنة.

(1) و كيف و الملائكة لا تأكل و لا تشرب؟.

(2) و هي الأنثى من الجمال البخت. و الذكر البختيّ، و هي جمال طوال الأعناق.

(3) هذا تهرّب من الجواب، و عجز عن تصحيح هذا الكذب الظاهر.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 167

ثم ذكر ابن جرير بسنده عن ابن عباس، و عن ابن مسعود، و عن ناس من الصحابة نحو هذا الكلام «1»، و في السند أسباط عن السدي، و عليهما تدور الروايات.

و كذلك ذكر السيوطي في «الدر المنثور» ما رواه ابن جرير و غيره في هذا، مما روي عن ابن عباس، و ابن مسعود، و لكنه لم يذكر الرواية عن وهب بن منبّه

«2»، و أغلب كتب التفسير بالرأي ذكرت هذا أيضا. و كل هذا من قصص بني إسرائيل الذي تزيّدوا فيه، و خلطوا حقا بباطل، ثم حمله عنهم الضعفاء من الصحابة و التابعين، و فسّروا به القرآن الكريم.

و لقد أحسن ابن جرير، فقد أشار بذكره الرواية عن وهب إلى أن ما يرويه عن ابن عباس، و ابن مسعود، إنما مرجعه إلى وهب و غيره من مسلمة أهل الكتاب، و يا ليته لم ينقل شيئا من هذا، و يا ليت من جاء بعده من المفسرين صانوا تفاسيرهم عن مثل هذا. و في رواية ابن جرير الأولى ما يدل على أن الذين رووا عن وهب و غيره كانوا يشكّون فيما يروونه لهم، فقد جاء في آخرها: (قال عمرو «3»: قيل لوهب: و ما كانت الملائكة تأكل؟! قال: يفعل اللّه ما يشاء) فهم قد استشكلوا عليه؛ كيف أن الملائكة تأكل؟! و هو لم يأت بجواب يعتدّ به.

و وسوسة إبليس لآدم عليه السّلام لا تتوقف على دخوله في بطن الحية؛ إذ الوسوسة لا تحتاج إلى قرب و لا مشافهة، و قد يوسوس إليه و هو على بعد أميال منه.

و الحية خلقها اللّه يوم خلقها على هذا، و لم تكن لها قوائم كالبختي، و لا شي ء من

(1) تفسير الطبري، ج 1، ص 186 و 187.

(2) الدر المنثور، ج 1، ص 53.

(3) هو عمرو بن عبد الرحمن بن مهرب، الراوي عن وهب.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 168

هذا «1».

ما نسب إلى ابني آدم لما قتل أحدهما الآخر

و من ذلك: ما ذكره بعض المفسرين كابن جرير الطبري في تفسيره، و السيوطي في تفسيره «الدر المنثور» في قصة ابني آدم: قابيل، و هابيل؛ و قتل أولهما الآخر،

ما روي عن كعب: أن الدم الذي على جبل قاسيون هو دم ابن آدم، و عن وهب: أن الأرض نشفت دم ابن آدم المقتول، فلعن ابن آدم الأرض؛ فمن أجل ذلك لا تنشف الأرض دما بعد دم هابيل إلى يوم القيامة. و أن قابيل حمل هابيل سنة في جراب على عنقه، حتى أنتن و تغيّر، فبعث اللّه الغرابين، قتل أحدهما الآخر، فحفر له، و دفنه برجليه و منقاره، فعلم كيف يصنع بأخيه. مع أن القرآن عبّر بالفاء التي تدل على الترتيب و التعقيب من غير تراخ. قال تعالى:

فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ «2».

و روى أيضا: أنه لما قتله اسودّ جسده، و كان أبيض، فسأله آدم عن أخيه، فقال: ما كنت عليه وكيلا. قال: بل قتلته فلذلك اسودّ جسدك، إلى نحو ذلك.

فكل هذا و أمثاله- عدا ما جاء في القرآن- من إسرائيليّات بني إسرائيل، و قد جاءت بعض الروايات صريحة عن كعب، و وهب. و ما جاء عن ابن عباس، و مجاهد و غيرهما، فمرجعه إلى أهل الكتاب الذين أسلموا «3».

(1) انظر التوراة- سفر التكوين- الإصحاح الثالث لتزداد يقينا أنه من الإسرائيليات، و ليس منه شي ء عن المعصوم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

(2) المائدة/ 31.

(3) تفسير الطبري، ج 6، ص 118، عند قوله تعالى في سورة المائدة: وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 169

ما نسب إلى آدم عليه السلام من قول الشعر

و من الإسرائيليات ما رواه ابن جرير في تفسيره، و ما ذكره السيوطي في «الدر»: من أن آدم لما قتل أحد ابنيه الآخر، مكث مائة عام لا يضحك حزنا عليه، فأتى على رأس المائة، فقيل له:

حياك الله، و بياك، و بشر بغلام، فعند ذلك ضحك.

و كذلك ما

ذكره من أن آدم عليه السلام رثى ابنه بشعر، روى ابن جرير عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: لما قتل ابن آدم أخاه بكى آدم، فقال:

تغيرت البلاد، و من عليها فوجه الأرض مغبرّ قبيح

تغير كل ذي لون و طعم و قل بشاشة الوجه المليح

قال السيوطي: و أخرج الخطيب و ابن عساكر عن ابن عباس قال: لما قتل ابن آدم أخاه قال آدم عليه السلام: و ذكر البيتين السابقين باختلاف قليل.

فأجابه إبليس عليه اللعنة:

تنح عن البلاد و ساكنيها فبي في الخلد ضاق بك الفسيح

و كنت بها و زوجك في رخاء و قلبك من أذى الدنيا مريح

فما انفكت مكايدتي و مكري إلى أن فاتك الثمن الربيح «1»

و قد طعن في نسبة هذه الأشعار إلى نبي الله آدم الإمام الذهبي في كتابه «ميزان الاعتدال»، و قال: إن الآفة فيه من المخرمي أو شيخه «2».

و ما الشعر الذي ذكروه إلا منحول مختلق، و الأنبياء لا يقولون الشعر، و صدق

آدَمَ ... الآيات- الدر المنثور، ج 2، ص 275.

(1) تفسير الطبري، ج 6، ص 122 و الدر المنثور، ج 2، ص 276 و 277.

(2) الإسرائيليّات و الموضوعات، ص 183.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 170

الزمخشري حيث قال: «روى أن آدم مكث بعد قتل ابنه مائة سنة لا يضحك

، و أنه رثاه بشعر، و هو كذب بحت. و ما الشعر إلّا منحول ملحون. و قد صح أن الأنبياء معصومون من الشعر» «1».

و قد قال اللّه تبارك و تعالى: وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَ ما

يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ «2».

و قال الآلوسي في تفسيره: و روي عن ميمون بن مهران عن الحبر ابن عباس أنه قال: «من قال: إنّ آدم عليه السّلام قال شعرا فقد كذب، إن محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأنبياء كلهم في النهي عن الشعر سواء. و لكن لما قتل قابيل هابيل رثاه آدم بالسريانية، فلم يزل ينقل، حتى وصل إلى يعرب بن قحطان، و كان يتكلم بالعربية و السريانية، فنظر فيه، فقدّم و أخّر، و جعله شعرا عربيا. و ذكر بعض علماء العربية أن في ذلك الشعر لحنا، أو إقواء، أو ارتكاب ضرورة. و الأولى عدم نسبته إلى يعرب؛ لما فيه من الركاكة الظاهرة «3».

قال أبو شهبة: و الحق أنه شعر في غاية الركاكة، و الأشبه أن يكون هذا الشعر من اختلاق إسرائيلي، ليس له من العربية إلا حظّ قليل، أو قصّاص يريد أن يستولي على قلوب الناس، بمثل هذا الهراء.

(1) تفسير الكشاف، ج 1، ص 626.

(2) يس/ 69.

(3) روح المعاني، ج 6، ص 103. و راجع: القرطبى، ج 6، ص 140.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 171

8- الإسرائيليات في عظم خلق الجبّارين و خرافة عوج بن عوق
اشارة

و من الإسرائيليّات التي اشتملت عليها كتب التفسير، ما يذكره بعض المفسرين، عند تفسير قوله تعالى: قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها «1».

فقد ذكر الجلال السيوطي في «الدرّ» كثيرا من الروايات في صفة هؤلاء القوم، و عظم أجسادهم، مما لا يتفق و سنّة اللّه في خلقه، و يخالف ما ثبت في الأحاديث الصحيحة، و ذلك مثل ما أخرجه ابن عبد الحكم عن أبي ضمرة قال: استظل سبعون

رجلا من قوم موسى في خفّ رجل من العماليق!! و مثل ما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن يزيد بن أسلم قال: بلغني أنه رؤيت ضبع و أولادها رابضة في فجاج عين رجل من العماليق!! و مثل ما رواه ابن جرير، و ابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال: أمر موسى أن يدخل مدينة الجبّارين، فسار بمن معه، حتى نزل قريبا من المدينة، و هي «أريحاء» فبعث إليهم اثني عشر نقيبا، من كل سبط منهم عين، ليأتوه بخبر القوم، فدخلوا المدينة، فرأوا أمرا عظيما من هيبتهم، و جسمهم و عظمهم، فدخلوا حائطا- أي بستانا- لبعضهم، فجاء صاحب الحائط ليجني الثمار، فنظر إلى آثارهم فتبعهم، فكلما أصاب واحدا منهم أخذه، فجعله في كمّه مع الفاكهة و ذهب إلى ملكهم، فنثرهم بين يديه، فقال الملك: قد رأيتم شأننا و أمرنا، اذهبوا فأخبروا صاحبكم، قال: فرجعوا إلى موسى فأخبروه بما عاينوه من أمرهم، فقال: اكتموا عنا، فجعل الرجل يخبر أخاه و صديقه، و يقول: اكتم عنّي، فأشيع في عسكرهم، و لم يكتم منهم إلّا رجلان: يوشع بن نون، و كالب بن يوحنا، و هما اللذان أنزل اللّه فيهما:

(1) المائدة/ 22.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 172

قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ «1».

و يروي ابن جرير بسنده، عن مجاهد، نحوا مما قدّمنا، ثم يذكر أن عنقود عنبهم لا يحمله إلّا خمسة أنفس، بينهم في خشبة، و يدخل في شطر الرمّانة إذا نزع حبّها خمسة أنفس أو أربعة «2»، إلى غير ذلك من الإسرائيليّات الباطلة.

خرافة عوج بن عوق «3»

و من الإسرائيليات الظاهرة البطلان، التي ولع بذكرها بعض المفسرين و الأخباريين، عند ذكر

الجبارين: قصة عوج بن عوق، و أنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع، و أنه كان يمسك الحوت، فيشوبه في عين الشمس، و أن طوفان نوح لم يصل إلى ركبتيه، و أنه امتنع عن ركوب السفينة مع نوح، و أن موسى كان طوله عشرة أذرع و عصاه عشرة أذرع، و وثب في الهواء عشرة أذرع، فأصاب كعب عوج فقتله، فكان جسرا لأهل النيل سنة، إلى نحو ذلك من الخرافات، و الأباطيل التي تصادم العقل و النقل، و تخالف سنن اللّه في الخليقة. و لا أدري كيف يتّفق هذا الباطل، هو، و قول اللّه تبارك و تعالى: وَ نادى نُوحٌ ابْنَهُ وَ كانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَ لا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ. قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَ حالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ «4».

(1) المائدة/ 23.

(2) تفسير الطبري، ج 6، ص 112، و الدر المنثور، ج 2، ص 270.

(3) منهم من يقول: ابن عوق، و منهم من يقول: ابن عنق كما ذكر ابن كثير، و في القاموس:

«و عوج بن عوق بضمهما- أي العينين- رجل ولد في منزل آدم فعاش إلى زمن موسى، و ذكر من عظم خلقه شناعة».

(4) هود/ 42- 43.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 173

اللهم إلّا إذا كان عوج أطول من جبال الأرض!! فمن تلك الروايات الباطلة المخترعة ما رواه ابن جرير بسنده عن أسباط، عن السدّي، في قصّة ذكرها من أمر موسى و بني إسرائيل، و بعث موسى النقباء الاثني عشر، و فيها: فلقيهم رجل من الجبّارين يقال له: عوج، فأخذ الاثني عشر،

فجعلهم في حجزته «1»، و على رأسه حملة حطب، و انطلق بهم إلى امرأته، فقال:

انظرى إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا، فطرحهم بين يديها، فقال: أ لا أطحنهم برجلي؟، فقالت امرأته: بل خلّ عنهم، حتى يخبروا قومهم بما رأوا، ففعل ذلك. و كذلك ذكر مثل هذا و أشنع منه غير ابن جرير و السيوطي بعض المفسّرين و القصّيصين، و هي كما قال ابن قتيبة: أحاديث خرافة، كانت مشهورة في الجاهلية، ألصقت بالحديث بقصد الإفساد «2».

و إليك ما ذكره الإمام الحافظ الناقد ابن كثير في تفسيره، قال: و قد ذكر كثير من المفسرين هاهنا أخبارا من وضع بني إسرائيل، في عظمة خلق هؤلاء الجبارين، و أن منهم عوج بن عنق بنت آدم عليه السّلام، و أنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع و ثلاثمائة و ثلاثة و ثلاثون ذراعا، و ثلث ذراع، تحرير الحساب، و هذا شي ء يستحى من ذكره، ثم هو مخالف لما

ثبت في الصحيحين: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إن اللّه خلق آدم، و طوله ستون ذراعا، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن»،

ثم ذكروا: أن هذا الرجل كان كافرا، و أنه كان ولد زنية، و أنه امتنع من ركوب سفينة نوح، و أن الطوفان لم يصل إلى ركبتيه. و هذا كذب و افتراء، فإن اللّه تعالى ذكر: أن نوحا دعا على أهل الأرض من الكافرين، فقال:

(1) الحجزة: موضع التكة من السروال.

(2) تأويل مختلف الحديث، ص 284 و روح المعانى، ج 6، ص 95.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 174

رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً «1». و قال تعالى: فَأَنْجَيْناهُ وَ

مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ «2». و قال تعالى: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ «3»، و إذا كان ابن نوح الكافر غرق، فكيف يبقى عوج بن عنق، و هو كافر، و ولد زنية؟! هذا لا يسوغ في عقل، و لا شرع، ثم في وجود رجل يقال له:

عوج بن عنق، نظر، و اللّه أعلم «4».

و قال ابن قيم الجوزية، بعد أن ذكر حديث عوج: «و ليس العجب من جرأة من وضع هذا الحديث، و كذب على اللّه، و إنما العجب ممن يدخل هذا في كتب العلم من التفسير و غيره، فكل ذلك من وضع زنادقة أهل الكتاب الذين قصدوا الاستهزاء، و السخرية بالرسل و أتباعهم».

قال أبو شهبة: و سواء أ كان عوج بن عوق شخصيّة وجدت حقيقة، أو شخصيّة خياليّة، فالذي ننكره هو: ما أضفوه عليه من صفات و ما حاكوه حوله من أثواب الزور و الكذب و التجرّؤ، على أن يفسر كتاب اللّه بهذا الهراء. و ليس في نص القرآن ما يشير إلى ما حكوه و ذكروه، و لو من بعد، أو وجه الاحتمال، ثم أين زمن نوح من زمن موسى عليه السّلام و ما يدل عليه آية: قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها «5» كان في زمن موسى قطعا، و لا مرية في هذا، فهل طالت الحياة بعوج حتى زمن موسى؟! بل قالوا: إن موسى هو الذي قتله، ألا لعن اللّه اليهود، فكم من علم أفسدوا و كم من خرافات و أباطيل

(1) نوح/ 26.

(2) الشعراء/ 119- 120.

(3) هود/ 43.

(4) تفسير ابن كثير، ج

2، ص 38.

(5) المائدة/ 22.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 175

وضعوا «1».

9- الإسرائيليات في قصّة التيه

فمن هذه الأخبار العجيبة التي رويت في قصّة التيه، ما رواه ابن جرير بسنده عن الربيع، قال: لمّا قال لهم القوم ما قالوا، و دعا موسى عليهم، أوحى اللّه إلى موسى: إنها محرمة عليهم أربعين سنة، يتيهون في الأرض، فلا تأس على القوم الفاسقين، و هم يومئذ ستمائة ألف مقاتل؛ فجعلهم فاسقين بما عصوا، فلبثوا أربعين سنة في فراسخ سنة، أو دون ذلك، يسيرون كل يوم جادّين، لكي يخرجوا منها، حتى يمسوا و ينزلوا، فإذا هم في الدار التي منها ارتحلوا، و أنهم اشتكوا إلى موسى ما فعل بهم، فأنزل عليهم المنّ و السلوى «2»، و أعطوا من الكسوة ما هي قائمة لهم، ينشأ الناشئ فتكون معه على هيئته. و سأل موسى ربّه أن يسقيهم، فأتى «بحجر الطور»، و هو حجر أبيض، إذا ما أنزل القوم ضربه بعصاه، فيخرج منه اثنتا عشرة عينا، لكل سبط منهم عين، قد علم كل أناس مشربهم. و كذلك روى: أن ثيابهم ما كانت تبلى، و لا تتسخ. و كذلك نقل بعض المفسرين كالزمخشري و غيره: بأنهم كانوا ستمائة ألف، و سعة المعسكر اثنا عشر ميلا.

و كذلك ذكروا أن الحجر كان من الجنة، و لم يكن حجرا أرضيا. و منهم من قال: كان على هيئة رأس إنسان. و منهم من قال: كان على هيئة رأس شاة. و قيل:

(1) الإسرائيليّات و الموضوعات، ص 187.

(2) المن: شي ء كالعسل كان ينزل على الشجر من السماء فيأخذونه و يأكلونه، و السلوى: طير كالسّماني.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 176

كان طوله عشرة أذرع، و له شعبتان تتقدان في

الظلام، إلى غير ذلك من تزيّدات بني إسرائيل. و ليس في القرآن ما يدلّ على هذا الذي ذكروه في وصف الحجر، مع أنه لو أريد بالحجر الجنس، و أن يضرب أي حجر ما؛ لكان أدل على القدرة، و أظهر في الإعجاز.

و قد لاحظ ابن خلدون- من قبل- المغالط التي تدخل في مثل هذه المرويّات، فقال في مقدّمته المشهورة:

اعلم أن فنّ التاريخ فنّ عزيز المذهب، جم الفوائد، شريف الغاية؛ إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، و الأنبياء في سيرهم، و الملوك في دولهم، و سياستهم، حتى تتمّ فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين و الدنيا، فهو محتاج إلى مآخذ متعدّدة، و معارف متنوعة، و حسن نظر و تثبّت، يفضيان بصاحبهما إلى الحق، و ينكّبان به عن المزلّات و المغالط؛ لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرّد النقل، و لم تحكم أصول العادة، و قواعد السياسة، و طبيعة العمران، و الأحوال في الاجتماع الإنساني، و لو قيس الغائب منها بالشاهد، و الحاضر بالذاهب، فربّما لم يؤمن فيها من العثور، و مزلّة القدم، و الحيد عن جادّة الصدق، و كثيرا ما وقع للمؤرّخين، و المفسّرين و أئمة النقل من المغالط في الحكايات، و الوقائع؛ لاعتمادهم فيها على مجرّد النقل غثّا أو سمينا، و لم يعرضوها على أصولها، و لا قاسوها بأشباهها، و لا سبروها بمعيار الحكمة، و الوقوف على طبائع الكائنات و تحكيم النظر و البصيرة في الأخبار، فضلّوا عن الحق، و تاهوا في بيداء الوهم و الغلط، و لا سيّما في إحصاء الأعداد من الأموال، و العساكر إذا عرضت في الحكايات؛ إذ هي مظنّة الكذب و مطيّة الهذر، و لا

بدّ من ردّها إلى الأصول، و عرضها على القواعد. و هذا: كما نقل المسعودي و كثير من المؤرخين في جيوش بني إسرائيل، و أن موسى أحصاهم في التيه، بعد

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 177

أن أجاز من كان يطيق حمل السلاح خاصّة من ابن عشرين، فما فوقها، فكانوا ستمائة ألف أو يزيدون، و يذهل في ذلك عن تقدير مصر و الشام، و اتساعهما لمثل هذا العدد من الجيوش، لكل مملكة حصة من الحامية تتسع لها، و تقوم بوظائفها، و تضيق عما فوقها، تشهد بذلك العوائد المعروفة، و الأحوال المألوفة.

و لقد كان ملك الفرس و دولتهم أعظم من ملك بني إسرائيل بكثير، يشهد لذلك: ما كان من غلب بخت نصر لهم، و التهامه بلادهم، و استيلائه على أمرهم، و تخريب بيت المقدس قاعدة ملتهم و سلطانهم، و هو من بعض عمّال مملكة فارس. و كانت ممالكهم بالعراقين، و خراسان، و ما وراء النهر، و الأبواب، أوسع من ممالك بني إسرائيل بكثير، و مع ذلك لم تبلغ جيوش الفرس قط مثل هذا العدد و لا قريبا منه. و أعظم ما كانت جموعهم بالقادسية مائة و عشرين ألفا، كلهم متبوع، على ما نقله «سيف». قال: و كانوا في أتباعهم أكثر من مائتي ألف. و عن عائشة، و الزهري: أن جموع رستم التي حفّ بهم سعد بالقادسية إنما كانوا ستين ألفا كلهم متبوع.

و أيضا: فلو بلغ بنو إسرائيل مثل هذا العدد، لاتّسع نطاق ملكهم، و انفسح مدى دولتهم، فإن العمالات و الممالك في الدول، على نسبة الحامية، و القبيل القائمين بها في قلّتها و كثرتها حسبما نبيّن ذلك في فصل الممالك من الكتاب الأوّل «1»، و القوم لم تتّسع

ممالكهم إلى غير الأردن، و فلسطين من الشام، و بلاد يثرب، و خيبر، من الحجاز، على ما هو المعروف.

و أيضا: فالذي بين موسى و إسرائيل، إن هو إلّا أربعة آباء، على ما ذكره المحققون، فإن موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث- بفتح الهاء و كسرها- بن

(1) يريد بالكتاب الأول من «مقدمته المشهورة» و قد قسمها إلى فصول.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 178

لاوى- بكسر الواو و فتحها- بن يعقوب و هو: إسرائيل، هكذا نسبه في التوراة.

و المدة بينهما على ما نقله المسعودي، قال: دخل إسرائيل مصر مع ولده الأسباط، و أولادهم، حين أتوا إلى يوسف سبعين نفسا، و كان مقامهم بمصر إلى أن خرجوا مع موسى عليه السّلام إلى التيه، مائتين و عشرين سنة، تتداولهم ملوك القبط من الفراعنة. و يبعد أن يتشعب النسل في أربعة أجيال إلى مثل هذا العدد!! و إن زعموا أن عدد تلك الجيوش إنما كان في زمن سليمان و من بعده، فبعيد أيضا؛ إذ ليس بين سليمان و إسرائيل إلّا أحد عشر أبا، و لا يتشعّب النسل في أحد عشر من الولد إلى هذا العدد الذي زعموه، اللّهم إلّا المئين و الآلاف، فربما يكون. و أما أن يتجاوز هذا إلى ما بعدهما من عقود الأعداد فبعيد، و اعتبر ذلك في الحاضر المشاهد، و القريب المعروف تجد زعمهم باطلا، و نقلهم كاذبا.

قال: و الذي ثبت في «الإسرائيليّات» أن جنود سليمان كانت اثني عشر ألفا خاصة، و أن مقرباته كانت ألفا، و أربعمائة فرس مرتبطة على أبوابه. هذا هو الصحيح من أخبارهم، و لا يلتفت إلى خرافات العامة منهم، و في أيام سليمان عليه السّلام، و ملكه كان

عنفوان دولتهم، و اتساع ملكهم «1».

و هذا الفصل من النفاسة بمكان؛ فلذلك حرصنا على ذكره؛ لأنه يفيدنا في رد الكثير من الإسرائيليّات التي وقعت فيها المغالط، و الأخبار الباطلة، و الخرافات التي كانت سائدة في العصور الأولى.

(1) مقدمة ابن خلدون، ص 9- 11.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 179

10- الإسرائيليات في: «المائدة التي طلبها الحواريّون»

و من الإسرائيليات التي ذكرها المفسرون عند تفسير قوله تعالى: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَ نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَ نَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا، وَ آخِرِنا وَ آيَةً مِنْكَ، وَ ارْزُقْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ «1».

و قد اختلف العلماء في المائدة، أنزلت أم لا؟ و جمهور العلماء- سلفا و خلفا- على نزولها. و هذا هو ظاهر القرآن، فقد وعد اللّه، و وعده محقّق لا محالة.

و ذهب الحسن و مجاهد إلى أنها لم تنزل؛ و ذلك لأن اللّه سبحانه لمّا توعّدهم على كفرهم، بعد نزولها بالعذاب البالغ غاية الحدّ، خافوا أن يكفر بعضهم، فاستعفوا، و قالوا: لا نريدها فلم تنزل، و لا ندري ما الحامل لهم على هذا؟!.

و قد أحيطت المائدة بأخبار كثيرة، أغلب الظن أنها من الإسرائيليّات، رويت عن وهب بن منبّه، و كعب، و سلمان، و ابن عباس، و مقاتل، و الكلبي، و عطاء و غيرهم، بل رووا في ذلك حديثا

عن عمّار بن ياسر عن

النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: «إنها نزلت خبزا و لحما، و أمروا أن لا يخونوا، و لا يدّخروا لغد»

. و

في رواية:

بزيادة «و لا يخبئوا، فخانوا و ادّخروا، و رفعوا لغد، فمسخوا قردة و خنازير».

و رفع مثل هذا إلى النبي غلط، و وهم من أحد الرواة على ما نرجح. فقد روى هذا ابن جرير في تفسيره مرفوعا، و موقوفا، و الموقوف أصح، و قد نص على أن

(1) المائدة/ 112- 115.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 180

المرفوع لا أصل له الإمام أبو عيسى الترمذي، فقال بعد أن روى الروايات المرفوعة: «هذا حديث قد رواه أبو عاصم و غير واحد، عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، عن خلاس عن عمار بن ياسر موقوفا، و لا نعرفه مرفوعا إلّا من حديث الحسن بن قزعة»، و بعد أن ذكر رواية موقوفة عن أبي هريرة، قال: «و هذا أصح من حديث الحسن بن قزعة، و لا نعرف للحديث المرفوع أصلا» «1».

و قد اختلفت المرويات في هذا، فروى العوفي عن ابن عباس: أنها خوان عليه خبز و سمك، يأكلون منه أينما نزلوا، إذا شاءوا. و قال عكرمة عن ابن عباس: كانت المائدة سمكة، و أريغفة «2». و قال سعيد بن جبير عن ابن عباس:

أنزل على المائدة كل شي ء إلا الخبز و اللحم.

و قال كعب الأحبار: نزلت المائدة تطير بها الملائكة بين السماء و الأرض، عليها كل الطعام إلّا اللحم.

و قال وهب بن منبّه: أنزلها من السماء على بني إسرائيل، فكان ينزل عليهم في كل يوم في تلك المائدة من ثمار الجنة، فأكلوا ما شاءوا من ضروب شتّى، فكان يقعد عليها أربعة آلاف، و

إذا أكلوا أنزل اللّه مكان ذلك لمثلهم، فلبثوا على ذلك ما شاء اللّه عزّ و جل.

و قال وهب أيضا: نزل عليهم أقرصة من شعير، و أحوات «3»، و حشا اللّه بين أضعافهن البركة، فكان قوم يأكلون، ثم يخرجون، ثم يجي ء آخرون فيأكلون، ثم يخرجون، حتى أكل جميعهم، و أفضلوا. و هكذا لم يتّفق الرواة على شي ء، مما

(1) سنن الترمذي، ج 4، ص 325.

(2) التصغير للتقليل هنا.

(3) أحوات: جمع حوت، في القاموس: الحوت: السمك، جمعه: أحوات، و حوتة، و حيتان.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 181

يدلّ على أنها إسرائيليات مبتدعة، و ليس مرجعها إلى المعصوم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الحق أبلج، و الباطل لجلج، لا يتّفق عليه غالبا.

و سنكتفي بذكر

الرواية الطويلة التي ذكرها ابن أبي حاتم، في تفسيره بسنده، عن وهب بن منبّه، عن أبي عثمان المهدي عن سلمان الفارسي- رضوان اللّه عليه- و خلاصتها: «أنّ الحواريين لما سألوا عيسى بن مريم عليه السّلام المائدة كره ذلك، خشية أن تنزل عليهم، فلا يؤمنوا بها؛ فيكون فيها هلاكهم. فلمّا أبوابها إلّا أن يدعو لهم اللّه لكي تنزل دعا اللّه، فاستجاب له، فأنزل اللّه تعالى سفرة حمراء بين غمامتين: غمامة فوقها، و غمامة تحتها، و هم ينظرون إليها في الهواء منقضة من السماء، تهوي إليهم، و عيسى عليه السّلام يبكي خوفا من الشرط الذي اتخذ عليهم فيها، فما زال يدعو حتى استقرّت السفرة بين يديه، و الحواريون حوله يجدون رائحة طيبة، لم يجدوا رائحة مثلها قط، و خرّ عيسى عليه السّلام و الحواريون سجّدا، شكرا للّه تعالى، و أقبل اليهود ينظرون إليهم، فرأوا ما يغمّهم ثم انصرفوا، فأقبل عيسى عليه

السّلام و من معه ينظرونها، فإذا هي مغطاة بمنديل، فقال عليه السّلام: من أجرؤنا على كشفه، و أوثقنا بنفسه، و أحسننا بلاء عند ربه، حتى نراها، و نحمد ربنا سبحانه و تعالى، و نأكل من رزقه الذي رزقنا؟ فقالوا: يا روح اللّه و كلمته، أنت أولى بذلك، فقام و استأنف و ضوءا جديدا، ثم دخل مصلّاه، فصلّى ركعات، ثم بكى طويلا، و دعا اللّه تعالى أن يأذن له في الكشف عنها، و يجعل له و لقومه فيها بركة و رزقا، ثم انصرف و جلس حول السفرة و تناول المنديل، و قال: بسم اللّه خير الرازقين، و كشف عنها، فإذا عليها سمكة ضخمة مشوية، ليس عليها بواسير «1»، و ليس في

(1) أي قشر، ففي رواية البغوي: ليس عليها فلوسها.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 182

جوفها شوك، يسيل السمن «1» منها، قد نضد حولها بقول من كل صنف غير الكرّاث، و عند رأسها خل، و عند ذنبها ملح، و حول البقول خمسة أرغفة على واحد منها زيتون، و على الآخر تمرات، و على الآخر خمس رمانات، و في رواية: على واحد منها زيتون، و على الثاني عسل، و على الثالث سمن، و على الرابع جبن، و على الخامس قديد «2». فقال شمعون- رأس الحواريين- لعيسى: يا روح اللّه و كلمته، أ من طعام الدنيا هذا، أم من طعام الجنة؟، فقال عيسى: أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الآيات، و تنتهوا عن تنقير المسائل؟! ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا في سبب نزول هذه الآية، فقال له شمعون: لا و إله إسرائيل ما أردت بهذا سؤالا «3» يا ابن الصدّيقة، فقال عيسى عليه السّلام:

ليس شي ء مما ترون من طعام الدنيا، و لا من طعام الجنّة، إنما هو شي ء ابتدعه اللّه في الهواء بالقدرة الغالبة القاهرة.

فقالوا: يا روح اللّه و كلمته، إنا نحبّ أن يرينا اللّه آية في هذه الآية، فقال عليه السّلام:

سبحان اللّه تعالى أما اكتفيتم؟! ثم قال: يا سمكة عودي بإذن اللّه تعالى حيّة كما كنت، فأحياها اللّه، و عادت حيّة طريّة. يا سمكة عودي بإذن اللّه تعالى كما كنت مشويّة، فعادت، ثم دعاهم إلى الأكل فامتنعوا، حتى يكون هو البادئ، فأبى، ثم دعا لها الفقراء و الزّمنى، و قال: كلوا من رزق ربكم، و دعوة نبيكم، و احمدوا اللّه تعالى الذي أنزلها لكم؛ فيكون مهنؤها لكم، و عقوبتها على غيركم، و افتتحوا أكلكم: باسم اللّه تعالى، و اختتموه: بحمد اللّه. ففعلوا، فأكل منها ألف و ثلاثمائة

(1) أي الدهن لسمنها.

(2) قديد: أي لحم مجفّف.

(3) لعل مراده سؤال تعنت؛ و أنهم لا يريدون بالسؤال أن يطعمهم اللّه من رزقه و خيره.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 183

إنسان: بين رجل و امرأة، يصدرون عنها كل واحد منها شبعان يتجشأ. و نظر عيسى و الحواريون، فإذا ما عليها كهيئته إذ نزلت من السماء، لم ينقص منها شي ء، ثم إنها رفعت إلى السماء و هم ينظرون، فاستغنى كل فقير أكل منها، و برئ كل من أكل منها، و ندم الحواريون و أصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة سالت منها أشفارهم، و بقيت حسرتها في قلوبهم، إلى يوم الممات «1».

و كانت المائدة إذا نزلت بعد ذلك أقبل إليها بنو إسرائيل يسعون من كل مكان، يزاحم بعضهم بعضا. فلما رأى ذلك، جعلها نوبا تنزل يوما و لا تنزل

يوما، و مكثوا على ذلك أربعين يوما، تنزل عليهم غبّا، عند ارتفاع النّهار، فلا تزال موضوعة يؤكل منها، حتى إذا قالوا «2» ارتفعت عنهم إلى جو السماء، و هم ينظرون إلى ظلها في الأرض، حتى تتوارى عنهم «3».

فأوحى اللّه تعالى إلى عيسى عليه السّلام: أن اجعل رزقي لليتامى، و المساكين، و الزّمنى دون الأغنياء من الناس. فلما فعل ذلك ارتاب بها الأغنياء، و غمصوا ذلك، حتى شكوا فيها في أنفسهم، و شككوا فيها الناس، و أذاعوا في أمرها القبيح، و المنكر، و أدرك الشيطان منهم حاجته، و قذف وساوسه في قلوب المرتابين. فلما علم عيسى ذلك منهم قال: هلكتم و إله المسيح، سألتم نبيكم أن يطلب المائدة لكم إلى ربكم، فلما فعل، و أنزلها عليكم رحمة و رزقا، و أراكم فيها الآيات و العبر، كذبتم بها، و شككتم فيها؛ فأبشروا بالعذاب، فإنه نازل بكم إلّا

(1) هذا مما يضعف القصة و يدل على الاختلاق، و إلّا فكيف يطلبونها، ثم يمتنعون عن الأكل؛ لأن عيسى لم يبدأ به؟

(2) من القيلولة: الراحة وسط النهار.

(3) القرآن الكريم يدل دلالة واضحة على أن المائدة لم تنزل إلّا مرة واحدة، و هذا يدل على تكرر نزولها، و هذا أيضا يدل على اختلاق تفاصيل القصة، و أنها من تزيّدات بني إسرائيل.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 184

أن يرحمكم اللّه تعالى. و أوحى اللّه تعالى إلى عيسى عليه السّلام: إنّي آخذ المكذّبين بشرطي، فإنّي معذّب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذابا لا أعذّبه أحدا من العالمين. فلما أمسى المرتابون بها، و أخذوا مضاجعهم في أحسن صورة مع نسائهم آمنين، فلما كان في آخر الليل مسخهم اللّه خنازير، فأصبحوا

يتبعون الأقذار في الكناسات.

قال ابن كثير في تفسيره بعد ذكره: «هذا أثر غريب «1» جدا قطعه ابن أبي حاتم في مواضع من هذه القصة، و قد جمعته أنا ليكون سياقة أتم، و أكمل، و اللّه سبحانه و تعالى أعلم».

و من هذه الروايات الغريبة دخل البلاء على الإسلام و المسلمين؛ لأن غالبها لا يصح، و لذا قال الإمام أحمد بن حنبل: «لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب فإنها مناكير، و عامّتها عن الضعفاء».

و قال الإمام مالك: «شرّ العلم الغريب، و خير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس».

و قال ابن المبارك: «العلم: الذي يجيئك من هاهنا و هاهنا» يعني المشهور الذي رواه الكثيرون. رواها البيهقي في المدخل، و روي عن الزهري أنه قال:

«ليس من العلم ما لا يعرف، إنما العلم ما عرف و تواطأت عليه الألسن» «2».

و العمدة أنّ أصل القصة ثابت بالقرآن الذي لا شكّ فيه، و إنما موضع الشك في كلّ هذه التزيّدات التي هي من الإسرائيليات.

(1) الغريب: ما تفرّد به رواته في كل السند أو بعضه، و منه الصحيح، و منه غير الصحيح و هو الغالب و الكثير.

(2) تدريب الراوي، ص 192.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 185

و قد ذكر المفسرون جميعا كل ما يدور حول قصّة المائدة، و إن اختلفوا في ذلك قلّة و كثرة «1». و العجب أن أحدا لم ينبّه على أصل هذه المرويات، و المنبع الذي نبعت منه، حتى ابن كثير و الآلوسي- و إن كان ابن كثير قد أشار من طرف خفيّ إلى عدم صحة معظم ما روي- و لعلهم اعتبروا ذلك مما يباح روايته، و يحتمل الصدق و الكذب، فذكروه من غير إنكار له؛ و

كان عليهم أن ينزّهوا التفسير عن هذا و أمثاله.

و قد شكك في القصة الطويلة التي اختصرناها أبو عبد اللّه محمد بن أحمد القرطبي، فقال: قلت: في هذا الحديث مقال، و لا يصح من قبل إسناده «2».

ثم عرض بعد لما روي مرفوعا، و موقوفا، و ذكر ما قاله الإمام أبو عيسى الترمذي: من أن الموقوف أصحّ، و أن المرفوع لا أصل له «3».

قال أبو شهبة: و لأجل أن نكون على بيّنة من أن تفسير الآيات، و الانتفاع بها، و الاهتداء بهديها ليس متوقّفا على ما رووا من أخبار، و قصص، نفسر لك الآيات

(1) انظر تفسير الطبري، ج 7، ص 78 و تفسير الدر المنثور، ج 2، ص 346 و تفسير الزمخشري، ج 1، ص 693 و 694 و التفسير الكبير، ج 12، ص 128- 134 و تفسير أبي السعود عند تفسير الآيات، ج 3، ص 96- 97، و تفسير ابن كثير، ج 2، ص 116- 119 و تفسير البغوي، ج 2، ص 78- 80 و الآلوسي، ج 7، ص 62- 65 و القرطبي، ج 6، ص 369- 372 إلا أنه قال: في هذا الحديث مقال، و لا يصح من قبل إسناده.

(2) تفسير القرطبي، ج 6، ص 372، ط الأولى.

(3) هذه العبارة تطلق عند بعض المحدثين على ما هو موضوع و ليس من شك في أن رفع هذا إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إن كان عمدا فهو كذب و اختلاق عليه، و إن كان غلطا و سهوا فهو ملحق بالوضع، كما نبه إليه أئمة علوم الحديث كابن الصلاح و غيره.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 186

تفسيرا صحيحا، كما

هو منهجنا في كل ما عرضنا له، فأقول و باللّه التوفيق:

قال اللّه تعالى: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ «1» إذ: ظرف لما مضى من الزمان، و هو مفعول لفعل محذوف، و التقدير: اذكر يا محمد ما حدث في هذا الزمن البعيد ليكون دليلا على صدق نبوتك، فما كنت معهم، و لا صاحبت أهل الكتاب، و لم تكن قارئا، و لا كاتبا.

الحواريّون: جمع حواريّ، و هم المخلصون الأصفياء من أتباع عيسى عليه السّلام و يطلق أيضا على الأصحاب المخلصين من أتباع الأنبياء.

المائدة: الخوان: الذي عليه الطعام، فإن لم يكن عليها طعام فهو خوان.

السماء: إما المعروفة أو المراد بها جهة العلوّ، فإنّها قد تطلق و يراد بها كل ما علا.

و ليس المراد بالاستفهام هو أصل الاستطاعة، و أنهم ما كانوا يعلمون هذا؛ لأن السائلين كانوا مؤمنين، عارفين، عالمين باللّه و صفاته، بل في أعلى درجات هذه الصفات. و إنما المراد بالسؤال: الإنزال بالفعل، من قبيل إطلاق السبب و إرادة المسبب، و المعنى: هل يجيبنا ربك- يا نبينا عيسى- إلى ذلك أم لا؟

و قال بعض العلماء: ليس ذلك بشك في الاستطاعة، و إنما هو تلطّف في السؤال، و أدب مع اللّه تعالى بهذه الصيغة المهذّبة، كقول الرجل لآخر: هل تستطيع أن تعتبني على كذا، و هو يعلم أنه يستطيع.

و أما قول من قال: إنه من قول من كان مع الحواريين، فبعيد لخروجه عن ظاهر الآية، و لا سيما أن تفسير الآية مستقيم غاية الاستقامة، على ما ذكرنا.

و هذا السؤال إما لفقرهم و حاجتهم، و إما لتعرف فضل نبيهم عيسى،

(1) المائدة/ 112.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص:

187

و فضلهم و كرامتهم عند ربهم.

و أما ما روي: أن عيسى أمرهم بصيام ثلاثين يوما، ثم ليسألوا ربهم ما يشاءون، فصاموا و سألوا، فلست منه على ثلج قالَ: اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.

ليس هذا شكا في إيمانهم، و إنما هو أسلوب معهود، حملا على التقوى، كما قال تعالى في حق المؤمنين الصادقين، من هذه الأمة المحمدية: وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «1»، و المعنى: اتقوا اللّه و لا تسألوه، فعسى أن يكون فتنة لكم، و توكّلوا على اللّه في طلب الرزق، أو اتقوا اللّه، و دعوا كثرة السؤال، فإنكم لا تدرون ما يحلّ بكم عند اقتراح الآيات؛ لأن اللّه سبحانه إنما يفعل الأصلح لعباده، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ من أهل الإيمان باللّه، و رسله، و لا سيما أنه سبحانه آتاكم من الآيات ما فيه غنية عن غيره قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها بدءوا بالغذاء المادّي، ثم ثنوا بالغذاء الروحي، فقالوا: وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا، و هو مثل قول الخليل إبراهيم عليه السّلام: وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي «2».

وَ نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا أي نزداد علما، و يقينا بصدقك، و حقيقة رسالتك وَ نَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ أي المقرّبين المعترفين للّه بالوحدانية، و لك بالنبوة و الرسالة، أو من الشاهدين عليها لمن لم يرها و يعاينها.

قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا «3».

العيد: يوم الفرح و السرور، لِأَوَّلِنا: لأول أمتنا وَ آخِرِنا: لآخر أمتنا،

(1) الأنفال/ 1.

(2) البقرة/ 260.

(3) المائدة/ 114.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 188

أو لنا، و لمن بعدنا.

وَ آيَةً مِنْكَ أي دليلا، و حجّة على قدرتك، على كل شي ء،

و على إجابتك لدعوتي، فيصدقوني فيما أبلغه عنك، وَ ارْزُقْنا أي من عندك رزقا هنيئا لا كلفة فيه، و لا تعب، وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أي خير من أعطى و رزق؛ لأنك الغنيّ الحميد.

قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ «1»، أي فَمَنْ يَكْفُرْ، أي يكذب بها من أمتك يا عيسى، و عاندها، فإني أعذّبه عذابا، لا أعذّبه أحدا من عالمي زمانكم. و هذا على سبيل الوعيد لهم، و التهديد. و ليس في الآية ما يدلّ على أنهم كفروا، و لا على أن غيرهم قد كفر بها، و لا على أنهم استعفوا من نزول المائدة، و إنما الذي دعا بعض المفسرين إلى هذه الأقوال، ما سمعت من الروايات الإسرائيلية، و ها نحن قد فسرنا الآيات تفسيرا علميا صحيحا من غير حاجة ما إلى ما روي، مما يدلّ دلالة قاطعة على أن مفسّر القرآن في غنية عن الإسرائيليات التي شوّهت جمال القرآن و جلاله.

11- الإسرائيليات في «سؤال موسى ربه الرؤية»

و من الإسرائيليات ما يذكره بعض المفسرين عند تفسير قوله تعالى: وَ لَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ، قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي، وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي، فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا، وَ خَرَّ

(1) المائدة/ 115.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 189

مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ «1»، فقد ذكر الثعلبي، و البغوي، و غيرهما عن وهب بن منبّه، و ابن إسحاق، قالا:

«لما سأل موسى ربه الرؤية أرسل اللّه الدّوابّ، و الصواعق، و الظلمة، و الرعد، و البرق و أحاط بالجبل الذي

عليه موسى أربعة فراسخ من كل جانب، و أمر اللّه ملائكة السماوات أن يعترضوا على موسى، فمرّت به ملائكة السماء الدنيا كثيران «2» البقر، تنبع أفواههم بالتسبيح و التقديس بأصوات عظيمة كصوت الرعد الشديد، ثم أمر اللّه ملائكة السماء الثانية أن اهبطوا على موسى، فاعترضوا عليه. فهبطوا عليه أمثال الأسود، لهم لجب «3» بالتسبيح و التقديس، ففزع العبد الضعيف (ابن عمران) مما رأى، و سمع، و اقشعرت كل شعرة في رأسه و جسده، ثم قال: لقد ندمت على مسألتي، فهل ينجيني من مكاني الذي أنا فيه؟

فقال له خير الملائكة «4» و رأسهم: يا موسى اصبر لما سألت، فقليل من كثير ما رأيت، ثم أمر ملائكة السماء الثالثة أن اهبطوا على موسى، فاعترضوا عليه.

فهبطوا أمثال النسور، لهم قصف، و رجف، و لجب شديد، و أفواههم تنبع بالتسبيح، و التقديس كجلب الجيش العظيم، ألوانهم كلهب النار. ففزع موسى، و اشتد فزعه، و أيس من الحياة، فقال له خير الملائكة: مكانك حتى ترى ما لا تصبر عليه.

ثم أمر اللّه ملائكة السماء الرابعة أن اهبطوا، فاعترضوا على موسى بن عمران.

(1) الأعراف/ 143.

(2) جمع ثور، و هذا من سوء أدب بني إسرائيل مع الملائكة.

(3) اللجب: تزاحم الأصوات. و يقال لصهيل الفرس ايضا.

(4) هو جبريل عليه السّلام.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 190

فهبطوا عليه، لا يشبههم شي ء من الذين مرّوا به قبلهم، ألوانهم كلهب النار، و سائر خلقهم كالثلج الأبيض، أصواتهم عالية بالتقديس و التسبيح، لا يقاربهم شي ء من أصوات الذين مرّوا به من قبلهم؛ فاصطكت ركبتاه، و ارتعد قلبه، و اشتد بكاؤه، فقال له خير الملائكة و رأسهم: يا ابن عمران اصبر لما سألت، فقليل

من كثير ما رأيت.

ثم أمر اللّه ملائكة السماء الخامسة أن اهبطوا، فاعترضوا على موسى.

فهبطوا عليه، لهم سبعة ألوان، فلم يستطع موسى أن يتبعهم بصره، لم ير مثلهم، و لم يسمع مثل أصواتهم؛ فامتلأ جوفه خوفا، و اشتد حزنه، و كثر بكاؤه، فقال له خير الملائكة و رأسهم: يا ابن عمران مكانك، حتى ترى بعض ما لا تصبر عليه.

ثم أمر اللّه ملائكة السماء السادسة أن اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه.

فهبطوا عليه في يد كل ملك منهم مثل النخلة الطويلة نارا أشد ضوءا من الشمس، و لباسهم كلهب النار، إذ سبّحوا و قدّسوا جاوبهم من كان قبلهم من ملائكة السماوات كلهم، يقولون بشدة أصواتهم: سبوح قدوس، رب الملائكة و الروح، رب العزة أبدا لا يموت. و في رأس كل ملك منهم أربعة أوجه. فلما رآهم موسى رفع صوته، يسبّح معهم حين سبّحوا، و هو يبكي و يقول: رب اذكرني و لا تنس عبدك، لا أدري أ أنفلت مما أنا فيه أم لا؟ إن خرجت احترقت، و إن مكثت مت، فقال له كبير الملائكة و رأسهم: قد أوشكت «1» يا ابن عمران أن يشتد خوفك، و ينخلع قلبك، فاصبر للذي سألت.

ثم أمر اللّه أن يحمل عرشه ملائكة السماء السابعة، فلما بدا نور العرش، انفرج

(1) لا أدري كيف يتفق هذا و ما ذكر من قبل من شدة خوفه و فزعه في المرات الخمس و هذا من أمارات التهافت.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 191

الجبل من عظمة الرب جلّ جلاله و رفعت ملائكة السماوات أصواتهم جميعا، يقولون: سبحان الملك القدوس، رب العزة أبدا لا يموت، بشدة أصواتهم. فارتج الجبل، و اندكت كل شجرة كانت فيه، و خرّ

العبد الضعيف موسى صعقا على وجهه، ليس معه روحه، فأرسل اللّه برحمته الروح، فتغشّاه، و قلب عليه الحجر الذي كان عليه موسى، و جعله كهيئة القبّة، لئلا يحترق موسى «1»، فأقام موسى يسبّح اللّه، و يقول: آمنت بك ربّي، و صدقت أنه لا يراك أحد، فيحيا، من نظر إلى ملائكتك انخلع قلبه، فما أعظمك و أعظم ملائكتك، أنت رب الأرباب و إله الآلهة و ملك الملوك، و لا يعدلك شي ء، و لا يقوم لك شي ء، رب تبت إليك، الحمد للّه لا شريك لك، ما أعظمك، و ما أجلّك رب العالمين، فذلك قوله تعالى:

فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا، و بعد أن ذكر الأقوال الكثيرة فيما تبدّى من نور اللّه، قال: و وقع في بعض التفاسير: طارت لعظمته ستة أجبل، وقعت ثلاثة بالمدينة: أحد، و ودقان، و رضوى، و وقعت ثلاثة بمكة: ثور، و ثبير، و حراء «2».

و هذه المرويات و أمثالها مما لا نشك أنها من إسرائيليات بني إسرائيل، و كذبهم على اللّه، و على الأنبياء، و على الملائكة، فلا تلق إليه بالا. و ليس تفسير الآية في حاجة إلى هذه المرويات، و الآية ظاهرة واضحة.

و من ذلك أيضا: ما ذكره الثعلبي، و البغوي، و الزمخشري في تفاسيرهم عند قوله تعالى: وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً أي مغشيّا عليه، و ليس المراد ميتا كما قال قتادة.

(1) و هذا تهافت آخر، و أمارة من أمارات الاختلاق؛ أ ليس اللّه بقادر على حمايته من غير الروح، و الحجر؟

(2) تفسير البغوي، ج 2، ص 195- 198.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 192

فقد قال البغوي، في بعض الكتب: إن ملائكة السماوات أتوا موسى و هو مغشيّ عليه،

فجعلوا يركلونه بأرجلهم، و يقولون: يا ابن النساء الحيض، أطمعت في رؤية رب العزة؟ «1»!! و ذكر مثل هذا الزمخشري في تفسيره «2».

و هذا و أمثاله مما لا نشك أنه من الإسرائيليات المكذوبة، و موقف بني إسرائيل من موسى، و من جميع أنبياء اللّه معروف، فهم يحاولون تنقيصهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

و قال الآلوسي في تفسيره: «و نقل بعض القصّاصين، أن الملائكة كانت تمرّ عليه حينئذ، فيلكزونه بأرجلهم، و يقولون: يا ابن النساء الحيض، أطمعت في رؤية ربّ العزّة؟» و هو كلام ساقط لا يعوّل عليه بوجه، فإن الملائكة عليهم السّلام مما يجب تبرئتهم من إهانة الكليم بالوكز بالرجل، و الغض في الخطاب «3».

12- الإسرائيليات في ألواح التوراة

و من الإسرائيليات ما ذكره الثعلبي و البغوي، و الزمخشري، و القرطبي و الآلوسي و غيرهم، عند تفسير قوله تعالى: وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ، وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ «4».

(1) تفسير البغوي، ج 2، ص 198.

(2) تفسير الكشّاف عند تفسير قوله تعالى: وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً، ج 2، ص 155.

(3) تفسير الآلوسي، ج 9، ص 46، ط منير.

(4) الأعراف/ 145.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 193

فقد ذكر في الألواح: مم هي؟ و ما عددها؟ أقوالا كثيرة عن بعض الصحابة و التابعين، و عن كعب و وهب، من أهل الكتاب الذين أسلموا، مما يشير إلى منبع هذه الروايات، و أنها من إسرائيليات بني إسرائيل، و فيها من المرويات ما يخالف المعقول و المنقول، و إليك ما ذكره البغوي في هذا، قال:

قوله تعالى: وَ كَتَبْنا لَهُ، يعني لموسى فِي الْأَلْواحِ، قال ابن عباس:

يريد

ألواح التوراة، و

في الحديث: «كانت من سدر الجنة، طول اللّوح اثنا عشر ذراعا»

، و جاء

في الحديث: «خلق اللّه آدم بيده، و كتب التوراة بيده، و غرس شجرة طوبى بيده» «1».

و قال الحسن: كانت الألواح من خشب، و قال الكلبي: كانت من زبرجدة خضراء.

و قال سعيد بن جبير: كانت من ياقوت أحمر، و قال الربيع: كانت الألواح من برد «2».

و قال ابن جريج: كانت من زمرد، أمر اللّه جبريل حتى جاء بها من عدن، و كتبها بالقلم الذي كتب به الذكر، و استمد من نهر النور!!.

و قال وهب: أمر اللّه بقطع الألواح من صخرة صماء، ليّنها اللّه له، فقطعها بيده، ثم شققها بيده، و سمع موسى صرير القلم بالكلمات العشر، و كان ذلك في أوّل

(1) لم يخرج البغوي- كما هي عادته- الحديثين و لم يبرز سندهما، و قد ذكر الآلوسي أن الحديث الأول رواه ابن أبي حاتم، و اختار القول به إن صح السند إليه، و أما الحديث الثاني فقال: إنه مرويّ عن عليّ، و عن ابن عمر، و عن غيرهما من التابعين (تفسير الآلوسي، ج 7، ص 57).

(2) الظاهر أنها بضم الباء و سكون الراء: الثوب المختط، و إلّا فلو كانت من يرد- بفتح الباء و الراء- حبات الثلج فكيف يكتب عليها؟.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 194

يوم من ذي القعدة، و كانت الألواح عشرة أذرع، على طول موسى!!.

و قال مقاتل و وهب: وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ: كنقش الخاتم.

و قال الربيع بن أنس: نزلت التوراة و هي سبعون وقر بعير، يقرأ الجزء منه في سنة، لم يقرأها إلّا أربعة نفر: موسى، و يوشع، و عزير، و عيسى «1».

فكل هذه الروايات

المتضاربة التي يردّ بعضها بعضا مما نحيل أن يكون مرجعها المعصوم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنما هي من إسرائيليات بني إسرائيل، حملها عنهم بعض الصحابة و التابعين بحسن نية، و ليس تفسير الآية متوقّفا على كل هذا الذي رووه. و من ذلك: ما يذكره بعض المفسرين في قوله تعالى: مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ، فقد جعلوا التوراة مشتملة على كلّ ما كان و كلّ ما يكون، و هذا مما لا يعقل، و لا يصدق، فمن ذلك: ما ذكره الآلوسي في تفسيره، قال: و ما أخرجه الطبراني، و البيهقي في «الدلائل» عن محمد بن يزيد الثقفي، قال: اصطحب قيس بن خرشة، و كعب الأحبار حتى إذا بلغا صفين، وقف كعب، ثم نظر ساعة، ثم قال: ليهراقن بهذه البقعة من دماء المسلمين شي ء لا يهراق ببقعة من الأرض مثله.

فقال قيس: ما يدريك؟ فإن هذا من الغيب الذي استأثر اللّه تعالى به؟!.

فقال كعب: ما من الأرض شبر إلّا مكتوب في التوراة التي أنزل اللّه تعالى على موسى، ما يكون عليه، و ما يخرج منه إلى يوم القيامة!!.

و هو من المبالغات التي روي أمثالها عن كعب و لا نصدّق ذلك، و لعلها من الكذب الذي لاحظه عليه، معاوية بن أبي سفيان على ما أسلفنا سابقا، و لا يعقل قط أن يكون في التوراة كل أحداث الدنيا إلى يوم القيامة.

(1) لا أدري كيف يقبل عقل أنها حمل سبعين بعيرا، و إذا لم يقرأها إلا أربعة، فلما ذا أنزلها اللّه؟.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 195

و المحققون من المفسرين سلفا و خلفا، على أن المراد أن فيها تفصيلا لكل شي ء، مما يحتاجون

إليه في الحلال و الحرام، و المحاسن و القبائح مما يلائم شريعة موسى و عصره، إلّا فقد جاء القرآن الكريم بأحكام و آداب، و أخلاق، لا توجد في التوراة قط.

و قد ساق الآلوسي هذا الخبر، للاستدلال به لمن يقول: إن كل شي ء عام، و كأنه استشعر بعده، فقال عقبه: «و لعل ذكر ذلك من باب الرمز، كما ندعيه في القرآن». «1»

و لا بد أن نقول للآلوسي و من لفّ لفّه: إنّ هذا مردود و غير مقبول، و نحن لا نسلم بأن في القرآن رموزا، و إشارات لأحداث، و إن قاله البعض، و الحق أحق أن يتبع.

13- إسرائيلية مكذوبة في سبب غضب موسى لما ألقى الألواح

و من الإسرائيليات ما رواه ابن جرير في تفسيره، و البغوي في تفسيره، و غيرهما، في سبب غضب سيدنا موسى عليه السّلام حتى ألقى الألواح من يديه؛ و ذلك في قوله تعالى: وَ لَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَ عَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ؟ وَ أَلْقَى الْأَلْواحَ «2» وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَ لا تَجْعَلْنِي

(1) تفسير الآلوسي، ج 9، ص 56 و 57، ط منير.

(2) طرحها و ألقى بها.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 196

مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ «1».

فقد روي عن قتادة أنه قال: نظر موسى في التوراة، فقال: ربّ إني أجد في الألواح أمّة خير أمّة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر، اجعلهم أمّتي. قال: تلك أمة أحمد، قال: رب إني أجد في الألواح أمّة هم الآخرون- أي آخرون في الخلق- سابقون في دخول الجنة، رب اجعلهم أمّتي، قال: تلك أمّة أحمد، قال:

رب إني أجد في الألواح أمّة أناجيلهم في صدورهم، يقرءونها، و كان من قبلهم يقرءون كتابهم نظرا، حتى إذا رفعوها، لم يحفظوا شيئا، و لم يعرفوه، و إن اللّه أعطاهم من الحفظ شيئا لم يعطه أحدا من الأمم، قال: رب اجعلهم أمّتي، قال: تلك أمّة أحمد، قال: رب إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول، و بالكتاب الآخر، و يقاتلون فصول الضلالة، حتى ليقاتلون الأعور الكذاب، فاجعلهم أمّتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: رب إني أجد في الألواح أمّة صدقاتهم يأكلونها في بطونهم و يؤجرون عليها، و كان من قبلهم إذا تصدّق بصدقة، فقبلت منه بعث اللّه نارا فأكلتها، و إن ردّت عليه تركت، فتأكلها السباع و الطير، و إن اللّه أخذ صدقاتهم من غنيهم لفقيرهم، قال: رب فاجعلهم أمّتي، قال: تلك أمّة أحمد، قال: رب إني أجد في الألواح أمّة، إذا هم أحدهم بحسنة ثم لم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر أمثالها إلى سبعمائة، رب اجعلهم أمّتي، قال: تلك أمّة أحمد، قال: رب إني أجد في الألواح أمّة هم المشفّعون، و المشفوع لهم، فاجعلهم أمّتي، قال: تلك أمة أحمد.

قال قتادة: فذكر لنا أن نبي اللّه موسى نبذ الألواح، و قال: اللّهم اجعلني من أمّة محمد.

(1) الأعراف/ 150.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 197

لا شكّ أنّ آثار الوضع و الاختلاق بادية عليه، و السند مطعون فيه، و هي أمور مأخوذة من القرآن، و الأحاديث، ثم صيغت هذه الصياغة المريبة، و جعلت على لسان موسى عليه السّلام و الظاهر المتعين أن إلقاء سيدنا موسى بالألواح إنما كان غضبا و حميّة لدين اللّه، و غيرة لانتهاك حرمة توحيد اللّه تبارك

و تعالى.

و إليك ما قاله ابن كثير في تفسيره «1»، قال: ثم ظاهر السياق أنه- أي سيدنا موسى- ألقى الألواح غضبا على قومه، و هذا قول جمهور العلماء سلفا و خلفا.

و روى ابن جرير عن قتادة في هذا قولا غريبا، لا يصح إسناده إلى حكاية قتادة.

و قد ردّه ابن عطية، و غير واحد من العلماء، و هو جدير بالردّ، و كأنه تلقّاه الناقل عن بعض أهل الكتاب، و فيهم كذّابون، و وضّاعون، و أفّاكون، و زنادقة.

و صدق ابن كثير فيما قال، و يرجّح أن يكون من وضع زنادقتهم كي يظهروا الأنبياء بمظهر المتحاسدين، لا بمظهر الإخوان المتحابّين.

و قال الإمام القرطبي عند تفسير قوله تعالى: وَ أَلْقَى الْأَلْواحَ أي مما اعتراه من الغضب و الأسف، حين أشرف على قومه، و هم عاكفون على عبادة العجل، و على أخيه في إهمال أمرهم، قاله سعيد بن جبير؛ و لذا قيل: «ليس الخبر كالمعاينة»، و لا التفات لما روي عن قتادة إن صح، و لا يصح، أن إلقاءه الألواح إنما كان لما رأى فيها من فضيلة أمة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لم يكن ذلك لأمته، و هذا قول ردي ء لا ينبغي أن يضاف إلى موسى عليه السّلام «2».

و مما يؤيد أنه من وضع بعض الإسرائيليّين الدهاة: أن نحوا من هذا المروي عن قتادة قد رواه الثعلبي و تلميذه البغوي عن كعب الأحبار، و لا خلاف إلّا في

(1) تفسير ابن كثير، ج 2، ص 248 و تفسير البغوى، ج 2، ص 202.

(2) تفسير القرطبي، ج 7، ص 288.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 198

تقديم بعض الفضائل و تأخير البعض الآخر، إلّا

أنه لم يذكر إلقاء الألواح في آخره:

«فلما عجب موسى من الخير الذي أعطى اللّه محمدا و أمته قال: يا ليتني من أصحاب محمد، فأوحى اللّه إليه ثلاث آيات يرضيه بهن: يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي إلى قوله: دارَ الْفاسِقِينَ: وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ «1» قال: فرضي موسى كل الرضاء.

14- إسرائيليات و خرافات في بني إسرائيل
اشارة

و من الإسرائيليات و الخرافات ما ذكره بعض المفسرين، عند تفسير قوله تعالى: وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ «2».

فقد ذكر ابن جرير في تفسير «3» هذه الآية خبرا عجيبا، فقال: حدثنا القاسم، قال: حدثنا حجاج عن ابن جريج قوله: وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ.

قال: بلغني أن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم، و كفروا، و كانوا اثني عشر سبطا، تبرأ سبط منهم مما صنعوا، و اعتذروا و سألوا اللّه عزّ و جل أن يفرّق بينهم، و بينهم، ففتح اللّه لهم نفقا في الأرض، فساروا، حتى خرجوا من وراء الصين، فهم هنالك حنفاء مسلمون، يستقبلون قبلتنا.

(1) الأعراف/ 144 و 145 و 159.

(2) الأعراف/ 159.

(3) تفسير الطبري، ج 9، ص 60.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 199

قال ابن جريج: قال ابن عباس: فذلك قوله: وَ قُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً «1».

و وعد الآخرة: عيسى بن مريم.

قال ابن جريج: قال ابن عباس: ساروا في السرب سنة و نصفا، و قال ابن عيينة، عن صدقة، عن أبي الهذيل، عن السدّي: وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ «2» قال: قوم بينكم و بينهم نهر

من شهد، و قد وصف ابن كثير ما رواه ابن جرير: بأنه خبر عجيب!! و

قال البغوي في تفسيره «3»: قال الكلبي، و الضحاك و الربيع: هم قوم خلف الصين، بأقصى الشرق، على نهر مجرى الرمل، يسمّى نهر أردن، ليس لأحد منهم مال دون صاحبه، يمطرون بالليل، و يسقون بالنهار، و يزرعون، لا يصل إليهم منا أحد، و هم على دين الحق، و ذكر: أن جبريل عليه السّلام ذهب بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليلة أسري به إليهم، فكلّمهم، فقال لهم جبريل: هل تعرفون من تكلّمون؟ قالوا: لا، فقال لهم: هذا محمد النبيّ الأميّ، فآمنوا به، فقالوا: يا رسول اللّه، إن موسى أوصانا أن من أدرك منكم أحمد، فليقرأ عليه منّي السلام، فردّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على موسى و عليهم، ثم أقرأهم عشر سور من القرآن نزلت بمكة، و أمرهم بالصلاة و الزكاة، و أمرهم أن يقيموا مكانهم، و كانوا يسبتون «4»، فأمرهم أن يجمعوا، و يتركوا السبت.

و قيل: هم الذين أسلموا من اليهود في زمن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأول أصح!!

(1) بني إسرائيل/ 104.

(2) الأعراف/ 159.

(3) تفسير البغوي، ج 2، ص 206.

(4) أي يعظمون السبت كاليهود.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 200

و هي من خرافات بني إسرائيل و لا محالة، و العجب من البغوي أن يجعل هذه الأكاذيب أصحّ من القول الآخر الذي هو أجدر بالقبول و أولى بالصحة، و نحن لا نشك في أن ابن جريج و غيره ممن رووا ذلك، إنما أخذوه عن أهل الكتاب الذين أسلموا، و لا يمكن أبدا أن يكون متلقّيا عن

المعصوم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قال الآلوسي، بعد ذكر ما ذكرناه: «و ضعّف هذه الحكاية ابن الخازن، و أنا لا أراها شيئا، و أظنك لا تجد لها سندا يعول عليه و لو ابتغيت نفقا في الأرض، أو سلّما في السماء» «1».

التفسير الصحيح للآية

و الذي يترجّح عندنا: أن المراد بهم أناس من قوم موسى عليه السّلام اهتدوا إلى الحق، و دعوا الناس إليه، و بالحق يعدلون فيما يعرض لهم من الأحكام و القضايا، و أنّ هؤلاء الناس وجدوا في عهد موسى، و بعده، بل و في عهد نبينا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد بيّن اللّه تبارك و تعالى بهذا: أن اليهود و إن كانت الكثرة الكاثرة فيهم تجحد الحق و تنكره، و تجور في الأحكام، و تعادي الأنبياء، و تقتل بعضهم، و تكذب البعض الآخر، و فيهم من شكاسة الأخلاق و الطباع، ما فيهم، فهنالك أمة كثيرة منهم: يهدون بالحق، و به يعدلون، فهم لا يتأبّون عن الحق، ففيه شهادة و تزكية لهؤلاء، و تعريض بالكثرة الغالبة منهم، التي ليست كذلك، و التي جحدت نبوة نبينا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيمن جحدها من طوائف البشر، و ناصبته العداوة و البغضاء، و هو ما يشعر به قوله سبحانه قبل: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ كَلِماتِهِ وَ اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ

(1) تفسير الآلوسي، ج 9، ص 84 و 85.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 201

تَهْتَدُونَ «1»، و بذلك تظهر المناسبة

بين هذه الآية و التي قبلها مباشرة، و الآيات التي قبل ذلك.

أما ما ذكروه فليس هناك ما يشهد له من عقل، و لا نقل صحيح، بل هو يخالف الواقع الملموس، و المشاهد المتيقن، و قد أصبحت الصين و ما وراءها معلوما كل شبر فيها، فأين هم؟، ثم ما هذا النهر من الشهد؟! و ما هذا النهر من الرمل؟! و أين هما؟! ثم أي فائدة تعود على الإسلام و المسلمين من التمسّك بهذه الروايات التي لا خطام لها، و لا زمام؟!، و ما ذا يكون موقف الداعية إلى الإسلام في هذا العصر الذي نعيش فيه، إذا انتصر لمثل هذه المرويات الخرافية الباطلة؟! إن هذه الروايات لو صحت أسانيدها لكان لها بسبب مخالفتها للمعقول، و المشاهد الملموس ما يجعلنا في حلّ من عدم قبولها، فكيف و أسانيدها ضعيفة واهية؟! و قد نبّهنا غير مرة أن كونها صحيحة السند فرضا لا ينافي كونها من الإسرائيليات.

15- الإسرائيليات في نسبة الشرك إلى آدم و حواء
اشارة

و من الروايات التي لا تصحّ، و مرجعها إلى الإسرائيليات ما ذكره بعض المفسرين عند تفسير قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها «2» فَلَمَّا تَغَشَّاها «3» حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ

(1) الأعراف/ 158.

(2) ليجد فيها سكن النفس و طمأنينة القلب.

(3) أي: باشرها كما باشر الرجل زوجته.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 202

فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ «1».

و هذه الآية تعتبر من أشكل آيات القرآن الكريم؛ لأن ظاهرها يدل على نسبة الشرك لآدم و حواء، و ذلك على ما ذهب إليه جمهور المفسرين:

من أن المراد بالنفس الواحدة: نفس آدم عليه السّلام و بقوله: وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها حواء. و قد أوّل العلماء المحققون الآية تأويلا يتّفق و عصمة الأنبياء في عدم جواز إسناد الشرك إليهم عليهم السّلام كما سنبين ذلك.

الحديث المرفوع، و الآثار الواردة في هذا

و قد زاد الطين بلة ما ورد من الحديث المرفوع، و بعض الآثار عن بعض الصحابة و التابعين، في تفسير قوله تعالى: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ.

و قد اغترّ بهذه الروايات كثير من المفسرين، كابن جرير «2»، و الثعلبي، و البغوي «3» و القرطبي «4»، و إن كان قد ضعف الروايات، و لم تركن نفسه إليها، و اعتبرها من الإسرائيليات، و صاحب «الدر المنثور» «5».

و العجيب أن مفسرا معروفا له في ردّ الموضوعات و الإسرائيليات يد طولى، و هو الآلوسي قد انخدع بهذه المرويات، فقال: «و هذه الآية عندي من

(1) الأعراف/ 189 و 190.

(2) تفسير الطبرى، ج 9، ص 97.

(3) تفسير البغوي، ج 2، ص 221.

(4) تفسير القرطبي، ج 7، ص 338 و 339.

(5) الدر المنثور، ج 3، ص 151.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 203

المشكلات، و للعلماء فيها كلام طويل، و نزاع عريض، و ما ذكرناه هو الذي يشير إليه الجبائي، و هو مما لا بأس به بعد إغضاء العين عن مخالفته للمرويات».

ثم قال: «و قد يقال: أخرج ابن جرير عن الحبر: أن الآية نزلت في تسمية آدم، و حواء و لديهما بعبد الحارث، و مثل ذلك لا يكاد يقال من قبل الرأي، و هو ظاهر في كون الخبر تفسيرا للآية. و أنت قد علمت أنه إذا صح الحديث فهو مذهبي، و أراه قد صحّ،

و لذلك أحجم كميت قلمي عن الجري، في ميدان التأويل، كما جرى غيره، و اللّه تعالى الموفق للصواب» «1».

و بعض المفسرين أعرض عن ذكر هذه المرويات، و ذلك كما صنع صاحب «الكشاف»، و تابعه النسفي.

و بعض المفسرين عرض لها، ثم بيّن عدم ارتضائه لها، و ذلك كما صنع القرطبي في تفسيره، فقال: و نحو هذا مذكور في ضعيف الحديث، و في الترمذي و غيره، و في الإسرائيليات كثير ليس لها إثبات، فلا يعول عليها من له قلب، فإن آدم و حواء، و إن غرّهما باللّه الغرور،

فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين

، على أنه قد سطر، و كتب، قال:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «خدعهما مرتين: خدعهما في الجنة، و خدعهما في الأرض» «2».

و لكن فارس هذه الحلبة و هو ابن كثير، فقد نقد المرويات نقدا علميا أصيلا، على مناهج المحدّثين و طريقتهم في نقد الرواة، و بيّن أصل هذه المرويات، و أن مرجعها إلى الإسرائيليات.

(1) تفسير الآلوسي، ج 9، ص 139 و 142.

(2) تفسير القرطبي، ج 7، ص 338.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 204

و لنذكر كلام ابن كثير بنصّه، و بطوله لنفاسته، و شدّة الحاجة إليه في هذا المقام، قال: يذكر المفسرون هاهنا آثارا، و أحاديث، سأوردها و أبيّن ما فيها، ثم نتبع ذلك ببيان الصحيح في ذلك- إن شاء اللّه- و به الثقة.

قال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا عبد الصمد (قال) «1»: حدثنا عمر بن إبراهيم، (قال): حدثنا قتادة، عن الحسن، عن سمرة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و لما ولدت حواء طاف بها إبليس، و كان لا يعيش لها

ولد، فقال: سمّيه عبد الحارث، فإنه يعيش، فسمته عبد الحارث، فعاش، و كان ذلك من وحي الشيطان و أمره»، و هكذا رواه ابن جرير عن محمد بن بشار بندار، عن عبد الصمد ابن عبد الوارث به «2»، و رواه الترمذي في تفسير هذه الآية، عن محمد بن المثنى، عن عبد الصمد ، به، و قال: هذا حديث حسن غريب- يعني انفرد به- راويه لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم، و رواه بعضهم عن عبد الصمد، و لم يرفعه، يعني لم ينسبه إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و رواه الحاكم في مستدركه، من حديث عبد الصمد مرفوعا، ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد «3»، و لم يخرجاه، و رواه الإمام أبو محمد، ابن أبي حاتم، في تفسيره، عن أبي زرعة الرازي، عن هلال بن فياض، عن عمر بن إبراهيم به- أي ببقية السند- مرفوعا، و كذا رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه، في تفسيره، من حديث شاذ بن فياض، عن عمر بن إبراهيم مرفوعا.

(1) جرت عادة المحدثين أن يحذفوا من الأسانيد لفظ (قال) خطّا، و لكنهم ينطقون بها عند الرواية، و قد ذكرناها خطّا حتى لا يشكل الأمر على قارئ السند.

(2) يعني ببقية السند المذكور أولا.

(3) أى صحيح الإسناد على شرط البخاري و مسلم.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 205

قلت:- أي ابن كثير- و شاذ هو: هلال، و شاذ لقبه.

و الغرض: أن هذا الحديث معلول من ثلاثة أوجه:

أحدها: أن عمر بن إبراهيم هذا هو البصري، و قد وثّقه ابن معين، و قال أبو حاتم الرازي: لا يحتج به، و لكن رواه ابن مردويه من حديث المعتمر، عن

أبيه، عن الحسن، عن سمرة مرفوعا.

الثاني: أنه قد روى من قول سمرة نفسه، ليس مرفوعا، كما قال ابن جرير:

حدثنا ابن عبد الأعلى، (قال): حدثنا المعتمر عن أبيه، (قال): حدثنا بكر بن عبد اللّه، عن سليمان التيمي، عن أبي العلاء بن الشخير عن سمرة بن جندب، قال:

«سمى آدم ابنه عبد الحارث».

و الثالث: أن الحسن نفسه فسر الآية بغير هذا، فلو كان هذا عنده عن سمرة مرفوعا لما عدل عنه، قال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع (قال): حدثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما، قال: كان هذا في بعض أهل الملل، و لم يكن بآدم. و حدثنا «1» محمد بن عبد الأعلى: (قال):

حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال: قال الحسن: عنى بها ذرية آدم، و من أشرك منهم بعده، يعني: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما. و حدثنا «2» بشر (قال): حدثنا يزيد، (قال): حدثنا سعيد عن قتادة، قال: كان الحسن يقول: هم اليهود و النصارى، رزقهم اللّه أولادا، فهوّدوا و نصّروا «3».

(1) القائل: و حدثنا هو ابن جرير.

(2) راجع الهامش السابق.

(3) فيه إشارة إلى

قوله صلّى اللّه عليه و آله «ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه، أو يمجسانه» رواه البخاري و مسلم ، و ما روي عن الحسن- رضي اللّه عنه- ليس اختلاف تضاد و إنما هو اختلاف تغاير في اللفظ، و المدلول واحد أو متقارب.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 206

و قال ابن كثير: و هذه أسانيد صحيحة عن الحسن رضي اللّه عنه أنه فسر الآية بذلك، و هو من أحسن التفاسير، و أولى ما حملت عليه الآية، و

لو كان هذا الحديث عنده محفوظا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما عدل عنه هو، و لا غيره، و لا سيما مع تقواه للّه، و ورعه.

فهذا يدلّك على أنه موقوف على الصحابي، و يحتمل أنه تلقاه من بعض أهل الكتاب: من آمن منهم مثل كعب، أو وهب بن منبه و غيرهما، كما سيأتي بيانه، إلا أننا برئنا من عهدة المرفوع، و اللّه أعلم «1».

فأما الآثار فقال محمد بن إسحاق بن سيار، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: «كانت حواء تلد لآدم عليه السّلام أولادا فيعبّدهم للّه، و يسميهم عبد اللّه، و عبيد اللّه و نحو ذلك، فيصيبهم الموت، فأتاهما إبليس، فقال:

إنكما لو سميتماه بغير الذي تسميانه به لعاش، قال: فولدت له رجلا، فسماه عبد الحارث، ففيه أنزل اللّه يقول: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ إلى آخر الآية، و قال العوفي عن ابن عباس، قوله في آدم: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، إلى قوله: فَمَرَّتْ بِهِ: شكّت أحملت أم لا؟ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما، الآية، فأتاهما الشيطان، فقال: هل تدريان ما يولد لكما؟ أم هل تدريان ما يكون أ بهيمة، أم لا؟، و زيّن لهما الباطل، إنه غوى مبين، و قد كانت قبل ذلك ولدت ولدين، فماتا، فقال لهما الشيطان: إنكما إن لم تسمياه بي، لم يخرج سويا، و مات كما مات الأول، فسميا ولدهما عبد الحارث، فذلك قوله: فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما الآية.

و قال عبد اللّه بن المبارك، عن شريك، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن

(1) تفسير ابن كثير، ج 2، ص 275 و تفسير البغوي،

ج 2، ص 221 و 222.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 207

ابن عباس في قوله تعالى: فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما قال اللّه تعالى: فَلَمَّا تَغَشَّاها آدم (حملت)، أتاهما إبليس- لعنه اللّه- فقال: إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنّة، لتطيعاني، أو لأجعلنّ له قرني أيّل «1»، فيخرج من بطنك، فيشقه، و لأفعلن، و لأفعلن، يخوّفهما، فسمّياه «2» عبد الحارث، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتا، ثم حملت، يعني الثانية فأتاهما، فقال لهما مثل الأول، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتا، ثم حملت الثالثة، فأتاهما أيضا فذكر لهما، فأدركهما حب الولد، فسمّياه عبد الحارث، فذلك قوله تعالى: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما. رواه ابن أبي حاتم.

و قد نسب هذا الأثر إلى ابن عباس و جماعة من أصحابه: كمجاهد، و سعيد بن جبير، و عكرمة. و من الطبقة الثانية: قتادة، و السدّي، و غير واحد من السلف، و جماعة من الخلف. و من المفسرين من المتأخرين: جماعات لا يحصون كثرة. و كأنّ أصله مأخوذ من أهل الكتاب؛ فإنّهم رووا عن ابن عباس عن أبي بن كعب، كما رواه ابن أبي حاتم، قال: حدثنا أبي، (قال): حدثنا أبو الجماهر، (قال): حدثنا سعيد- يعني ابن بشير- عن عقبة، عن قتادة، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، قال:

لمّا حملت حواء أتاها الشيطان، فقال لها: أ تطيعيني و يسلم لك ولدك؟ سمّيه عبد الحارث، فلم تفعل فولدت، فمات، ثم حملت، فقال لها مثل ذلك، فلم تفعل، ثم حملت الثالثة، فجاءها فقال: إن تطيعيني يسلم، و إلّا فإنه يكون بهيمة، فهيّبهما، فأطاعا.

(1) الأيّل بضم الهمزة و كسرها، و الياء فيها مشددة مفتوحة: ذكر الأوعال، و هو

التيس الجبلي.

(2) بصيغة الأمر.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 208

قال: و هذه الآثار يظهر عليها- و اللّه أعلم- أنها من آثار أهل الكتاب. ثمّ بيّن أن أخبار أهل الكتاب على ثلاثة أقسام:

1. فمنها: ما علمنا صحته مما بأيدينا من كتاب أو سنة.

2. و منها: ما علمنا كذبه بما دلّ على خلافه من الكتاب و السنة أيضا.

3. و منها: ما هو مسكوت عنه، فهو المأذون في روايته

بقوله عليه السّلام: «حدّثوا عن بني إسرائيل و لا حرج» «1» ، و هو الذي لا يصدق، و لا يكذب، قال: و هذا الأثر من الثاني أو الثالث، فيه نظر «2».

قال: فأما من حدّث به من صحابي أو تابعي، فإنه يراه من القسم الثالث- يعني ما يحتمل الصدق و الكذب- و أما نحن فعلى مذهب الحسن البصري في هذا، و أنه ليس المراد من هذا السياق: آدم و حواء، و إنما المراد من ذلك: المشركون من ذريته؛ و لهذا قال اللّه تعالى: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ «3» فذكر آدم و حواء أوّلا كالتوطئة لما بعدهما من الوالدين، و هو كالاستطراد من الشخص إلى الجنس. و هذا الذي ذهب إليه ابن كثير في تخريج الحديث و الآثار، هو الذي يجب أن يصار إليه، و هو الذي ندين اللّه عليه، و لا سيما أن التفسير الحق للآيتين لا يتوقّف على شي ء مما روي.

و المحققون من المفسرين؛ منهم من نحا منحى ابن كثير، فجعل الآية الأولى

(1) قد تكلّمنا عن هذا الحديث، و أنه من ضرب الأمثال، كناية عن توسّعهم في الفساد و العيث في البلاد.

(2) لا موضع لهذا الترديد، بعد وضوح كونه أثرا مكذوبا محضا، حيث الأنبياء

معصومون لا يحتمل بشأنهم شائبة شرك باللّه العظيم!

(3) تفسير ابن كثير، ج 2، ص 275 و تفسير البغوي، ج 2، ص 221، ط المنار.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 209

في آدم و حواء، و جعل قوله: فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً الآية في المشركين من ذرّيتهما، أي جعلا أولادهما شركاء للّه فيما آتاهما، و المراد بهم: الجنس، أي جنس الذكر و الأنثى، فمن ثم حسن قوله: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ بالجمع، و يكون هذا الكلام من الموصول لفظا المفصول معنى. و منهم من جعل الآيتين في ذرية آدم و حواء، أي خلقكم من نفس واحدة، و هي نفس الذكر، و جعل منها، أي من جنسها زوجها، و هي الأنثى، فلما آتاهما صالحا، أي بشرا سويّا كاملا، جعلا أي الزوجان الكافران للّه شركاء فيما آتاهما؛ و بذلك أبد لا شكر اللّه كفرانا به و جحودا، و على هذا لا يكون لآدم و حواء ذكر ما في الآيتين. و هنالك تفاسير أخرى، لسنا منها على ثلج، و لا طمأنينة «1».

16- الإسرائيليات في سفينة نوح

و من الإسرائيليّات التي اشتملت عليها بعض كتب التفسير، كتفسير ابن جرير، و «الدر المنثور»، و غيرهما ما روي في سفينة نوح عليه السّلام فقد أحاطوها بهالة من العجائب و الغرائب، من أي خشب صنعت؟ و ما طولها؟ و ما عرضها؟ و ما ارتفاعها؟، و كيف كانت طبقاتها؟ و ذكروا خرافات في خلقة بعض الحيوانات من الأخرى، و قد بلغ ببعض الرواة أنهم نسبوا بعض هذا إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،

قال صاحب «الدر»: و أخرج أبو الشيخ، و ابن مردويه، عن ابن عباس رحمهما اللّه عن

(1) انظر تفاسير الكشّاف، ج 2،

ص 186 و 187 و الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج 7، ص 337 و تفسير أبي السعود، ج 3، ص 302- 304. و روح المعانى للآلوسي، ج 9، ص 137- 142. و التبيان، ج 5، ص 50 و مجمع البيان، ج 4، ص 780، و غيرها.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 210

النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «كانت سفينة نوح عليه السّلام لها أجنحة، و تحت الأجنحة إيوان»،

أقول: قبّح اللّه من نسب مثل هذا إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و

أخرج ابن مردويه عن سمرة بن جندب رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «سام أبو العرب، و حام أبو الحبش، و يافث أبو الروم»

و ذكر: أن طول السفينة كان ثلاثمائة ذراع، و عرضها خمسون ذراعا، و طولها في السماء ثلاثون ذراعا، و بابها في عرضها، ثم ذكر عن ابن عباس مثل ذلك: في طولها، و ارتفاعها، ثم قال:

و أخرج إسحاق بن بشر، و ابن عساكر، عن ابن عباس: «أن نوحا لما أمر أن يصنع الفلك، قال: يا رب، و أين الخشب؟، قال: اغرس الشجر، فغرس الساج عشرين سنة، إلى أن قال: فجعل السفينة ستمائة ذراع طولها، و ستين ذراعا في الأرض- يعني عمقها-، و عرضها ثلاثمائة و ثلاثة و ثلاثون «1» و أمر أن يطليها بالقار «2»، و لم يكن في الأرض قار، ففجر اللّه له عين القار؛ حيث تنحت السفينة، تغلي غليانا، حتى طلاها، فلما فرغ منها جعل لها ثلاثة أبواب، و أطبقها، و حمل فيها السباع، و الدواب، فألقى اللّه على الأسد الحمّى، و شغله بنفسه عن الدواب، و

جعل الوحش و الطير في الباب الثاني، ثم أطبق عليهما.

و أخرج ابن جرير، و أبو الشيخ عن الحسن، قال: «كان طول سفينة نوح عليه السّلام ألف ذراع و مائتي ذراع، و عرضها ستمائة ذراع» و إليك ما ذكره بعد هذا من العجب العجاب، قال:

و أخرج ابن جرير، عن ابن عباس رحمهما اللّه قال: قال الحواريون لعيسى بن

(1) لا ندري بأي رواية نصدق، أ برواية ابن عباس هذه، أم بالسابقة، و هذا الاضطراب أمارة الاختلاق ممن وضعوها أوّلا، و أسندوها إلى ابن عباس و غيره.

(2) في القاموس: القير، و القار: شي ء أسود تطلى به الإبل، أو هو: الزفت.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 211

مريم عليهما السّلام لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة، فحدّثنا عنها. فانطلق بهم، حتى انتهى إلى كثيب من تراب، فأخذ كفا من ذلك التراب، قال: أ تدرون ما هذا؟ قالوا: اللّه و رسوله أعلم، قال: هذا كعب حام بن نوح، فضرب الكثيب بعصاه، قال: قم بإذن اللّه، فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه، قد شاب، قال له عيسى عليه السّلام: هكذا هلكت؟!، قال: لا، مت و أنا شاب، و لكنّني ظننت أنها الساعة، فمن ثم شبت، قال: حدّثنا عن سفينة نوح، قال: كان طولها ألف ذراع، و مائتي ذراع، و عرضها ستمائة ذراع، كانت ثلاث طبقات، فطبقة فيها الدواب و الوحش، و طبقة فيها الإنس، و طبقة فيها الطير. فلما كثر أرواث الدواب أوحى اللّه إلى نوح: أن اغمز ذنب الفيل، فغمزه، فوقع منه خنزير و خنزيرة!!، فأقبلا على الروث، فلما وقع الفأر جعل يخرّب السفينة بقرضه أوحى اللّه إلى نوح: أن اضرب بين عيني الأسد، فخرج من

منخره سنور و سنورة، فأقبلا على الفأر فأكلاه.

و في رواية أخرى: أن الأسد عطس، فخرج من منخره سنوران، ذكر و أنثى، فأكلا الفأر، و أن الفيل عطس، فخرج من منخره خنزيران، ذكر و أنثى، فأكلا أذي السفينة. و أنه لما أراد الحمار أن يدخل السفينة أخذ نوح بأذني الحمار، و أخذ إبليس بذنبه، فجعل نوح عليه السّلام يجذبه، و جعل إبليس يجذبه، فقال نوح: ادخل شيطان- و يريد به الحمار- فدخل الحمار، و دخل معه إبليس. فلما سارت السفينة جلس إبليس في أذنابها يتغنّى، فقال له نوح عليه السّلام: ويلك من أذن لك؟! قال: أنت!! قال: متى؟! قال: أن قلت للحمار: ادخل يا شيطان، فدخلت بإذنك.

و زعموا أيضا: أن الماعز لما استصعبت على نوح أن تدخل السفينة فدفعها في ذنبها، فمن ثم انكسر، و بدا حياها، و مضت النعجة فدخلت من غير معاكسة، فمسح على ذنبها، فستر اللّه حياها- يعني فرجها- و زعموا أيضا: أن سفينة نوح عليه السّلام طافت بالبيت أسبوعا، بل

رووا عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 212

أبيه، عن جده، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إن سفينة نوح طافت بالبيت سبعا، و صلّت عند المقام ركعتين»!!

و هذا من تفاهات عبد الرحمن هذا، و

قد ثبت عنه من طرق أخرى، نقلها صاحب التهذيب (ج 6، ص 179) عن الساجي، عن الربيع، عن الشافعي، قال: «قيل لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: حدّثك أبوك عن جدك؛ أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إن سفينة نوح طافت بالبيت، و صلّت خلف المقام ركعتين؟»!! قال: نعم،

و قد عرف عبد

الرحمن بمثل هذه العجائب المخالفة للعقل، و تندر به العلماء.

قال الشافعي فيما نقل في «التهذيب» أيضا: «ذكر رجل لمالك حديثا منقطعا، فقال: اذهب إلى عبد الرحمن بن زيد يحدّثك عن أبيه، عن نوح»! و أن لمّا رست السفينة على الجوديّ و كان يوم عاشوراء صام نوح، و أمر جميع من معه من الوحش و الدواب فصاموا شكرا للّه، إلى غير ذلك من التخريفات و الأباطيل «1» التي لا نزال نسمعها، و أمثالها من العوامّ و العجائز، و هذا لا يمكن أن يمتّ إلى الإسلام بصلة، و إنا لننزّه المعصوم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من أن يصدر عنه ما نسبوه إليه، و إنما هي أحاديث خرافة اختلقها اليهود و أضرابهم على توالي العصور، و كانت شائعة مشهورة في الجاهلية، فلما جاء الإسلام نشرها أهل الكتاب الذين أسلموا بين المسلمين، و أوغل زنادقة اليهود و أمثالهم في الكيد للإسلام و نبيّه، فزوّروا بعضها على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ما كنا نحب لابن جرير، و لا للسيوطي، و لا لغيرهما أن يسوّدوا صحائف كتبهم بهذه الخرافات و الأباطيل.

فاحذر منها أيها القارئ في أي كتاب من كتب التفسير وجدتها، و ألق بها دبر أذنيك، و كن عن الحق منافحا و للباطل مزيّفا.

(1) تفسير الطبري، ج 12، ص 21- 29، و الدر المنثور، ج 3، ص 327- 335.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 213

17- الإسرائيليات في قصة يوسف عليه السّلام

و قد وردت في قصة يوسف عليه السّلام إسرائيليات و مرويّات مختلقة مكذوبة، فمن ذلك ما أخرجه ابن جرير في تفسيره، و السيوطي في «الدر المنثور» و غيرهما، في قوله تعالى: إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا

أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً، وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «1».

قال السيوطي: و أخرج سعيد بن منصور، و البزار، و أبو يعلى، و ابن جرير، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم، و العقيلي و ابن حبان في «الضعفاء»، و أبو الشيخ، و الحاكم و صححه «2»، و ابن مردويه، و أبو نعيم، و البيهقي معا في «الدلائل»، عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه قال: «جاء بستانة يهودي إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف عليه السّلام ساجدة له، ما أسماؤها؟ فسكت النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلم يجبه بشي ء، فنزل جبريل عليه السّلام و أخبره بأسمائها، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى البستاني اليهودي، فقال: «هل أنت مؤمن إن أخبرتك بأسمائها؟ قال: نعم، قال: جربان، و الطارق، و الذيال، و ذو الكفتان، و قابس، و وثاب، و عمودان، و الفليق، و المصبح، و الضروح، و ذو الفرغ، و الضياء، و النور «3»، رآها في أفق السماء ساجدة له. فلما قص يوسف على يعقوب، قال: هذا أمر مشتت يجمعه اللّه من

(1) يوسف/ 4.

(2) تصحيح الحاكم على شرط الشيخين.

(3) و هناك بعض الاختلاف في الأسماء. و قد جاءت ثلاثة عشر، و الضياء و النور هما الشمس و القمر. كناية عن أبويه.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 214

بعد»، فقال اليهودي: إي و اللّه إنها لأسماؤها «1».

و الذي يظهر لي أنه من الإسرائيليّات، و ألصقت بالنبي زورا، ثم إنّ سيدنا يوسف رأى كواكب بصورها لا بأسمائها، ثم ما دخل

الاسم فيما ترمز إليه الرؤيا؟! و مدار هذه الرواية على الحكم بن ظهير، و قد ضعّفه الأئمة، و تركه الأكثرون، و قال الجوزجاني: ساقط «2».

و قال الإمام الذهبي في «ميزان الاعتدال» «3»: قال ابن معين: ليس بثقة، و قال مرة: ليس بشي ء، و قال البخاري: منكر الحديث، و قال مرة: تركوه، و لعلّه لروايته

حديث: «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه»!!

18- الإسرائيليات في قوله تعالى: وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ
اشارة

«4» و من الإسرائيليّات المكذوبة التي لا توافق عقلا و لا نقلا ما ذكر ابن جرير في تفسيره، و صاحب «الدر المنثور» و غيرهما من المفسرين، في قوله تعالى:

وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ فقد ذكروا في همّ يوسف عليه السّلام ما ينافي عصمة الأنبياء و ما يخجل القلم من تسطيره، لو لا أن المقام مقام بيان و تحذير من الكذب على اللّه و على رسله، و هو من أوجب الواجبات على أهل

(1) تفسير الطبري، ج 12، ص 90 و 91 و الدر المنثور، ج 4، ص 4.

(2) تفسير ابن كثير، ج 2، ص 468 و 469.

(3) ميزان الاعتدال، ج 1، ص 268، ط السعادة.

(4) يوسف/ 24.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 215

العلم.

فقد رووا عن ابن عباس- رضوان اللّه عليه- أنه سئل عن همّ يوسف عليه السّلام ما بلغ؟ قال: حلّ الهميان- يعنى السراويل- و جلس منها مجلس الخائن، فصيح به، يا يوسف لا تكن كالطير له ريش، فإذا زنى قعد ليس له ريش. و رووا مثل هذا عن علي رضى اللّه عنه و عن مجاهد، و عن سعيد بن جبير.

و رووا أيضا في البرهان الذي رآه، و لولاه لوقع في

الفاحشة بأنه نودي: أنت مكتوب في الأنبياء، و تعمل عمل السفهاء، و قيل: رأى صورة أبيه يعقوب في الحائط، و قيل: في سقف الحجرة، و أنه رآه عاضّا على إبهامه، و أنه لم يتعظ بالنداء، حتى رأى أباه على هذه الحال. بل أسرف واضعو هذه الإسرائيليّات الباطلة، فزعموا أنه لما لم يرعو من رؤية صورة أبيه عاضّا على أصابعه، ضربه أبوه يعقوب، فخرجت شهوته من أنامله! و لأجل أن يؤيّد هؤلاء الذين افتروا على اللّه و نبيه يوسف هذا الافتراء، يزعمون أيضا: أن كل أبناء يعقوب قد ولد له اثنا عشر ولدا ما عدا يوسف، فإنه نقص بتلك الشهوة التي خرجت من أنامله ولدا، فلم يولد له غير أحد عشر ولدا. بل زعموا أيضا في تفسير البرهان، فيما روي عن ابن عباس: أنه رأى ثلاث آيات من كتاب اللّه: قوله تعالى: وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ «1»، و قوله تعالى: وَ ما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَ ما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَ لا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ «2»، و قوله تعالى:

أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ «3»، و قيل: رأى

(1) الانفطار/ 10 و 11.

(2) يونس/ 61.

(3) الرعد/ 33.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 216

وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلًا «1»!!، و من البديهي أن هذه الآيات بهذا اللفظ العربي لم تنزل على أحد قبل نبينا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إن كان الذين افتروا هذا لا يعدمون جوابا، بأن يقولوا: رأى ما يدل على معاني هذه الآيات بلغتهم التي يعرفونها، بل قيل

في البرهان: إنه أري تمثال الملك، و هو العزيز، و قيل: خياله «2». و كل ذلك مرجعه إلى أخبار بني إسرائيل و أكاذيبهم التي افتجروها على اللّه، و على رسله، و حمله إلى بعض الصحابة و التابعين: كعب الأحبار، و وهب بن منبّه، و أمثالهما.

و ليس أدل على هذا، مما روي عن وهب بن منبّه قال: «لما خلا يوسف و امرأة العزيز، خرجت كفّ بلا جسد بينهما، مكتوب عليها بالعبرانية: أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ، ثم انصرفت الكفّ، و قاما مقامهما، ثم رجعت الكف بينهما، مكتوب عليها بالعبرانية إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ، ثم انصرفت الكفّ، و قاما مقامهما، فعادت الكفّ الثالثة مكتوب عليها: وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلًا و انصرفت الكف، و قاما مقامهما فعادت الكف الرابعة مكتوب عليها بالعبرانية: وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ «3»، فولّى يوسف عليه السّلام هاربا «4».

و قد كان وهب أو من نقل عنه وهب ذكيا بارعا، حينما زعم أن ذلك كان مكتوبا بالعبرانية؛ و بذلك أجاب عما استشكلناه، و لكن مع هذا لن يجوز هذا

(1) الإسراء/ 32.

(2) تفسير الطبري، ج 12، ص 108- 114. و الدر المنثور، ج 4، ص 13 و 14. و تفسير ابن كثير، ج 2، ص 474 و 475. و تفسير البغوى، ج 2، ص 418- 420.

(3) البقرة/ 281.

(4) الدر المنثور، ج 4، ص 14.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 217

الكذب إلّا على الأغرار و السذّج من أهل الحديث. و لا ندري أي معنى يبقى

للعصمة بعد أن جلس بين فخذيها، و خلع سرواله؟! و ما امتناعه عن الزّنى على مروياتهم المفتراة إلّا و هو مقهور مغلوب؟! و لو أن عربيدا رأى صورة أبيه بعد مماته تحذّره من معصية لكفّ عنها، و انزجر، فأيّ فضل ليوسف إذا، و هو نبي من سلالة أنبياء؟!! بل أيّ فضل له فى عدم مقارفته الفاحشة، بعد ما خرجت شهوته من أنامل قدميه؟! و ما امتناعه حينئذ إلّا قسريّ جبريّ!! ثم ما هذا الاضطراب الفاحش في الروايات؟! أ ليس الاضطراب الذي لا يمكن التوفيق بينها. و هذا من العلل التي ردّ المحدثون بسببها الكثير من المرويّات؟! لأنها أمارة من أمارات الكذب و الاختلاق.

ثم كيف يتفق ما حيك حول نبي اللّه يوسف عليه السّلام و قول الحق تبارك و تعالى عقب ذكر الهمّ: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ «1»، فهل يستحق هذا الثناء من حلّ التكّة، و خلع السروال، و جلس بين رجليها؟! و لا أدري أ نصدق اللّه تبارك و تعالى أم نصدق كذبة بني إسرائيل و مخرفيهم؟!! بل كيف يتفق ما روى هو و ما حكاه اللّه عزّ و جل عن زليخا بطلة المراودة، حيث قالت: أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ «2» و هو اعتراف صريح من

(1) يوسف/ 24. قرئ في السبع بضم الميم و فتح اللام، أي الذين اصطفاهم و اختارهم لنبوته و رسالته، و قرئ بكسر اللام، أي الذين أخلصوا للّه التوحيد و العبادة، و المعنى الثاني لازم للأول، فمن اصطفاء اللّه لا بد أن يكون مخلصا.

(2) يوسف/ 51.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 218

البطلة التي أعيتها الحيل عن طريق

التزيّن حينا، و التودّد إليه بمعسول القول حينا آخر، و الإرهاب و التخويف حينا ثالثا، فلم تفلح: لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ «1».

و انظر ما ذا كان جواب السيد العفيف، الكريم ابن الكريم، ابن الكريم، ابن الكريم: يوسف بن يعقوب، بن إسحاق، بن إبراهيم عليهم السّلام: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «2» و قصده عليه السّلام بقوله: وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ ...: تبرؤ من الحول و الطول، و أن الحول و القوّة إنّما هما من اللّه، و سؤال منه لربّه، و استعانة به على أن يصرف عنه كيدهنّ، و هكذا شأن الأنبياء.

بل قد شهد الشيطان نفسه ليوسف عليه السّلام في ضمن قوله، كما حكاه اللّه سبحانه عنه بقوله: قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ «3»، و يوسف بشهادة الحق السالفة من المخلصين.

و كذلك شهد ليوسف شاهد من أهلها «4»، فقال: إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَ هُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ. وَ إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَ هُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ. فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ «5»، و قد أسفر

(1) يوسف/ 32.

(2) يوسف/ 33 و 34.

(3) ص/ 82 و 83.

(4) قيل: كان رجلا عاقلا حكيما مجربا من خاصة الملك. و كان من أهلها، و قيل: كان صبيا في المهد و كان ذلك إرهاصا بين يدي نبوة يوسف، إكراما له.

(5) يوسف/ 26- 28.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 219

التحقيق عن براءة يوسف و إدانة زليخا، امرأة العزيز.

فكيف تتفق كل هذه الشهادات الناصعة الصادقة، و تلك الروايات المزوّرة؟!! و قد ذكر الكثير من هذه الروايات ابن جرير الطبري، و الثعلبي، و البغوي، و ابن كثير، و السيوطي، و قد مر بها ابن كثير بعد أن نقلها حاكيا من غير أن ينبّه إلى زيفها، و هذا غريب!! و من العجيب حقا أن ابن جرير يحاول أن يضعّف في تفسيره مذهب الخلف الذين ينفون هذا الزور و البهتان، و يفسرون الآيات على حسب ما تقتضيه اللغة و قواعد الشرع، و ما جاء في القرآن و السنة الصحيحة الثابتة، و يعتبر هذه المرويات التي سقنا لك زورا منها آنفا؛ هى قول جميع أهل العلم بتأويل القرآن الذين يؤخذ عنهم «1»، و كذلك تابعه على مقالته تلك الثعلبي و البغوي في تفسيريهما «2»!! و هذه المرويات الغثة المكذوبة التي يأباها النظم الكريم، و يجزم العقل و النقل باستحالتها على الأنبياء عليهم السّلام هي التي اعتبرها الطبري و من تبعه «أقوال السلف»!! بل يسير في خط اعتبار هذه المرويات، فيورد على نفسه سؤالا، فيقول: فإن قال قائل: و كيف يجوز أن يوصف يوسف بمثل هذا و هو للّه نبي؟! ثم أجاب بما لا طائل تحته، و لا يليق بمقام الأنبياء «3». قاله الواحدي في تفسيره «البسيط».

و أعجب من ذلك ما ذهب إليه الواحدي في «البسيط» قال: قال المفسرون

(1) تفسير الطبري، ج 12، ص 110.

(2) تفسير البغوي، ج 2، ص 422.

(3) تفسير الطبري، ج 12، ص 109 و 110.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 220

الموثوق بعلمهم، المرجوع إلى روايتهم، الآخذون للتأويل، عمن شاهدوا التنزيل: همّ

يوسف عليه السّلام بهذه المرأة همّا صحيحا، و جلس منها مجلس الرجل من المرأة، فلما رأى البرهان من ربه زالت كل شهوة منه.

و هي غفلة شديدة من هؤلاء الأئمة لا نرضاها، و لو لا أنّنا ننزّه لساننا و قلمنا عن الهجر من القول، و أنهم خلطوا في مؤلّفاتهم عملا صالحا و آخر سيئا لقسونا عليهم، و حق لنا هذا، و العصمة للّه.

و هذه الأقوال التي أسرف في ذكرها هؤلاء المفسرون: إما إسرائيليات و خرافات، وضعها زنادقة أهل الكتاب القدماء، الذي أرادوا بها النيل من الأنبياء و المرسلين، ثم حملها معهم أهل الكتاب الذين أسلموا، و تلقّاها عنهم بعض الصحابة، و التابعين.

و إما أن تكون مدسوسة على هؤلاء الأئمة، دسّها عليهم أعداء الأديان، كي تروج تحت هذا الستار؛ و بذلك يصلون إلى ما يريدون من إفساد العقائد، و تعكير صفو الثقافة الإسلامية الأصيلة الصحيحة.

الفرية على المعصوم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في قوله اللّه تعالى: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ... «1»

و لكي يؤيدوا باطلهم الذي ذكرناه آنفا، رووا عن الصحابة و التابعين ما لا يليق بمقام الأنبياء، و اختلقوا على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم زورا، و قوّلوه ما لم يقله، قال صاحب «الدر»:

و أخرج الفريابي، و ابن جرير، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم، و أبو الشيخ،

(1) يوسف/ 52.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 221

و البيهقي في «شعب الإيمان» عن ابن عباس- رضوان اللّه عليه- قال: لما جمع الملك النسوة قال لهن: أنتنّ راودتنّ يوسف عن نفسه؟ قلن: حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ «1»، قال يوسف: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ، فغمزه جبريل عليه السّلام فقال: و لا

حين هممت بها؟ فقال: وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ «2».

قال: و أخرج ابن جرير عن مجاهد، و قتادة، و الضحاك، و ابن زيد، و السدّي مثله، و

أخرج الحاكم في تاريخه، و ابن مردويه و الديلمي عن أنس رضى اللّه عنه: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قرأ هذه الآية: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ قال: لما قال يوسف ذلك قال له جبريل عليه السّلام: و لا يوم هممت بما هممت به؟ فقال: وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، قال: و أخرج ابن جرير عن عكرمة مثله.

و

أخرج سعيد بن منصور، و ابن أبي حاتم عن حكيم بن جابر في قوله:

ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ قال جبريل: و لا حين حللت السراويل؟

إلى غير ذلك من المرويّات المكذوبة، و الإسرائيليات الباطلة، التي خرّجها بعض المفسرين الذين كان منهجهم ذكر المرويّات، و جمع أكبر قدر منها، سواء منها ما صحّ و ما لم يصحّ. و الأخباريون الذين لا تحقيق عندهم للمرويات، و ليس أدل على ذلك من أنها لم يخرجها أحد من أهل الكتب الصحيحة، و لا أصحاب الكتب المعتمدة الذين يرجع إليهم في مثل هذا.

(1) يوسف/ 51.

(2) يوسف/ 53.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 222

القرآن يردّ هذه الأكاذيب

و قد فات هؤلاء الدسّاسين الكذّابين أن قوله تعالى: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ... الآيتين «1»، ليس من مقالة سيدنا يوسف عليه السّلام و إنما هو من مقالة امرأة العزيز، و هو ما يتّفق و سياق الآية، ذلك: أن العزيز لما أرسل رسوله إلى يوسف لإحضاره من السجن، قال له: ارجع إلى ربك، فاسأله ما بال النسوة

اللاتي قطّعن أيديهن؟ فأحضر النسوة، و سألهن، و شهدن ببراءة يوسف، فلم تجد امرأة العزيز بدّا من الاعتراف، فقالت: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ إلى قوله: وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ فكل ذلك من قولها؛ و لم يكن يوسف حاضرا ثمّ، بل كان في السجن، فكيف يعقل أن يصدر منه ذلك في مجلس التحقيق الذي عقده العزيز؟.

و قد انتصر لهذا الرأي الذي يوائم السياق و السباق الإمام الشيخ محمّد عبده، في تفسير «المنار». و هو آخر ما رقمه في تفسير القرآن.

و هكذا قال الحافظ ابن كثير في تفسيره ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ:

تقول: إنما اعترفت بهذا على نفسي، ليعلم زوجي أني لم أخنه بالغيب في نفس الأمر، و لا وقع المحذور الأكبر. و إنما راودت هذا الشاب مراودة، فامتنع؛ فلهذا اعترفت ليعلم أني بريئة، وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي تقول المرأة: و لست أبرئ نفسي، فإنّ النفس تتحدّث، و تتمنّى؛ و لهذا راودته؛ لأن النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي أي إلّا من عصمه اللّه تعالى إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ.

(1) يوسف/ 52 و 53.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 223

قال: و هذا القول هو الأشهر و الأليق و الأنسب بسياق القصة و معاني الكلام، و قد حكاه الماوردي في تفسيره، و جعله أوّل الوجهين في تفسير الآية.

و بعد أن ذكر بعض ما ذكره ابن جرير الذي ذكرناه آنفا عن ابن عباس، و تلاميذه، و غيره قال: و القول الأول أقوى و أظهر؛ لأن سياق الكلام كلّه من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك، و لم يكن يوسف عليه السّلام عندهم، بل بعد ذلك أحضره الملك

«1».

التفسير الصحيح لقوله تعالى: وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها قال أبو شهبة: و الصحيح في تفسير قوله تعالى: وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ أن الكلام تمّ عند قوله تعالى: وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ و ليس من شك في أن همّها كان بقصد الفاحشة، وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ.

الكلام من قبيل التقديم و التأخير، و التقدير: و لو لا أن رأى برهان ربه لهمّ بها، فقوله تعالى: وَ هَمَّ بِها، جواب «لو لا» مقدم عليها، و معروف في العربية أن «لو لا» حرف امتناع لوجود، أي امتناع الجواب لوجود الشرط؛ فيكون «الهمّ» ممتنعا؛ لوجود البرهان الذي ركّزه اللّه في فطرته. و المقدم إما الجواب، أو دليله، على الخلاف في هذا بين النحويين، و المراد بالبرهان: هو حجة اللّه الباهرة الدالة على قبح الزّنى، و هو شي ء مركوز في فطر الأنبياء. و معرفة ذلك عندهم وصل إلى عين اليقين، و هو ما نعبّر عنه بالعصمة، و هي التي تحول بين الأنبياء و المرسلين، و بين وقوعهم في المعصية.

و يرحم اللّه

الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام حيث قال: البرهان: النبوة

(1) تفسير ابن كثير، ج 2، ص 481- 482. و راجع تفسير الماوردي، ج 3، ص 47. و المنار، ج 12، ص 323.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 224

التي أودعها اللّه في صدره، حالت بينه و بين ما يسخط اللّه عزّ و جل.

و هذا هو القول الجزل الذي يوافق ما دل عليه العقل من عصمة الأنبياء، و يدعو إليه السابق و اللاحق. و أما كون جواب «لو لا» لا يجوز أن

يتقدم عليها، فهذا أمر ليس ذا خطر، حتى نعدل عن هذا الرأي الصواب، إلى التفسيرات الأخرى الباطلة، لهمّ يوسف عليه السّلام، و القرآن هو أصل اللغة، فورود أيّ أسلوب في القرآن يكفي في كونه أسلوبا عربيا فصيحا، و في تأصيل أيّ قاعدة من القواعد النحوية، فلا يجوز لأجل الأخذ بقاعدة نحوية، أن نقع في محظور لا يليق بالأنبياء كهذا.

و الصحيح أنّ الجواب محذوف بقرينة المذكور، و هو ما تقدم على «لو لا»؛ ليكون ذلك قرينة على الجواب المحذوف.

و قيل: إن ما حصل من «همّ يوسف» كان خطرة، و حديث نفس بمقتضى الفطرة البشرية، و لم يستقر، و لم يظهر له أثره. قال البغوي في تفسيره: «قال بعض أهل الحقائق: الهمّ همّان: همّ ثابت، و هو إذا كان معه عزم، و عقد، و رضا، مثل همّ امرأة العزيز، و العبد مأخوذ به. و همّ عارض، و هو الخطرة، و حديث النفس من غير اختيار و لا عزم، مثل همّ يوسف عليه السّلام و العبد غير مأخوذ به، ما لم يتكلّم به أو يعمل» «1»، و قيل: همّت به همّ شهوة و قصد للفاحشة، و همّ هو بضربها.

و لا أدري كيف يتفق هذا القول، و قوله تعالى: لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ.

و القول الجزل الفحل هو ما ذكرناه أوّلا، و صرّحت به الرواية الصحيحة عن الإمام أبي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام. و السرّ في إظهاره في هذا الأسلوب- و اللّه أعلم-: تصوير المشهد المثير المغري العرم، الذي هيّأته امرأة العزيز لنبي اللّه يوسف، و أنه لو لا عصمة اللّه له، و فطرته النبوية الزكيّة، لكانت

(1) تفسير البغوي، ج 2، ص

419.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 225

الاستجابة لها، و الهمّ بها أمرا محقّقا. و في هذا تكريم ليوسف، و شهادة له بالعفّة البالغة، و الطهارة الفائقة.

19- الإسرائيليات في سبب لبث يوسف في السجن

و من الإسرائيليات ما يذكره بعض المفسرين في مدة سجن يوسف عليه السّلام و في سبب لبثه في السجن بضع سنين، و ذلك عند تفسير قوله تعالى: وَ قالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ «1».

فقد ذكر ابن جرير، و الثعلبي، و البغوي، و غيرهم أقوالا كثيرة في هذا، فقد قال وهب بن منبّه: أصاب أيوب البلاء سبع سنين، و ترك يوسف في السجن سبع سنين، و عذّب بختنصر يجول في السباع سبع سنين «2».

و قال مالك بن دينار: لما قال يوسف للساقي: اذكرني عند ربك. قيل له: يا يوسف اتخذت من دوني وكيلا، لأطيلنّ حبسك، فبكى يوسف، و قال: يا ربّ أنسى قلبي كثرة البلوى؛ فقلت كلمة، و لن أعود.

و قال الحسن البصري: دخل جبريل عليه السّلام على يوسف في السجن، فلمّا رآه يوسف عرفه، فقال له: يا أخا المنذرين، إني أراك بين الخاطئين! فقال له جبريل:

يا طاهر يا ابن الطاهرين يقرأ عليك السلام رب العالمين، و يقول لك: أما استحيت مني أن استشفعت بالآدميين؟! فو عزّتي و جلالي لألبثنّك في السجن

(1) يوسف/ 42.

(2) لا ندري ما المناسبة بين نبي اللّه، و بختنصر الذي أذلّ اليهود و سباهم؟.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 226

بضع سنين، فقال يوسف: و هو في ذلك عني راض، قال: نعم، قال: إذا لا أبالي.

و قال كعب الأحبار: قال جبريل ليوسف: إن اللّه تعالى يقول: من خلقك؟

قال: اللّه

عزّ و جل قال: فمن حببك إلى أبيك؟ قال: اللّه، قال: فمن نجاك من كرب البئر؟ قال: اللّه، قال فمن علّمك تأويل الرؤيا؟ قال اللّه، قال: فمن صرف عنك السوء، و الفحشاء؟ قال: اللّه، قال: فكيف استشفعت بآدمي مثلك؟ «1». فلما انقضت سبع سنين- قال الكلبي: و هذه السبع سوى الخمسة «2» التي قبل ذلك- جاءه الفرج من اللّه، فرأى الملك ما رأى من الرؤيا العجيبة، و عجز الملأ عن تفسيرها، تذكّر الساقي يوسف، و صدق تعبيره للرؤى، فذهب إلى يوسف، فعبّرها له خير تعبير؛ فكان ذلك سبب نجاته من السجن، و قول امرأة العزيز:

الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ.

و أغلب الظن عندنا أن هذا من الإسرائيليات، فقد صوّرت سجن يوسف على أنه عقوبة من اللّه لأجل الكلمة التي قالها، مع أنه عليه السّلام لم يقل هجرا، و لا منكرا، فالأخذ في أسباب النجاة العاديّة، و في أسباب إظهار البراءة و الحق، لا ينافي قط التوكّل على اللّه تعالى. و البلاء للأنبياء ليس عقوبة، و إنما هو لرفع درجاتهم، و ليكونوا أسوة و قدوة لغيرهم، في باب الابتلاء. و

في الحديث الصحيح عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أشدّ الناس بلاء الأنبياء، ثمّ الأمثل فالأمثل».

و

قد روى ابن جرير هاهنا حديثا مرفوعا، فقال: حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا عمرو بن محمد، عن إبراهيم بن يزيد، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن

(1) تفسير البغوي، ج 2، ص 428.

(2) بعض المفسرين لا يكتفي بالسبع بل يضم إليها خمسا قبل ذلك. و لا أدري ما مستنده في هذا؟ و ظاهر القرآن لا يشهد له. و لو كان

كذلك لصرّح به القرآن، أو أشار إليه.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 227

عباس مرفوعا، قال: قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لو لم يقل- يعني يوسف- الكلمة التي قالها، ما لبث في السجن طول ما لبث، حيث يبتغي الفرج من عند غير اللّه».

و لو أن هذا الحديث كان صحيحا أو حسنا؛ لكان للمتمسّكين بمثل هذه الإسرائيليات التي أظهرت سيدنا يوسف بمظهر الرجل المذنب المدان و جهة، و لكن الحديث شديد الضعف، لا يجوز الاحتجاج به أبدا.

قال الحافظ ابن كثير: «و هذا الحديث ضعيف جدا «1»؛ لأن سفيان بن وكيع- الراوي عنه ابن جرير- ضعيف، و إبراهيم بن يزيد أضعف منه أيضا، و قد روى عن الحسن و قتادة مرسلا عن كل منهما، و هذه المرسلات هاهنا لا تقبل «2»، و لو قبل المرسل من حيث هو في غير هذا الموطن، و اللّه أعلم» «3». و قد تكلّف بعض المفسرين للإجابة عما يدل عليه هذا الحديث. و حاله كما سمعت. بل تكلّف بعضهم، فجعل الضمير في «فأنساه» ليوسف، و هو غير صحيح، لأنّ الضمير يعود إلى الذي نجا منهما؛ بدليل قوله تعالى بعد ذلك: وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ... فالذي تذكر هو الذي أنساه الشيطان، و الذي يجب أن نعتقده أن يوسف عليه السّلام مكث في السجن- كما قال اللّه تعالى- بضع سنين.

و البضع: من الثلاث إلى التسع، أو إلى العشر، من غير تحديد للمدة، فجائز أن تكون سبعا، و جائز أن تكون تسعا، و جائز أن تكون خمسا، ما دام ليس هناك نقل صحيح عن المعصوم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كذلك نعتقد أنه لم يكن عقوبة على

كلمة،

(1) الضعيف جدا لا يحتج به لا في الأحكام و لا في الفضائل، فما بالك في مثل هذا؟

(2) لأن المرسل احتج به بعض المحدّثين إذا تضافر أما في مثل هذا الذي فيه إدانة بعض الأنبياء، و إلقاء اللوم عليه فلا.

(3) تفسير ابن كثير، ج 2، ص 479.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 228

و إنما هو بلاء و رفعة درجة.

20- الإسرائيليات في شجرة طوبى

و من الإسرائيليات ما ذكره بعض المفسرين عند تفسير قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ «1».

فمن ذلك ما

رواه ابن جرير بسنده، عن وهب، قال: إن في الجنة شجرة يقال لها: طوبى، يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، زهرتها رياض، و ورقها برود، و قضبانها عنبر، و بطحاؤها ياقوت، و ترابها كافور، و وحلها مسك؛ يخرج من أصلها أنهار الخمر، و اللبن، و العسل، و هي مجلس لأهل الجنة، فبينما هم في مجلسهم إذ أتتهم ملائكة من ربهم، يقودون نجبا «2» مزمومة بسلاسل من ذهب، وجوهها كالمصابيح حسنا، و وبرها كخز المرعزي من لينه، عليها رحال «3» ألواحها من ياقوت، و دفوفها من ذهب، و ثيابها من سندس، و إستبرق، فينيخونها، و يقولون: إن ربنا أرسلنا إليكم لتزوروه، و تسلّموا عليه. قال:

فيركبونها في أسرع من الطائر، و أوطأ من الفراش، نجبا من غير مهنة، يسير الرجل إلى جنب أخيه، و هو يكلّمه، و يناجيه، لا تصيب أذن راحلة منها أذن الأخرى، و لا برك «4» راحلة برك الأخرى، حتى أن الشجرة لتتنحّى عن طريقهم، لئلّا تفرق بين الرجل و أخيه. قال: فيأتون إلى الرحمن الرحيم، فيسفر لهم عن وجهه

(1) الرعد/ 29.

(2) أي

إبلا كراما.

(3) الرحال: ما يوضع على البعير ليركب عليه.

(4) البرك: الصدر.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 229

الكريم، حتى ينظروا إليه، فإذا رأوه قالوا: «اللّهم أنت السلام، و منك السلام، و حقّ لك الجلال و الإكرام. قال: فيقول تعالى عند ذلك: أنا السلام، و منّي السلام، و عليكم السلام، حقّت رحمتي، و محبّتي، مرحبا بعبادي الذين خشوني بغيب، و أطاعوا أمري. قال: فيقولون: ربنا لم نعبدك حق عبادتك، و لم نقدرك حق قدرك، فأذن لنا في السجود قدّامك. قال: فيقول اللّه: إنها ليست بدار نصب، و لا عبادة، و لكنها دار ملك و نعيم، و إني قد رفعت عنكم نصب العبادة فسلوني ما شئتم، فإنّ لكل رجل منكم أمنيّته. فيسألونه، حتى أن أقصرهم أمنيّة ليقول: ربّي تنافس أهل الدنيا في دنياهم، فتضايقوا فيها، ربّ فآتني كل شي ء كانوا فيه، من يوم خلقتها إلى أن انتهت الدنيا، فيقول اللّه تعالى: لقد قصرت بك أمنيتك، و لقد سألت دون منزلتك، هذا لك مني و سأتحفك بمنزلتي؛ لأنه ليس في عطائى نكد، و لا قصر يد. قال: ثم يقول: أعرضوا على عبادي ما لم يبلغ أمانيهم و لم يخطر لهم على بال. قال: فيعرضون عليهم حتى يقضوهم أمانيهم التي في أنفسهم، فيكون فيما يعرضون عليهم براذين مقرنة، على كل أربعة منها سرير من ياقوتة واحدة، على كل سرير منها قبة من ذهب مفرغة، في كل قبة منها فرش من فرش الجنة، متظاهرة، في كل قبة منها جاريتان من الحور العين، على كل جارية منهن ثوبان من ثياب الجنة. و ليس في الجنة لون إلّا و هو فيهما، و لا ريح و لا طيب إلّا قد عبق

بهما، ينفذ ضوء وجوههما غلظ القبة، حتى يظن من يراهما أنهما دون القبة، يرى مخهما من فوق سوقهما كالسلك الأبيض من ياقوتة حمراء، تريان له من الفضل على صاحبته كفضل الشمس على الحجارة أو أفضل، و يرى هو لهما مثل ذلك. ثم يدخل إليهما فتحييانه و تقبّلانه، و تعانقانه، و تقولان له: و اللّه ما ظننا أن اللّه يخلق مثلك. ثم يأمر اللّه تعالى الملائكة فيسيرون بهم صفا في الجنة، حتى

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 230

ينتهي كل رجل منهم إلى منزلته التي أعدّت له «1».

و قد وصف ابن كثير في تفسيره هذا الأثر بأنه غريب عجيب و ساقه. و قد روى هذا الأثر ابن أبي حاتم بسنده، عن وهب أيضا، و زاد زيادات أخرى «2».

21- الإسرائيليات في إفساد بني إسرائيل
اشارة

و من الإسرائيليات في كتب التفسير ما يذكره بعض المفسرين عند قوله تعالى: وَ قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً. فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَ كانَ وَعْداً مَفْعُولًا. ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَ أَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ جَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً، إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَ لِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ لِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَ إِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَ جَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً «3».

و ليس من قصدنا هنا تحقيق مرّتي إفسادهم، و من سلط عليهم في كلتا المرتين، فلذلك موضع آخر «4».

(1) تفسير الطبري، عند تفسير هذه الآية، ج 13، ص 148 (ط 2)، الدر المنثور، ج 4، ص 60.

(2) تفسير ابن كثير، ج 2، ص 513. و تفسير البغوي، ج 3، ص 18.

(3) الإسراء/ 4- 8.

(4) الذي نرجّحه أن العباد ذوي البأس الشديد الذين نكلوا بهم، و أذلوهم، و سبوهم، هم

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 231

و إنما الذي يتّصل ببحثنا بيان ما روي من الإسرائيليات في هاتين المرتين، و اسم من سلط عليهم، و صفته و كيف كان، و إلى مصار أمره، و قد كانت معظم الروايات في بيان العباد ذوى البأس الشديد الذين سلطوا عليهم، تدور حول «بختنصر» البابلي. و قد أحاطوه بهالة من العجائب و الغرائب، و المبالغات التي لا تصدق. و قد أخرج هذه الروايات ابن جرير في تفسيره- و أكثر منها جدا «1»- و ابن أبي حاتم و البغوي «2»، و غيرهم، عن ابن عباس، و ابن مسعود، و عن سعيد بن جبير، و سعيد بن المسيب، و عن السدّي، و عن وهب بن منبّه، و ابن إسحاق، و غيرهم. و خرّجها من غير ذكر أسانيدها، مع عزوها إلى مخرجيها السيوطي في «الدر المنثور» «3».

و فيها- و لا شك- الكثير من أكاذيب بني إسرائيل التي اختلقها أسلافهم، و تنوقلت عليهم، و رواه أخلافهم من مسلمة أهل الكتاب الذين أسلموا، و أخذها عنهم بعض الصحابة و التابعين تحسينا للظن بهم، و رواها من غير تنبيه إلى ما فيها.

و في هذه الأخبار الإسرائيلية ما يحتمل الصدق و الكذب، و لكن الأولى عدم الاشتغال به، و أن لا نفسر القرآن به، و أن نقف عند ما قصّه اللّه علينا، من غير أن نفسد جمال القرآن و جلاله، بمثل هذه الإسرائيليات.

بختنصر و جنوده، و أن الآخرين الذين أساءوا

وجوههم، و دخلوا المسجد الأقصى هم «طيطوس» الروماني و جيوشه، فقد أساموهم سوء العذاب، و تأمل في قوله: «و إن عدتم عدنا» فإنه يدل على أنهم سيعودون ثم يفسدون، فيرسل اللّه لهم من يسومهم العذاب ألوانا.

(1) تفسير الطبري، ج 15، ص 16- 34.

(2) تفسير البغوي، ج 5، ص 144- 154.

(3) ج 4، ص 163- 166.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 232

و قد أكثر ابن جرير هنا من النقل عن ابن إسحاق، و في بعضها روى عن ابن إسحاق عمن لا يتّهم، عن وهب بن منبّه «1»، و في بعضها بسنده عن وهب بن منبّه في ذكر ابن إسحاق، و بذلك وقفنا على من كان المصدر الحقيقي لهذه المرويات، و أنه وهب، و أمثاله، من مسلمة أهل الكتاب.

و قد سوّد ابن جرير بضع صفحات من كتابه في النقل عن ابن إسحاق و عن وهب، و لا أحب أن أنقل هذا بنصه، فإنّ في ذلك تسويدا للصفحات، و لكني سأذكر البعض؛ ليكون القارئ لهذا التفسير على حذر من مثل ذلك.

قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق قال: «كان مما أنزل اللّه على موسى «2» في خبره عن بني إسرائيل، و في أحداثهم، ما هم فاعلون بعده، فقال: وَ قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً «3» إلى قوله: وَ جَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً.

فكانت بنو إسرائيل و فيهم الأحداث و الذنوب، و كان اللّه في ذلك متجاوزا عنهم متعطفا عليهم، محسنا إليهم، فكان مما أنزل بهم في ذنوبهم ما كان قدم إليهم في الخبر على لسان موسى، مما أنزل بهم في

ذنوبهم، فكان أول ما أنزل بهم من تلك الوقائع: أن ملكا منهم كان يدعى صديقة، و كان اللّه إذا ملك الملك عليهم بعث نبيا يسدّده، و يرشده، و يكون فيما بينه و بين اللّه، و يحدّث إليه في أمرهم لا ينزل عليهم الكتب، إنما يؤمرون باتباع التوراة، و الأحكام التي فيها، و ينهونهم

(1) تفسير الطبري، ج 15، ص 29.

(2) المراد أنزل معناه لا لفظه، فالتوراة لم تكن بالعربية، و لا كان لسان موسى عليه السّلام عربيا.

(3) الإسراء/ 4.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 233

عن المعصية، و يدعونهم إلى ما تركوا من الطاعة. فلما ملك ذلك الملك بعث اللّه معه شعياء بن أمصيا، و ذلك قبل مبعث زكريا، و يحيى و عيسى، و شعياء الذي بشّر بعيسى، و محمد، فملك ذلك الملك بني إسرائيل، و بيت المقدس زمانا، فلما انقضى ملكه، عظمت فيهم الأحداث، و شعياء معه، بعث اللّه عليهم «سنجاريب» ملك بابل، و معه ستمائة ألف راية «1»، فأقبل سائرا، حتى نزل نحو بيت المقدس، و الملك مريض، في ساقه قرحة، فجاء النبي شعياء، فقال له: يا ملك بني إسرائيل إن «سنجاريب» ملك بابل قد نزل بك هو و جنوده، ستمائة ألف راية، و قد هابهم الناس، و فرقوا «2» منهم. فكبر ذلك على الملك، فقال: يا نبي اللّه، هل أتاك وحي من اللّه فيما حدث فتخبرنا به؟ كيف يفعل اللّه بنا، و بسنجاريب و جنوده؟ فقال له النبي عليه السّلام: لم يأتني وحي، أحدث إليّ في شأنك، فبينما هم على ذلك أوحى اللّه إلى شعياء النبي أن ائت ملك بني إسرائيل فمره أن يوصي وصيته، و يستخلف على ملكه

من شاء من أهل بيته، فإنك ميت.

ثم استرسل ابن جرير في الرواية، حتى استغرق ذلك أربع صفحات كبار من كتابه «3»، لا يشك الناظر فيها أنها من أخبار بني إسرائيل، و فيما ذكره ابن جرير عن ابن إسحاق الصدق، و الكذب، و الحق، و الباطل و لسنا في حاجة إليه في تفسير الآيات.

و في الإفساد الثاني- و من سلط عليهم-

روى ابن جرير أيضا، قال: حدثني محمد بن سهل بن عسكر، و محمد بن عبد الملك بن زنجويه، قالا: حدثنا

(1) من المبالغات التي لا تصدق، و كن على ذكر مما نقلناه عن العلامة ابن خلدون فيما سبق.

(2) أي خافوا.

(3) ج 15، ص 18- 21.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 234

إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثنا ابن عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه.

و حدّثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتّهم، عن وهب بن منبّه اليماني- و اللفظ لحديث ابن حميد أنه كان يقول- يعني وهب بن منبه.

قال اللّه تبارك و تعالى لأرميا حين بعثه نبيا إلى بني إسرائيل: يا أرميا من قبل أن أخلقك اخترتك. و لأمر عظيم اختبأتك، فبعث اللّه «أرميا» إلى ذلك الملك من بني إسرائيل، يسدّده، و يرشده و يأتيه بالخبر من اللّه فيما بينه، و بين اللّه، قال:

ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل، و ركبوا المعاصي، و استحلوا المحارم، و نسوا ما كان اللّه سبحانه و تعالى صنع بهم، و ما نجاهم من عدوّهم «سنجاريب» و جنوده، فأوحى اللّه إلى أرمياء: أنت ائت قومك من بني إسرائيل، و اقصص عليهم ما آمرك به، و ذكّرهم نعمتي عليهم، و عرّفهم أحداثهم.

و استرسل وهب

بن منبه فيما يذكره من أخبار بني إسرائيل، حتى استغرق ذلك من تفسير ابن جرير ثلاث صفحات كبار «1» إلى غير ذلك، مما ذكره ابن جرير، و ابن أبي حاتم، و غيرهما، من قصص عجيب غريب في «بختنصر» هذا، و ما خرب من البلاد و ما قتل من العباد.

الكذب على رسول اللّه بنسبة هذه الإسرائيليات إليه

و لو أن هذه الإسرائيليات و الأباطيل وقف بها عند رواتها من أهل الكتاب الذين أسلموا، أو عند من رواها عنهم من الصحابة و التابعين لهان الأمر، و لكن عظم الإثم أن تنسب هذه الإسرائيليات إلى المعصوم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صراحة، و لا أشك أن هذا الدسّ من عمل زنادقة اليهود.

(1) ج 15، ص 29- 33.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 235

روى ابن جرير في تفسيره، قال: حدثنا عصام بن داود بن الجرّاح، قال:

حدثنا أبي، قال: حدثنا سفيان بن سعيد الثوري، قال: حدثنا منصور بن المعتمر، عن ربعي بن حراش، قال: سمعت حذيفة بن اليمان يقول: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إن بني إسرائيل لما اعتدوا، و علوا، و قتلوا الأنبياء، بعث اللّه عليهم ملك فارس (بختنصر)، و كان اللّه ملّكه سبعمائة سنة «1»، فسار إليهم، حتى دخل بيت المقدس، فحاصرها، و فتح، و قتل على دم زكريا سبعين ألفا، ثم سبى أهلها، و بني الأنبياء، و سلب حلي بيت المقدس، و استخرج منها سبعين ألفا، و مائة ألف عجلة من حلي، حتى أوردها بابل» «2»، قال حذيفة: فقلت يا رسول اللّه لقد كان بيت المقدس عظيما عند اللّه، قال: أجل، بناه سليمان بن داود من ذهب، و در، و ياقوت، و زبرجد، و كان

بلاطة من ذهب، و بلاطة من فضة، و عمده ذهبا، أعطاه اللّه ذلك، و سخّر له الشياطين يأتونه بهذه الأشياء في طرفة عين، فسار (بختنصر) بهذه الأشياء، حتى دخل بها بابل، فأقام بنو إسرائيل في يديه مائة سنة، تعذّبهم المجوس، و أبناء المجوس، فيهم الأنبياء، و أبناء الأنبياء، ثم إن اللّه رحمهم فأوحى إلى ملك من ملوك فارس- يقال له: (كورش) و كان مؤمنا- أن سر إلى بقايا بني إسرائيل حتى تستنقذهم، فسار (كورش) ببني إسرائيل، و حلي بيت المقدس، حتى ردّه إليه.

فأقام بنو إسرائيل مطيعين اللّه مائة سنة، ثم إنهم عادوا في المعاصي، فسلّط اللّه عليهم (بطيانموس)، فغزا بأبناء من غزا مع بختنصر، فغزا بني إسرائيل، حتى أتاهم

(1) و أي جرم أعظم من أن ينسب هذا التخريف إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟

(2) مبالغات و أكاذيب تنزه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عنها.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 236

بيت المقدس، فسبى أهلها، و أحرق بيت المقدس، و قال لهم: يا بني إسرائيل، إن عدتم في المعاصي عدنا عليكم بالسباء، فعادوا في المعاصي، فسيّر اللّه عليهم السباء الثالث، ملك رومية، يقال له: (فاقس بن اسبايوس) «1» فغزاهم في البر و البحر فسباهم، و سبى حلي بيت المقدس، و أحرق بيت المقدس بالنيران، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هذا من صنعة حلي بيت المقدس، و يردّه المهدي إلى بيت المقدس، و هو ألف سفينة، و سبعمائة سفينة، يرسي بها على «يافا»، حتى تنقل إلى بيت المقدس، و بها يجمع اللّه الأولين و الآخرين. و الغريب من ابن جرير، كيف استجاز

أن يذكر هذا الهراء، و هذه التخريفات عن المعصوم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كان عليه أن يصون كتابه عن أن يسوّده بأمثال هذه المرويات الباطلة «2».

قال الإمام الحافظ ابن كثير:

«و قد روى ابن جرير في هذا المكان حديثا أسنده عن حذيفة مرفوعا مطوّلا، و هو حديث موضوع لا محالة، لا يستريب في ذلك من عنده أدنى معرفة بالحديث، و العجب كل العجب كيف راج عليه مع جلالة قدره، و إمامته، و قد صرّح شيخنا أبو الحجاج المزي بأنه موضوع مكذوب، و كتب ذلك على حاشية الكتاب- يعني كتاب تفسير ابن جرير- و قد وردت في هذا آثار كثيرة إسرائيلية، لم أر تطويل الكتاب بذكرها؛ لأن منها ما هو موضوع من وضع بعض زنادقتهم، و منها ما قد يحتمل أن يكون صحيحا، و نحن في غنية عنها و للّه الحمد، و فيما قص اللّه علينا في كتابه غنية عما سواه من بقية الكتب قبله، و لم يحوجنا اللّه، و لا رسوله إليهم، و قد أخبر اللّه عنهم أنهم لما طغوا و بغوا، سلط اللّه عليهم عدوّهم،

(1) في تفسير البغوي «قاقس بن استيانوس».

(2) تفسير الطبري، ج 15، ص 17- 18

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 237

فاستباح بيضتهم، و سلك خلال بيوتهم، و أذلّهم، و قهرهم جزاء وفاقا، و ما ربّك بظلّام للعبيد، فإنّهم كانوا قد تمرّدوا و قتلوا خلقا كثيرا من الأنبياء و العلماء «1».

قال أبو شهبة: و هذا هو الحق الذي ينبغي أن يصار إليه في الآية، و القصص القرآني لا يعني بذكر الأشخاص، و لا الأماكن؛ لأن الغرض منه العبرة، و التذكير، و التعليم و التأويل. و

الذي دلّت عليه الآية أنهم أفسدوا مرتين في الزمن الأوّل، و ظلموا و بغوا، فسلّط اللّه عليهم في الأولى من أذلهم و سباهم، و لا يعنينا أن يكون هذا (سنجاريب) أو (بختنصر) و جيشه؛ إذ لا يترتّب على العلم به فائدة تذكر، و سلّط اللّه عليهم في الثانية من أذلهم، و ساء وجوههم، و دخل المسجد الأقصى، فأفسد فيه، و دمّر، و لا يعنينا أن يكون هذا الذي نكل بهم هو (طيطوس) الروماني أو غيره؛ لأن المراد من سياق قصته: ما قضاه اللّه على بني إسرائيل أنهم أهل فساد، و بطر، و ظلم، و بغي، و أنهم لما أفسدوا و طغوا، و تجبّروا سلّط اللّه عليهم من عباده من نكل بهم، و أذلّهم، و سباهم، و شرّدهم، ثم إن الآيات دلّت أيضا على أن بني إسرائيل لا يقف طغيانهم، و بغيهم، و إفسادهم عند المرتين الأوليين، بل الآية توحي بأن ذلك مستمر إلى ما شاء اللّه، و أن اللّه سيسلط عليهم من يسومهم العذاب، و يبطش بهم، و يرد ظلمهم و عدوانهم، قال عز شأنه:

عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَ إِنْ عُدْتُمْ عُدْنا «2»، أ ليس في قوله هذا إنذار و وعيد لهم إلى يوم القيامة؟! بلى.

و ما يؤكد هذا الإنذار و الوعيد قوله تعالى: وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ

(1) تفسير ابن كثير، ج 3، ص 25. و تفسير البغوي، ج 3، ص 97- 105.

(2) الإسراء/ 8.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 238

رَحِيمٌ «1»، فهل يسلط اللّه عليهم اليوم من يردّ ظلمهم و بغيهم، و طردهم أهل فلسطين

من ديارهم، و اغتصاب الديار، و استذلال العباد، و استهانتهم بالقيم الخلقية، و الحقوق الإنسانية؟.

ذلك ما نرجو، و ما ذلك على المسلمين بعزيز، لو وحّدوا الكلمة، و جمعوا الصفوف، و أخذوا الحذر و الأهبة، و أعدوا لهم العدة، فاللّهم حقّق و أعن.

22- الإسرائيليات في قصة أصحاب الكهف

و من قصص الماضين التي أكثر فيها المفسرون من ذكر الإسرائيليّات قصّة أصحاب الكهف، فقد ذكر ابن جرير، و ابن مردويه، و غيرهما الكثير من أخبارهم التي لا يدلّ عليها كتاب اللّه تعالى، و لا يتوقف فهم القرآن و تدبّره عليها.

فمن ذلك ما ذكره ابن جرير في تفسيره، عن ابن إسحاق، صاحب السيرة في قصّتهم، فقد ذكر نحو ثلاث ورقات، و ذكر عن وهب بن منبّه، و ابن عباس و مجاهد أخبارا كثيرة أخرى «2»، و كذلك ذكر السيوطي في «الدر المنثور» «3»، الكثير ممّا ذكره المفسرون عن أصحاب الكهف، عن هويّتهم، و من كانوا؟ و في أي زمان و مكان وجدوا؟ و أسمائهم؟ و اسم كلبهم؟ و أ هو قطمير أم غيره؟ و عن لونه أ هو أصفر أم أحمر؟ بل روى ابن أبي حاتم من طريق سفيان، قال: رجل بالكوفة يقال له: عبيد- و كان لا يتّهم بالكذب- قال: رأيت كلب أصحاب الكهف

(1) الأعراف/ 167.

(2) تفسير الطبري، ج 15، ص 133 و ما بعدها.

(3) الدر المنثور، ج 4، ص 211- 218.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 239

أحمر، كأنه كساء أنبجاني «1»، و لا أدري كيف كان لا يتّهم بالكذب، و ما زعم كذب لا شك فيه، فهل بقي كلب أصحاب الكهف حتى الإسلام؟! و كذلك ذكروا أخبارا غرائب في الرقيم، فمن قائل: إنه قرية، و روى

ذلك عن كعب الأحبار، و من قائل: إنه واد بفلسطين، بقرب أيلة، و قيل: اسم جبل أصحاب الكهف إلى غير ذلك. مع أن الظاهر أنه كما قال كثير من السلف: إنه الكتاب أو الحجر الذي دوّن فيه قصّتهم و أخبارهم، أو غير ذلك، مما اللّه أعلم به، فهو فعيل بمعنى مفعول، أي مرقوم، و في الكتاب الكريم: وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ «2» وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ «3».

و في هذه الأخبار: الحق و الباطل، و الصدق و الكذب، و فيها ما هو محتمل للصدق و الكذب، و لكن فيما عندنا غنية عنه، و لا فائدة من الاشتغال بمعرفته و تفسير القرآن به، كما أسلفنا، بل الأولى و الأحسن أن نضرب عنه صفحا، و قد أدّبنا اللّه بذلك؛ حيث قال لنبيه بعد ذكر اختلاف أهل الكتاب في عدد أصحاب الكهف: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَ لا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً «4».

و غالب ذلك ما أشرنا إليه و غيره متلقّى عن أهل الكتاب الذين أسلموا.

و حمله عنهم بعض الصحابة و التابعين لغرابته و العجب منه، قال ابن كثير في تفسيره: «و في تسميتهم بهذه الأسماء، و اسم كلبهم، نظر في صحته و اللّه أعلم-

(1) نسبة إلى أنبج بلد تعرف بصنع الأكسية.

(2) المطففين/ 19 و 20.

(3) المطففين/ 8 و 9.

(4) الكهف/ 22.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 240

فإن غالب ذلك متلقّى من أهل الكتاب، و قد قال تعالى: فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً أي سهلا هيّنا لينا، فإنّ الأمر في معرفة ذلك لا يترتّب عليه

كبير فائدة وَ لا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً أي فإنّهم لا علم لهم بذلك إلا ما يقولونه من تلقاء أنفسهم، رجما بالغيب، أي من غير استناد إلى كلام معصوم، و قد جاءك اللّه يا محمد بالحق الذي لا شك فيه و لا مرية فيه، فهو المقدّم على كلّ ما تقدّمه من الكتب و الأقوال» «1».

23- الإسرائيليات في قصة ذي القرنين
اشارة

و من الإسرائيليات التي طفحت بها بعض كتب التفسير ما يذكرونه في تفاسيرهم، عند تفسير قوله تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً. إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَ آتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً ... «2»

و

قد ذكر ابن جرير في تفسيره بسنده، عن وهب بن منبّه اليماني- و كان له علم بالأحاديث الأولى- أنه كان يقول: «ذو القرنين رجل من الروم، ابن عجوز من عجائزهم، ليس لها ولد غيره، و كان اسمه الإسكندر، و إنما سمّي ذا القرنين؛ أن «3» صفحتي رأسه كانتا من نحاس، فلما بلغ و كان عبدا صالحا، قال اللّه عزّ و جل له: يا ذا القرنين إني باعثك إلى أمم الأرض، و هي أمم مختلفة ألسنتهم، و هم جميع أهل الأرض، و منهم أمّتان بينهما طول الأرض كلّه، و منهم أمتان بينهما عرض الأرض

(1) تفسير ابن كثير عند قوله تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ، ج 3، ص 78.

(2) الكهف/ 83 و ما بعدها.

(3) أي لأن.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 241

كلّه، و أمم في وسط الأرض منهم الجن و الإنس، و يأجوج و مأجوج.

ثم استرسل في ذكر أوصافه، و ما وهبه اللّه من العلم و الحكمة، و أوصاف الأقوام الذين لقيهم، و ما قال لهم،

و ما قالوا له، و في أثناء ذلك يذكر ما لا يشهد له عقل و لا نقل. و قد سوّد بهذه الأخبار نحو أربعة صحائف من كتابه «1»، و كذلك ذكر روايات أخرى في سبب تسميته بذي القرنين، بما لا يخلو عن تخليط و تخبّط. و قد ذكر ذلك- عن غير ابن جرير- السيوطي في «الدرّ»، قال: «و أخرج ابن إسحاق، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم، و الشيرازي في الألقاب، و أبو الشيخ، عن وهب بن منبّه اليماني- و كان له علم بالأحاديث الأولى- أنه كان يقول: كان ذو القرنين رجلا من الروم، ابن عجوز من عجائزهم، ليس لها ولد غيره، و كان اسمه الإسكندر، و إنما سمّي ذا القرنين؛ أن صفحتي رأسه كانتا من نحاس ...» «2» و أنا لا أشك في أن ذلك مما تلقاه وهب عن كتبهم، و فيها ما فيها من الباطل و الكذب، ثم حملها عنه بعض التابعين، و أخذها عنهم ابن إسحاق و غيره من أصحاب كتب التفسير و السير و الأخبار. و لقد أجاد و أفاد الإمام الحافظ ابن كثير، حيث قال في تفسيره: «و قد ذكر ابن جرير هاهنا عن وهب بن منبّه أثرا طويلا، عجيبا في سير ذي القرنين، و بنائه السد، و كيفية ما جرى له، و فيه طول، و غرابة، و نكارة، في أشكالهم، و صفاتهم و طولهم، و قصر بعضهم، و آذانهم. و روى ابن أبي حاتم عن أبيه في ذلك أحاديث غريبة، لا تصحّ أسانيدها، و اللّه أعلم» «3». و حتى لو صح الإسناد فيها، فلا شك في أنها من الإسرائيليات؛ لأنه لا تنافي بين الأمرين، فهي صحيحة

(1) جامع

البيان، ج 16، ص 14- 18.

(2) الدر المنثور، ج 4، ص 242- 246.

(3) تفسير ابن كثير، ج 3، ص 104. و تفسير البغوى، ج 3، ص 178.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 242

إلى من رويت عنه، لكنها في نفسها من قصص بني إسرائيل الباطل، و أخبارهم الكاذبة.

و لو أن هذه الإسرائيليات وقف بها عند منابعها، أو من حملها عنهم من الصحابة و التابعين؛ لكان الأمر محتملا، و لكن الإثم، و كبر الكذب أن تنسب هذه الأخبار إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لو أنها كما أسلفنا كانت صحيحة في معناها و مبناها لما حل نسبتها إلى رسول اللّه أبدا، فما بالك و هي أكاذيب ملفّقة، و أخبار باطلة؟! و

قد روى ابن جرير و غيره عند تفسير قوله تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ... حديثا مرفوعا إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «حدثنا أبو كريب قال: حدثنا زيد بن حباب، عن ابن لهيعة، قال: حدثني عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن شيخين من تجيب، أنهما انطلقا إلى عقبة بن عامر، فقالا له: جئنا لتحدثنا، فقال: كنت يوما أخدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فخرجت من عنده، فلقيني قوم من أهل الكتاب، فقالوا: نريد أن نسأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاستأذن لنا عليه، فدخلت عليه فأخبرته، فقال: ما لي و ما لهم، ما لي علم إلّا ما علّمني اللّه، ثم قال: اكسب لي ماء، فتوضّأ، ثم صلّى، قال: فما فرغ حتى عرفت السرور على وجهه، ثم قال: أدخلهم عليّ، و من رأيت من أصحابي، فدخلوا،

فقاموا بين يديه، فقال: إن شئتم سألتم فأخبرتكم عما تجدونه في كتابكم مكتوبا.

و إن شئتم أخبرتكم، قالوا: بلى، أخبرنا، قال: جئتم تسألون عن ذي القرنين، و ما تجدونه في كتابكم: كان شابّا من الرّوم، فجاء، فبنى مدينة مصر الإسكندرية، فلما فرغ جاءه ملك فعلا به في السماء، فقال له: ما ترى؟ فقال: أرى مدينتي، و مدائن، ثم علا به، فقال: ما ترى؟ فقال: أرى مدينتي، ثم علا به، فقال: ما ترى؟

قال: أرى الأرض، قال: فهذا اليم محيط بالدنيا، إن اللّه بعثني إليك تعلّم الجاهل، و تثبت العالم، فأتى به السدّ، و هو جبلان لينان يزلق عنهما كل شي ء، ثم مضى به

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 243

حتى جاوز يأجوج و مأجوج، ثم مضى به إلى أمة أخرى، وجوههم وجوه الكلاب، يقاتلون يأجوج و مأجوج، ثم مضى به حتى قطع به أمة أخرى يقاتلون هؤلاء الذين وجوههم وجوه الكلاب؛ ثم مضى حتى قطع به هؤلاء إلى أمة أخرى قد سماهم» «1» ، ثم عقب ذلك بسرد المرويات في سبب تسميته بذي القرنين.

و ذكر السيوطي في «الدر المنثور» «2» مثل ذلك، و قال: إنه أخرجه ابن عبد الحكم في «تاريخ مصر»، و ابن أبي حاتم، و أبو الشيخ، و البيهقي في «الدلائل».

و كل هذا من الإسرائيليات التي دسّت على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لو شئت أن أقسم بين الركن و المقام أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما قال هذا، لأقسمت، و ابن لهيعة ضعيف في الحديث.

و قد كشف لنا الإمام الحافظ ابن كثير عن حقيقة هذه الرواية في تفسيره، و أنحى باللائمة على ما رواها،

فقال:

«و قد أورد ابن جرير هاهنا، و الأموي في مغازيه، حديثا أسنده- و هو ضعيف- عن عقبة بن عامر: أن نفرا من اليهود جاءوا يسألون النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن ذي القرنين، فأخبرهم بما جاءوا له ابتداء، فكان فيما أخبرهم به: أنه كان شابّا من الروم، و أنه بنى الإسكندرية، و أنه علا به ملك في السماء و ذهب به إلى السد، و رأى أقواما وجوههم مثل وجوه الكلاب.»

و فيه طول و نكارة، و رفعه لا يصح، و أكثر ما فيه أنه من أخبار بني إسرائيل.

و العجب أن أبا زرعة الرازي مع جلالة قدره ساقه بتمامه في كتاب «دلائل النبوة» و ذلك غريب منه، فيه من النكارة أنه من الروم، و إنما الذي كان من الروم

(1) جامع البيان، ج 16، ص 7 و 8.

(2) ج 4، ص 241.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 244

الإسكندر الثاني، و هو ابن فيلبس المقدوني، الذي تؤرّخ به الروم، و كان وزيره أرسطاطاليس، الفيلسوف المشهور، و اللّه أعلم «1».

و من هو ذو القرنين؟

قال أبو شهبة: و الذي نقطع به أنه ليس الإسكندر المقدوني؛ لأن ما ذكره المؤرخون في تاريخه لا يتفق و ما حكاه القرآن الكريم عن ذي القرنين، و الذي نقطع به أيضا أنه كان رجلا مؤمنا صالحا، ملك شرق الأرض و غربها، و كان من أمره ما قصه اللّه تعالى في كتابه، و هذا ما ينبغي أن نؤمن به، و نصدقه. أما معرفة هويته، و ما اسمه؟، و أين، و في أي زمان كان؟ فليس في القرآن، و لا في السنة الصحيحة ما يدلّ عليه، على أن الاعتبار بقصّته، و الانتفاع بها، لا

يتوقّف على شي ء من ذلك، و تلك سمة من سمات القصص القرآني، و خصيصة من خصائصه أنه لا يعني بالأشخاص، و الزمان، و المكان، مثل ما يعني بانتزاع العبرة منها، و الاستفادة منها، فيما سيقت له.

24- الإسرائيليات في قصّة يأجوج و مأجوج
اشارة

من الإسرائيليات التي اتسمت بالغرابة، و الخروج عن سنة اللّه في الفطرة، و خلق بني آدم ما ذكره بعض المفسرين في تفاسيرهم، عند قوله تعالى: قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَ بَيْنَهُمْ سَدًّا «2».

(1) تفسير ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ، ج 3، ص 100.

(2) الكهف/ 94.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 245

فقد ذكروا عن يأجوج و مأجوج الشي ء الكثير من العجائب و الغرائب،

قال السيوطي في «الدر المنثور» «1»: أخرج ابن أبي حاتم، و ابن مردويه، و ابن عدي، و ابن عساكر، و ابن النجار، عن حذيفة قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن يأجوج، و مأجوج، فقال: «يأجوج و مأجوج أمّة، كل أمّة أربعمائة ألف أمّة، لا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف رجل من صلبه، كل حمل السلاح». قلت: يا رسول اللّه، صفهم لنا، قال: «هم ثلاثة أصناف: صنف منهم أمثال الأرز». قلت: و ما الأرز؟ قال: «شجر بالشام طول الشجرة عشرون و مائة ذراع في السماء. قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هؤلاء الذين لا يقوم لهم جبل، و لا حديد. و صنف منهم يفترش إحدى أذنيه، و يلتحف بالأخرى، لا يمرّون بفيل، و لا وحش، و لا جمل، و لا خنزير إلّا أكلوه، و

من مات منهم أكلوه، مقدّمتهم بالشام و ساقتهم يشربون أنهار المشرق، و بحيرة طبرية».

و قد ذكر ابن جرير في تفسيره هذه الرواية و غيرها من الروايات الموقوفة، و كذلك صنع القرطبي في تفسيره. و إذا كان بعض الزنادقة استباحوا لأنفسهم نسبة هذا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فكيف استباح هؤلاء الأئمة ذكر هذه المرويات المختلقة المكذوبة على رسول اللّه في كتبهم؟! و هذا الحديث المرفوع نص الإمام أبو الفرج ابن الجوزي- في موضوعاته و غيره- على أنه موضوع، و وافقه السيوطي في «اللئالئ» «2» فكيف يذكره في تفسيره و لا يعقّب عليه؟! و حقّ له أن يكون موضوعا، فالمعصوم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أجلّ من أن يروى عنه مثل

(1) ج 5، ص 250 و 251.

(2) اللئالئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، ج 1، ص 173 فما بعد.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 246

هذه الخرافات. و في كتب التفسير من هذا الخلط و أحاديث الخرافة شي ء كثير، و رووا في هذا عن عبد اللّه بن عمرو، و عبد اللّه بن عمر، و عبد اللّه بن مسعود، و عن كعب الأحبار. و لكي تتأكّد أن ما رفع إلى رسول اللّه إنما هي إسرائيليّات، و قد نسبت إلى النبي زورا و كذبا، نذكر لك ما روي عن كعب، قال: «خلق يأجوج و مأجوج، ثلاثة أصناف: صنف كالأرز، و صنف أربعة أذرع طول، و أربعة أذرع عرض، و صنف يفترشون آذانهم، و يلتحفون بالأخرى، يأكلون مشائم «1» نسائهم».

و على حين نراهم يذكرون من هول و عظم خلقهم ما سمعت؛ إذ هم يروون عن ابن عباس رحمهما اللّه أنه

قال: «إن يأجوج و مأجوج شبر، و شبران، و أطولهم ثلاثة أشبار، و هم من ولد آدم»، بل

رووا عنه أنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «بعثني اللّه ليلة أسري بي إلى يأجوج و مأجوج، فدعوتهم إلى دين اللّه و عبادته فأبوا أن يجيبوني، فهم في النار، مع من عصى من ولد آدم و إبليس».

و العجب أن السيوطي قال عن هذا الحديث: إن سنده واه. و لا أدري لم ذكره مع و هاء سنده؟!

قال في تفسيره: و أخرج عبد بن حميد، و ابن المنذر، و الطبراني و البيهقي في البعث، و ابن مردويه، و ابن عساكر عن ابن عمر، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إن يأجوج و مأجوج من ولد آدم، و لو أرسلوا لأفسدوا على الناس معايشهم، و لا يموت رجل منهم إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا، و إنّ من ورائهم ثلاث أمم: تاويل، و تاريس، و منسك».

قال: و أخرج أحمد، و الترمذي- و حسّنه- و ابن ماجة، و ابن حبان، و الحاكم- و صحّحه- و ابن مردويه و البيهقي في البعث، عن أبي هريرة، عن

(1) جمع مشيمة، و هي ما ينزل مع الجنين حين يولّد، و بها يتغذّى في بطن أمه.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 247

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إن يأجوج و مأجوج يحفرون السدّ كل يوم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذي عليهم: ارجعوا، فستفتحونه غدا، و لا يستثنى، فإذا أصبحوا وجدوه قد رجع كما كان، فإذا أراد اللّه بخروجهم على الناس قال الذي عليهم: ارجعوا، فستفتحونه إن

شاء اللّه و يستثنى «1»، فيعودون إليه، و هو كهيئته حين تركوه، فيحفرونه، و يخرجون على الناس، فيستقون المياه، و يتحصّن الناس منهم في حصونهم، فيرمون بسهامهم إلى السماء، فترجع مخضّبة بالدماء، فيقولون: قهرنا من في الأرض، و علونا من في السماء، قسوا، و علوّا، فيبعث اللّه عليهم نغفا «2» في أعناقهم فيهلكون»

، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «فو الذي نفس محمد بيده إنّ دواب الأرض لتسمن، و تبطر، و تشكر شكرا «3» من لحومهم» «4».

و مهما كان سند مثل هذا فهو من الإسرائيليات عن كعب و أمثاله، و قد يكون رفعها إلى النبي غلطا و خطأ من بعض الرواة، أو كيدا يكيد به الزنادقة اليهود للإسلام. و إظهار رسوله بمظهر من يروي ما يخالف القرآن، فالقرآن قد نص بما لا يحتمل الشك على أنهم لم يستطيعوا أن يعلوا السدّ، و لا أن ينقبوه، قال تعالى:

فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَ مَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً «5».

و إليك ما ذكره ابن كثير هنا في تفسيره، قال بعد أن ذكر من رواه: و أخرجه الترمذي من حديث أبي عوانة، عن قتادة، ثم قال: غريب لا يعرف إلّا من هذا

(1) يعنى يقول: «إن شاء اللّه» لأنها في معنى الاستثناء، يعني إلّا أن يشاء اللّه تعالى.

(2) النغف- محركة-: دود يكون في أنوف الإبل و الغنم، واحده: نغفة.

(3) أي تسمن سمنا.

(4) الدر المنثور، ج 4، ص 251.

(5) الكهف/ 97.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 248

الوجه، و إسناده جيد قويّ، و لكن متنه في رفعه نكارة؛ لأن ظاهر الآية يقتضي أنهم لم يتمكّنوا من ارتقائه، و لا من نقبه؛ لإحكام بنائه

و صلابته و شدّته. و لكن هذا قد روي عن كعب الأحبار، أنهم قبل خروجهم يأتونه، فيلحسونه، حتى لا يبقى منه إلّا القليل، فيقولون: غدا نفتحه فيأتون من الغد و قد عاد كما كان، فيلحسونه حتى لا يبقى منه إلّا القليل، فيقولون كذلك، فيصبحون، و هو كما كان، فيلحسونه و يقولون: غدا نفتحه، و يلهمون أن يقولوا: إن شاء اللّه، فيصبحون، و هو كما فارقوه، فيفتحونه، و هذا متجه. و لعل أبا هريرة تلقاه من كعب، فإنه كان كثيرا ما كان يجالسه، و يحدثه، فحدّث به أبو هريرة، فتوهّم بعض الرواة عنه أنه مرفوع، فرفعه، و اللّه أعلم «1».

و من الإسرائيليات المستنكرة في هذا ما روي أن يأجوج و مأجوج خلقا من مني خرج من آدم، فاختلط بالتراب، و زعموا: أن آدم كان نائما فاحتلم، فمن ثم اختلط منيه بالتراب. و معروف أن الأنبياء لا يحتلمون؛ لأن الاحتلام من الشيطان.

قال ابن كثير: و هذا قول غريب جدا، لا دليل عليه، لا من عقل و لا من نقل، و لا يجوز الاعتماد هاهنا على ما يحكيه بعض أهل الكتاب، لما عندهم من الأحاديث المفتعلة، و اللّه أعلم «2».

و الخلاصة:

إن أصحاب الكهف، و ذا القرنين، و يأجوج و مأجوج، حقائق ثابتة لا شك، و كيف لا؟ و قد أخبر بها الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه.

و لكن الذي ننكره أشد الإنكار هذه الخرافات و الأساطير التي حيكت حولهم،

(1) تفسير ابن كثير، ج 3، ص 105. و تفسير البغوي، ج 3، ص 180- 182.

(2) تفسير ابن كثير، ج 3، ص 104.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 249

و تدسّست إلى

المرويات الإسلامية، و اللّه و رسوله بريئان منها، و إنما هي من أخبار بني إسرائيل و أكاذيبهم، و تحريفاتهم.

25- الإسرائيليات في قصة بلقيس ملكة سبأ

و من الإسرائيليات ما ذكره بعض المفسرين، عند تفسير قوله تعالى: قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَ كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «1».

فقد ذكر ابن جرير، و الثعلبي، و البغوي، و الخازن، و غيرهم «أن سليمان أراد أن يتزوّجها، فقيل له: إن رجليها كحافر الحمار، و هي شعراء الساقين، فأمرهم، فبنوا له هذا القصر على هذه الصفة، فلما رأته حسبته لجة، و كشفت عن ساقيها لتخوضه، فنظر سليمان، فإذا هي أحسن الناس قدما و ساقا، إلّا أنها كانت شعراء الساقين، فكره ذلك، فسأل الإنس، ما يذهب هذا؟ قالوا: الموسى «2»، فقالت بلقيس: لم تمسّني حديدة قط، و كره سليمان ذلك، خشية أن تقطع ساقيها، فسأل الجن، فقالوا: لا ندري، ثم سأل الشياطين فقالوا: إنا نحتال لك حتى تكون كالفضة البيضاء، فاتخذوا لها النورة «3» و الحمام، فكانت النورة و الحمام من يومئذ» «4».

(1) النمل/ 44.

(2) المراد: الموسى التي تزيل الشعر.

(3) مادة يزال بها الشعر.

(4) كذب ظاهر، كأن النورة و الحمام لم يكونا إلّا لها، و كأن سليمان عليه السّلام لم يكن له همّ إلّا إزالة شعر ساقيها، و هو تجنّ صارخ على الأنبياء، و إظهارهم بمظهر المتهالك على النساء و محاسنهنّ، فقبّح اللّه اليهود.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 250

و قد روي هذا عن ابن عباس- رضوان اللّه عليه- و مجاهد، و عكرمة، و محمد بن كعب القرظي، و السدّي، و ابن

جريج و غيرهم.

و روي أيضا أنها سألت سيدنا سليمان عن أمرين، قالت له: أريد ماء ليس من أرض و لا من سماء!! فسأل سليمان الإنس، ثم الجن، ثم الشياطين، فقالت الشياطين: هذا هيّن، أجر الخيل، ثم خذ عرقها، ثم املأ منه الآنية، فأمر بالخيل فأجريت، ثم أخذ العرق، فملأ منه الآنية!! و سألته عن لون اللّه عزّ و جل فوثب سليمان عن سريره، و فزع من السؤال، و قال:

لقد سألتني يا رب عن أمر، إنه ليتعاظم في قلبي أن أذكره لك، و لكن اللّه أنساه، و أنساهم ما سألته عنه.

و أن الشياطين خافوا لو تزوّجها سليمان، و جاءت بولد، أن يبقوا في عبوديته، فصنعوا له هذا الصرح الممرد «1»، فظنته ماء، فكشفت عن ساقيها لتعبره، فإذا هي شعراء، فاستشارهم سليمان، ما يذهبه؟ فجعلت له الشياطين النورة «2».

قال ابن كثير في تفسيره، بعد أن ذكر بعض المرويات: و الأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب، مما وجد في صحفهم، كرواية كعب، و وهب، فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل من الأوابد «3»، و الغرائب، و العجائب مما كان، و ما لم يكن، و مما حرّف، و بدّل، و نسخ. و قد أغنانا اللّه عن ذلك بما هو أصح منه، و أنفع، و أوضح، و أبلغ، و للّه الحمد و المنة.

(1) الصرح: هو القصر المشيد المحكم البناء، المرتفع في السماء، و الممرد: الناعم الأملس.

القوارير: الزجاج الشديد الصفاء.

(2) تفسير ابن كثير، ج 3، ص 366. و تفسير البغوي، ج 3، ص 421 و 422.

(3) جمع آبدة، و هي الأمور المشكلة البعيدة المعاني، و أصل الآبدة: النافرة من الوحش التي

يستعصى أخذها، ثم شبّه بها الكلام المشكل العويص المعاني.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 251

و الحق أن سليمان عليه السّلام أراد ببنائه الصرح أن يريها عظمة ملكه، و سلطانه، و أن اللّه- سبحانه و تعالى- أعطاه من الملك، و من أسباب العمران و الحضارة ما لم يعطها، فضلا عن النبوة التي هي فوق الملك، و التي دونها أية نعمة، و حاشا لسليمان عليه السّلام و هو الذي سأل اللّه أن يعطيه حكما يوافق حكمه- أي اللّه-، فأوتيه أن يتحايل هذا التحايل، حتى ينظر إلى ما حرّم اللّه عليه، و هما ساقاها، و هو أجلّ من ذلك و أسمى.

و لو لا أنها رأت من سليمان ما كان عليه من الدين المتين، و الخلق الرفيع، لما أذعنت إليه لمّا دعاها إلى اللّه الواحد الحق، و لما ندمت على ما فرط منها من عبادة الكواكب و الشمس، و أسلمت مع سليمان للّه رب العالمين.

26- الإسرائيليات في هديّة ملكة سبأ لسيدنا سليمان

و من الإسرائيليات ما ذكره كثير من المفسرين، كابن جرير، و الثعلبي، و البغوي، و صاحب «الدر»، في الهديّة التي أرسلتها بلقيس إلى سيدنا سليمان عليه السّلام، و إليك ما ذكره البغوي في تفسيره، و ذلك عند تفسير قوله تعالى:

وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ «1».

قال البغوي:

فأهدت إليه وصفاء و وصائف. قال ابن عباس: ألبستهم لباسا واحدا كي لا يعرف الذكر من الأنثى. و قال مجاهد: ألبس الغلمان لباس الجواري، و ألبس

(1) النمل/ 35.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 252

الجواري ألبسة الغلمان. و اختلفوا في عددهم، فقال ابن عباس: مائة و صيف، و مائة و صيفة «1». و قال مجاهد و مقاتل: مائتا غلام، و مائتا جارية.

و قال قتادة و سعيد بن جبير و غيرهما: أرسلت إليه بلبنة من ذهب في حرير، و ديباج.

و قال وهب و غيره: عمدت بلقيس إلى خمسمائة غلام، و خمسمائة جارية، فألبست الغلمان لباس الجواري، و جعلت في سواعدهم أساور من ذهب، و في أعناقهم أطواقا من ذهب، و في آذانهم أقراطا، و شتوفا مرصعات بأنواع الجواهر. و ألبست الجواري لباس الغلمان: الأقبية و المناطق، و حملت الجواري على خمسمائة رمكة «2»، و الغلمان على خمسمائة برذون «3»، على كل فرس لجام من ذهب مرصع بالجواهر، و غواشيها من الديباج الملوّن. و بعثت إليه خمسمائة لبنة من ذهب و خمسمائة لبنة من فضة، و تاجا مكلّلا بالدر و الياقوت. و أرسلت إليه المسك و العنبر و العود، و عمدت إلى حقّة، فجعلت فيها درّة ثمينة غير مثقوبة، و خرزة مثقوبة معوجّة الثقب. و أرسلت مع الهدية رجالا من عقلاء قومها، و كتبت معهم كتابا إلى سليمان بالهديّة. و قالت: إن كنت نبيا فميّز لي بين الوصائف و الوصفاء، و أخبرني بما في الحقّة قبل أن تفتحها، و اثقب الدر ثقبا مستويا، و أدخل خيطا في الخرزة المثقوبة من غير علاج إنس و لا جن.

و رووا أيضا: أن سليمان عليه السّلام أمر الجن أن يضربوا لبنات الذهب و لبنات الفضة، ففعلوا، ثم أمرهم أن يفرشوا الطريق من موضعه الذي هو فيه إلى تسعة فراسخ ميدانا واحدا، بلبنات الذهب و الفضة!! و أن يعدّوا في الميدان أعجب

(1) أي خادم، و خادمة.

(2) أنثى البغال.

(3) البغل.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 253

دواب البر و البحر، فأعدّوها. ثم قعد على سريره، و أمر الشياطين أن يصطفوا

صفوفا فراسخ، و أمر الإنس فاصطفوا فراسخ، و أمر الوحوش و السباع و الهوام و الطير، فاصطفوا فراسخ عن يمينه و عن يساره، فلما دنا القوم من الميدان، و نظروا إلى ملك سليمان، و رأوا الدواب التي لم تر أعينهم مثلها تروث على لبن الذهب و الفضة، تقاصرت أنفسهم، و رموا بما معهم من الهدايا. ثم كان أن استعان سليمان بجبريل و الشياطين، و الأرضة في الإجابة عما سألته عنه «1».

و معظم ذلك مما لا نشك أنه من الإسرائيليات المكذوبة «2»، و أي ملك في الدنيا يتسع لفرش تسعة فراسخ بلبنات الذهب و الفضة؟!! و في رواية وهب ما يدل على الأصل الذي جاءت منه هذه المرويّات. و أن من روى ذلك من السلف فإنما أخذه عن مسلمة أهل الكتاب. و ما كان أجدر بكتب التفسير أن تنزّه عن مثل هذا اللغو و الخرافات التي تدسست إلى الرواية الإسلامية فأساءت إليها.

27- الإسرائيليات في قصة الذبيح و أنه إسحاق
اشارة

و من الإسرائيليات ما يذكره كثير من المفسرين، عند تفسير قوله تعالى:

وَ قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ. رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ. فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ.

(1) تفسير البغوي، ج 3، ص 417 و 418.

(2) تفسير ابن كثير، ج 3، ص 363.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 254

فَلَمَّا أَسْلَما وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ «1» وَ نادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ. وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ كَذلِكَ

نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ. وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ. وَ بارَكْنا عَلَيْهِ وَ عَلى إِسْحاقَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ «2».

فقد روى كثير من المفسرين، منهم ابن جرير «3»، و البغوي «4»، و صاحب «الدر» «5» في هذا روايات كثيرة، عن بعض الصحابة و التابعين و كعب الأحبار: أن الذبيح هو إسحاق.

و لم يقف الأمر عند الموقوف على الصحابة و التابعين، بل رفعوا ذلك زورا إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

روى ابن جرير، عن أبي كريب، عن زيد بن حباب، عن الحسن بن دينار، عن علي بن زيد بن جدعان، عن الحسن، عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «الذبيح إسحاق».

و هو حديث ضعيف ساقط لا يصح الاحتجاج به؛ فالحسن بن دينار متروك، و شيخه علي بن زيد بن جدعان منكر الحديث «6».

و

أخرج الديلمي في مسند الفردوس بسنده عن أبي سعيد الخدري، قال: قال

(1) أضجعه على جبينه على الأرض، و للإنسان جبينان و الجبهة بينهما.

(2) الصافات/ 99- 113.

(3) تفسير الطبري، ج 23، ص 51.

(4) تفسير البغوي، ج 4، ص 32.

(5) تفسير الدر المنثور، ج 5، ص 279- 284.

(6) تفسير ابن كثير، ج 4، ص 17.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 255

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إن داود سأل ربه مسألة، فقال: اجعلني مثل إبراهيم، و إسحاق، و يعقوب، فأوحى اللّه إليه: إني ابتليت إبراهيم بالنار فصير، و ابتليت إسحاق بالذبح فصبر، و ابتليت يعقوب فصبر».

و

بما أخرجه الدار قطني، و الديلمي في مسند

الفردوس بسندهما عن ابن مسعود، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الذبيح إسحاق».

و هي أحاديث لا تصحّ و لا تثبت، و أحاديث الديلمي في مسند الفردوس شأنها معروف، و الدار قطني ربما يخرج في سننه ما هو موضوع «1».

و

أخرج الطبراني في «الأوسط»، و ابن أبي حاتم في تفسيره، من طريق الوليد ابن مسلم، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إن اللّه تعالى خيرني بين أن يغفر لنصف أمتي أو شفاعتي، فاخترت شفاعتي و رجوت أن تكون أعم لأمتي، و لو لا الذي سبقني إليه العبد الصالح لعجّلت دعوتي، إن اللّه تعالى لما فرّج عن إسحاق كرب الذبح قيل له يا إسحاق: سل تعطه قال: أما و اللّه لأتعجلنّها قبل نزغات الشيطان، اللهم من مات لا يشرك باللّه شيئا قد أحسن فاغفر له» «2».

و عبد الرحمن بن زيد، بن أسلم، ضعيف، و يروي المنكرات، و الغرائب فلا يحتج بمروياته و قال ابن كثير: الحديث غريب منكر، و أخشى أن يكون فيه زيادة مدرجة، و هو قوله: «إن اللّه لما فرّج ...» و إن كان محفوظا، فالأشبه أنه إسماعيل، و حرّفوه بإسحاق، إلى غير ذلك من الأخبار، و فيها من الموقوف و الضعيف، و الموضوع كثير. و متى صح حديث مرفوع في أن الذبيح إسحاق

(1) انظر أعلام المحدّثين للأستاذ أبي شهبة.

(2) تفسير الآلوسي، ج 23، ص 123.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 256

قبلناه، و وضعناه على العين و الرأس، و لكنها كما رأيت لم يصح منها شي ء.

و

الحق أن المرويات في أن الذبيح إسحاق هي من إسرائيليات أهل الكتاب، و قد نقلها من أسلم منهم، ككعب الأحبار. و حملها عنهم بعض الصحابة و التابعين تحسينا للظن بهم، فذهبوا إليه. و جاء بعدهم العلماء فاغتروا بها، و ذهبوا إلى أن الذبيح إسحاق «1». و ما من كتاب من كتب التفسير، و السير، و التواريخ إلّا و يذكر فيه الخلاف بين السلف في هذا، إلّا أنّ منهم من يعقّب ببيان وجه الحق في هذا؛ و منهم من لا يعقّب اقتناعا بها، أو تسليما لها.

و حقيقة هذه المرويات أنها من وضع أهل الكتاب، لعداوتهم المتأصّلة من قديم الزمان للنبي الأمي العربي، فقد أرادوا أن لا يكون لإسماعيل الجد الأعلى للنبي فضل أنه الذبيح حتى لا ينجرّ ذلك إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إلى المسلمين.

نص التوراة

ففي التوراة (الإصحاح الثاني و العشرون- فقره 2): «فقال الرب: خذ ابنك

(1) تفسير ابن كثير، ج 4، ص 16- 17.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 257

وحيدك الذي تحبه إسحاق، و اذهب إلى أرض المريا، و أصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك ...» «1».

و ليس أدل على كذب هذا، من كلمة «وحيدك»، و إسحاق عليه السّلام لم يكن وحيدا قط! لأنه ولد و لإسماعيل نحو أربع عشرة سنة، كما هو صريح توراتهم في هذا. و قد بقي إسماعيل عليه السّلام حتى مات أبوه الخليل، و حضر وفاته، و دفنه، و إليك ما ورد في هذا:

ففي سفر التكوين (الإصحاح السادس عشر الفقرة 16) ما نصه:

«و كان أبرام- يعني إبراهيم- ابن ست و ثمانين سنة، لما ولدت هاجر إسماعيل لأبرام»، و في

سفر التكوين: (الإصحاح الحادي و العشرون فقرة 5) ما نصه: «و كان إبراهيم ابن مائة سنة، حين ولد له إسحاق ابنه».

و في الفقرة (9) و ما بعدها ما نصه:

(9) و رأت سارة ابن هاجر المصرية الذي ولدته لإبراهيم يمرح (10) فقالت لإبراهيم: اطرد هذه الجارية و ابنها، لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق (11) فقبح الكلام جدا في عيني إبراهيم لسبب ابنه (12) فقال اللّه لإبراهيم:

لا يقبح في عينيك من أجل الغلام، و من أجل جاريتك، في كل ما تقول سارة اسمع لقولها، لأنه بإسحاق يدعى لك نسل (13) و ابن الجارية أيضا سأجعله أمّة، لأنه نسلك» «2» إلى آخر القصة.

(1) و قد ذكرت القصة في التوراة في 14 فقرة، فليرجع إليها من يشاء لتكون لنا الحجة عليهم، من نفس كتابهم المقدس.

(2) و يصدق هذا كتاب اللّه الشاهد على الكتب السماوية كلها، قوله سبحانه حكاية لمقالة إبراهيم، و إسماعيل عليهما السّلام بعد أن بنيا البيت: رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 258

فما قولكم يا أيها اليهود المحرفون؟!، و كيف يتأتى أن يكون إسحاق وحيدا؟! مع هذه النصوص التي هي من توراتكم التي تعتقدون صحتها، و تزعمون أنها ليست محرفة!!، ثم ما رأيكم أيها المغترون بروايات أن الذبيح إسحاق، بعد ما تأكدتم تحريف التوراة في هذا؟

و قد دل القرآن الكريم، و دلت التوراة، و رواية البخاري و غيره على أن الخليل إبراهيم عليه السلام أسكن هاجر و ابنها عند مكان البيت المحرم؛ حيث بنى فيما بعد، و قامت مكة بجواره. و قد عبرت التوراة بأنهما كانا في برية فاران، و فاران

هي مكة، كما يعبر عنها في العهد القديم. و هذا هو الحق في أن قصة الذبح كان مسرحها بمكة و منى، و فيها يذبح الحجاج ذبائحهم اليوم. و قد حرف اليهود النص الأول و جعلوه «جبل المريا»، و هو الذي تقع عليه مدينة أورشليم القديمة- مدينة القدس اليوم- ليتم لهم ما أرادوا، فأبى الحق إلا أن يظهر تحريفهم!! و قد ذكر ابن كثير: أن في بعض نسخ التوراة «بكرك» «1» بدل «وحيدك» و هو أظهر في البطلان، و أدل على التحريف؛ إذ لم يكن إسحاق بكرا للخليل بنص التوراة، كما ذكرنا آنفا.

الذبيح هو إسماعيل عليه السلام

و الحق أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام، و هو الذي يدل عليه ظواهر الآيات القرآنية، و الآثار عن الصحابة و التابعين، و منها ما له حكم الرفع بتقرير

مُسْلِمَةً لَكَ و لو أن اليهود وعوا ما جاء في التوراة و القرآن، لعلموا أنه ستكون أمة لها شأنها من نسل إسماعيل، و لما حسدوا المسلمين على هذا الفضل.

(1) أول مولود يولد للشخص. راجع: تفسير ابن كثير، ج 4، ص 14.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 259

النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم له.

فلا عجب أن ذهب إليه جمهرة الصحابة، و التابعين، و من بعدهم، و أئمة العلم و الحديث، منهم الصحابة النجباء، و السادة العلماء: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السّلام، سعيد بن جبير، و مجاهد، و الشعبي، و الحسن البصري، و محمد بن كعب القرظي، و سعيد بن المسيب، و الإمام أبو جعفر محمد الباقر عليه السّلام، و أبو صالح، و الربيع بن أنس، و أبو عمرو ابن العلاء، و أحمد بن حنبل و غيرهم، و هو إحدى الروايتين، و

أقواهما عن ابن عباس.

و في «زاد المعاد»، لابن القيم: أنه الصواب عند علماء الصحابة و التابعين فمن بعدهم.

و هذا الرأي هو المشهور عند العرب قبل البعثة، نقلوه بالتواتر جيلا عن جيل، و ذكره أمية بن أبي الصلت في شعر له.

قال: و لا خلاف بين النسّابين أن عدنان من ولد إسماعيل عليه السّلام، و إسماعيل هو القول الصواب عند علماء الصحابة و التابعين و من بعدهم. و أما القول بأنه إسحاق فباطل من عشرين وجها. قال ابن تيميّة: هذا القول متلقّى عن أهل الكتاب، مع أنه باطل بنص كتابهم، فإن فيه: «إن اللّه أمر إبراهيم بذبح ابنه بكره»، و في لفظ «وحيده» و لا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده، و الذي غرّ هؤلاء أنه في التوراة التي بأيديهم: «اذبح ابنك إسحاق». قال:

و هذه الزيادة من تحريفهم و كذبهم؛ لأنها تناقض قوله: «اذبح بكرك و وحيدك»، و لكنّ اليهود حسدت بني إسماعيل على هذا الشرف، و أحبّوا أن يكون لهم، و أن يسوقوه إليهم، و يختاروه لأنفسهم دون المسلمين، و يأبى اللّه إلّا أن يجعل فضله لأهله.

و كيف يسوغ أن يقال: إن الذبيح إسحاق؟ و اللّه تعالى قد بشّر أم إسحاق به،

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 260

و بابنه يعقوب، قال تعالى: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ «1».

فمحال أن يبشرها بأن يكون لها ولد، و للولد ولد، ثم يأمر بذبحه. و لا ريب أن يعقوب عليه السّلام داخل في البشارة، و يدل عليه أيضا أن اللّه ذكر قصة إبراهيم و ابنه الذبيح في سورة الصافات، ثمّ قال- بعدها-: وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ «2». و هذا ظاهر جدّا

في أن المبشّر به غير الأول، بل هو كالنص فيه، و غير معقول في أفصح الكلام و أبلغه أن يبشّر بإسحاق بعد قصة يكون فيها هو الذبيح، فتعيّن أن يكون الذبيح غيره.

و أيضا فلا ريب أن الذبيح كان بمكة؛ و لذلك جعلت القرابين يوم النحر بها، كما جعل السعي بين الصفا و المروة، و رمي الجمار تذكيرا لشأن إسماعيل و أمّه، و إقامته لذكر اللّه، و معلوم أن إسماعيل و أمه هما اللذان كانا بمكة دون إسحاق و أمّه.

و لو كان الذبح بالشام كما يزعم أهل الكتاب؛ لكانت القرابين و النحر بالشام، لا بمكة، و أيضا فإن اللّه سبحانه سمّى الذبيح حليما؛ لأنه لا أحلم ممن أسلم نفسه للذبح طاعة لربه، و لمّا ذكر إسحاق سماه عليما: قالُوا لا تَخَفْ وَ بَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ «3». و هذا إسحاق بلا ريب؛ لأنه من امرأته و هي المبشرة به، و أما إسماعيل فمن السرية «4»، و أيضا فلأنهما بشّرا به على الكبر و اليأس من الولد، فكان ابتلاؤهما بذبحه أمرا بعيدا، و أما إسماعيل فإنه ولد قبل ذلك ... إلى آخر ما

(1) هود/ 71.

(2) الصافات/ 112.

(3) الذاريات/ 28.

(4) أي الجارية.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 261

قال «1».

و شهد شاهد من أهلها

و روى ابن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظي، أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز و هو خليفة، فقال له عمر: إنّ هذا لشي ء ما كنت أنظر فيه، و إني لأراه كما قلت. ثم أرسل إلى رجل كان يهوديا، فأسلم و حسن إسلامه، و كان من علمائهم، فسأله: أيّ ابني إبراهيم أمر بذبحه؟، فقال: إسماعيل- و اللّه- يا أمير المؤمنين، و إن يهود لتعلم

بذلك، و لكنهم يحسدونكم. و هذا هو الحق الذي يجب أن يصار إليه. قال ابن كثير في تفسيره: «و الذي استدل به محمد بن كعب القرظي على أنه إسماعيل أثبت، و أصح، و أقوى، و اللّه أعلم» «2».

قال أبو شهبة: و بعد هذا التحقيق و البحث، يتبيّن لنا أن الصحيح أن الذبيح إسماعيل عليه السّلام، و أن ما روي من أنه إسحاق، المرفوع منه إمّا موضوع، و إمّا ضعيف لا يصحّ الاحتجاج به، و الموقوف منه على الصحابة أو على التابعين إن صح سنده إليهم هو من الإسرائيليات التي رواها أهل الكتاب الذين أسلموا، و أنها في أصلها من دسّ اليهود، و كذبهم، و تحريفهم للنصوص حسدا منهم. فقاتلهم اللّه أنّى يؤفكون.

و قد جاز هذا الدسّ اليهودي على بعض كبار العلماء كابن جرير «3»، و القاضي عياض، و السهيلي، فذهبوا إلى أنه إسحاق، و تحيّر بعضهم في

(1) زاد المعاد، ج 1، ص 13- 14.

(2) تفسير ابن كثير، ج 4، ص 18.

(3) جامع البيان، ج 23، ص 54- 55.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 262

الروايات فتوقف، كالسيوطي و ابن الأثير «1» و حاول بعضهم الجمع بينها فزعم أن الذّبح وقع مرّتين، و الحق: ما وضّحناه لك، فلا تجوّز، و لا تتوقّف و لا تقل بالتكرار، و اللّه الهادي إلى الحق.

تحريفهم للتوراة

و لأجل أن يكون هذا الفضل لجدهم إسحاق عليه السّلام لا لأخيه إسماعيل حرّفوا التوراة في هذا، و لكن اللّه أبى إلّا أن يغفلوا عما يدلّ على هذه الجريمة النكراء؛ و الجاني غالبا يترك من الآثار ما يدلّ على جريمته، و الحق يبقى له شعاع، و لو خافت، يدلّ عليه، مهما

حاول المبطلون إخفاء نوره، و طمس معالمه. فقد حذفوا من التوراة لفظ «إسماعيل»، و وضعوا بدله لفظ «إسحاق»، و لكنهم غفلوا عن كلمة كشفت عن هذا التزوير، و ذاك الدسّ المشين.

28- الإسرائيليات في قصة إلياس عليه السّلام

و من الإسرائيليات التي اشتملت عليها بعض كتب التفسير ما ذكروه في قصة إلياس عليه السّلام عند تفسير قوله تعالى: وَ إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ لا تَتَّقُونَ. أَ تَدْعُونَ بَعْلًا وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ. اللَّهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ. فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ. إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ. وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ «2».

فقد روى البغوي، و الخازن، و صاحب «الدر»، و غيرهم، عن ابن عباس، و الحسن، و كعب الأحبار، و وهب بن منبّه، مرويات تتعلق بإلياس عليه السّلام.

قال صاحب «الدر المنثور»: أخرج ابن عساكر، عن الحسن رضى اللّه عنه في قوله:

وَ إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، قال: إن اللّه تعالى بعث إلياس إلى بعلبك، و كانوا قوما يعبدون الأصنام، و كانت ملوك بني إسرائيل متفرقة على العامة، كل ملك على ناحية يأكلها، و كان الملك الذي كان إلياس معه يقوم له أمره، و يقتدي برأيه، و هو على هدى من بين أصحابه، حتى وقع إليهم قوم من عبدة الأصنام، فقالوا له: ما يدعوك إلّا إلى الضلالة و الباطل، و جعلوا يقولون له: اعبد هذه الأوثان التي تعبد

(1) الدر المنثور، ج 5، ص 280. و الكامل في التاريخ، ج 1 ص 108- 111.

(2) الصافات/ 123- 132.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 263

الملوك، و هم على ما نحن عليه، يأكلون، و يشربون، و هم في ملكهم يتقلّبون، و

ما تنقص دنياهم من ربهم الذي تزعم أنه باطل، و ما لنا عليهم من فضل.

فاسترجع إلياس، فقام شعر رأسه، و جلده، فخرج عليه إلياس.

قال الحسن: و إن الذي زيّن لذلك الملك امرأته، و كانت قبله تحت ملك جبار، و كان من الكنعانيين في طول و جسم و حسن، فمات زوجها فاتخذت تمثالا على صورة بعلها من الذهب، و جعلت له حدقتين من ياقوتتين، و توّجته بتاج مكلّل بالدر و الجوهر، ثم أقعدته على سرير، تدخل عليه، فتدخّنه، و تطيبه، و تسجد له، ثم تخرج عنه. فتزوجت بعد ذلك هذا الملك الذي كان إلياس معه.

و كانت فاجرة قد قهرت زوجها، و وضعت البعل في ذلك البيت، و جعلت سبعين سادنا «1»، فعبدوا البعل. فدعاهم إلياس إلى اللّه فلم يزدهم ذلك إلّا بعدا، فقال إلياس: اللهم إن بني إسرائيل قد أبوا إلّا الكفر بك، و عبادة غيرك، فغيّر ما بهم من نعمتك. فأوحى اللّه إليه: إني قد جعلت أرزاقهم بيدك، فقال: اللّهم أمسك عنهم القطر ثلاث سنين، فأمسك اللّه عنهم القطر. و أرسل إلى الملك فتاه اليسع، فقال: قل له: إن إلياس يقول لك: إنك اخترت عبادة البعل على عبادة اللّه، و أتبعت هوى امرأتك، فاستعد للعذاب و البلاء. فانطلق اليسع، فبلغ رسالته للملك، فعصمه اللّه تعالى من شر الملك، و أمسك اللّه عنهم القطر، حتى هلكت الماشية و الدواب، و جهد الناس جهدا شديدا. و خرج إلياس إلى ذروة جبل، فكان اللّه يأتيه برزق، و فجر له عينا معينا لشرابه و طهوره. حتى أصاب الناس الجهد، فأرسل الملك إلى السبعين، فقال لهم: سلوا البعل أن يفرج ما بنا، فأخرجوا أصنامهم، فقربوا لها الذبائح، و عطفوا عليها،

و جعلوا يدعون، حتى طال

(1) هو الذي يقوم بخدمة الأصنام.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 264

ذلك بهم، فقال لهم الملك: إن إله إلياس كان أسرع إجابة من هؤلاء. فبعثوا في طلب إلياس، فأتى، فقال: أ تحبون أن يفرج عنكم؟ قالوا: نعم، قال: فأخرجوا أوثانكم. فدعا إلياس عليه السّلام ربه أن يفرج عنهم، فارتفعت سحابة مثل الترس «1»، و هم ينظرون، ثم أرسل اللّه عليهم المطر، فتابوا و رجعوا.

قال: و أخرج ابن عساكر، عن كعب، قال: «أربعة أنبياء اليوم أحياء، اثنان في الدنيا: إلياس و الخضر، و اثنان في السماء: عيسى و إدريس».

قال: و أخرج ابن عساكر، عن وهب، قال: دعا إلياس عليه السّلام ربه، أن يريحه من قومه، فقيل له: انظر يوم كذا و كذا، فإذا رأيت دابة لونها مثل لون النار فاركبها.

فجعل يتوقع ذلك اليوم، فإذا هو بشي ء قد أقبل على صورة فرس، لونه كلون النار، حتى وقف بين يديه، فوثب عليه، فانطلق به، فكان آخر العهد به، فكساه اللّه الريش، و كساه النور، و قطع عنه لذة المطعم و المشرب، فصار في الملائكة عليهم السّلام.

قال: و أخرج ابن عساكر، عن الحسن رضى اللّه عنه قال: إلياس عليه السّلام موكل بالفيافي.

و الخضر عليه السّلام بالجبال، و قد أعطيا الخلد في الدنيا إلى الصيحة الأولى «2»، و أنهما يجتمعان كل عام بالموسم.

قال: و أخرج الحاكم، عن كعب، قال: كان إلياس صاحب جبال و برية يخلو فيها، يعبد ربه عزّ و جل، و كان ضخم الرأس، خميص البطن، دقيق الساقين، في صدره شامة حمراء، و إنما رفعه اللّه إلى أرض الشام، لم يصعد به إلى السماء، و هو الذي

(1) ما يلبسه

المحارب.

(2) يعني النفخة الأولى في الصور.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 265

سماه اللّه ذا النون «1».

و كل هذا من أخبار بني إسرائيل و تزيّداتهم، و اختلاقاتهم، و ما روي منها عن بعض الصحابة و التابعين، فمرجعه إلى مسلمة أهل الكتاب ككعب، و وهب و غيرهما، و قد رأيت كيف تضارب و تناقض كعب و وهب، فكعب يقول:

لم يصعد به إلى السماء، و يزعم أنه ذو النون، و وهب يقول: إنه رفعه إلى السماء، و صار في عداد الملائكة عليهم السّلام و أن بعض الروايات تقول: إنه الخضر، و البعض الآخر يقول: إنه غير الخضر، إلى غير ذلك من الاضطرابات و الأباطيل، كزعم مختلق الروايات الأولى: «أن اللّه أوحى إلى إلياس إني قد جعلت أرزاقهم بيدك».

بينما في بعض الروايات الأخرى: أن اللّه أبى عليه ذلك مرّتين، و أجابه في الثالثة، و هكذا الباطل يكون مضطربا لجلجا، و أما الحق فهو ثابت أبلج.

و لم يقف الأمر عند نقل هذه الإسرائيليات عمن ذكرنا، بل بلغ الافتراء ببعض الزنادقة و الكذابين إلى نسبة ذلك إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كي يؤيد به أكاذيب بني إسرائيل و خرافاتهم، و كي يعود ذلك بالطعن على صاحب الرسالة العامة الخالدة صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

قال السيوطي في «الدر»: و أخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضى اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الخضر هو إلياس».

و

أخرج الحاكم و صححه و البيهقي في «الدلائل» و ضعفه عن أنس رضى اللّه عنه قال: كنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في سفر، فنزلنا منزلا، فإذا رجل

في الوادي يقول:

اللهم اجعلني من أمة محمد المرحومة، المغفورة، المثاب لها، فأشرفت على الوادي، فإذا رجل طوله ثلاثمائة ذراع و أكثر، فقال: من أنت؟ قلت: أنس، خادم

(1) الدر المنثور، ج 5، ص 280 و 281.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 266

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: أين هو؟ قلت: هو ذا يسمع كلامك، قال: فأته و أقرئه مني السلام، و قل له: أخوك إلياس يقرئك السلام. فأتيت النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأخبرته، فجاء حتى عانقه، و قعدا يتحدثان، فقال له: يا رسول اللّه، إني إنما آكل في كل سنة يوما، و هذا يوم فطري فكل أنت و أنا، فنزلت عليهما مائدة من السماء، و خبز و حوت و كرفس، فأكلا، و أطعماني، و صليا العصر، ثم ودّعني و ودّعته، ثم رأيته مرّ على السحاب نحو السماء.

قال الحاكم: صحيح الإسناد، و قال الإمام الذهبي: بل هو موضوع، قبّح اللّه من وضعه، قال- أي الذهبي-: و ما كنت أحسب و لا أجوّز أن الجهل يبلغ بالحاكم أن يصحّح مثل هذا.

و أخلق بهذا أن يكون موضوعا، كما قاله الإمام الحافظ الناقد الذهبي.

29- الإسرائيليات في قصّة داود عليه السّلام
اشارة

و من الإسرائيليات التي تخلّ بمقام الأنبياء، و تنافي عصمتهم، ما ذكره بعض المفسرين في قصة سيدنا داود عليه السّلام عند تفسير قوله تعالى:

وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ. إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ لا تُشْطِطْ وَ اهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ. إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها «1» وَ عَزَّنِي «2» فِي

الْخِطابِ.

(1) أكفلنيها: ضمها إلي.

(2) عزني: غلبني في القول لقوته، و جاهه و ضعفي.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 267

قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ قَلِيلٌ ما هُمْ وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ راكِعاً وَ أَنابَ. فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ «1».

فقد ذكر ابن جرير، و ابن أبي حاتم، و البغوي، و السيوطي في «الدر المنثور» «2» من الأخبار ما تقشعرّ منه الأبدان، و لا يوافق عقلا، و لا نقلا، عن ابن عباس، و مجاهد، و وهب بن منبّه، و كعب الأحبار، و السدّي، و غيرهم ما محصّلها: أن داود عليه السّلام حدّث نفسه؛ إن ابتلي أن يعتصم، فقيل له: إنك ستبتلى و ستعلم اليوم الذي تبتلي فيه، فخذ حذرك، فقيل له: هذا اليوم الذي تبتلي فيه، فأخذ الزبور «3»، و دخل المحراب، و أغلق بابه، و أقعد خادمه على الباب، و قال:

لا تأذن لأحد اليوم. فبينما هو يقرأ الزبور، إذ جاء طائر مذهّب يدرج بين يديه، فدنا منه، فأمكن أن يأخذه، فطار فوقع على كوّة المحراب، فدنا منه ليأخذه، فطار، فأشرف عليه لينظر أين وقع، فإذا هو بامرأة عند بركتها تغتسل من الحيض، فلما رأت ظله نفضت شعرها، فغطّت جسدها به، و كان زوجها غازيا في سبيل اللّه، فكتب داود إلى رأس الغزاة: أن اجعله في حملة التابوت «4»، و كان حملة التابوت إما أن يفتح عليهم، و إما أن يقتلوا، فقدّمه في حملة التابوت، فقتل. و في بعض هذه الروايات الباطلة: أنه فعل ذلك

ثلاث مرات، حتى قتل في الثالثة، فلمّا انقضت عدّتها، خطبها داود عليه السّلام، فتسوّر عليه الملكان، و كان ما كان، مما حكاه

(1) ص/ 21- 25.

(2) ج 5، ص 300- 302.

(3) كتاب داود عليه السّلام.

(4) صندوق فيه بعض مخلفات أنبياء بني إسرائيل، فكانوا يقدمونه بين يدى الجيش كي ينصروا.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 268

اللّه تعالى.

و لم يقف الأمر عند هذه الروايات الموقوفة عن بعض الصحابة و التابعين، و مسلمة أهل الكتاب، بل جاء بعضها مرفوعا إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

قال صاحب «الدر»: و أخرج الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول»، و ابن جرير، و ابن أبي حاتم بسند ضعيف، عن أنس رضى اللّه عنه قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «إن داود عليه السّلام حين نظر إلى المرأة، قطع «1» على بني إسرائيل، و أوصى صاحب الجيش، فقال: إذا حضر العدو فقرّب فلانا بين يدي التابوت»، و كان التابوت في ذلك الزمان يستنصر به من قدم بين يدي التابوت، لم يرجع حتى يقتل أو ينهزم معه الجيش، فقتل، و تزوج المرأة، و نزل الملكان على داود عليه السّلام فسجد، فمكث أربعين ليلة ساجدا، حتى نبت الزرع من دموعه على رأسه، فأكلت الأرض جبينه، و هو يقول في سجوده: «ربّ زل داود زلة أبعد مما بين المشرق و المغرب، ربّ إن لم ترحم ضعف داود، و تغفر ذنوبه جعلت ذنبه حديثا في المخلوق من بعده. فجاء جبريل عليه السّلام من بعد أربعين ليلة، فقال: يا داود إن اللّه قد غفر لك، و قد عرفت أن اللّه عدل لا يميل، فكيف بفلان

إذا جاء يوم القيامة، فقال: يا ربّ دمي الذي عند داود، قال جبريل: ما سألت ربك عن ذلك، فإن شئت لأفعلن، فقال: نعم، ففرح جبريل، و سجد داود عليه السّلام، فمكث ما شاء اللّه، ثم نزل، فقال: قد سألت اللّه يا داود عن الذي أرسلتني فيه، فقال: قل لداود: إن اللّه يجمعكما يوم القيامة، فيقول له: هب لي دمك الذي عند داود، فيقول: هو لك يا رب، فيقول: فإن لك في الجنة ما شئت، و ما اشتهيت عوضا. و قد رواها البغوي

(1) هي هكذا في «الدر المنثور» و في تفسير البغوي. و لعلها قطع.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 269

أيضا عن طريق الثعلبي «1»

، و الرواية منكرة مختلقة على الرسول. و في سند هذه الرواية المختلقة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ابن لهيعة، و هو مضعف في الحديث، و في سندها أيضا يزيد بن أبان الرقاشي، كان ضعيفا في الحديث.

و قال فيه النسائي، و الحاكم أبو أحمد: إنه متروك، و قال فيه ابن حبان: كان من خيار عباد اللّه، من البكّائين بالليل، غفل عن حفظ الحديث شغلا بالعبادة، حتى كان يقلب كلام الحسن يجعله عن أنس عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فلا تحل الرواية عنه إلّا على جهة التعجب «2».

و قال العلامة ابن كثير في تفسيره «3»: «و قد ذكر المفسرون هاهنا قصة؛ أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات، و لم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتّباعه، و لكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثا لا يصح سنده؛ لأنه من رواية يزيد الرقاشي، عن أنس رضى اللّه عنه، و يزيد و إن كان

من الصالحين، لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة».

و من ثم يتبين لنا كذب رفع هذه الرواية المنكرة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لا نكاد نصدق ورود هذا عن المعصوم، و إنما هي اختلاقات، و أكاذيب من إسرائيليات أهل الكتاب، و هل يشك مؤمن عاقل يقرّ بعصمة الأنبياء، في استحالة صدور هذا عن داود عليه السّلام، ثم يكون على لسان من؟ على لسان من كان حريصا على تنزيه إخوانه الأنبياء عما لا يليق بعصمتهم، و هو نبينا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و مثل هذا التدبير السّيّئ، و الاسترسال فيه على ما رووا، لو صدر من رجل من سوقة

(1) تفسير البغوي، ج 4، ص 52- 59 و الدر المنثور، ج 5، ص 300- 301.

(2) تهذيب التهذيب، ج 11، ص 309.

(3) تفسير ابن كثير، ج 4، ص 31.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 270

الناس و عامتهم، لاعتبر هذا أمرا مستهجنا مستقبحا، فكيف يصدر من رسول جاء لهداية الناس، زكت نفسه، و طهرت سريرته، و عصمه اللّه من الفواحش ما ظهر منها و ما بطن، و هو الأسوة الحسنة لمن أرسل إليهم؟!! و لو أن القصة كانت صحيحة لذهبت بعصمة داود، و لنفرت منه الناس، و لكان لهم العذر في عدم الإيمان به، فلا يحصل المقصد الذي من أجله أرسل الرسل، و كيف يكون على هذه الحال من قال اللّه تعالى في شأنه: وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ؟ قال ابن كثير في تفسيرها: «و إن له يوم القيامة لقربة يقربه اللّه عزّ و جل بها و حسن مرجع، و هو الدرجات العالية في

الجنة لنبوّته و عدله التام في ملكه، كما جاء

في الصحيح: «المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن، و كلتا يديه يمين، الذين يقسطون في أهليهم، و ما ولوا»

، و

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إن أحب الناس إليّ يوم القيامة و أقربهم مني مجلسا إمام عادل، و إن أبغض الناس إليّ يوم القيامة، و أشدهم عذابا إمام جائر» رواه أحمد، و الترمذي «1»

. و لكي يستقيم هذا الباطل قالوا: إن المراد بالنعجة هي المرأة، و أن القصة خرجت مخرج الرمز و الإشارة، و رووا: أن الملكين لما سمعا حكم داود، و قضاءه بظلم صاحب التسع و التسعين نعجة لصاحب النعجة، قالا له: و ما جزاء من فعل ذلك؟ قال: يقطع هذا، و أشار إلى عنقه. و في رواية: «يضرب من هاهنا، و هاهنا، و هاهنا» و أشار إلى جبهته، و أنفه، و ما تحته، فضحكا، و قالا، «أنت أحق بذلك منه، ثم صعدا».

و ذكر البغوي في تفسيره و غيره، عن وهب بن منبه: أن داود لما تاب اللّه عليه بكى على خطيئته ثلاثين سنة، لا يرقأ دمعه ليلا و لا نهارا، و كان أصاب

(1) تفسير ابن كثير، ص 32.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 271

الخطيئة، و هو ابن سبعين سنة، فقسّم الدهر بعد الخطيئة على أربعة أيام: يوم للقضاء بين بني إسرائيل، و يوم لنسائه، و يوم يسيح في الفيافي، و الجبال، و السواحل، و يوم يخلو في دار له فيها أربعة آلاف محراب، فيجتمع إليه الرهبان فينوح معهم على نفسه، فيساعدونه على ذلك. فإذا كان يوم نياحته يخرج في الفيافي، فيرفع صوته بالمزامير، فيبكي، و

يبكي معه الشجر، و الرمال، و الطير، و الوحش، حتى يسيل من دموعهم مثل الأنهار، ثم يجي ء إلى الجبال فيرفع صوته بالمزامير، فيبكي، و تبكي معه الجبال، و الحجارة، و الدواب، و الطير، حتى تسيل من بكائهم الأودية، ثم يجي ء إلى الساحل فيرفع صوته بالمزامير، فيبكي، و تبكي معه الحيتان، و دواب البحر و طير الماء و السباع «1». و الحق: أن الآيات ليس فيها شي ء مما ذكروا، و ليس هذا في شي ء من كتب الحديث المعتمدة، و هي التي عليها المعول، و ليس هناك ما يصرف لفظ النعجة من حقيقته إلى مجازه، و لا ما يصرف القصة عن ظاهرها إلى الرمز و الإشارة.

و ما أحسن ما قال الإمام القاضي عياض: «لا تلتفت إلى ما سطّره الأخباريون من أهل الكتاب، الذين بدّلوا، و غيروا، و نقله بعض المفسرين، و لم ينص اللّه تعالى على شي ء من ذلك في كتابه، و لا ورد في حديث صحيح، و الذي نص عليه في قصة داود: وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ و ليس في قصة داود، و أوريا خبر ثابت «2».

و المحققون ذهبوا إلى ما ذهب إليه القاضي، قال الداودي: ليس في قصة داود و أوريا خبر يثبت، و لا يظن بنبي محبة قتل مسلم، و

قد روي عن الامام

(1) تفسير البغوي، ج 4، ص 57- 58.

(2) الشفا بالتعريف بحقوق المصطفى، ج 2، ص 158.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 272

أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال: من حدّث بحديث داود على ما يرويه القصّاص جلّدته مائة و ستين جلدة، و ذلك حد الفرية على الأنبياء «1»، و هو كلام مقبول و مروىّ عن الامام الصادق عليه

السّلام أيضا «2».

التفسير الصحيح الآيات

و إذا كان ما روي من الإسرائيليات الباطلة التي لا يجوز أن تفسّر بها الآيات، فما التفسير الصحيح لها إذا؟

و الجواب: أن داود عليه السّلام كان قد وزّع مهام أعماله، و مسئولياته نحو نفسه، و نحو الرعية على الأيام، و خصّ كل يوم بعمل، فجعل يوما للعبادة، و يوما للقضاء و فصل الخصومات، و يوما للاشتغال بشئون نفسه و أهله، و يوما لوعظ بني إسرائيل.

ففي يوم العبادة بينما كان مشتغلا بعبادة ربه في محرابه، إذ دخل عليه خصمان تسوّرا عليه من السور، و لم يدخلا من المدخل المعتاد، فارتاع منهما، و فزع فزعا لا يليق بمثله من المؤمنين، فضلا عن الأنبياء المتوكّلين على اللّه غاية التوكّل، الواثقين بحفظه، و رعايته، و ظن بهما سوءا، و أنهما جاءا ليقتلاه، أو يبغيا به شرا، و لكن تبين له أن الأمر على خلاف ما ظن، و أنهما خصمان جاءا يحتكمان إليه. فلما قضى بينهما، و تبين له أنهما بريئان مما ظنه بهما، استغفر ربه، و خرّ ساجدا للّه تعالى تحقيقا لصدق توبته و الإخلاص له، و أناب إلى اللّه غاية

(1) لأن حد القذف لغير الأنبياء ثمانين، فرأى رضى اللّه عنه تضعيفه بالنسبة إلى الأنبياء و في الكذب عليهم رمى لهم بما هم برآء منه، ففيه معنى القذف لداود بالتّعدّي على حرمات الأعراض و التحايل في سبيل ذلك.

(2) راجع الطبرسي، ج 8، ص 472. و البحار، ج 14، ص 29 رقم 6.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 273

الإنابة.

و مثل الأنبياء في علوّ شأنهم، و قوّة ثقتهم باللّه و التوكّل عليه أن لا تعلّق نفوسهم بمثل هذه الظنون بالأبرياء، و مثل هذا الظنّ و

إن لم يكن ذنبا في العادة، إلا أنه بالنسبة للأنبياء يعتبر خلاف الأولى و الأليق بهم، و قديما قيل: «حسنات الأبرار سيئات المقرّبين»، فالرجلان خصمان حقيقة، و ليسا ملكين كما زعموا، و النعاج على حقيقتها، و ليس ثمة رموز و لا إشارات. و هذا التأويل هو الذي يوافق نظم القرآن و يتّفق و عصمة الأنبياء، فالواجب الأخذ به، و نبذ الخرافات و الأباطيل، التي هي من صنع بني إسرائيل، و تلقّفها القصّاص و أمثالهم ممن لا علم عندهم، و لا تمييز بين الغثّ و السمين.

30- الإسرائيليات في قصة سليمان عليه السّلام
اشارة

و من الإسرائيليات ما يذكره بعض المفسرين عند تفسير قوله تعالى:

وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَ أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ «1».

و قد ذكر الكثير منها في تفاسيرهم، ابن جرير، و ابن أبي حاتم، و الثعلبي، و البغوي، و غيرهم. و ذكر كل ما روي من ذلك من غير تمييز بين الصحيح و الضعيف، و الغثّ و السمين، السيوطي، في «الدر المنثور» و ليته إذ فعل نقد كل رواية، و بيّن منزلتها من القبول و الرد، و ما هو من الإسرائيليات، و ما ليس منها.

قال السيوطي في «الدر»: أخرج النسائي، و ابن جرير، و ابن أبي حاتم، بسند قوي عن ابن عباس قال:

(1) ص/ 34.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 274

أراد سليمان عليه السّلام أن يدخل الخلاء «1»، فأعطى الجرادة خاتمه، و كانت جرادة امرأته، و كانت أحب نسائه إليه، فجاء الشيطان في صورة سليمان، فقال لها: هاتي خاتمي، فأعطته، فلما لبسه، دانت له الجن، و الإنس، و الشياطين، فلما خرج سليمان عليه السّلام من الخلاء، قال لها: هاتي خاتمي، فقالت: قد أعطيته سليمان، قال:

أنا سليمان، قالت: كذبت،

لست سليمان، فجعل لا يأتي أحدا يقول له: أنا سليمان إلا كذّبه، حتى جعل الصبيان يرمونه بالحجارة، فلما رأى ذلك عرف أنه من أمر اللّه عزّ و جل و قام الشيطان يحكم بين الناس، فلما أراد اللّه تعالى أن يرد على سليمان عليه السّلام سلطانه ألقى في قلوب الناس إنكار ذلك الشيطان، فأرسلوا إلى نساء سليمان عليه السّلام فقالوا لهنّ: أ يكون من سليمان شي ء؟ قلن: نعم، إنه يأتينا «2» و نحن حيّض، و ما كان يأتينا قبل ذلك! فلما رأى الشيطان أنه قد فطن له ظن أن أمره قد انقطع، فكتبوا كتبا فيها سحر، و مكر، فدفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أثاروها «3»، و قرءوها على الناس، قالوا: بهذا كان يظهر سليمان على الناس، و يغلبهم. فأكفر الناس سليمان، فلم يزالوا يكفرونه، و بعث ذلك الشيطان بالخاتم، فطرحه في البحر، فتلقته سمكة، فأخذته، و كان سليمان عليه السّلام يعمل على شط البحر بالأجر. فجاء رجل، فاشترى سمكا؛ فيه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم، فدعا سليمان عليه السّلام فقال له: تحمل لي هذا السمك، ثم انطلق إلى منزله، فلما انتهى الرجل إلى باب داره أعطاه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم، فأخذها سليمان عليه السّلام، فشق بطنها، فإذا الخاتم في جوفها، فأخذه، فلبسه، فلما لبسه دانت له

(1) المرحاض.

(2) يباشرنا.

(3) أخرجوها.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 275

الإنس و الجن و الشياطين، و عاد إلى حاله، و هرب الشيطان حتى لحق بجزيرة من جزائر البحر، فأرسل سليمان عليه السّلام في طلبه، و كان شيطانا مريدا يطلبونه و لا يقدرون عليه حتى وجدوه يوما نائما، فجاءوا فبنوا عليه بنيانا من رصاص، فاستيقظ،

فوثب، فجعل لا يثبت في مكان من البيت إلّا أن دار معه الرصاص، فأخذوه، و أوثقوه؛ و جاءوا به إلى سليمان عليه السّلام، فأمر به، فنقر له في رخام، ثم أدخل في جوفه، ثم سد بالنحاس، ثم أمر به، فطرح في البحر، فذلك قوله:

وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَ أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ...، يعني الشيطان الذي كان تسلّط عليه.

و قد روى السيوطي في «الدر» روايات أخرى، عن ابن عباس و قتادة، في أن هذا الشيطان كان يسمّى صخرا. و روي عن مجاهد: أن اسمه آصف، و أن سليمان سأله: كيف تفتنون الناس؟! فقال الشيطان: أرني خاتمك أخبرك، فلما أعطاه إياه نبذه آصف في البحر، فساح سليمان، و ذهب ملكه، و قعد آصف على كرسيه، حتى كان ما كان من أمر السمكة، و العثور على الخاتم، و رجوع ملك سليمان إليه.

غير أن في رواية قتادة، و مجاهد أن الشيطان لم يسلط على نساء سليمان، و منعهن اللّه منه، فلم يقربهن، و لم يقربنه «1».

و نحن لا نشك في أن هذه الخرافات من أكاذيب بني إسرائيل، و أباطيلهم، و ما نسب إلى ابن عباس و غيره إنّما تلقوها عن مسلمة أهل الكتاب. و ليس أدل على هذا مما ذكره السيوطي في «الدر» بالإسناد إلى ابن عباس قال: أربع آيات من كتاب اللّه لم أدر ما هي؟، حتى سألت عنهنّ كعب الأحبار- و حاشاه أن يسأله-.

(1) الدر المنثور، ج 5، ص 309- 311.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 276

و ذكر منها: و سألته عن قوله تعالى: وَ أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ قال: الشيطان أخذ خاتم سليمان عليه السّلام الذي فيه ملكه، فقذف به في

البحر، فوقع في بطن سمكة، فانطلق سليمان يطوف إذ تصدّق عليه بتلك السمكة فاشتواها، فأكلها، فإذا فيها خاتمه، فرجع إليه ملكه «1».

و كذا ذكرها مطوّلة جدا: البغوي في تفسيره، عن محمد بن إسحاق- و حاشاه- عن وهب بن منبّه «2».

قال الإمام القاضي عياض في « «الشفا»: «و لا يصح ما نقله الأخباريون من تشبّه الشيطان به، و تسلّطه على ملكه، و تصرّفه في أمته بالجور في حكمه؛ لأن الشياطين لا يسلّطون على مثل هذا، و قد عصم الأنبياء من مثله» «3» و كذلك الحافظ ابن كثير في تفسيره «4»، قال بعد أن ذكر الكثير منها:

و هذه كلها من الإسرائيليات، و من أنكرها ما قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، قال: حدّثنا محمد بن العلاء، و عثمان بن أبي شيبة، و على بن محمد، قالوا: حدثنا أبو معاوية قال: أخبرنا الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله تعالى: وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَ أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ قال: أراد سليمان عليه السّلام أن يدخل الخلاء. ثم ذكر الرواية التي ذكرناها أولا، قال: لكنه حديث مفترى و الظاهر أنه من افتراءات أهل الكتاب، و فيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان عليه السّلام، فالظاهر أنهم يكذبون عليه؛

(1) الدر المنثور، ج 5، ص 310.

(2) تفسير البغوي، ج 4، ص 61- 64.

(3) الشفا، ج 2، ص 162.

(4) ج 4، ص 35- 36.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 277

و لهذا كان في هذا السياق منكرات، من أشدها ذكر النساء. فإن المشهور عن مجاهد و غير واحد من أئمة السلف أن ذلك الجنّي لم يسلّط على

نساء سليمان، بل عصمهن اللّه عزّ و جل منه، تشريفا، و تكريما لنبيه عليه السّلام. و قد رويت هذه القصة مطولة عن جماعة من السلف رضى اللّه عنه كسعيد بن المسيب و زيد بن أسلم، و جماعة آخرين، و كلها متلقاة عن أهل الكتاب، و اللّه سبحانه و تعالى أعلم بالصواب.

قال أبو شهبة: و هذه الأحاديث كلها أكاذيب، و تلفيقات. و لكن بعض الكذبة من بني إسرائيل كان أحرص، و أبعد غورا من البعض الآخر، فلم يتورّط فيما تورّط فيه البعض، من ذكر تسلّط الشيطان على نساء داود عليه السّلام و ذلك حتى يكون لما لفّقه، و افتراه، بعض القبول عند الناس. أما البعض الآخر فكان ساذجا في كذبه، مغفّلا في تلفيقه، فترك آثار الجريمة بيّنة واضحة، و بذلك اشتمل ما لفّقه على دليل كذبه.

و من العجيب أن الإمام السيوطي نبّه في كتابه «تخريج أحاديث الشفا» أنها إسرائيليات، تلقّاها أهل الحديث عن أهل الكتاب. و ليته نبّه إلى ذلك في التفسير.

و الحق أن نسج القصة مهلهل، عليه أثر الصنعة و الاختلاق، و يصادم العقل السليم، و النقل الصحيح في هذا.

و إذا جاز للشيطان أن يتمثّل برسول اللّه سليمان عليه السّلام، فأي ثقة بالشرائع تبقى بعد هذا؟! و كيف يسلّط اللّه الشيطان على نساء نبيه سليمان، و هو أكرم على اللّه من ذلك؟! و أيّ ملك أو نبوة يتوقف أمرهما على خاتم يدومان بدوامه، و يزولان بزواله؟! و ما عهدنا في التاريخ البشري شيئا من ذلك.

و إذا كان خاتم سليمان عليه السّلام بهذه المثابة؛ فكيف يغفل اللّه شأنه في كتابه الشاهد على الكتب السماوية، و لم يذكره بكلمة؟! و هل غيّر اللّه- سبحانه- خلقة

التفسير و

المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 278

سليمان في لحظة، حتى أنكرته أعرف الناس به، و هي زوجته جرادة؟!! الحق أن نسج القصة مهلهل، لا يصمد أمام النقد، و أن آثار الكذب و الاختلاق بادية عليها.

نسبة بعض هذه الأكاذيب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

و قد تجرّأ بعض الرواة، أو غلط، فرفع بعض هذه الإسرائيليات إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،

قال السيوطي في «الدر المنثور»، و أخرج الطبراني في «الأوسط» «1»، و ابن مردويه بسند ضعيف، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ولد لسليمان ولد، فقال للشيطان: تواريه من الموت، قالوا: نذهب به إلى المشرق، فقال: يصل إليه الموت، قالوا: فإلى المغرب، قال: يصل إليه الموت، قالوا: إلى البحار، قال: يصل إليه الموت، قالوا: نضعه بين السماء و الأرض، قال:

نعم، و نزل عليه ملك الموت، فقال: إني أمرت بقبض نسمة طلبتها في البحار، و طلبتها في تخوم الأرض فلم أصبها، فبينا أنا قاعد أصبتها، فقبضتها، و جاء جسده، حتى وقع على كرسي سليمان، فهو قول اللّه: وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَ أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ».

و هذا الحديث موضوع على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قد يكون ذلك من عمل بعض الزنادقة، أو غلط بعض الرواة، و قد نبّه على وضعه الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي، و قال: يحيى- يعني ابن كثير- يروي عن الثقات ما ليس من حديثهم، و لا ينسب إلى نبي اللّه سليمان ذلك، و وافقه السيوطي على وضعه «2»، و لا يشك

(1) يعني في كتابه «المعجم الأوسط».

(2) اللئالئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، ج 2، ص 221.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص:

279

في وضع هذا إلّا من يشك في عصمة الأنبياء عن مثله، و أحر بمثل هذا أن يكون مختلقا على نبينا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و على نبي اللّه سليمان عليه السّلام، و إنما هو من إسرائيليات بني إسرائيل و أكاذيبهم.

و الصحيح في تفسير الفتنة هنا حسبما ذكرناه في التمهيد، ج 3، ص 443 و 444 أنّ سليمان عليه السّلام قال يوما لأصحابه: لأطوفنّ الليلة على نسائي لتلد كل واحدة غلاما يضرب بالسيف في سبيل اللّه. قال ذلك قاطعا بالأمر، فقد تمنّى ما لم يكن في استطاعته إلّا أن يشاء اللّه. فأراد اللّه تنبيهه على بادرته تلك، فطاف عليهنّ كلّهنّ لم تحمل منهنّ سوى واحدة، و جاءت بسقط ميت «1».

31- الإسرائيليات في قصة أيوب عليه السّلام
اشارة

و من القصص التي تزيّد فيها المتزيّدون، و استغلها القصّاصون، و أطلقوا فيها لخيالهم العنان: قصة سيدنا أيوب عليه السّلام، فقد رووا فيها ما عصم اللّه أنبياءه عنه.

و صوّروه بصورة لا يرضاها اللّه لرسول من رسله.

فقد ذكر بعض المفسرين عند تفسير قوله تعالى: وَ اذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَ شَرابٌ. وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَ ذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ. وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ «2». ذكر السيوطي في «الدر المنثور» و غيره، عن قتادة رضى اللّه عنه في قوله تعالى: وَ اذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ ...

(1) مجمع البيان، ج 8، ص 475.

(2) ص/ 41- 44.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 280

، قال: ذهاب الأهل و المال، و الضرّ الذي أصابه في جسده،

قال: ابتلى سبع سنين و أشهرا، فألقي على كناسة بني إسرائيل، تختلف الدواب في جسده، ففرّج اللّه عنه، و أعظم له الأجر، و أحسن.

قال: و أخرج أحمد في الزهد، و ابن أبي حاتم، و ابن عساكر عن ابن عباس رحمهما اللّه، قال: إن الشيطان عرج إلى السماء فقال: يا رب سلّطني على أيوب عليه السّلام، قال اللّه: قد سلطتك على ماله، و ولده، و لم أسلّطك على جسده، فنزل، فجمع جنوده، فقال لهم: قد سلّطت على أيوب عليه السّلام فأروني سلطانكم، فصاروا نيرانا، ثم صاروا ماء، فبينما هم بالمشرق إذا هم بالمغرب، و بينما هم بالمغرب إذا هم بالمشرق، فأرسل طائفة منهم إلى زرعه، و طائفة إلى أهله، و طائفة إلى بقره، و طائفة إلى غنمه، و قال: إنه لا يعتصم منكم إلّا بالمعروف، فأتوه بالمصائب، بعضها على بعض، فجاء صاحب الزرع، فقال: يا أيّوب، أ لم تر إلى ربك، أرسل على زرعك عدوا، فذهب به. و جاء صاحب الإبل، و قال: أ لم تر إلى ربك، أرسل على إبلك عدوا، فذهب بها. ثم جاء صاحب البقر، فقال: أ لم تر إلى ربك أرسل على بقرك عدوا، فذهب بها. و تفرّد هو ببنيه، جمعهم في بيت أكبرهم، فبينما هم يأكلون، و يشربون، إذ هبّت ريح، فأخذت بأركان البيت، فألقته عليهم، فجاء الشيطان إلى أيوب بصورة غلام، فقال: يا أيوب، أ لم تر إلى ربك جمع بنيك في بيت أكبرهم، فبينما هم يأكلون، و يشربون، إذ هبّت ريح، فأخذت بأركان البيت، فألقته عليهم. فلو رأيتهم حين اختلطت دماؤهم و لحومهم بطعامهم، و شرابهم. فقال له أيوب: أنت الشيطان، ثم قال له: أنا اليوم كيوم ولدتني أمي،

فقام، فحلق رأسه، و قام يصلّي، فرنّ إبليس رنّة سمع بها أهل السماء، و أهل الأرض، ثم خرج إلى السماء، فقال: أي رب، إنه قد اعتصم، فسلّطني عليه، فإني لا أستطيعه إلّا بسلطانك، قال: قد سلّطتك على جسده،

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 281

و لم أسلّطك على قلبه، فنزل، فنفخ تحت قدمه نفخة، قرح ما بين قدميه إلى قرنه، فصار قرحة واحدة، و ألقى على الرماد، حتى بدا حجاب قلبه، فكانت امرأته تسعى إليه، حتى قالت له: أما ترى يا أيوب قد نزل بي و اللّه من الجهد و الفاقة ما إن بعت قروني برغيف، فأطعمك، فادع اللّه أن يشفيك، و يريحك، قال: ويحك، كنا في النعيم سبعين عاما، فاصبري حتى نكون في الضرّ سبعين عاما، فكان في البلاء سبع سنين، و دعا، فجاء جبريل عليه السّلام يوما فأخذ بيده، ثم قال: قم، فقام، فنحّاه عن مكانه، و قال: أركض برجلك، هذا مغتسل بارد و شراب، فركض برجله، فنبعت عين، فقال: اغتسل، فاغتسل منها، ثم جاء أيضا، فقال: أركض برجلك فنبعت عين أخرى، فقال له: اشرب منها، و هو قوله: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَ شَرابٌ، و ألبسه اللّه حلّة من الجنة.

فتنحّى أيوب، فجلس في ناحية، و جاءت امرأته، فلم تعرفه، فقالت: يا عبد اللّه، أين المبتلى الذي كان هنا؟ لعل الكلاب ذهبت به، أو الذئاب، و جعلت تكلمه ساعة، فقال: ويحك، أنا أيوب!! قد ردّ اللّه عليّ جسدي، و ردّ اللّه عليه ماله، و ولده عيانا و مثلهم معهم «1».

قال: و أخرج أحمد في الزهد، عن عبد الرحمن بن جبير رضى اللّه عنه، قال: ابتلى أيوب بماله، و ولده، و جسده، و

طرح في المزبلة، فجاءت امرأته تخرج، فتكتسب عليه ما تطعمه، فحسده الشيطان بذلك، فكان يأتي أصحاب الخير و الغنى، فيقول: اطردوا هذه المرأة التي تغشاكم، فإنها تعالج صاحبها، و تلمسه بيدها، فالناس يتقذرون طعامكم من أجلها، فجعلوا لا يدنونها منهم، و يقولون:

تباعدي و نحن نطعمك، و لا تقربينا.

(1) الدر المنثور، ج 5، ص 315 و 316.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 282

و قد ذكر ابن جرير، و ابن أبي حاتم الكثير من هذه الروايات في تفسيريهما، منها: ما هو موقوف، و بعضها مرفوع إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كذلك ذكر ابن جرير، و البغوي، و غيرهما، عند تفسير قوله تعالى: وَ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَ آتَيْناهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ ذِكْرى لِلْعابِدِينَ «1» الكثير من الإسرائيليات.

فقد رويا قصة أيوب و بلائه عن وهب بن منبّه، في بضع صحائف، و قد التبس فيها الحق بالباطل، و الصدق بالكذب «2».

و قال ابن كثير في تفسيره عند هذه الآية: «و قد روي عن وهب بن منبّه في خبره- يعني أيوب- قصة طويلة، ساقها ابن جرير، و ابن أبي حاتم بالسند عنه، و ذكرها غير واحد من متأخّري المفسرين، و فيها غرابة، تركناها لحال الطول.

و من العجيب أن الحافظ ابن كثير وقع فيما وقع فيه غيره في قصة أيوب، من ذكر الكثير من الإسرائيليات و لم يعقب عليه «3»، مع أن عهدنا به أنه لا يذكر شيئا من ذلك إلّا و ينبّه على مصدره، و من أين دخل في الرواية الإسلامية، و لا

أظن أنه يرى في هذا أنه مما تباح روايته!! فقد ذكر أنه يقال: إنه أصيب بالجذام في سائر بدنه، و لم يبق منه سليم سوى قلبه و لسانه، يذكر بهما اللّه عزّ و جل حتى عافه الجليس، و صار منبوذا في ناحية من البلد، و لم يبق أحد من الناس يحنو عليه غير زوجته، و تحمّلت في بلائه ما تحمّلت، حتى صارت تخدم الناس، بل قد باعت شعرها بسبب ذلك، ثم قال:

(1) الأنبياء/ 83 و 84.

(2) تفسير البغوي، ج 3، ص 256- 264.

(3) تفسير ابن كثير، ج 3، ص 188- 190.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 283

و قد روي، أنه مكث في البلاء مدة طويلة، ثم اختلفوا في السبب المهيّج له على هذا الدعاء، فقال الحسن- يعني البصري- و قتادة: ابتلي أيوب عليه السّلام سبع سنين و أشهرا؛ ملقى على كناسة بني إسرائيل، تختلف الدواب في جسده، ففرّج اللّه عنه، و أعظم له الأجر، و أحسن عليه الثناء. و قال وهب بن منبّه: مكث في البلاء ثلاث سنين، لا يزيد و لا ينقص. و قال السدّي: تساقط لحم أيوب، حتى لم يبق إلّا العصب و العظام. ثم ذكر قصة طويلة.

ثم ذكر ما

رواه ابن أبي حاتم بسنده، عن الزهري، عن أنس بن مالك: أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إن نبي اللّه أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب و البعيد، إلّا رجلين من إخوانه، كانا من أخص إخوانه له، كانا يغدوان إليه و يروحان، فقال أحدهما لصاحبه: تعلم- و اللّه- لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين، فقال له صاحبه: و ما ذاك؟

قال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه اللّه، فيكشف ما به. فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب عليه السّلام: ما أدري ما تقول، غير أن اللّه عزّ و جل يعلم أني كنت أمرّ على الرجلين يتنازعان، فيذكر ان اللّه، فأرجع إلى بيتي، فأكفّر عنهما كراهية أن يذكرا اللّه إلّا في حق. قال: و كان يخرج في حاجته، فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده، حتى يبلغ، فلما كان ذات يوم أبطأت عليه، فأوحى اللّه إلى أيوب في مكانه: أن اركض برجلك هذا مغتسل بارد و شراب».

و قال ابن كثير: رفع هذا الحديث غريب جدا «1»، و قال الحافظ ابن حجر:

و أصح ما ورد في قصته ما أخرجه ابن أبي حاتم و ابن جرير، و صحّحه ابن حبان

(1) تفسير ابن كثير، ج 3، ص 189.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 284

و الحاكم، بسند عن أنس: أن أيوب ... ثم ذكر مثل ذلك.

و المحققون من العلماء على أن نسبة هذا إلى المعصوم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إما من عمل بعض الوضّاعين الذين يركبون الأسانيد للمتون، أو من غلط بعض الرواة، و أن ذلك من إسرائيليات بني إسرائيل و افتراءاتهم على الأنبياء. على أن صحة السند في مصطلحهم لا تنافي أن أصله من الإسرائيليات، و ابن حجر على مكانته في الحديث ربما يوافق على تصحيح ما يخالف الأدلة العقلية و النقلية، كما فعل في قصة الغرانيق، و هاروت و ماروت، و كل ما روي موقوفا أو مرفوعا لا يخرج عما ذكره وهب بن منبه، في قصة أيوب، التي أشرنا إليها آنفا، و ما روي عن ابن إسحاق أيضا،

فهو مما أخذ عن وهب، و غيره.

و هذا يدلّ أعظم الدلالة على أن معظم ما روي في قصة أيوب مما أخذ عن أهل الكتاب الذين أسلموا، و جاء القصّاصون المولعون بالغرائب، فزادوا في قصة أيوب، و أذاعوها، حتى اتخذ منها الشحّاذون، و المتسوّلون وسيلة لاسترقاق قلوب الناس، و استدرار العطف عليهم.

الحق في هذه القصة

و قد دل كتاب اللّه الصادق، على لسان نبيه محمد الصادق، على أن اللّه تبارك و تعالى ابتلى نبيه أيوب عليه السّلام في جسده، و أهله، و ماله، و أنه صبر حتى صار مضرب الأمثال في ذلك، و قد أثنى اللّه عليه هذا الثناء المستطاب، قال عز شأنه:

إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ، فالبلاء مما لا يجوز أن يشك فيه أبدا، و الواجب على المسلم أن يقف عند كتاب اللّه، و لا يتزيّد في القصة كما تزيّد زنادقة أهل الكتاب، و ألصقوا بالأنبياء ما لا يليق بهم، و ليس هذا بعجيب من بني إسرائيل الذين لم يتجرّءوا على أنبياء اللّه و رسله فحسب، بل تجرّءوا على

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 285

اللّه تبارك و تعالى و نالوا منه، و فحشوا عليه، و نسبوا إليه ما قامت الأدلة العقلية و النقلية المتواترة على استحالته عليه سبحانه و تعالى من قولهم: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ «1»، و قولهم: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا «2»، عليهم لعنة اللّه.

و الذي يجب أن نعتقده أنه ابتلي، و لكن بلاءه لم يصل إلى حدّ هذه الأكاذيب، من أنه أصيب بالجذام «3»، و أن جسمه أصبح قرحة، و أنه ألقي على كناسة بني إسرائيل، يرعى في جسده الدود، و تعبث به دواب

بني إسرائيل، أو أنه أصيب بمرض الجدري.

و أيوب عليه السّلام أكرم على اللّه من أن يلقى على مزيلة، و أن يصاب بمرض ينفر الناس من دعوته، و يفزّزهم منه، و أي فائدة تحصل من الرسالة، و هو على هذه الحال المزرية، التي لا يرضاها اللّه لأنبيائه و رسله؟.

و الأنبياء إنما يبعثون من أوساط «4» قومهم، فأين كانت عشيرته فتواريه، و تطعمه؟! بدل أن تخدم امرأته الناس، بل و تبيع ضفيرتيها في سبيل إطعامه!! بل أين كان أتباعه، و المؤمنون منه، فهل تخلّوا عنه في بلائه؟! و كيف و الإيمان ينافي ذلك؟! الحق أن نسج القصة مهلهل، لا يثبت أمام النقد، و لا يؤيده عقل سليم، و لا نقل صحيح، و أن ما أصيب به أيوب من المرض إنما كان من النوع غير المنفر،

(1) آل عمران/ 181.

(2) المائدة/ 64.

(3) الجذام: مرض من أخبث الأمراض، و أقذرها.

(4) خيارهم و أكرمهم نسبا و عشيرة.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 286

و المقزّز، و أنه من الأمراض التي لا يظهر أثرها على البشرة، كالروماتيزم، و أمراض المفاصل، و العظام و نحوها. و يؤيد ذلك أن اللّه لما أمره أن يضرب الأرض بقدمه، فضرب فنبعت عين، فاغتسل منها و شرب، فبرأ بإذن اللّه.

قال العلّامة الطبرسي: قال أهل التحقيق: إنه لا يجوز أن يكون بصفة يستقذره الناس عليها، لأنّ في ذلك تنفيرا. فأمّا المرض و الفقر و ذهاب الأهل، فيجوز أن يمتحنه اللّه بذلك «1».

32- الإسرائيليات في قصة إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ
اشارة

و من الإسرائيليات ما يذكره بعض المفسرين كالطبري، و الثعلبي، و الزمخشري، و غيرهم في تفسير قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها

فِي الْبِلادِ «2».

فقد زعموا أن «إرم» مدينة، و ذكروا في بنائها و زخارفها ما هو من قبيل الخيال، و رووا في ذلك أنه كان لعاد ابنان: شداد، شديد، فملكا و قهرا، ثم مات شديد و خلص الأمر لشداد فملك الدنيا، فسمع بذكر الجنة، فقال: أبني مثلها، فبنى «إرم» في بعض صحاري عدن، في ثلاثمائة سنة، و كان عمره تسعمائة سنة، و هي مدينة عظيمة، و سورها من الذهب و الفضة، و أساطينها من الزبرجد و الياقوت. و لما تم بناؤها سار إليها بأهب «3» مملكته، فلما كان منها مسيرة يوم

(1) مجمع البيان، ج، 78.

(2) الفجر/ 6- 8.

(3) جمع أهبه، و الأهبة- بضم الهمزة- العدّة كما في القاموس.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 287

و ليلة بعث اللّه تعالى صيحة من السماء، فهلكوا.

و روى وهب بن منبّه عن عبد اللّه بن قلابة: أنه خرج في طلب إبل له، فوقع عليها- يعني مدينة «إرم»-، فحمل منها ما قدر عليه، و بلغ خبره معاوية، فاستحضره، و قص عليه، فبعث إلى كعب الأحبار، فسأله عنها فقال: هي إرم ذات العماد، و سيدخلها رجل من المسلمين في زمانه أحمر، أشقر، قصير، على حاجبه خال، ثم التفت، فأبصر ابن قلابة، فقال: هذا و اللّه ذاك الرجل «1».

و هذه القصة موضوعة، كما نبّه إلى ذلك الحفاظ، و آثار الوضع لائحة عليه، و كذلك ما روي: أن «إرم» مدينة دمشق، و قيل: مدينة الإسكندرية. قال السيوطي في «الدر المنثور»: و أخرج عبد بن حميد، و ابن أبي حاتم، عن عكرمة، قال:

«إرم» هي دمشق، و أخرج ابن جرير، و عبد بن حميد، و ابن عساكر عن سعيد المقبري مثله،

و أخرج ابن عساكر، عن سعيد بن المسيب، مثله، قال: و أخرج ابن جرير، و ابن المنذر، عن محمد بن كعب القرظي، قال: «إرم» هي الإسكندرية «2».

و كل ذلك من خرافات بني إسرائيل، و من وضع زنادقتهم، ثم رواها مسلمة أهل الكتاب فيما رووا، و حملها عنهم بعض الصحابة و التابعين، و ألصقت بتفسير القرآن الكريم.

قال ابن كثير في تفسيره: و من زعم أن المراد بقوله: إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ:

مدينة إما دمشق، أو إسكندرية، أو غيرهما، ففيه نظر، فإنه كيف يلتئم الكلام على

(1) انظر الكشّاف، ج 4، ص 748، عند تفسير هذه الآية، و تفسير البغوي، ج 4، ص 482، و النسفي، و الخازن عند تفسير هذه الآية.

(2) الدر المنثور، ج 6، ص 347.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 288

هذا أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ أن جعل بدلا أو عطف بيان؟ «1»، فإنه لا يتسق الكلام حينئذ، ثم المراد: إنما هو الإخبار عن إهلاك القبيلة المسماة بعاد، و ما أحل اللّه بهم من بأسه الذي لا يردّ، لا أنّ المراد: الإخبار عن مدينة أو إقليم، و إنما نبهت على ذلك لئلا يغتر بكثير مما ذكره جماعة من المفسرين عن هذه الآية، من ذكر مدينة يقال لها: إرم ذات العماد، مبنية بلبن الذهب و الفضة، و أن حصباءها لآلى ء و جواهر، و ترابها بنادق المسك ... فإن هذا كله من خرافات الإسرائيليين، من وضع بعض زنادقتهم، ليختبروا بذلك القول الجهلة من الناس أن تصدقهم في جميع ذلك. و قال فيما روي عن ابن قلابة: فهذه الحكاية ليس يصح إسنادها، و لو صح إلى ذلك الأعرابي فقد يكون اختلق

ذلك، أو أصابه نوع من الهوس، و الخيال، فاعتقد أن ذلك له حقيقة في الخارج، و هذا ما يقطع بعدم صحته «2». و هذا قريب مما يخبر به كثير من الجهلة، و الطامعين، و المتحيلين من وجود مطالب تحت الأرض فيها قناطير الذهب و الفضة، فيحتالون على أموال الأغنياء و الضعفة، و السفهاء، فيأكلونها بالباطل، في صرفها في بخاخير، و عقاقير، و نحو ذلك من الهذيانات، و يطنزون بهم.

و الصحيح في تفسير الآية؛ أن المراد (بعاد، إرم ذات العماد) قبيلة عاد المشهورة، التي كانت تسكن الأحقاف، شمالي حضرموت، و هي عاد الأولى، التي ذكرها اللّه سبحانه في سورة النجم، قال سبحانه: وَ أَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى و يقال لمن بعدهم: عاد الآخرة، و هم ولد عاد بن إرم بن عوص، بن سام، بن

(1) أي لفظ، إرم، بدل من عاد أو عطف بيان.

(2) تفسير ابن كثير، ج 4، ص 507- 508.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 289

نوح. قاله ابن إسحاق و غيره، و هم الذين بعث فيهم رسول اللّه هودا عليه السّلام فكذّبوه، و خالفوه، فأنجاه اللّه من بين أظهرهم، و من آمن معه منهم، و أهلكهم بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ، سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ؟ «1».

و قد ذكر اللّه قصتهم في القرآن في غير ما موضع، ليعتبر بمصرعهم المؤمنون، فقوله تعالى: إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ، بدل من «عاد» أو عطف بيان زيادة تعريف بهم، و قوله تعالى: ذاتِ الْعِمادِ؛ لأنهم كانوا في زمانهم أشد الناس خلقة، و أعظمهم أجساما، و أقواهم بطشا. و قيل: ذات الأبنية

التي بنوها، و الدور، و المصانع التي شادوها. و قيل: لأنهم كانوا يسكنون بيوت الشّعر التي ترفع بالأعمدة الغلاظ الشداد. و الأوّل أصح و أولى، فقد ذكرهم نبيّهم هود بهذه النعمة، و أرشدهم إلى أن يستعملوها في طاعة اللّه- تبارك و تعالى- الذي خلقهم و منحهم هذه القوة، فقال: وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَ زادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ «2»، و قال تعالى: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ قالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً «3»، و قوله هنا: الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ أي القبيلة المعروفة المشهورة التي لم يخلق مثلها في بلادهم، و في زمانهم، لقوّتهم، و شدّتهم، و عظم تركيبهم.

و مهما يكن من تفسير ذات العماد: فالمراد القبيلة، و ليس المراد مدينة،

(1) الحاقّة/ 6- 8.

(2) الأعراف/ 69.

(3) فصلت/ 15.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 290

فالحديث في السورة إنما هو عمّن مضى من الأقوام الذين مكّن اللّه لهم في الأرض، و لمّا لم يشكروا نعم اللّه عليهم، و لم يؤمنوا به و برسله، بطش بهم، و أخذهم أخذ عزيز مقتدر. ففيه تخويف لكفار مكة، الذين هم دون هؤلاء في كل شي ء، و تحذيرهم أن يصيبهم مثل ما أصاب هؤلاء.

ما روي في عظم طولهم

و ليس معنى قوتهم، و عظم خلقهم، و شدة بطشهم أنهم خارجون عن المألوف في الفطرة، فمن ثم لا نكاد نصدّق ما روي في عظم أجسامهم، و خروج طولهم عن المألوف المعروف، حتى في هذه الأزمنة، فقد روى ابن جرير في تفسيره، و ابن أبي حاتم و

غيرهما عن قتادة، قال: كنا نحدّث أن «إرم» قبيلة من عاد، كان يقال لهم: ذات العماد، كانوا أهل عمود، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ، قال: ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر ذراعا «1» طولا في السماء، و هذا من جنس ما روي في العماليق. و أغلب الظن عندنا أن من ذكر لهم ذلك هم أهل الكتاب الذين أسلموا، و أنه من الإسرائيليات المختلفة.

و أيضا لا نكاد نصدّق، ما روي عن المعصوم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في هذا،

فقد روى ابن أبي حاتم، قال: حدّثنا أبي، قال: حدثنا أبو صالح كاتب الليث، قال: حدثني معاوية ابن صالح، عمن حدّثه، عن المقدام بن معديكرب، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنه ذكر إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ فقال: «كان الرجل منهم يأتي إلى الصخرة، فيحملها على كاهله، فيلقيها على أي حي أراد فيهلكهم» «2» . و لعل البلاء، و الاختلاق فيه من

(1) حوالي ستة أمتار أو تزيد.

(2) تفسير ابن كثير، ج 4، ص 507.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 291

المجهول، و روى مثله ابن مردويه «1».

و أخزى اللّه من نسب مثل هذا الباطل إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لا نشك أن هذا من عمل زنادقة أهل الكتاب و غيرهم، الذين عجزوا أن يقاوموا سلطان الإسلام، فسلكوا في محاربته مسلك الدس، و الاختلاق، بنسبة أمثال هذه الخرافات إلى المعصوم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إنّا لنعجب لمسلم يقبل أمثال هذه المرويات التي تزري بالإسلام، و تنفر منه، و لا سيّما في هذا العصر الذي تقدمت فيه العلوم، و المعارف، و أصبح ذكر

مثل هذا يثير السخرية، و الاستنكار و الاستهزاء.

الإسرائيليات و الخرافات فيما يتعلق بعمر الدنيا و بدء الخلق، و أسرار الوجود، و تعليل بعض الظواهر الكونية

و من الإسرائيليات و الموضوعات التي اشتملت عليها كتب التفسير و غيرها كثير مما يتعلق بعمر الدنيا و بدء الخلق، و أسرار الوجود، و أسباب الكائنات، و تعليل بعض الظواهر الكونية تعليلا باطلا غير صحيح، و قد جاء معظمه موقوفا على الصحابة و التابعين، و جاء بعضه مرفوعا إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هنا تكون الطّامة؛ لأن هذه الروايات متهافتة باطلة، فنسبتها إلى المعصوم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الخطورة بمكان.

و كأنّ هؤلاء الذين وضعوها و ألصقوها بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم زورا؛ كانوا يدركون ببعد نظرهم أنّه سيأتي اليوم الذي تتكشّف فيه الحقائق العلميّة لهذه الأمور الكونيّة، و معرفة التعليلات الصحيحة لسنن اللّه في الكون، فنسبوا إليه هذه الخرافات، كي يشكّكوا في عصمة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أنه ما ينطق عن الهوى، و يقلّلوا الثقة بالأنبياء، و هم قوم من الزنادقة الذين جمعوا بين الزندقة، و العلم،

(1) الدر المنثور، ج 6، ص 347.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 292

و المعرفة ببعض الظواهر، و العلوم الكونية، و هم أعظم الطوائف كيدا للإسلام، لخبث نياتهم، و إحكام كيدهم.

و لا ندري ما ذا يكون موقف الداعي إلى اللّه في المجتمعات العلمية، و البيئات المتحضرة إذا و وجه بمثل هذه الروايات الباطلة التي تغضّ من شأن الإسلام، و هو منها براء؟

و لو أن هذه المرويات صحّت أسانيدها لربما كان للمتمسكين بها، و المنتصرين لها بعض المعذرة، أما و هي ضعيفة أسانيدها، واهية مخارجها، فالواجب ردّها و لا كرامة. نعم، إنّ معظم هذه

المرويات في الأمور الكونيّة تخالف مخالفة ظاهرة، المقررات و الحقائق العلمية التي أصبحت في حكم البديهيات و المسلمات ككرويّة الأرض، و دورانها، و سبب حدوث الخسوف و الكسوف و نحوها، و الانتصار لهذه المرويّات التي تصادم الحقائق العلمية الثابتة، مما يعود على الإسلام بالضرر و النقص، و ينفر منه المفكرون و ذوو العلم، و المعرفة، بل هي أضرّ على الإسلام من طعن أعدائه فيه.

ما يتعلق بعمر الدنيا

فقد ذكروا في

عمر الدنيا أنه سبعة آلاف سنة، و أن النبي محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بعث في آخر السادسة، فقد ورد ذلك مرفوعا إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

، و حكم عليه ابن الجوزي بالوضع في كتابه «الموضوعات»، و أحر به أن يكون مختلقا مكذوبا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و كذلك جاء بعض هذه الأخبار موقوفا على ابن عباس رحمهما اللّه ورد ذكر ذلك في كتب التفسير، و بعض كتب الحديث، و كتب التواريخ و نحوها، و قد قال السيوطي: إنها صحيحة.!!

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 293

و لا ندري ما ذا يقول المنتصرون لمثل هذه الأباطيل، فيما هو ثابت من أن عمر الدنيا أضعاف أضعاف ذلك، حتى أصبح ذلك من البديهيّات المسلّمات، و إن التمسّك بمثل هذه الروايات أضرّ على الدين من طعن أعدائه.

و لو أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعث- كما يقولون- في آخر المائة السادسة، لقامت القيامة من زمن مضى، فظهر أن الواقع و المشاهدة يكذبان ذلك أيضا، و يردّانه.

ما يتعلق بخلق الشمس و القمر

و من ذلك أيضا: ما ذكره ابن جرير، و ابن أبي حاتم، و ابن مردويه و الثعلبي، و غيرهم من المفسرين، عند تفسير قوله تعالى: وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ. وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ وَ كُلَّ شَيْ ءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا «1».

فقد رووا عن ابن عباس أنه قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «إن اللّه لما أبرم خلقه، فلم يبق من خلقه غير آدم

عليه السّلام، خلق شمسا من نور عرشه، فأما ما كان في سابق علم اللّه أن يدعها شمسا، فإنه خلقها مثل الدنيا، ما بين مشارقها و مغاربها، و أما ما كان في سابق علمه أن يطمسها و يحوّلها قمرا، فإنه خلقها مثل الشمس في الضوء، و إنما يرى الناس صغرهما لشدة ارتفاعهما، و لو تركهما اللّه كما خلقهما في بدء الأمر لم يعرف الليل من النهار، و لا النهار من الليل، و لكان الأجير ليس له وقت يستريح فيه، و لكان الصائم لا يدري إلى متى يصوم، و متى يفطر، إلى أن قال: فأرسل جبريل، فأمر جناحه على وجه القمر ثلاث مرات، و هو يومئذ شمس فمحا عنه الضوء، و بقي فيه النور، فذلك قوله تعالى: وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ فالسواد الذي ترونه في القمر هو أثر ذلك المحو».

(1) الإسراء/ 12.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 294

و كذلك روى هذا الباطل ابن أبي حاتم، و ابن مردويه، و سنده واه؛ لأن فيه نوح بن أبي مريم، و هو وضّاع دجّال، و قد حكم عليه ابن الجوزي بالوضع و الاختلاق «1»، و منشؤه من الإسرائيليات التي ألصقت بالنبي زورا، و فيه من الركاكة اللفظية، و المعنوية ما يشهد بوضعه على النبي، و ليس عليه شي ء من نور النبوة.

و ما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يتعرض للكونيات بهذا التفصيل، و لما سئل عن الهلال لم يبدو صغيرا ثم يكبر، حتى يصير بدرا، ثم يصغر؟، أجاب بالفائدة، فقال: هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَ الْحَجِّ لأنّ بالأهلّة تعرف السنون، و المشهور، و عليها تتوقف مصالح الناس الدينية و الدنيوية، فبها يعرفون حجّهم،

و صومهم، و إخراج زكاتهم، و حلول آجال ديونهم و نحوها، و ليس من الحكمة التعرّض لمثل هذه الكونيّات بالتفصيل، فتركها لعقول الناس، و إدراكاتهم أولى، و لا سيّما أنه لا يتوقف على معرفة الأمّة لمثل هذه الأمور فائدة دينية، و القرآن و السنة النبويّة حينما يعرضان للحديث عن الكونيّات يكون غرضهما انتزاع العبرة، و الاستدلال بما أودع فيهما على وجود اللّه- جل و علا- و وحدانيته، و قدرته، و علمه، و سائر صفاته، و لذلك لا نقف فيما صح و ثبت من الأحاديث على مثل هذه التفصيلات التي نجدها في الآثار الضعيفة، و الإسرائيليات الباطلة.

ما يتعلق بتعليل بعض الظواهر الكونية

و من ذلك ما يذكره بعض المفسرين، و ما يوجد في بعض كتب الحديث في غروب الشمس، و أنها إذا غربت ابتلعها حوت، و ما يتعلق بالسماوات، و الأجرام السماوية، و من أي الجواهر هي؛ و الأرض و علام استقرت، و أنها على ظهر

(1) اللئالئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، ج 1، ص 24 و ما بعدها.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 295

حوت، و ما يذكرونه في تعليل برودة الآبار في الصيف، و سخونتها في الشتاء، و عن منشأ الرعد و البرق، و عن منشأ السحاب، إلى نحو ذلك مما لا نصدّق وروده عن المعصوم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و ما ورد منه موقوفا، فمرجعه إلى الإسرائيليات الباطلة، أو إلى الزنادقة الذين أرادوا أن يظهروا الإسلام بمظهر الدين الخرافي الذي ينافي العلم، و السنن الكونية.

فقد روي عن أبي أمامة الباهلي: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و كلّ بالشمس تسعة أملاك، يرمونها بالثلج كل يوم، لو لا ذلك ما أتت

على شي ء إلّا أحرقته» رواه الطبراني.

و من أحد رواته عقير بن معدان، و هو ضعيف جدا، و لو أن الحديث صحيح السند، أو ثابت، لتمحّلنا، و قلنا: إنه من قبيل التمثيل، أما و هو بهذا الضعف فلتلق به دبر آذاننا.

و

عن ابن عمر، قال: «سئل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقيل: أ رأيت الأرض على ما هي؟

قال: «الأرض على الماء» قيل: الماء على ما هو؟ قال: «على صخرة» فقيل:

الصخرة على ما هي؟ قال: «هي على ظهر حوت يلتقي طرفاه بالعرش»!! قيل:

الحوت على ما هو؟ قال: «على كاهل ملك، قدماه على الهواء». رواه البزّار عن شيخه عبد اللّه بن أحمد، يعني ابن شبيب

، و هو ضعيف. و عن الربيع بن أنس قال: «السماء الدنيا موج مكفوف، و الثانية: صخرة، و الثالثة: حديد، و الرابعة:

نحاس، و الخامسة: فضة، و السادسة: ذهب، و السابعة: ياقوت». رواه الطبراني في «الأوسط» هكذا موقوفا على الربيع، و فيه أبو جعفر الرازي، وثّقه أبو حاتم و غيره، و ضعّفه النسائي و غيره «1».

(1) مجمع الزوائد للهيثمي، ج 8، ص 131.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 296

و

روى الطبراني في «الأوسط» بسنده، فقال: حدّثنا محمد بن يعقوب الأهوازي الخطيب، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن عبد الصمد السلمي، قال: حدثنا أبو عمران الحراني، قال: حدثنا ابن جريج عن عطاء، عن جابر بن عبد اللّه، أن خزيمة بن ثابت- و هو ليس بالأنصاري المشهور- كان في عير لخديجة، و أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان معه في تلك العير، فقال له: يا محمد، أرى فيك خصالا، و أشهد أنك النبي الذي يخرج من تهامة، و

قد آمنت بك، فإذا سمعت بخروجك أتيتك. فأبطأ عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، حتى كان يوم فتح مكة أتاه، فلما رآه قال: «مرحبا بالمهاجر الأول» و ....

ثم قال: يا رسول اللّه، أخبرني عن ضوء النهار، و ظلمة الليل، و عن حرّ الماء في الشتاء، و عن برده في الصيف، و عن البلد الأمين، و عن منشأ السحاب، و عن مخرج الجراد، و عن الرعد و البرق، و عن ما للرجل من الولد، و ما للمرأة؟

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أما ظلمة الليل، و ضوء النهار، فإن الشمس إذا سقطت تحت الأرض، فأظلم الليل لذلك، و إذا أضاء الصبح، ابتدرها سبعون ألف ملك، و هي تقاعس كراهية أن تعبد من دون اللّه، حتى تطلع، فتضي ء، فيطول الليل بطول مكثها، فيسخن الماء لذلك. و إذا كان الصيف، قلّ مكثها، فبرد الماء لذلك.

و أما الجراد، فإنه نثرة حوت في البحر، يقال له: «الأبوات»، و فيه يهلك. و أما منشأ السحاب، فإنه ينشأ من قبل الخافقين، و من بين الخافقين تلجمه الصبا و الجنوب، و يستدبره الشمال و الدبور. و أما الرعد، فإنه ملك بيده مخراق «1» يدني القاصية، و يؤخّر الدانية، فإذا رفع برقت، و إذا زجر رعدت، و إذا ضرب

(1) المخراق: خرق تفتل و يضرب به الصبيان بعضهم بعضا، و المراد هنا آلة تزجر بها الملائكة السحاب.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 297

صعقت. و أما ما للرجل من الولد، و ما للمرأة، فإن للرجل العظام، و العروق، و العصب، و للمرأة اللحم، و الدم، و الشعر. و أما البلد الأمين، فمكة».

و قال الهيثمي في «زوائد»:

رواه الطبراني في «الأوسط»، و فيه يوسف بن يعقوب أبو عمران، ذكر الذهبي هذا الحديث في ترجمته، و لم يذكر تضعيفه عن أحد! «1».

و الحق أن الذهبي حكم ببطلان هذا الخبر، و قال: إن راويه عن يوسف بن يعقوب مجهول، و هو محمد بن عبد الرحمن السلمي المذكور، و أحر به أن يكون باطلا، و لقد صدق الإمام الحافظ أبو عبد اللّه الذهبي، الذي أبان لنا قيمة هذه المرويات الباطلة، منذ بضعة قرون.

و إليك ما قاله الذهبي بنصّه، قال يوسف بن يعقوب أبو عمران عن ابن جريج، بخبر باطل طويل، و عنه إنسان مجهول و اسمه عبد الرحمن السلمي، قال الطبراني: حدثنا محمد بن يعقوب الأهوازى الخطيب.

ثم ذكر الإسناد الذي ذكرته آنفا، و بعض المتن إلّا أنه قال: «إن خزيمة بن ثابت الأنصارى»، و قال: ذكره أبو موسى في الطوالات، و روى بعضه عبدان الأهوازي، عن السلمي هذا «2».

فكيف يقول الهيثمي: ذكر الذهبي هذا الحديث في ترجمته، و لم ينقل تضعيفه عن أحد؟!! إنه- و اللّه- العجب!! و قد وافق الذهبي فيما قاله الإمام الحافظ ابن حجر في «لسان الميزان» «3»، فقد ذكر ما ذكره الذهبي، غير أنه قال، عن

(1) مجمع الزوائد، ج 8، ص 132.

(2) ميزان الاعتدال في نقد الرجال، ج 3، ص 335، ترجمة رقم 2866، ط السعادة.

(3) ج 6، ص 330، ط الهند.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 298

جابر بن عبد اللّه: أن خزيمة بن ثابت- و ليس بالأنصاري- كان في عير لخديجة، و ذكر القصة السابقة.

و ما ذكره الحافظ ابن حجر في «لسان الميزان» من أنه ليس بالأنصاري هو الصحيح، فهو خزيمة بن حكيم السلمي، و

يقال له: ابن ثابت أيضا، كان صهر خديجة أم المؤمنين، فهو غير خزيمة بن ثابت الأنصاري، المشهور بأنه ذو الشهادتين قطعا «1».

و مما يروى في مثل هذا، ما روي عن صباح بن أشرس، قال: «سئل ابن عباس عن المد و الجزر، فقال: إن ملكا موكّلا بناموس البحر، فإذا وضع رجله فاضت، و إذا رفعها غاضت»، قال الهيثمي: رواه أحمد، و فيه من لم أعرفه، أقول:

و البلاء غالبا، إنما يكون من المجاهيل.

و

عن معاذ بن جبل، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «المجرة التي في السماء هي عرق حية تحت العرش»، رواه الطبراني في «المعجم الكبير» و «الأوسط»

، و قال:

لا يروى عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلّا بهذا الإسناد، و فيه: عبد الأعلى بن أبي سحرة، و لم أعرفه، و بقية رجاله ثقات، أقول: و البلاء من هذا الذي لا يعرف.

و

عن جابر بن عبد اللّه- رضوان اللّه عليه- قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «يا معاذ، إني مرسلك إلى قوم أهل عناد، فإذا سئلت عن المجرة التي في السماء فقل:

هي لعاب حية تحت العرش» رواه الطبراني

، و فيه الفضل بن المختار و هو ضعيف «2»، أقول: و أحر بمثل هذا أن لا يروى إلّا من طريق ضعيف.

و كل هذا الذي ذكرناه، و أمثاله مما لا نصدق وروده عن المعصوم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

(1) الإصابة، ج 1، ص 427، ترجمة 2258.

(2) مجمع الزوائد، ج 8، ص 135.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 299

و إنما هو من أكاذيب بني إسرائيل و خرافاتهم، أو من وضع الزنادقة الخبثاء، و

ألصق بالنبي زورا، و ما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليتكلم في الكونيات، و الفلكيات، و أسباب الكائنات بهذا التفصيل، كما حقّقنا لك آنفا. و في هذه المرويّات من السذاجة العلمية، و التفاهات، ما لا يليق بعاقل، فضلا عن أعقل العقلاء، الذي ما كان ينطق عن الهوى.

و أيضا فهذه التعليلات لا تتّفق هي و المقررات العلمية المستقرة الثابتة، التي أصبحت في حكم اليقينيّات اليوم. و لا ندري، كيف يكون حال الداعية إلى الإسلام اليوم في البلاد المتقدمة في العلم و المعرفة إذا لهج بمثل هذه الأباطيل التي تضرّ بالدين أكثر مما ينال منه أعداؤه؟ و لو أن هذه المرويّات كانت في كتب معتمدة من كتب الحديث، و الرواية التي تعنى بذكر الأحاديث الصحيحة و الحسنة، لكان للمنتصرين لها بعض العذر. أما و هي كما علمت غير معتدّ بها لضعف أسانيدها، و مخالفتها للعقل، و العلم اليقيني، فاضرب بها عرض الحائط و لا كرامة.

ما ذكره المفسرون في الرعد و البرق في كتبهم

و معظم كتب التفاسير بالمأثور و غيره ذكرت: أن الرعد اسم ملك يسوق السحاب، و أن الصوت المسموع صوت زجره السحاب، أو صوت تسبيحه، و أن البرق أثر من المخراق الذي يزجر به السحاب، أو لهب ينبعث منه، على أن المخراق من نار، و ذلك عند تفسير قوله تعالى: وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَ الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ «1» الآية، و يكاد لم يسلم من ذلك أحد منهم، إلّا أن منهم من يحاول أن يوفّق بين ظاهر الآية و ما قاله الفلاسفة الطبيعيون في الرعد

(1) الرعد/ 13.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 300

و البرق، فيؤوّل الآية، و منهم من يبقي الآية على ظاهرها، و ينحى باللائمة

على الفلاسفة و أضرابهم؛ الذين قاربوا أن يصلوا إلى ما وصل إليه العلماء في العصر الحديث. ففي تفسير الخازن «1» قال أكثر المفسرين: على أن الرعد اسم للملك الذي يسوق السحاب، و الصوت المسموع منه تسبيحه، ثم أورد على هذا القول أن ما عطف عليه، و هو قوله تعالى: وَ الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ يقتضي أن يكون المعطوف عليه مغايرا للمعطوف، لأنه الأصل، ثم أجاب: بأنه من قبيل ذكر الخاص قبل العام تشريفا! و قد بسّط الآلوسي في تفسيره- كما هي عادته- الأقوال في الآية، و ذكر أن للعلماء في إسناد التسبيح إلى الرعد قولين: أن في الكلام حذفا، أي سامعو الرعد، أو أن الإسناد مجازي من قبيل الإسناد إلى السبب و الحامل عليه، و الباء في «بحمده» للملابسة، أي يسبّح السامعون لذلك الصوت متلبّسين بحمد اللّه، فيقولون: سبحان اللّه، و الحمد للّه.

و من العلماء من قال: إن تسبيح الرعد بلسان الحال لا بلسان المقال، حيث شبّه دلالة الرعد على قدرة اللّه و عظمته، و إحكام صنعته، و تنزيهه عن الشريك و العجز، بالتسبيح و التنزيه، و التحميد اللفظي، ثم استعار لفظ يسبّح لهذا المعنى.

و قالوا: إن هذا المعنى أنسب.

و كل هذا من العلماء في الحقيقة تخلّص من حمل الآية على ظاهرها، و أن المراد بالرعد: الملك الموكّل بالسحاب. ثم قال الآلوسي: و الذي اختاره أكثر المحدثين أن الإسناد حقيقي؛ بناء على أن الرعد اسم للملك الذي يسوق السحاب.

فقد روى أحمد، و الترمذي و صححه، و النسائي، و آخرون عن ابن

(1) ج 3، ص 70.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 301

عباس- رضوان اللّه عليه-: أن اليهود سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و

آله و سلّم، فقالوا: أخبرنا ما هذا الرعد؟ فقال عليه السّلام: «ملك من ملائكة اللّه موكّل بالسحاب، بيديه مخراق من نار، يزجر به السحاب، يسوقه حيث أمره اللّه تعالى»، قالوا: فما ذلك الصوت الذي نسمعه؟ قال: «صوته» قالوا: «صدقت».

و هذا الحديث إن صح يمكن حمله على التمثيل، و لكن لا يطمئن القلب إليه، و لا يكاد يصدق وروده عن المعصوم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنما هو من إسرائيليات بني إسرائيل ألصقت بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم زورا، ثم كيف يتلاءم ما روي مع قوله قبل:

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ، و قوله بعد:

وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ «1»، فالآية في بيان قدرة اللّه و عظمته في إحداث هذه الآيات الكونية، على حسب ما خلقه اللّه في الكون من نواميس، و أسباب عادية! و إنما المناسب أن نفسّر تسبيح «الرعد» بلسان الحال، و عطف الملائكة على «الرعد» يقتضي أن يكون «الرعد» غيرها لما ذكرنا، و كأن السر في الجمع بينهما بيان أنه تواطأ على تعظيم اللّه و تنزيهه الجمادات و العقلاء، و أن ما لا يعقل منقاد للّه و خاضع كانقياد العقلاء سواء بسواء، و لا سيّما الملائكة الذين هم مفطورون على الطاعة و الانقياد.

و من الحق أن نذكر: أن بعض المفسرين كانت لهم محاولات جادّة؛ بناء على ما كان من العلم بهذه الظواهر الكونية في عصرهم، في تفسير: الرعد و البرق، كابن عطية رحمه اللّه فقد قال: و قيل: إن «الرعد» ريح تخفق بين السحاب.

و روى ذلك عن ابن عباس، و اعترض عليه أبو حيان، و اعتبر ذلك من نزغات الطبيعيين،

مع أن قول ابن عطية أقرب إلى الصواب من تفسير «الرعد» بصوت

(1) الرعد/ 12 و 13.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 302

«الملك» الذي يسوق السحاب، و البرق بضوء مخراقه. و قد حاول الإمام الرازي التوفيق بين ما قاله المحققون من الحكماء، و ما ورد في هذه الأحاديث و الآثار، و قد أنكر عليه أبو حيان هذا أيضا.

ثم ذكر الآلوسي آراء الفلاسفة في حدوث الرعد، و البرق، و تكوّن السحاب، و أنه عبارة عن أبخرة متصاعدة قد بلغت في صعودها إلى الطبقة الباردة من الهواء، ثم تكثّفت بسبب البرد، و لم يقدر الهواء على حملها، فاجتمعت و تقاطرت، و يقال لها: مطر.

هذا، و قد أصابوا في تكوّن السحاب و نزول المطر، فآخر ما وصل إليه العلم اليوم هو هذا. و أما في تكون الرعد، و البرق، فقد حاولوا، و قاربوا، و إن لم يصلوا إلى الحقيقة العلمية المعروفة اليوم.

و بعد أن ذكر الآلوسي الردود و الاعتراضات على ما قاله الفلاسفة، و هي- و الحق يقال- لا تنهض أن تكون أدلة في ردّ كلامهم، قال: و قال بعض المحققين: لا يبعد أن يكون في تكوّن ما ذكر أسباب عادية، كما في الكثير من أفعاله تعالى، و ذلك لا ينافي نسبته إلى المحدث الحكيم- جل شأنه- و من أنصف لم يسعه إنكار الأسباب بالكلية، فإن بعضها كالمعلوم بالضرورة، قال:

و بهذا أنا أقول «1». و نحن أيضا بهذا نقول، و كون الظواهر الكونية قد جعل اللّه نواميس خاصة لحدوثها، لا ينافي قط أنه سبحانه الخالق للكون، و المدبّر له سبحانه، فهو- تعالى- هو الموجد لهذه النواميس، و هو الموجد لهذه السنن التي يسير عليها الكون،

فإن بعض هذه النواميس و السنن أصبحت معلومة فإنكارها باسم الدين، أو التشكيك فيها- و منها تكوّن السحب، و حدوث الرعد، و البرق،

(1) تفسير الآلوسي، ج 13، ص 106 و 107، ط منير.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 303

و الصواعق- إنما يعود على الدين بالضعف، و يضرّه أكثر من طعن أعدائه فيه.

أقوال الرسول عند سماع الرعد و رؤية البرق

و قد وردت أحاديث أخرى صحاح و حسان، تبيّن ما كان يقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عند حدوث هذه الظواهر الكونية، و هي تدل على كمال المعرفة باللّه، و أنه سبحانه هو المحدث لها، و أنها تدل على تنزيه اللّه، و تعظيمه، و حمده؛

فقد أخرج أحمد و البخاري في الأدب المفرد، و الترمذي، و النسائي، و غيرهم، عن ابن عمر قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا سمع صوت الرعد، و الصواعق قال: اللّهم لا تقتلنا بغضبك، و لا تهلكنا بعذابك، و عافنا قبل ذلك»

، لأن احتمال الإهلاك و التعذيب بهذه الآيات الكونية أمر قريب ممكن.

و

أخرج أبو داود في مراسيله، عن عبد اللّه بن أبي جعفر: أن قوما سمعوا الرعد فكبّروا، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إذا سمعتم الرعد فسبّحوا، و لا تكبّروا»

، و ذلك لما فيه من التّأدب بأدب القرآن، و أسلوبه، في قوله تعالى: وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ، و لأن دلالته على تنزيه اللّه من النقص و الشريك أولى من دلالته على التعظيم. و أخرج ابن أبي شيبة، عن ابن عباس أنه عليه السّلام كان يقول إذا سمع الرعد:

«سبحان اللّه و بحمده، سبحان اللّه العظيم». و

أخرج ابن أبي شيبة، و ابن جرير عن أبي هريرة

قال: كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا سمع الرّعد قال: «سبحان من يسبّح الرعد بحمده».

فهذا هو اللائق برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بعصمته، لا ما روي من أن الرعد ملك أو صوت زجره للسحاب، و أن البرق أثر سوطه الذي يزجر به السحاب.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 304

رأي العلم في حدوث الرعد، و البرق، و الصواعق

و إكمالا للفائدة: سنذكر ما وصل إليه العلم في حدوث هذه الظواهر الكونية، فنقول، و باللّه التوفيق: يقول الدكتور محمد أحمد الغمراوي في كتابه «سنن اللّه الكونية»:

الرياح، و الكهربائية الجويّة

إن الكهربائية التي تتولّد في الهواء- و التي ذكرنا لك بعض مصادرها- يكتسبها السحاب عند تكوّنه على الأيونات التي تحملها تلك الكهربائية في الطبقات العليا الجويّة، و لا يدرى الآن، كيف يفصّل اللّه الأيونات السالبة، من الأيونات الموجبة، قبل تكاثف البخار عليها، إن كان هناك فصل لهما؟ أم كيف يكون السحاب عظيم التكهرب إما بنوع من الكهرباء، و إما بالنوع الآخر، إذا حدث التكاثف على الأيونات، و هي مختلطة. و مهما يكن من سر ذلك، فإن السحاب مكهرب من غير شك، كما أثبت ذلك فرانكلن لأول مرة في عام (1752 م) و كما أثبت غيره، عظم تكهربه بشتّى الطرق بعده، و أنت تعرف أن نوعي الكهربائية يتجاذبان، و أن الموجب و الموجب، أو السالب و السالب يتدافعان، أو يتنافران، كما تشاء أن تقول.

هذا التدافع أو التنافر من شأنه تفريق الكهربائية، ثم إذا شاء اللّه ساق السحاب بالريح، حتى يقترب السحاب الموجب، من السحاب السالب قربا كافيا، في اتّجاه أفقي، أو في اتجاه رأسي أو فيما شاء اللّه من الاتجاهات، فإذا اقتربا تجاذبا. و من شأن اقترابهما هذا أن يزيد في كهربائية مجموع السحاب بالتأثير، و لا يزالان يتجاذبان، و يتقاربان، حتى لا يكون محيص من اختلاطهما و اتحاد كهربائيتهما أو من اتحاد كهربائيتهما من بعد، و عندئذ تحدث شبه شرارة عظمى كهربائية، هي

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 305

البرق الذي كثيرا ما يرى في البلاد الكثيرة الأمطار.

و «المطر» نتيجة لازمة لحدوث ذلك الاتحاد الكهربائي، سواء حدث

في هدوء أو بالإبراق، فإذا حدث بهدوء، حدث بين القطيرات المختلفة في السحابتين، فتجذب كل منها قرينتها أو قريناتها، حتى تتحد، و تكون قطرة فيها ثقل، فتنزل، و تكبر أثناء نزولها بما تكتسب من كهربائية، و ما تجتذب من قطيرات، أثناء اختراقها السحاب المكهرب، الذي يكون بعضه فوق بعض في السحاب الركام، أما إذا حدث الاتحاد الكهربائي في شدة البرق، و عنفه، فإنه يحدث لا بين القطيرات، و لكن بين الكتل من السحاب، و يسهل حدوثه تخلخل الهواء، أي قلة ضغطه في تلك الطبقات.

و «البرق» يمثّل قوة كهربائية هائلة، تستطيع أن تكوّن فكرة عنها إذا عرفت أن شرارته قد تبلغ ثلاثة أميال، في طولها أو تزيد، و أن أكبر شرارة كهربائية أحدثها الإنسان لا تزيد عن بضعة أمتار.

فالحرارة الناشئة عن البرق لا شك هائلة، فهي تمدّد الهواء بشدة، و تحدث مناطق جوية عظيمة مخلخلة، الضغط داخلها يعادل الضغط خارجها، ما دام الهواء داخل المنطقة ساخنا، حتى إذا تشعّعت حرارته و بردت تلك المناطق برودة كافية، و ما أسرع ما تبرد، خفّ منها الضغط، و صار أقل كثيرا من ضغط الطبقات الهوائية السحابية المحيطة بها، فهجمت عليها فجأة بحكم الفرق العظيم بين الضغطين و تمدّدت فيها، و حدث لذلك صوت شديد، هو صوت الرعد و هزيمه، هذا الصوت قد يكون له صدى بين كتل السحاب، يتردّد، فنسميه قعقعة الرعد، أما صوت الشرارة الكهربائية البرقية، فهو بدء الرعد، و يكون ضعيفا بالنسبة لهزيمه و قعقعته، لذلك تسمع الرعد ضعيفا في الأول ثم يزداد، كأنما أوّله إيذان بتضخّمه، كما قد تؤذن الطلقة الفردة بانطلاق بطاريات برمتها، من المدافع

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 306

الضخمة في الحروب.

فالرعد يحدث لا عند اتحاد الكهربائيتين حين يحدث البرق فقط، و لكن يحدث أكثره بعد ذلك عند تمدّد الكتل الهوائية الهاجمة في المنطقة المفرغة، و هي إذا تمدّدت بردت برودة شديدة، فيتكاثف ما فيها من البخار، و من كتل السحاب، فينزل على الأرض إما مطرا، و إما بردا، حسب مقدار البرودة الحادثة في تلك المناطق، و هذا هو السبب في أن الرعد و البرق يعقبهما في الغالب مطرات شديدة، سواء أ كانت المطرة مائية، أم بردية، و قطرات الماء أو حبات البرد تنمو بعد ذلك باختراقها كتل السحاب المتراكم، تحت المنطقة التي حدث فيها التفريغ «1».

الصواعق

و قد يحدث التفريغ الكهربائي بين السحاب و الأرض، بدلا من بين السحاب و السحاب، و هذا يكون عادة إذا كان السحاب عظيم الكهربائية، قريبا من الأرض، فإذا حدث التفريغ ظهر له كالعادة ضوء و صوت، نسمّي مجموعهما بالصاعقة، أي أن الصاعقة: تفريغ كهربائي بين السحاب و الأرض، إذا أصاب حيوانا أو نباتا أحرقه، و هو يحدث أكثر ما يحدث بين الأجسام المدبّبة على سطح الأرض من شجر أو نحوه، و بين السحاب، و لذا كان من الخطأ الاستظلال بالشجر، أو المظلات في العواصف ذات البرق، على أن الإنسان قد استخدم سهولة حدوث التفريغ بين الأجسام المدببة، و السحاب لوقاية الأبنية من الصواعق، و ذلك بإقامته على سطوحها قضبانا حديدية أو نحاسية، مدبّبة الأطراف، بحيث يكون طرف القضيب المدبّب أعلى قليلا من أعلى نقطة في البناء، و الطرف الآخر متّصلا بلوح فلزي مدفون في أرض رطبة، و من شأن

(1) سنن اللّه الكونية، ص 158- 160.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 307

الأطراف المدببة أن يكون كل منها

بابا تخرج منه الكهربائية المتجمعة على السطح تدريجا إلى السحاب الذي يظلّه، فيحدث التفريغ، أي الاتحاد بين كهربائية الأرض، و كهربائية السحاب تدريجا، فيمتنع ذلك التفريغ الفجائي المعروف بالصاعقة، على أنه إذا نزلت الصاعقة بالبناء رغم ذلك فالأرجح جدا أنها تصيب القضيب المدبّب أول ما تصيب، و تنصرف الكهربائية إلى الأرض، بدلا من أن تدكّ البناء؛ و لذا يسمّى مثل هذا القضيب المدبّب الواصل إلى الأرض بصارفة الصواعق، و قد وجدوا أن السطح الخارجي للقضيب هو الطريق الذي تمر به الكهربائية إلى الأرض، لذلك كلما كان هذا السطح أكبر كان الصرف أعظم، و البناء أحصن؛ و لذا كانت الصفائح أفعل في حفظ الأبنية، من مثل كتلتها من الأسلاك «1».

جبل «قاف» المزعوم، و حدوث الزلازل

و من ذلك ما ذكره بعضهم في تفسير قوله تعالى: ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ «2»:

فقد ذكر صاحب «الدر المنثور» و غيره، روايات كثيرة عن ابن عباس- رضوان اللّه تعالى عليه- قال: «خلق اللّه من وراء هذه الأرض بحرا محيطا بها، ثم خلق من وراء ذلك البحر جبلا يقال له: (قاف)، سماء الدنيا مرفوعة عليه، ثم خلق اللّه- تعالى- من وراء ذلك الجبل أيضا مثل تلك الأرض سبع مرات، و استمر على هذا حتى عدّ سبع أرضين، و سبعة أبحر، و سبعة أجبل، و سبع سماوات».

و هذا الأثر لا يصح سنده عن ابن عباس، و فيه انقطاع، و لعل البلاء فيه من المحذوف.

(1) سنن اللّه الكونية، ص 162.

(2) ق/ 1.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 308

و أخرج ابن أبي الدنيا، و أبو الشيخ عنه أيضا، قال: خلق اللّه تعالى جبلا يقال له: قاف، محيط بالعالم، و عروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض، فإذا أراد

اللّه تعالى أن يزلزل قرية أمر ذلك الجبل فيحرك العرق الذي يلي تلك القرية، فيزلزلها، و يحرّكها، ثم تحرّك القرية دون القرية.

و كل ذلك كما قال القرافي لا وجود له، و لا يجوز اعتماد ما لا دليل عليه، و هو من خرافات بني إسرائيل الذين يقع في كلامهم الكذب، و التغيير، و التبديل، دسّت على السذّج من المفسّرين، أو تقبّلوها بحسن نية. و رووها لغرابتها، لا اعتقادا بصحتها، و نحمد اللّه أن وجد في علماء الأمة من ردّ هذا الباطل، و تنبّه له قبل أن تتقدّم العلوم الكونية، كما هي عليه اليوم. و من العجيب أن يتعقّب كلام القرافي ابن حجر الهيثمي، فقال: ما جاء عن ابن عباس مروي من طرق خرّجها الحفاظ و جماعة، ممن التزموا تخريج الصحيح، و قول الصحابي فيما لا مجال للرأي فيه، حكمه حكم المرفوع إلى النبي.

و لكن نقول للشيخ الهيثمي: إن تخريج من التزم الصحة ليس بحجّة، و كم من ملتزم شيئا لم يف به، و الشخص قد يسهو و يغلط مع عدالته، و أنظار العلماء تختلف، و الحاكم صحح أحاديث، حكم عليها الذهبي و غيره بالوضع، و كذلك ابن جرير أخرج روايات في تفسيره، حكم عليها الحافظ بالوضع، و الكذب. و لو سلمنا إسنادها إلى ابن عباس، فلا ينافي ذلك أن تكون من الإسرائيليات الباطلة، الموضوعة عنه.

ثم إنا نقول للهيثمي و من يرى رأيه: أي فائدة نجنيها من وراء هذه المرويّات التي لا تتقبّلها عقول تلاميذ المدارس، فضلا عن العلماء؟!! اللهم إلّا أننا نفتح- بالانتصار لها- بابا للطعن في عصمة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إذا جاز هذا في عصور الجهل و الخرافات فلا

يجوز اليوم، و قد أصبح روّاد الفضاء يطوفون حول

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 309

الأرض، و يرونها معلقة في الفضاء بلا عمد، و لا جبال، و لا بحار، و لا صخرة استقرت عليها الأرض، فهذه الإسرائيليات مخالفة للحسّ و المشاهدة قطعا، فكيف نتعلق بها؟! قال الآلوسي: و الذي أذهب إليه ما ذهب إليه القرافي، من أنه لا وجود لهذا الجبل بشهادة الحسّ، فقد قطعوا هذه الأرض، برّها و بحرها، على مدار السرطان مرات، فلم يشاهدوا ذلك، و الطعن في صحة الأخبار- و إن كان جماعة من رواتها ممن التزم تخريج الصحيح- أهون من تكذيب الحسّ، و أمر الزلازل لا يتوقّف أمرها على ذلك الجبل، بل هي من الأبخرة، المتولّدة من شدّة حرارة جوف الأرض، طلبها الخروج، مع صلابة الأرض، فيحصل هذا الاهتزاز، و إنكار ذلك مكابرة عند من له عرق من الإنصاف «1»، و لا ندري لو أن الآلوسي عاش في عصرنا هذا، و وقف على ما وقفنا عليه من عجائب الرحلات الفضائية، ما ذا كان يقول؟، إنّ كلّ مسلم ينبغي أن يكون له من العقل الواعي المتفتح، و النظر الثاقب البعيد.

و إليك ما قاله عالم ناقد، سبق الآلوسي بنحو خمسة قرون «2»: فقد قال في تفسيره عند هذه الآية: و قد روى عن السلف أنهم قالوا: (ق): جبل محيط بجميع الأرض يقال له: جبل قاف، و كأنّ هذا- و اللّه أعلم- من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس، لما رأى من جواز الرواية عنهم، مما لا يصدق، و لا يكذب. و عندي: أن هذا، و أمثاله، و أشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم، يلبّسون به على الناس أمر دينهم، كما افتري

في هذه الأمة- مع جلالة

(1) روح المعاني للآلوسي، ج 26، ص 120.

(2) ابن كثير توفي سنة (774 ه) و الآلوسي توفي سنة (1270 ه).

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 310

قدر علمائها، و حفّاظها، و أئمتها- أحاديث عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ما بالعهد من قدم، فكيف بأمّة بني إسرائيل مع طول المدى، و قلّة الحفاظ النقاد فيهم، و شربهم الخمور، و تحريف علمائهم الكلم عن مواضعه، و تبديل كتب اللّه و آياته «1».

قال: و قد أكثر كثير من السلف من المفسرين، و كذا طائفة كثيرة من الخلف، من الحكاية عن كتب أهل الكتاب، في تفسير القرآن المجيد، و ليس بهم احتياج إلى أخبارهم- و للّه الحمد و المنة-، حتى أن أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي رحمه اللّه أورد هنا أثرا غريبا، لا يصح سنده عن ابن عباس، ثم ساق السند، و المتن الذي ذكرناه آنفا.

ثم قال: فإسناد هذا الأثر فيه انقطاع- أي راو سقط من رواته- و الذي رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رحمهما اللّه في قوله عزّ و جل (ق): هو اسم من أسماء اللّه عزّ و جل، و الذي ثبت عن مجاهد- و هو من تلاميذ ابن عباس الملازمين له، الناشرين لعلمه- أنه حرف من حروف الهجاء، كقوله تعالى: ص، ن، حم، طس، الم، فهذه تبعد ما تقدم عن ابن عباس- رضوان اللّه عليه- «2».

الإسرائيليات في تفسير ن وَ الْقَلَمِ

و من ذلك ما يذكر كثير من المفسرين في قوله تعالى: ن وَ الْقَلَمِ من أنه الحوت الذي على ظهره الأرض، و يسمّى «اليهموت»، و قد ذكر ابن جرير، و السيوطي روايات عن ابن

عباس، منها: «أول ما خلق اللّه القلم، فجرى بما هو

(1) تفسير ابن كثير، ج 4، ص 221. و البغوي، ج 4، ص 220.

(2) تفسير ابن كثير، ج 4، ص 221.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 311

كائن، ثم رفع بخار الماء، و خلقت منه السماوات، ثم خلق النون، فبسطت الأرض عليه، فاضطرب النون، فمادت الأرض «1»، فأثبتت بالجبال. و قد روي عن ابن عباس أيضا: أنه الدواة، و لعل هذا هو الأقرب، و المناسب لذكر القلم. و قد أنكر الزمخشري ورود «نون» بمعنى الدواة، في اللغة، و روي عنه أيضا: أنه الحرف الذي في آخر كلمة الرَّحْمنُ، و أن هذا الاسم الجليل فرق في الر و حم و ن.

و اضطراب النقل عنه يقلل الثقة بما روي عنه، و لا سيما الأثر الأول عنه، و الظاهر أنه افتراء عليه، أو هو من الإسرائيليات ألصق به.

و إليك ما قاله الإمام ابن قيم الجوزية، قال في أثناء كلامه على الأحاديث الموضوعة: و من هذا حديث أن قاف: جبل من زمردة خضراء، محيط بالدنيا كإحاطة الحائط بالبستان، و السماء واضعة أكنافها عليه.

و من هذا حديث: أن الأرض على صخرة، و الصخرة على قرن ثور، فإذا حرّك الثور قرنه، تحرّكت الصخرة، فهذا من وضع أهل الكتاب الذين قصدوا الاستهزاء بالرسل. و قال الإمام أبو حيان في تفسيره: لا يصح من ذلك شي ء ما عدا كونه اسما من أسماء حروف الهجاء «2».

(1) تحركت و مالت.

(2) و الصحيح عندنا- على ما أسلفنا البحث فيه في التمهيد (ج 5 ص 305- 314)-: أنّ هذه الحروف المقطّعة في اوائل السور، هي إشارات رمزيّة إلى أسرار بين اللّه و رسوله، و

لم يهتد إليها سوى المأمونين على وحيه. و لو كان يمكن الاطّلاع عليها لغيرهم لم تكن حاجة إلى الرمز بها.

نعم لا يبعد اشتمالها على حكم و فوائد تزيد في فخامة مواضعها في مفتتحات السور، حسبما احتملته قرائح العلماء، فيما ذكروه من فوائد. و اللّه العالم بحقائق أسراره.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 312

أشهر كتب التفسير بالمأثور
اشارة

أهم كتب تفسير القدماء تعتمد المأثور في تفسير القرآن، فيذكرون الآية و يعقّبونها بذكر أقوال السلف من الأئمة و الصحابة و التابعين، و أحيانا مع شي ء من ترجيح بعض الأقوال، أو زيادة استشهاد بآية أو رواية أو إنشاد شعر. و هذا ديدنهم في التفسير، لا يتجاوزونه إلّا القليل. أما التّعرض بمعاني الفلسفة أو الكلام أو الأدب، فشي ء حصل مع تأخير عن العهد الأوّل، و من ثمّ فجلّ تفاسير القدماء هي من نمط التفسير بالمأثور، و إليك أشهرها:

1- جامع البيان للطبري
اشارة

مؤلف هذا التفسير هو أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري، نسبة إلى طبرستان، هو من أهل آمل، من بلاد مازندران- إيران- ولد بها سنة (224)، و رحل في طلب العلم و هو شاب، و طوّف الأقاليم، فسمع بمصر و الشام و العراق، ثم ألقى رحله و استقرّ ببغداد، و نشر علمه هناك، إلى أن توفّي بها سنة (310).

كان الرجل خبيرا بالتاريخ و بأقوال السلف، عالما فاضلا و ناقدا بصيرا. و له بعض الاجتهاد في تفسيره، و ترجيح بعض الأقوال على بعض. و قد اعتبر الطبري أبا للتفسير كما اعتبر أبا للتاريخ؛ و ذلك باعتبار جامعيّة تفسيره و سعته و شموله. و يذكر أقوال السلف بالأسانيد مما يستدعي الثقة به في نقله. لكنه قد أكثر في النقل عن الضعفاء و المجاهيل، و لفيف من المعروفين بالكذب

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 313

و الاختلاق، و لا سيّما جانب إكثاره من نقل الإسرائيليات، بما أفسد و شوّه وجه التفسير. الأمر الذي أخذ على تفسير ابن جرير؛ حيث يذكر الروايات من غير تمييز بين صحيحها و سقيمها، و لا تعرّض لبيان ضعيفها عن قويّها،

و لعله حسب أنّ ذكر السند- و لو لم ينصّ على درجة الرواية قوّة و ضعفا- يرفع المؤاخذة و التبعات عن المؤلّف. في حين أنّ تفسيره هذا مشحون بالروايات الواهية و المنكرة، و الموضوعات و الإسرائيليات، و لا سيّما عند ما يتعرّض لذكر الملاحم و الفتن، و قصص الأنبياء بالذات.

نعم كان ابن جرير من المحدّثين المكثرين، و من الحشويّة الذين يحشون حقائبهم بالغثّ و السمين، و ممن وصفهم الإمام الشيخ محمد عبده بجنون التحديث. قال في ذيل آية البشارة لزكريا بيحيى: «و لو لا الجنون بالروايات مهما هزلت و سمجت لما كان لمؤمن أن يكتب مثل هذا الهزء و السخف الذي ينبذه العقل، و ليس في الكتاب ما يشير إليه. و لو لم يكن لمن يروي مثل هذه الروايات إلّا هذا لكفى في جرحه، و أن يضرب بروايته على وجهه. فعفا اللّه عن ابن جرير إذ جعل هذه الرواية مما ينشر ...» «1»

و من ثم فإنّ تفسير ابن جرير بحاجة إلى نقد فاحص و تمحيص شامل، كاحتياج كثير من كتب التفسير المشتملة على الموضوع و القصص الإسرائيلي.

و ليس ذكر السند بعاذر له، و لا يجري هنا قولهم: من أسند لك فقد حمّلك البحث عن رجال السند، كما زعمه الأستاذ الذهبي «2»، لأنّ تجويز نشر مثل هذا الخضمّ من الموضوعات و الإسرائيليات، لعله ذنب لا يغفر، كما نوّه عنه الإمام

(1) تفسير المنار، ج 3، ص 298- 299.

(2) التفسير و المفسرون، ج 1، ص 212 و 215.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 314

عبده.

و على أي تقدير، فإنّ مثل تفسير ابن جرير يعدّ اليوم من خير كتب التفسير الجامعة لآراء السلف و أقوالهم، و

لولاه لربّما ضاعت أكثر هذه الآراء، فهو من أمّهات التفاسير المعتمدة في النقل و التفسير بالمأثور. و نحن نعتمد صحة نقله، و إن كان في المنقول على يديه كثير من الغثّ و الفاسد، مما ألزم علينا النقد و التمحيص.

منهجه في التفسير و نقد الآراء

إنه يذكر الآية أوّلا، ثم يعقبها بتفسير غريب اللّغة فيها، أو إعراب مشكلها، إذا دعت الحاجة إلى ذلك، و ربما يستشهد بأشعار العرب و أمثالهم. و بعد ذلك يأتي إلى تأويل الآية، أي تفسيرها على الوجه الراجح، فيأتي بحديث أو قول مأثور إن كان هناك رأي واحد. أما إذا ازدحمت الأقوال و الآراء، فعند ذلك يذكر كل تأويل على حدّه، و ربّما رجّح لدى تضارب الآراء أحدها و أتى بمرجّحاته إن لغة أو اعتبارا، و ربما فصّل الكلام في اللغة و الإعراب، و استشهاده بالشعر و الأدب.

مثلا نراه عند قوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ «1» يقول: و تأويل «سواء»: معتدل، مأخوذ من التساوي، كقولك:

متساو هذان الأمران عندي، و هما عندي سواء، أي هما متعادلان عندي. و منه قول اللّه- جلّ ثناؤه-: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ «2» يعني: أعلمهم و آذنهم بالحرب حتى يستوي علمك و علمهم، بما عليه كل فريق منهم للفريق الآخر.

فكذلك قوله: سَواءٌ عَلَيْهِمْ معتدل عندهم أيّ الأمرين كان منك إليهم: الإنذار

(1) البقرة/ 6.

(2) الأنفال/ 58.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 315

أم ترك الإنذار؛ لأنهم كانوا لا يؤمنون، و قد ختمت على قلوبهم و سمعهم. و من ذلك قول عبد اللّه بن قيس الرقيات:

تعذّبني الشهباء نحو ابن جعفر سواء عليها ليلها و نهارها

يعني بذلك: معتدل عندها في السير الليل و النهار؛ لأنه لا

فتور فيه.

و منه قول الآخر:

و ليل يقول المرء من ظلماته سواء صحيحات العيون و عورها

لأنّ الصحيح لا يبصر فيه إلّا بصرا ضعيفا من ظلمته.

و أما قوله: أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ فإنّه ظهر به الكلام ظهور الاستفهام، و هو خبر؛ لأنّه وقع موقع «أيّ»، كما تقول: لا نبالي أقمت أم قعدت، و أنت مخبر لا مستفهم، لوقوع ذلك موقع «أيّ»؛ و ذلك أنّ معناه- إذا قلت ذلك-:

ما نبالي أيّ هذين كان منك، فكذلك ذلك في قوله: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لما كان معنى الكلام: سواء عليهم أيّ هذين كان منك إليهم، حسن في موضعه مع سواء أفعلت أم لم تفعل. و قد كان بعض نحويّي أهل البصرة يزعم أنّ حرف الاستفهام إنّما دخل مع «سواء» و ليس باستفهام؛ لأنّ المستفهم إذا استفهم غيره فقال: أزيد عندك أم عمرو، مستثبت صاحبه أيّهما عنده، فليس أحدهما أحقّ بالاستفهام من الآخر، فلما كان قوله: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ بمعنى التسوية، أشبه ذلك الاستفهام، إذ أشبهه في التسوية، و قد بيّنّا الصواب في ذلك.

فتأويل الكلام: إذا معتدل يا محمد على هؤلاء الذين جحدوا نبوّتك من أحبار يهود المدينة، بعد علمهم بها، و كتموا بيان أمرك للناس بأنّك رسولي إلى خلقي، و قد أخذت عليهم العهد و الميثاق أن لا يكتموا ذلك و أن يبيّنوه للناس، و يخبروهم أنهم يجدون صفتك في كتبهم، أ أنذرتهم أم لم تنذرهم فإنّهم

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 316

لا يؤمنون و لا يرجعون إلى الحق، و لا يصدقون بك و بما جئتهم به.

كما حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل

عن محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي أنهم قد كفروا بما عندهم من العلم من ذكر، و جحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق لك، فقد كفروا بما جاءك و بما عندهم مما جاءهم به غيرك، فكيف يسمعون منك إنذارا و تحذيرا، و قد كفروا بما عندهم من علمك «1».

انظر إلى هذا التفصيل في مجال الأدب، الّذي ينبؤك عن سعة اضطلاعه بالأدب و بأقوال النّحاة.

و نراه يقول في تأويل قوله- جلّ ثناؤه-: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ «2» و أصل الختم: الطبع، و الخاتم: الطابع، يقال: منه ختمت الكتاب، إذا طبعته.

فإن قال لنا قائل: و كيف يختم على القلوب، و إنما الختم طبع على الأوعية و الظروف و الغلف؟

قيل: فإنّ قلوب العباد أوعية لما أودعت من العلوم، و ظروف لما جعل فيها من المعارف بالأمور، فمعنى الختم عليها و على الأسماع الّتي بها تدرك المسموعات، و من قبلها يوصل إلى معرفة حقائق الأنباء عن المغيبات، نظير معنى الختم على سائر الأوعية و الظروف.

فإن قال: فهل لذلك من صفة تصفها لنا فنفهمها، أ هي مثل الختم الذي يعرف

(1) تفسير الطبري، ج 1، ص 86.

(2) البقرة/ 7.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 317

لما ظهر للأبصار أم هي بخلاف ذلك؟ قيل: قد اختلف أهل التأويل في صفة ذلك، و سنخبر بصفته بعد ذكرنا قولهم.

ثم ذكر قول مجاهد، بإسناده عن الأعمش، قال: أرانا مجاهد بيده فقال: كانوا يرون أن القلب في مثل هذا، يعني الكفّ. فإذا أذنب العبد

ذنبا ضم منه، و قال بإصبعه الخنصر هكذا. فإذا أذنب ضم، و قال بإصبع أخرى- فإذا أذنب ضم، و قال بإصبع أخرى هكذا، حتى ضم أصابعه كلها، قال: ثم يطبع بطابع. قال مجاهد، و كانوا يرون أن ذلك الرّين.

و ذكر قولا آخر لبعضهم: أن «الختم» هنا كناية عن تكبّرهم و إعراضهم عن الاستماع لما دعوا إليه من الحق، كما يقال: إن فلانا لأصمّ عن هذا الكلام، إذا امتنع من سماعه و رفع نفسه عن تفهّمه تكبرا.

قال: و الحق في ذلك عندي ما صحّ بنظيره الخبر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو

ما رواه أبو هريرة، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إن المؤمن إذا أذنب ذنبا كان نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب و نزع و استغفر، صقل قلبه، فإن زاد زادت حتى يغلف قلبه، فذلك «الران» الذي قال اللّه- جلّ ثنائه-: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ «1».

فأخبر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلفتها، و إذا أغلفتها أتاها حينئذ الختم من قبل اللّه عزّ و جل و الطبع، فلا يكون للإيمان إليها مسلك، و لا للكفر منها مخلص. ثم أخذ في مناقشة القول الثاني، و فصّل الكلام فيه على عادته في مناقشة الأقوال «2».

(1) المطففين/ 14.

(2) تفسير الطبري، ج 1، ص 87.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 318

هذا منهجه في التفسير، و هو من خير المناهج المعروفة في التفسير بالمأثور، و مناقشة الآراء المتضاربة في التفسير. و حقا أنه طويل الباع في هذا المجال، سواء في النقل أم في النقاش.

موقفه تجاه أهل الرأي في التفسير

أنه

يقف في وجه أهل الرأي في التفسير موقفا عنيفا، و يرى من إعمال الرأي في تفسير كلام اللّه مخالفة بيّنة لظاهر دلائل الشرع، و يشدّد في ضرورة الرجوع إلى العلم المأثور عن الصحابة و التابعين، و أنّ ذلك وحده هو علامة التفسير الصحيح. فمثلا عند ما تكلم عن قوله تعالى: ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ «1» نجده يذكر ما ورد في تفسيرها عن السلف، مع توجيهه للأقوال و تعرّضه للقراءات، بقدر ما يحتاج إليه تفسير الآية، ثم يعرّج بعد ذلك على من يفسّر القرآن برأيه، و بدون اعتماد منه على شي ء إلّا على مجرد اللغة، فيفنّد قوله و يحاول إبطال رأيه. فيقول ما نصّه: «و كان بعض من لا علم له بأقوال السلف من أهل التأويل، ممّن يفسّر القرآن برأيه على مذهب كلام العرب، يوجّه معنى قوله: وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ إلى: و فيه ينجون من الجدب و القحط بالغيث، و يزعم أنه من العصر بمعنى المنجاة، كما جاء في قول أبي زبيد الطائي:

صاديا يستغيث غير مغاث و لقد كان عصرة المنجود

أي المقهور.

و قول لبيد:

فبات و أسرى القوم آخر ليلهم و ما كان وقّافا بغير معصّر

قال: و ذلك تأويل يكفي من الشهادة على خطئه، خلافه قول جميع أهل

(1) يوسف/ 49.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 319

العلم من الصحابة و التابعين.

قال: و أمّا القول الذي روى الفرج بن فضالة عن علي بن أبي طلحة- أن يعصرون بمعنى يحلبون- فقول لا معنى له؛ لأنّه خلاف المعروف من كلام العرب، و خلاف ما يعرف من قول ابن عباس: إنّه عصر الأعناب و الثمرات «1».

نزعته التعصبيّة

هو

بالرغم من ادّعاء ابن أخته محمد بن العباس أبى بكر الخوارزمي أنه شيعيّ «2» نراه يقف عند دلائل الآيات الكريمة على فضيلة من فضائل آل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم موقف أهل النصب، محاولا إخفاء تلك الفضيلة.

من ذلك تأويله آية المودّة في القربى «3» في قريش، لتحمي النبيّ و تمنعه شرّ الأعداء، و نفى بشدة أن يكون المقصود هم أهل بيته الأطيبين.

قال: الآية خطاب مع قريش لتحفظ قرابته فيهم فتحميه و تمنعه شرّ الأعداء، فقد طلب إليهم الموادّة لكونهم ذوي رحم له، حتى و إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا. فقد كان لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قرابة في جميع قريش، فلمّا كذّبوه و أبوا أن

(1) تفسير الطبري، ج 12، ص 138.

(2) يقول الخوارزمي:

بآمل مولدي و بنو جرير فأخوالي، و يحكي المرء خاله

فها أنا رافضي عن تراث و غيري رافضي عن كلاله

لكن ياقوت الحموي يفنّد هذا الزعم، يقول: و كذب، لم يكن أبو جعفر رافضيّا، و إنما حسدته الحنابلة فرموه بذلك، فاغتنمها الخوارزمي متبجّحا به. و كان سبّابا رافضيا مجاهرا بذلك. (معجم البلدان، ج 1، ص 57).

(3) الشورى/ 23.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 320

يبايعوه، قال: يا قوم إذا أبيتم أن تبايعوني فاحفظوا قرابتي فيكم، لا يكن غيركم من العرب أولى بحفظي و نصرتي منكم.

ثم ذكر وجوها ثلاثة أخر: طلب الموادة مع قرابته أهل بيته، و طلب القربى إلى اللّه و الزلفى لديه تعالى، و صلة الأرحام بعضهم مع بعض. ثم يحاول ترجيح الوجه الّذي ذكره على هذه الوجوه الثلاثة، و يستند في ترجيحه إلى موضع «في» في

قوله: الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى يقول: إذ لا وجه معروفا لدخول «في» في هذا الموضع. و كان ينبغى على سائر الوجوه أن يكون التنزيل «إلّا مودة القربى» أو «المودة بالقربى» أو «ذا القربى» على الترتيب.

قال: و أولى الأقوال في ذلك بالصواب و أشبهها بظاهر التنزيل، قول من قال: معناه قل لا أسألكم عليه أجرا- يا معشر قريش- إلّا أن تودّوني في قرابتي منكم و تصلوا الرحم الّتي بيني و بينكم، و إنما قلت: هذا التأويل أولى بتأويل الآية، لدخول «في» في قوله: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى و لو كان معنى ذلك على ما قاله من قال: إلّا أن تودّوا قرابتي أو تقربوا إلى اللّه، لم يكن لدخول «في» في الكلام في هذا الموضع وجه معروف؛ و لكان التنزيل «إلّا مودّة القربى» إن عنى به الأمر بمودّة قربى الرسول، أو «إلّا المودّة بالقربى» أو «ذا القربى» إن عنى به التودّد و التقرّب. و في دخول «في» في الكلام أوضح دليل على أنّ معناه: إلّا مودّتي في قرابتي منكم، و أنّ الألف و اللام في المودّة أدخلتا بدلا من الإضافة. و قوله «إلّا» في هذا الموضع استثناء منقطع، و معنى الكلام: «قل لا أسألكم عليه أجرا، لكنّي أسألكم المودّة في القربى» «1».

(1) تفسير الطبري، ج 25، ص 15- 17.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 321

لكنها محاولة فاشلة، و في نفس الوقت فاضحة، إذ كيف يخفى على ذي لبّ أنّ مثل هكذا مواجهة مما يمتنع مع قوم ناكرين و مستهزئين بموقف النبي الكريم، إنهم رفضوا دعوته و لجّوا في معاندته، و حاولوا بكل جهدهم في تقويض دعائم الدّعوة و الكسر من شوكتها. ثم جاء يطالبهم

الأجر عليها، أو يرغّبهم في نصرته عليها. إن هذا إلّا احتمال موهون، و إزراء بمقامه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المنيع.

إنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يمدّ يد الوداد إلى أعداء اللّه، حتى و لو كانوا ذوي قرابته، فكيف يطالبهم الموادة في قرباه! إذ لا قرابة مع الشرك، و لا رحم مع رفض التوحيد. قال تعالى: لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ «1».

و أما الذي ذكره دليلا على اختياره، فليته لم يذكره؛ إذ يتنافى ذلك تنافيا كليا مع ما لمسناه في الرجل من براعة في الأدب. هذا الإمام جار اللّه الزمخشري يصرّح بنقيض اختيار الطبري و يسلك مسلكا نزيها مشرّفا، و تبعه على ذلك عامة أهل النظر و الاختيار في التفسير.

قال: ما معنى قوله: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى فأجاب بقوله:

قلت: جعلوا مكانا للمودّة و مقرّا لها، كقولك: لي في آل فلان مودّة، و لي فيهم هوى و حبّ شديد، تريد: أحبّهم و هم مكان حبّي و محلّه.

قال: و ليست «في» بصلة- أي متعلقة- للمودّة، كاللّام إذا قلت: إلّا المودّة للقربى، إنما هي متعلقة بمحذوف تعلق الظرف به في قولك: المال في الكيس، و تقديره: إلّا المودّة ثابتة في القربى و متمكنة فيها. و القربى: مصدر كالزلفى و البشرى، بمعنى: قرابة. و المراد: أهل القربى.

قال: روي أنها لما نزلت قيل: يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قرابتك، هؤلاء الذين

(1) الممتحنة/ 1.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 322

وجبت علينا مودّتهم؟ قال: عليّ و فاطمة و ابناهما

. و أتبعها بروايات أخر في هذا الشأن، جزاه اللّه عن آل محمد خير الجزاء

«1».

2- تفسير العياشي
اشارة

تأليف أبي النضر محمد بن مسعود بن محمد بن عياش السلمي السمرقندي المتوفّى سنة (320) كان من أعلام المحدثين، سمع جماعة من شيوخ الكوفيّين و البغداديّين و القمّيّين. كانت داره معهد علم و دراسة، و كانت محل روّاد الحديث بين ناسخ أو مقابل أو قار أو معلّق. و قد أنفق جميع تركة أبيه- ثلاثمائة ألف دينار- في طلب العلم و تحصيله و بثّه و نشره. قالوا: و كان أكثر أهل المشرق علما و أدبا و فضلا و فهما و نبلا في زمانه. و كان له مجلسان: مجلس للخواص، و مجلس للعوام.

قال ابن النديم: إنه من بني تميم، من فقهاء الشيعة الإمامية، أوحد دهره و زمانه في غزارة العلم.

و لكتبه بنواحي خراسان شأن من الشأن. و هو شيخ أبي عمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي، صاحب كتاب الرّجال. و كتبه ما ينوف على مائتي كتاب و رسالة. كان في حداثة سنّه عامّي المذهب، ثم استبصر و خدم الإسلام في مصنفاته الكثيرة، و علمه الغزير.

و له كتاب «التفسير»، جمع فيه المأثور من أئمة أهل البيت عليهم السّلام في تفسير القرآن، و لقد أجاد و أفاد، و ذكر الروايات بأسانيدها في دقّة و اعتبار.

غير أنّ هذا التفسير لم يصل إلينا إلّا مبتورا. فقد بتره أولا ناسخه؛ حيث أسقط

(1) تفسير الكشاف، ج 4، ص 219- 220.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 323

الأسانيد، و اقتصر على متون الأحاديث، معتذرا بأنّه لم يجد في دياره من يكون عنده سماع أو إجازة من المؤلف؛ فلذلك حذف الأسانيد و اكتفى بالباقي. و من ثم قال المولى المجلسي بشأنه: إنّ اعتذاره هذا أشنع من فعلته بحذف الأسانيد.

و الجهة الأخرى

في بتر الكتاب، عدم العثور على الجزء الثاني من جزئي التفسير، فإنّ هذا الموجود ينتهي إلى نهاية سورة الكهف، و لم توجد بقيّته.

نعم هناك بعض المتقدمين، نقلوا منه أحاديث بأسانيد كاملة، كانت عندهم منه نسخة كاملة، منهم الحافظ الكبير عبيد اللّه بن عبد اللّه الحاكم الحسكاني النيسابوري، من أعلام القرن الخامس، و من شيوخ مشايخ العلّامة الطبرسي، صاحب التفسير الأثري القيّم «مجمع البيان» و ينقل عنه في تفسيره كثيرا. ففي «شواهد التنزيل» للحاكم الحسكاني كثير من روايات العياشي، ينقلها فيه بالأسانيد التامّة «1».

منهجه في التفسير

إنه يسترسل في ذكر الآيات، في ضمن أحاديث مأثورة، عن أهل البيت عليهم السّلام تفسيرا و تأويلا للآيات الكريمة. و لا يتعرّض لنقدها جرحا أو تعديلا، تاركا ذلك إلى عهدة الأسناد الّتي حذفت مع الأسف. و يتعرّض لبعض القراءات الشاذّة المنسوبة إلى أئمة أهل البيت، مما جاءت في سائر الكتب بأسانيد ضعاف، أو مرسلة لا حجيّة فيها، و القرآن لا يثبت بغير التواتر باتّفاق الأمّة.

نراه عند ما يتعرّض لقوله تعالى:

(1) راجع: مقدمة تفسير العياشي المطبوع، و الذريعة للطهراني، ج 4، ص 295. و الكنى و الألقاب للقمي، ج 2، ص 490.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 324

حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى وَ قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ «1»

يسند إلى الإمام أبي جعفر الباقر عليه السّلام أنه قرأها: «حافظوا على الصلوات و الصلاة الوسطى و صلاة العصر» ثم قال: و كذلك كان يقرؤها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و

في رواية زرارة عنه عليه السّلام: هي أوّل صلاة صلّاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هي وسط صلاتين بالنهار: صلاة الغداة، و صلاة العصر.

و

قال عليه السّلام

في قوله تعالى: وَ قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ: في الصلاة الوسطى، قال:

نزلت هذه الآية يوم الجمعة و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في سفر، فقنت فيها، و تركها على حالها في السفر و الحضر

. و

عن زرارة و محمد بن مسلم، أنهما سألا أبا جعفر عليه السّلام عن هذه الآية، فقال: صلاة الظهر. و فيها فرض اللّه الجمعة، و فيها الساعة التي لا يوافقها عبد مسلم، فيسأل خيرا إلّا أعطاه اللّه إيّاه.

و

عن الإمام الصادق عليه السّلام قال: الصلاة الوسطى الظهر، وَ قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ:

إقبال الرجل على صلاته، و محافظته على وقتها، حتى لا يلهيه عنها و لا يشغله شي ء.

و أخيرا يذكر تأويلا للآية: أنّ الصلوات الّتي يجب المحافظة عليها هم:

رسول اللّه، و عليّ، و فاطمة، و ابناهما، وَ قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ: طائعين للأئمة عليهم السّلام «2».

كما أنه عند ما

يروي عن الصادق عليه السّلام تفسير «السبع المثاني» بسورة الحمد،

يعرج إلى نقل روايات تفسّر باطن الآية إلى الأئمة.

قال: إنّ ظاهرها: الحمد،

(1) البقرة/ 238.

(2) تفسير العياشي، ج 1، ص 127- 128، رقم 416- 421.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 325

و باطنها: ولد الولد. و السابع منها: القائم عليه السّلام «1».

و من ثم فإنه عند ما يرد في التأويل، نراه غير مراع لضوابط التأويل الصحيح، على ما أسلفنا بيانه، من كونه مفهوما عاما منتزعا من الآية بعد إلغاء الخصوصيات ليكون متناسبا مع ظاهر اللفظ، و إن كانت دلالته عليه غير بيّنة.

3- تفسير القمي
اشارة

منسوب إلى أبي الحسن علي بن إبراهيم بن هاشم القمي المتوفّى سنة (329) من مشايخ الحديث، روى عنه الكليني و كان من مشايخه، واسع العلم، كثير التصانيف، و كان معتمد الأصحاب. قال النجاشي:

ثقة ثبت معتمد صحيح المذهب. و أكثر رواياته عن أبيه إبراهيم بن هاشم، أصله من الكوفة و انتقل إلى قم. يقال: إنه أول من نشر حديث الكوفيين بقم، و هو أيضا ثقة على الأرجح، حسن الحال.

و هذا التفسير، المنسوب إلى علي بن إبراهيم القمي، هو من صنع تلميذه أبي الفضل العباس بن محمد بن القاسم بن حمزة بن الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام و هو تلفيق من إملاءات القمي، و قسط وافر من تفسير أبي الجارود زياد بن المنذر السرحوب المتوفّى سنة (150) كان من أصحاب الإمام أبي جعفر الباقر عليه السّلام و هو رأس الجارودية من الزيديّة.

فكان ما أورده أبو الفضل في هذا التفسير من أحاديث الإمام الباقر، فهو من طريق أبي الجارود، و ما أورده من أحاديث الإمام الصادق عليه السّلام فمن طريق علي بن إبراهيم، و أضاف إليهما بأسانيد عن غير طريقهما. فهو مؤلّف ثلاثي

(1) تفسير العياشي، ج 2، ص 249- 251، سورة الحجر، رقم 33- 41.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 326

المأخذ، و على أيّ حال فهو من صنع أبي الفضل، و نسب إلى شيخه؛ لأن أكثر رواياته عنه، و لعله كان الأصل فأضاف إليه أحاديث أبي الجارود و غيره؛ لغرض التكميل.

و أبو الفضل هذا مجهول الحال، لا يعرف إلّا أنه علويّ، و ربما كان من تلاميذ علي بن إبراهيم؛ إذ لم يثبت ذلك يقينا، من غير روايته في هذا التفسير عن شيخه القمي.

كما أن الإسناد إليه أيضا مجهول، لم يعرف من الراوي لهذا التفسير عن أبي الفضل هذا.

و من ثم فانتساب هذا التفسير إلى علي بن إبراهيم أمر مشهور لا مستند له. أما الشيخ محمد بن

يعقوب الكليني، فيروي أحاديث التفسير عن شيخه علي بن إبراهيم من غير هذا التفسير، و لم نجد من المشايخ العظام من اعتمد هذا التفسير أو نقل منه.

منهجه في التفسير

يبدأ هذا التفسير بذكر مقدّمة يبيّن فيها صنوف أنواع الآيات الكريمة، من ناسخ و منسوخ، و محكم و متشابه، و خاص و عام، و مقدّم و مؤخّر، و ما هو لفظه جمع و معناه مفرد، أو مفرد معناه الجمع، أو ماض معناه مستقبل، أو مستقبل معناه ماض، و ما إلى ذلك من أنواع الآيات و ليست بحاصرة.

و بعد ذلك يبدأ بالتفسير مرتّبا حسب ترتيب السور و الآيات آية فآية، فيذكر الآية و يعقبها بما رواه علي بن إبراهيم، و يستمرّ على هذا النمط حتى نهاية سورة البقرة. و من بدايات سورة آل عمران نراه يمزجه بما رواه عن أبي الجارود، و كذا عن غيره من سائر الرواة، و يستمر حتى نهاية القرآن.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 327

و هذا التفسير في ذات نفسه تفسير لا بأس به، يعتمد ظواهر القرآن و يجري على ما يبدو من ظاهر اللفظ، في إيجاز و اختصار بديع، و يتعرّض لبعض اللغة و الشواهد التاريخية لدى المناسبة، أو اقتضاء الضرورة. لكنّه مع ذلك لا يغفل الأحاديث المأثورة عن أئمّة أهل البيت، مهما بلغ الإسناد من ضعف و وهن، أو اضطراب في المتن؛ و بذلك قد يخرج عن أسلوبه الذاتي فنراه يذكر بعض المناكير مما ترفضه العقول، و يتحاشاه أئمة أهل البيت الأطهار. لكنه قليل بالنسبة إلى سائر موارد تفسيره. فالتفسير في مجموعه تفسير نفيس لو لا وجود هذه القلّة من المناكير. و قد أشرنا إلى طرف من ذلك، عند الكلام عن التفاسير

المعزوّة إلى أئمة أهل البيت.

4- تفسير الحويزي (نور الثقلين)
اشارة

تأليف عبد علي بن جمعة العروسي الحويزي، من محدّثي القرن الحادي عشر، المتوفّى سنة (1112). كان على مشرب الأخبارية، كان محدّثا فقيها، و شاعرا أديبا جامعا. سكن شيراز و حدّث بها، و تتلمذ على يديه جماعة، منهم السيد نعمة اللّه الجزائري، و غيره.

إنه جمع ما عثر عليه من روايات معزوّة إلى أئمة أهل البيت عليهم السّلام مما يرتبط نحو ارتباط بآي الذكر الحكيم، تفسيرا أو تأويلا، أو استشهادا أو تأييدا. و في الأغلب لا مساس ذاتيا للحديث مع الآية في صلب مفهومها أو دلالتها، و إنما تعرّض لها بالعرض لغرض الاستشهاد، و نحو ذلك، هذا فضلا عن ضعف الأسانيد أو إرسالها إلّا القليل المنقول من المجامع الحديثية المعتبرة.

و هو لا يستوعب جمع آي القرآن، كما أنه لا يذكر النص القرآني، سوى سرده للروايات تباعا، حسب ترتيب الآيات و السور. و لا يتعرّض لنقد الروايات

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 328

و لا علاج معارضاتها.

يقول المؤلف في المقدمة: «و أما ما نقلت مما ظاهره يخالف لإجماع الطائفة فلم أقصد به بيان اعتقاد و لا عمل، و إنما أوردته ليعلم الناظر المطّلع كيف نقل و عمّن نقل، ليطلب له من التوجيه ما يخرجه من ذلك، مع أني لم أخل موضعا من تلك المواضع عن نقل ما يضاده، و يكون عليه المعوّل في الكشف و الإبداء» «1».

و بذلك يتخلّص بنفسه عن مأزق تبعات ما أورده في كتابه من مناقضات و مخالفات صريحة، مع أسس قواعد المذهب الحنيف، و يوكل النظر و التحقيق في ذلك إلى عاتق القارئ.

و نحن نرى أنه قصّر في ذلك؛ إذ كان من وظيفته الإعلام و البيان لمواضع الإبهام

و الإجمال، كما فعله المجلسي العظيم في بحار أنواره؛ إذ ربّ رواية أوهنت من شأن الدين فلا ينبغي السكوت عليها و المرور عليها مرور الكرام، مما فيه إغراء الجاهلين أحيانا، أو ضعضعة عقيدة بالنسبة إلى مقام أئمة أهل البيت عليهم السّلام فلم يكن ينبغي نقل الرواية و تركها على عواهنها، الأمر الّذي أوجب مشاكل في عقائد المسلمين.

من ذلك أنه يذكر في ذيل قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها «2» رواية مشوّهة موهونة، و

ينسبه إلى الإمام الصادق عليه السّلام: «فالبعوضة: أمير المؤمنين، و ما فوقها: رسول اللّه» «3».

كما أنه ينقل أخبارا مشتملة على الغلوّ و الوهن بشأن الأئمّة. و يسترسل في

(1) نور الثقلين، ج 1، ص 2. (مقدمة الكتاب).

(2) البقرة/ 26.

(3) نور الثقلين، ج 1، ص 37- 38.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 329

نقل الإسرائيليات و الموضوعات كما في قصّة هاروت و ماروت، و أن الزهرة كانت امرأة فمسخت، و أن الملكين زنيا بها. و نحو ذلك من الأساطير الإسرائيلية و الأكاذيب الفاضحة «1»، ملأ بها كتابه، و شحنه شحنا بلا هوادة.

منهجه في التفسير

نعم إنه يسرد الروايات سردا تباعا من غير هوادة، يذكر الرواية تلو الأخرى أيّا كان نمطها، و في أيّ بنية كانت صيغتها، إنما يذكرها لأنها رواية تعرّضت لجانب من جوانب الآية بأيّ أشكال التعرض.

مثلا- في سورة النساء- يبدأ بذكر ثواب قراءتها، فيذكر رواية مرسلة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ من قرأها فكأنما تصدق على كل من ورث ميراثا، و لعل المناسبة أن السورة تعرضت لأحكام المواريث، ثم يأتي لتفسير قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي

خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ «2» فيذكر رواية: أنّهم قرابة الرسول و سيّدهم أمير المؤمنين، أمروا بمودّتهم فخالفوا ما أمروا به. لم نعرف وجه المناسبة بين هذا الكلام و الآية الكريمة.

ثم يروي: أنّ حوّاء إنما سمّيت حوّاء؛ لأنها خلقت من حيّ. فلو صح، لكان الأولى أن يقال لها: حيّا. و هكذا يروي أن المرأة سمّيت بذلك؛ لأنها مخلوقة من المرء، أي الرجل، لأنها خلقت من ضلع آدم. ثم يناقض ذلك بذكر رواية تنفي أن تكون خلقت من ضلع آدم، بل إنها خلقت من فاضل طينته.

في حين أنّ الصحيح في فهم الآية: أنّ حوّاء خلقت من جنس آدم ليسكن

(1) نور الثقلين، ج 1، ص 91.

(2) النساء/ 1.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 330

إليها، كما في قوله تعالى: خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها «1».

و يذكر: أن النساء إنما سمّين نساء؛ لان آدم أنس بحواء، فلو كان كذلك لكان الأولى أن يقال لهن: «أنساء».

و يتعرّض بعد ذلك لكيفية تزاوج ولد آدم، و ينفي أن يكون قد تزوّج الذكر من كل بطن مع الأنثى من بطن آخر؛ لأن ذلك مستنكر حتى عند البهائم. و بلغه أنّ بهيمة تنكّرت له أخته فنزا عليها، فلما كشف عنها أنها أختها قطع غرموله «2» بأسنانه و خرّ ميّتا.

و هكذا يذكر الروايات تباعا من غير نظر في الأسناد و المتون، و لا مقارنتها مع أصول المذهب أو دلالة العقول.

و نحن نجلّ مقام الأئمة المعصومين عن الإفادة بمثل هذه التافهات الصبيانية، الّتي تحطّ من مقامهم الرفيع، فضلا عن منافاتها مع رفعة شأن القرآن الكريم.

نعم قد يوجد خلال هذه التافهات بعض الكلام المتين؛ إذ قد يوجد في الأسقاط ما لا يوجد

في الأسفاط، لكنه من خلط السليم بالسقيم، الّذي يتحاشاه أئمة أهل البيت عليهم السّلام.

5- تفسير البحراني (البرهان)
اشارة

هو السيّد هاشم بن سليمان بن إسماعيل الحسينى البحراني الكتكاني. و هي قرية من قرى توبلى من أعمال البحرين توفّي سنة (1107). كان من المحدثين

(1) الروم/ 21.

(2) الغرمول: الذّكر.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 331

الأفاضل متتبعا للأخبار جمّاعا للأحاديث، من غير أن يتكلّم فيها بجرح أو تعديل، أو تأويل ما يخالف العقل أو النقل الصريح، كما هو دأب أكثر الأخباريين المتطرّفين.

و في تفسيره هذا يعتمد كتبا لا اعتبار بها أمثال: التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام الّذي هو من صنع أبي يعقوب يوسف بن محمد بن زياد، و أبي الحسن على بن محمد بن سيار، الأسترآباديين و لم يعلم وجه انتسابه إلى الإمام الحسن العسكري عليه السّلام و التفسير المنسوب إلى علي بن إبراهيم بن هاشم القمي و هو من صنع أبي الفضل العباس بن محمد العلوي، و نسب إلى القمي من غير وجه وجيه و كتاب «الاحتجاج» المنسوب إلى الطبرسي و لم يعرف لحدّ الآن و كتاب «سليم بن قيس الهلالي»، المدسوس فيه، و غير ذلك من كتب لا اعتبار فيها، فضلا عن ضعف الإسناد أو الإرسال في أكثر الأحاديث التي ينقلها من هذه الكتب.

و مما يؤخذ على هذا التفسير أنه يسند القول في التفسير إلى الإمام المعصوم، إسنادا رأسا، في حين أنه وجده في كتاب منسوب إليه صرفا، مثلا يقول: قال الإمام أبو محمد العسكري في تفسير الآية كذا و كذا، الأمر الّذي ترفضه شريعة الاحتياط في الدين «1».

و هذا التفسير غير جامع للآيات، و إنما تعرّض لآيات جاء في ذيلها حديث، و لو

في شطر كلمة. و من ثم فهو تفسير غير كامل، فضلا عن ضعف الأسانيد و إرسالها، و وهن غالبية الكتب الّتي اعتمدها، كما هو خال عن أيّ ترجيح أو تأويل، عند مختلف الروايات، ولدى تعارض بعضها مع بعض.

(1) راجع- مثلا- الجزء الأول صفحات 73 و 79 و 87 و 91، و هو كثير منتشر في الكتاب.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 332

منهجه في التفسير

بدأ المؤلف بمقدمة يذكر فيها فضل العلم و المتعلّم، و فضل القرآن، و حديث الثقلين، و النهي عن تفسير القرآن بالرأي، و إن للقرآن ظاهرا و باطنا، و أنه مشتمل على أقسام من الكلام، و ما إلى ذلك.

و يبدأ التفسير بعد المقدمات بمطلع جاء في مقدمة التفسير المنسوب إلى علي بن إبراهيم القمي، من ذكر أنواع الآيات و صنوفها، حسبما جاء في التفسير المنسوب إلى محمد بن إبراهيم النعماني، و هى رسالة مجهولة النسب لم يعرف مؤلّفها لحد الآن.

و بعد ذلك يرد في تفسير الآيات حسب ترتيب السور فيذكر الآية أوّلا ثم يعقبها بما ورد في شأنها من حديث مأثور عن أحد الأئمة المعصومين، من غير ملاحظة ضعف السند أو قوّته، أو صحّة المتن أو سقمه.

نعم لا يعني ذلك أن الكتاب ساقط كله، بل فيه من الأحاديث الغرر و الكلمات الدرر، الصادرة عن أهل بيت الهدى و مصابيح الدجى، ما يروي الغليل و يشفي العليل. و الكتاب بحاجة إلى تمحيص و نقد و تحقيق، ليمتاز سليمه عن السقيم، و الصحيح المقبول عن الضعيف الموهون.

فالكتاب بمجموعته موسوعة فريدة، جمعت في طيّها الآثار الكريمة الّتي زخرت بها ينابيع العلم و الهدى، يجدها الباحث اللبيب عند البحث و التنقيب، في هذا التأليف الّذي جمع

بين الغث و السمين.

6- الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور

لجلال الدين أبي الفضل، عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد السيوطي المتوفّى سنة (911). انحدر من أسرة كان مقرّها مدينة أسيوط. قيل: كانت الأسرة

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 333

من أصل فارسي، كانت تعيش في بغداد، ثم ارتحلت إلى مصر.

كان جلال الدين من أكبر الحفّاظ و الرواة، جمّاعا للأحاديث، مولعا بمطالعة الكتب و النقل عنها، و بذلك أصبح رأسا في التأليف و التصنيف، و جلّ تآليفه ذات فوائد جمّة شريفة، مما يشهد بتبحّره و سعة اطّلاعه.

و قد ألّف السيوطي تفسيرا مبسّطا جمع فيه من الآثار بأسانيد الكتب المخرجة منها، ثم اختصره بحذف الأسانيد، و هو المعروف اليوم ب «الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور». يقول هو:

فلما ألّفت كتاب «ترجمان القرآن» و هو التفسير المسند عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه، و تمّ بحمد اللّه في مجلّدات. فكان ما أوردته فيه من الآثار بأسانيد الكتب المخرجة منها، رأيت قصور أكثر الهمم عن تحصيله، و رغبتهم في الاقتصار على متون الأحاديث، دون الإسناد و تطويله، فلخّصت منه هذا المختصر، مقتصرا فيه على متن الأثر، مصدّرا بالعزو و التخريج إلى كل كتاب معتبر، و سميته ب «الدّر المنثور في التفسير بالمأثور» «1».

و كان قد شرع في تفسير أبسط و أوسع، جامع بين فنون الكلام و أنواع التفسير، لكنه لم يعرف اتمامه. يقول عنه: و قد شرعت في تفسير جامع لجميع ما يحتاج إليه من التفاسير المنقولة، و الأقوال المقولة و الاستنباطات و الإشارات و الأعاريب و اللغات و نكت البلاغة و محاسن البدائع و غير ذلك؛ بحيث لا يحتاج معه إلى غيره أصلا، و سمّيته ب «مجمع

البحرين و مطلع البدرين». و هو الذي جعلت هذا الكتاب «الإتقان» مقدمة له. و اللّه أسأل أن يعين على إكماله

(1) الدر المنثور، ج 1، ص 2.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 334

بمحمد و آله «1».

و قد اقتصر المؤلّف في الدرّ المنثور على مجرّد ذكر الروايات ذيل كل آية، بلا أن يتكلم فيها أو يرجّح أو ينقد أو يمحّص. فهذا التفسير فريد في باب، من حيث الاقتصار على نقل الآثار، و توسّعه في ذلك. و مع ذلك فإنه لم يتحرّ الصحّة، و إنما جمع بين الغث و السمين، و أورد فيه الكثير من الإسرائيليات و الأحاديث الموضوعة، عن لسان الأئمة السلف. و من ثمّ فإن الأخذ منه يحتاج إلى إمعان نظر و دقّة و تمييز.

7- تفسير البرغاني (بحر العرفان)
اشارة

للمولى صالح بن آغا محمد البرغاني القزويني الحائري المتوفّى حدود سنة (1270).

له ثلاثة تفاسير: كبير في سبعة عشر مجلّدا، مخطوط، محفوظ في خزانة كتبه، لدى ورثته بقزوين. و وسيط في تسعة مجلّدات. و صغير في مجلّد واحد.

استقصى فيه الأحاديث المرويّة عن الأئمة الأطهار في التفسير، و رتّبها حسب ترتيب الآيات و السور، و لكنّه إنما ذكر الروايات التي زعمها صالحة، و ترك ما زعمه باطلا، صادرا من جراب النورة حسب تعبيره.

فنراه عند سرد روايات بدء النسل، يقتصر على رواية التزاوج بالحوريّة و الجنّية، زاعما صحتها، و يترك رواية تزاوج الذكر من حمل و الأنثى من حمل آخر، لزعم بطلانه.

فهو تفسير بالمأثور مع إعمال النظر في الأخذ و الترك فحسب.

(1) الإتقان، ج 4، ص 213- 214.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 335

نمط آخر من التفسير بالمأثور

هناك نمط آخر من التفسير بالمأثور، يفسّر القرآن تفسيرا حسب المتعارف، آية فآية و جملة فجملة، و كلمة فكلمة، حسبما يساعده اللغة و الفهم العرفي، لكنه يعتمد في حلّ معضلاته و رفع مبهماته على المأثور من الروايات فحسب، لا غيرهنّ من أدوات التفسير، بل و ربما غلب الاعتماد على النقل على الاعتماد على العقل و إعمال النظر و الرأي و الاجتهاد، فيظهر بمظهر التفسير النقلي أكثر من ظهوره بمظهر التفسير النظري الاجتهادي.

و هذا كتفسير المولى الفيض الكاشاني، و تفسير الميرزا محمد المشهدي، و تفسير شبّر، مما كتب في عهد متقارب، بعد سنة الألف من الهجرة.

و تفسير السمرقندي، و الثعلبي، و الثعالبي، و البغوي، و ابن كثير، و المحرّر الوجيز، من تفاسير أهل السنة، كتبت في القرون الوسطى من الهجرة.

إذ كل ذلك يعدّ من التفسير بالمأثور، نظرا لكثرة الاعتماد على النقل في التفسير،

و قلّة النظر و الاجتهاد. و إليك بعض الكلام عنها:

8- تفسير الصافي
اشارة

للمولى محسن محمد بن المرتضى المعروف بالفيض الكاشاني، المتوفّى (1091). هو المحدّث الفقيه و الفيلسوف العارف، ولد بكاشان و نشأ بها نشأة علمية راقية له تفسير كبير و متوسط و موجز، و سمّيت على الترتيب ب «الصافي و الأصفى و المصفّى».

يعتبر تفسيره هذا مزجا من الرواية و الدراية، تفسيرا شاملا لجميع آي القرآن، و قد اعتمد المؤلّف في نقل عباراته على تفسير البيضاوي، ثم على نصوص الأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 336

و قدّم لتفسيره مقدّمة تشتمل على اثني عشر فصلا، بحث فيها عن مختلف شئون القرآن و فضله و تلاوته و تفسيره و تأويله.

و تعتبر هذه المقدمة من أحسن المقدّمات التفسيرية، التي أوضح فيها المؤلّف مواضع أهل التفسير في النقل و الاعتماد على الرأي، و ما يجب توفّره لدى المفسّر عند تفسيره للقرآن، من مؤهلات ضروريّة.

و هذه الفصول سمّاهن مقدمات: كانت المقدمة الأولى- بعد الديباجة- في نقل ما جاء في فضل القرآن، و الوصية بالتمسك به. و الثانية في أن علم القرآن كله عند أهل البيت عليهم السّلام، هم يعلمون ظاهر القرآن و باطنه، علما شاملا لجميع آي القرآن الكريم. و الثالثة في أن جلّ القرآن وارد بشأن أولياء اللّه و معاداة أعداء اللّه.

و الرابعة في بيان وجوه معاني الآيات من التفسير و التأويل، و الظهر و البطن، و المحكم و المتشابه، و الناسخ و المنسوخ، و غير ذلك. و الخامسة في المنع من التفسير بالرأي و بيان المراد منه. و السادسة في صيانة القرآن من التحريف.

و السابعة في أن القرآن تبيان لكل شي ء، فيه أصول معارف الدين،

و قواعد الشرع المبين. و الثامنة في القراءات و اعتبارها. و التاسعة في نزول القرآن الدفعي و التدريجي. و العاشرة في شفاعة القرآن و ثواب تلاوته و حفظه. و الحادية عشرة في التلاوة و آدابها. و الثانية عشرة في بيان مصطلحات تفسيريّة اعتمدها المؤلّف في الكتاب.

و هذا التفسير- على جملته- من نفائس التفاسير الجامعة لجلّ المرويات عن أئمة أهل البيت إن تفسيرا أو تأويلا. و إن كان فيه بعض الخلط بين الغثّ و السمين.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 337

منهجه في التفسير

يعتمد اللغة أولا، ثم الأعاريب أحيانا، و بعد ذلك يتعرض للمأثور من روايات أهل البيت عليهم السّلام، معتمدا على تفسير القمي و العياشي، و غيرها من كتب الحديث المعروفة. لكنه لا يتحرّى الصحة في النقل، و يتخلّى بنفسه لمجرد ذكر مصدر الحديث، الأمر الذي يؤخذ عليه؛ حيث في بعض الأحيان نراه يذكر الحديث، و كان ظاهره الاعتماد عليه، مما يوجب إغراء الجاهل، فيظنّه تفسيرا قطعيا للآية الكريمة، و فيه من الإسرائيليات و الروايات الضعاف الشي ء الكثير.

و له في بعض الأحيان بيانات عرفانية قد تشبه تأويلات غير متلائمة مع ظاهر النص، بل و مع دليل العقل و الفطرة.

مثلا نراه عند ما يذكر قصة هاروت و ماروت- حسب الروايات الإسرائيلية- و تبعا لما ذكره البيضاوي في تفسيره: أنهما شربا الخمر و سجدا للصنم و زنيا، نراه يؤوّل ذلك تأويلا غريبا، يقول: لعل المراد بالملكين: الروح و القلب، فإنهما من العالم الروحاني، أهبطا إلى العالم الجسماني، لإقامة الحق، فافتتنا بزهرة الحياة الدنيا، و وقعا في شبكة الشهوة، فشربا خمر الغفلة، و عبدا صنم الهوى، و قتلا عقلهما الناصح لهما، بمنع تغذيته بالعلم و التقوى، و محو أثر

نصحه عن أنفسهما، و تهيآ للزنى ببغي الدنيا الدنية التي تلي تربية النشاط و الطرب فيها الكوكب المسمى بزهرة، فهربت الدنيا منهما و فاتتهما، لما كان من عاداتها أن تهرب من طالبيها؛ لأنها متاع الغرور، و بقي إشراق حسنها في موضع مرتفع؛ بحيث لا تنالها أيدي طلّابها، ما دامت الزهرة باقية في السماء. و حملهما حبها في قلبهما إلى أن وضعا طرائق من السحر، و هو ما لطف مأخذه و دقّ، فخيّرا للتخلّص منهما، فاختارا بعد التنبّه و عود العقل إليهما أهون العذابين، ثم رفعا

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 338

إلى البرزخ معذّبين، و رأسهما بعد إلى أسفل، إلى يوم القيامة «1».

و لقد كان الأجدر به- و هو الفقيه النابه المحقق- أن ينبذ تلكم الروايات الإسرائيلية المشوهة، حتى و لو كانت بصورة الرواية عن أهل البيت افتراء عليهم، كان الأجدر به أن يتركها دون ارتكاب التأويل.

9- تفسير المشهدي (كنز الدقائق و بحر الغرائب)

للميرزا محمد بن محمد رضا بن إسماعيل بن جمال الدين القمي المعروف بالمشهدي؛ لأنه نشأ بمشهد الإمام علي بن موسى الرضا عليه السّلام توفّي حدود سنة (1125). و تتلمذ على يد المولى محسن الفيض الكاشاني، و سار على منهجه في التفسير.

و تفسيره هذا هو حصيلة ما سبقه من أمهات تفاسير أصحابنا الإمامية، جمع فيه لباب البيان و عباب التعبير أينما وجده، طيّ الكتب و التآليف السابقة عليه.

فقد اختار حسن تعبير أبي سعيد الشيرازي البيضاوي- كما فعله أستاذه و شيخه المقدّم المولى الفيض الكاشاني من قبل- كما انتخب من أسلوب الطبرسي في «المجمع» ترتيبه و تبويبه، مضيفا إليه ما استحسنه من «كشّاف» الزمخشري و «حواشي» العلامة الشيخ البهائي، فصار تأليفه مجموعة من خير الأقوال و أحسن الآثار كما صرّح

هو في مقدّمة تفسيره، و حسبما جاء في تقريظ العلامة المجلسي، و المحقق الخوانساري على الكتاب، و راجع مقدّمتنا على التفسير.

و هذا التفسير جمع بين العقل و النقل، فاعتمد المأثور من روايات معزوّة إلى أئمة أهل البيت عليهم السّلام مردفا لها بما سنح له خاطره من رأي و نظر، أو وجده في

(1) تفسير الصافي، ج 1، ص 130، ذيل الآية رقم 103، من سورة البقرة.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 339

تأليف أو أثر، و لم يدع مناسبة أدبية أو كلامية أو عرفانية إلّا أتى فيها ببيان، منتهجا أثر شيخه الفيض في تفسير «الصافي».

و أما موقفه من الإسرائيليات و الموضوعات فهو موضع الردّ و الاجتناب عنها، دون ذكر التفصيل، مثلا يذكر في قصة هاروت و ماروت ما يفنّدها؛ حيث يقول: و ما روي أنهما مثلا بشرين و ركب فيهما الشهوة ... فمحكيّ عن اليهود.

و الخلاصة: كان لهذا التفسير مكانته في الجمع بين الرواية و الدراية، و إعطاء صورة واضحة للتفسير عند الإمامية، و يشتمل على ما في كتب التفسير من اللغة و الإعراب و البيان، بشكل موجز رائع.

فهو تفسير جامع شامل لجوانب عدّة من الكلام، حول تفسير آي القرآن، الأمر الذي جعله فذّا في بابه، و فردا في أسلوبه، و ممتازا على تفاسير جاءت إلى عرصة الوجود، ذلك العهد.

و قد طبع عدة طبعات أنيقة في مفتتح هذا القرن- الخامس عشر للهجرة- أحسنها طبعة مؤسسة دار النشر التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة.

10- تفسير ابن كثير

للحافظ عماد الدين، أبي الفداء، إسماعيل بن عمرو بن كثير، الدمشقي الفقيه المؤرّخ الشافعي أخذ عن ابن تيمية، و شغف بحبه، و امتحن بسببه. قال ابن شهبة في طبقاته: إنه كانت له

خصوصية بابن تيمية، و مناضلة عنه، و اتّباع له في كثير من آرائه. و كان يفتي برأيه في مسألة الطلاق، و امتحن بسبب ذلك و أوذي. توفّي سنة (774)، و دفن بمقبرة الصوفية عند شيخه ابن تيمية. و كان قد كفّ بصره في آخر عمره الذي ناهز السبعين.

و هو صاحب التاريخ الذي سمّاه: «البداية و النهاية» فكان مؤرخا مفسرا

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 340

كابن جرير الطبري.

و تفسيره هذا من أشهر ما دوّن في التفسير المأثور، بل من أجوده؛ حيث اعتنى فيه مؤلفه بالرواية عن مفسري السلف، ففسّر كلام اللّه تعالى بالأحاديث و الآثار مسندة إلى أصحابها، مع الكلام عما يحتاج إليه جرحا و تعديلا، و نقدا و تحليلا، و قدم له بمقدمة طويلة، تعرّض فيها لكثير من الأمور التي لها تعلّق و اتّصال بالقرآن و تفسيره. و لكن أغلب هذه المقدمة مأخوذ بنصّه من كلام شيخه ابن تيمية الذي ذكره في مقدمته، في أصول التفسير.

و يمتاز في طريقته في التفسير بأن يذكر الآية، ثم يفسّرها بعبارة سهلة جزلة، و إن أمكن توضيح الآية بآية أو آيات أخرى ذكرها، و قارن بينهما حتى يتبيّن المعنى و يظهر المراد، و هو شديد العناية و كثير الإحاطة بهذا الجانب من تفسير القرآن بالقرآن، و لعل هذا الكتاب من أكثر ما عرف من كتب التفسير سردا للآيات المتناسبة، و مقارنة بعضها مع البعض، لكشف المعنى المراد.

و بعد ذلك يشرع في سرد الأحاديث المرفوعة التي لها تعلّق بالآية، و يبين ما يحتجّ به و ما لا يحتجّ به منها، ثم يردفها بأقوال الصحابة و التابعين، و من يليهم من علماء السلف.

و نجده أحيانا يرجّح بعض الأقوال على بعض،

و يضعّف بعض الروايات، و يصحّح بعضا آخر منها، و يعدل بعض الرواة، و يجرح بعضا آخر، و هذا يرجع إلى ما كان عليه من المعرفة بأصول نقد الحديث، و معرفة أحوال الرجال.

و مما يمتاز به أنّه ينبّه بين حين و آخر إلى ما في التفسير المأثور من منكرات الإسرائيليات و الموضوعات، و يحذّر منها على وجه الإجمال تارة، و على وجه التعيين و البيان لبعض منكراتها تارة أخرى.

مثلا، هو في قصة هاروت و ماروت، يراها متصادمة مع ما ورد من الدلائل

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 341

على عصمة الملائكة، فإن كان و لا بدّ فهو تخصيص، كما في شأن إبليس على القول بأنه من الملائكة، ثم يذكر القصة نقلا عن الإمام أحمد في مسنده، يرفعها إلى النبي، لكنه يشكك في صحة السند و رفعه. و أخيرا يستغربها. و يذكرها أيضا بطريقين آخرين و يستغربهما، و في نهاية الأمر يقول: و أقرب ما يكون في هذا أنّه من رواية عبد اللّه بن عمر عن كعب الأحبار، لا عن النبي، إذن فدار الحديث و رجع إلى نقل كعب الأحبار، عن كتب بني إسرائيل.

ثم يذكر الآثار الواردة في ذلك عن الصحابة و التابعين. و

يذكر عن علي عليه السّلام أنه لعن الزهرة، لأنها فتنت الملكين.

و يعقبه

بقوله: و هذا أيضا لا يصح و هو منكر جدا.

و يذكر عن ابن مسعود و ابن عباس و عن مجاهد أيضا، ثم يقول: و هذا إسناد جيّد إلى عبد اللّه بن عمر، و أضاف: و قد تقدّم أنه من روايته عن كعب الأحبار.

و في النهاية يقول: و قد روي في قصة هاروت و ماروت عن جماعة من التابعين و قصّها

خلق من المفسرين من المتقدمين و المتأخرين، و حاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل؛ إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح، متصل الإسناد إلى الصادق المصدّق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى «1».

انظر إلى هذا التحقيق الأنيق بشأن خرافة إسرائيلية غفل عنها أكثر المفسرين.

و كذا في قصة البقرة، نراه يقصّ علينا قصة طويلة مسهبة و غريبة على ما ذكره المفسرون و يعقّبها بقوله: و هذه السياقات عن عبيدة و أبي العالية و السدّي و غيرهم، فيها اختلاف، و الظاهر أنها مأخوذة من كتب بني إسرائيل، و هي مما

(1) تفسير ابن كثير، ج 1، ص 137- 141.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 342

يجوز نقلها، و لكن لا تصدق و لا تكذب، فلهذا لا يعتمد عليها إلّا ما وافق الحق عندنا «1».

قوله: «و هي مما يجوز نقلها» هذا إنما تبع في ذلك شيخه ابن تيمية في تجويز الحديث عن بني إسرائيل، و لكن من غير تكذيب و لا تصديق. و قد تكلّمنا في ذلك عند الكلام عن الإسرائيليات، و أنه يجب نبذها و عدم نقلها، و لا سيما إذا كانت من الشائعات عندهم، غير مثبتة في كتبهم، و الأكثر هو من ذلك.

و هكذا في تفسير سورة «ق»، يذكر عن بعض السلف أنه جبل محيط بالأرض، ثم يعقبه بقوله: و كأنّ هذا- و اللّه أعلم- من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم، مما لا يصدق و لا يكذب، و عندي أنّ هذا و أمثاله و أشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم، يلبسون به على الناس أمر دينهم. كما افتري في هذه الأمة- مع جلالة قدر علمائها و حفاظها و أئمتها- أحاديث عن النبي و ما بالعهد

من قدم، فكيف بأمة بني إسرائيل مع طول المدى و قلّة الحفاظ النقاد فيهم، و شربهم للخمور، و تحريف علمائهم الكلم عن مواضعه، و تبديل كتب اللّه و آياته. و إنما أباح الشارع الرواية عنهم في

قوله: «حدثوا عن بني إسرائيل و لا حرج»

فيما قد يجوّزه العقل، فأما فيما تحيله العقول و يحكم فيه بالبطلان و يغلب على الظنون كذبه، فليس من هذا القبيل «2».

(1) تفسير ابن كثير، ج 1، ص 108- 110.

(2) المصدر، ج 4، ص 221.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 343

11- تفسير ابن عطية (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز)

هو أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي المغربيّ الغرناطيّ كان عالما شغوفا باقتناء الكتب، فكان فقيها عارفا بالأحكام و الحديث و التفسير، نحويّا أديبا بارعا في الأدب و النظم و النثر. توفّي سنة (481).

و تفسيره هذا من أعظم التفاسير بالمأثور؛ حيث ملؤه النقد و التحقيق و التمحيص. فكانت له قيمته العلمية بين كتب التفسير؛ حيث أضفى مؤلّفه عليه من روحه العلمية الفياضة، ما أكسبه دقّة و رواجا و قبولا.

يقول ابن خلدون عند ما يتعرض لكتب التفسير بالمأثور: فكتب الكثير من ذلك و نقلت الآثار الواردة فيه عن الصحابة و التابعين، و انتهى ذلك إلى الطبري و الواقدي و الثعالبي و أمثال ذلك من المفسرين، فكتبوا فيه ما شاء اللّه أن يكتبوه من الآثار ... و قد جمع المتقدمون في ذلك و أوعوا، إلّا أن كتبهم و منقولاتهم تشتمل على الغث و السمين و المقبول و المردود ... فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم (مسلمة اليهود) في أمثال هذه الأغراض (أسباب المكوّنات) أخبار موقوفة عليهم، و ليست مما يرجع إلى الأحكام، فتتحرّى في الصّحة التي يجب بها

العمل.

و تساهل المفسرون في مثل ذلك، و ملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات، و أصلها- كما قلنا- عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية، و لا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك، إلّا أنهم بعد صيتهم و عظمت أقدارهم؛ لما كانوا عليه من المقامات في الدين و الملّة، فتلقيت بالقبول من يومئذ.

فلما رجع الناس إلى التحقيق و التمحيص، و جاء أبو محمد بن عطيّة من المتأخرين بالمغرب، فلخّص تلك التفاسير كلها، و تحرّى ما هو أقرب إلى

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 344

الصحة منها، و وضع ذلك في كتاب متداول بين أهل المغرب و الأندلس، حسن المنحى. و تبعه القرطبي في تلك الطريقة على منهاج واحد، في كتاب آخر مشهور بالمشرق «1».

و بحق هو تفسير محرّر من أقاصيص مشوّهة إسرائيلية، كانت دارجة لحد ذلك الحين. فهو من خير التفاسير بالمأثور، و قد طبع أخيرا، و خرجت منه مجلدات لحد الآن.

و نجد أبا حيان- في مقدمة تفسيره- يعقد مقارنة بين تفسير ابن عطية و تفسير الزمخشري، فيقول: و كتاب ابن عطية أنقل و أجمع و أخلص. و كتاب الزمخشري ألخص و أغوص «2».

و لهذا التفسير مقدمة جامعة نافعة تحتوي على مسائل ذات أهمية، طبعت مستقلّة عن التفسير، مع مقدمة كتاب «المباني». قام بنشرهما المستشرق آرثر جفرى، و طبعتا عدة طبعات.

12- تفسير الثعلبي (الكشف و البيان)

هو أبو إسحاق أحمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري. توفّي سنة (427). كان رأسا في التفسير و العربية. قال ابن خلّكان: كان أوحد زمانه في علم التفسير، و صنّف التفسير الكبير الذي فاق غيره من التفاسير «3». و قال ياقوت: صاحب التصانيف الجليلة، من التفسير الحاوي أنواع الفرائد، من المعاني و الإشارات،

(1) المقدمة لابن خلدون،

ص 439- 440، الفصل الخامس.

(2) تفسير البحر المحيط، ج 1، ص 10.

(3) راجع: وفيات الأعيان، ج 1، ص 37- 38.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 345

و كلمات أرباب الحقائق، و وجوه الإعراب و القراءات «1». و هو صاحب كتاب «العرائس» في قصص الأنبياء.

من ميزات هذا التفسير: توسّعه في اللغة و الأدب و الوجوه و القراءات، و الإحاطة بكلام السلف، و الإجادة في نقلها و بسطها. فقد كان مفسّرنا كثير الشيوخ كثير الحديث صحيح النقل موثوق به «2»، غير أنه لم يتحر الصحة فيما ينقله من تفاسير السلف، و من وقع فيما وقع فيه كثير من المفسرين المكثرين من النقل. و قد جرّ على نفسه و على تفسيره، بسبب هذه الكثرة من الإسرائيليات و الموضوعات، ما جرّه أكثر المفسرين السلف من اللّوم و النقد اللاذع. و قد اعتمد روايات الشيعة أيضا في تفسيره، الأمر الذي أثار العتاب عليه بالخصوص، و إلّا فهو و سائر أصحاب التفسير بالمأثور سواء.

13- تفسير الثعالبي (الجواهر الحسان)

هو أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي، توفّي سنة (876).

كان من الأئمة الرحّالين في طلب العلم. و طار صيته بالفضل و الزهد عن الدنيا.

و أصبح آية في علم الحديث، و خلّف كتبا كثيرا ألّفها على نمط أهل الحديث المكثرين.

إنه يتعرّض للقراءات أحيانا، و يدخل في الصناعة النحوية نقلا عن غيره، و يذكر الروايات المأثور في التفسير، يذكرها بلا إسناد، و يخوض الإسرائيليات خوضا بلا هوادة، و فيه من آثار التعصب الشي ء الكثير. و الخلاصة: أن تفسيره هذا

(1) معجم الأدباء، ج 5، ص 37.

(2) التفسير و المفسرون، ج 1، ص 228- 235.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 346

لا يوازن نظائره

من تفاسير سالفة.

14- منهج الصادقين

للمولى فتح اللّه الكاشاني، فقيه متكلّم صاحب نظر و اختيار في التفسير، من علماء العهد الصفوي. له تفسير باللغة العربيّة باسم «زبدة التفاسير» و هذا التفسير وضعه باللغة الفارسيّة خدمة لأبناء بلاده. و هو أوّل تفسير فارسي اشتهر و طبع عدّة مرّات في عشر مجلّدات. ثم ظهر تفسير أبي الفتوح الرازي في عهد متأخر و الذي سبقه بقرون. و قد اعتمد المفسّر على أشهر التفاسير المعتمدة، منها تفسير أبي الفتوح و مجمع البيان و البيضاوي و الكشّاف. و قد اعتنى بالروايات اعتناء البالغ. و هو تفسير جيّد لطيف.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 347

النمط الثاني التفسير الاجتهادي
اشارة

* التفسير الفقهي (آيات الأحكام)* التفاسير الجامعة* التفسير في العصر الحديث* التفاسير الأدبية* التفاسير اللغوية* التفاسير الموجزة* التفاسير العرفانية (التفسير الرمزي و الإشاري)

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 349

النمط الثاني التفسير الاجتهادي و التفسير الاجتهادي يعتمد العقل و النظر أكثر مما يعتمد النقل و الأثر؛ ليكون المناط في النقد و التمحيص هو دلالة العقل الرشيد و الرأي السديد، دون مجرد الاعتماد على المنقول من الآثار و الأخبار. نعم لا ننكر أنّ مزالّ الأقدام في هذا المجال كثيرة، و عواقبه و خيمة، و من ثم تجب الحيطة و الحذر و إمعان النظر، بعد التوكل على اللّه و الاستعانة به، الأمر الّذي يحصل عند حسن النيّة و الإخلاص في العمل المستمر، و اللّه من وراء القصد.

و العمل الاجتهادي في التفسير شي ء حصل في وقت مبكّر، في عهد التابعين؛ حيث انفتح باب الاجتهاد و إعمال الرأي و النظر في التفسير، و شاع النقد و التمحيص في المنقول من الآثار و الأخبار. و لم يزل يتوسّع دائرة ذلك مع تقادم الزمان، و مع تنوّع

العلوم و المعارف التي ما زالت تتوفّر في الأوساط

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 350

الإسلامية حينذاك.

و قد أسبقنا أن من ميزات تفسير التابعين، فتح باب الاجتهاد و التوسع فيه، و هكذا دأب من جاء بعدهم على التوسّع في النظر، و التنوع في أبعاده و مراميه.

نعم كانت آفة ذلك- لدى الخروج عن دائرة التوقيف، و ولوج باب النظر و إعمال الرأي- هو خشية أن ينخرط التفسير في سلك التفسير بالرأي الممقوت عقلا، و الممنوع شرعا؛ حيث لا يؤمن من عاقبة ذلك أن تزلّ قدم أو تهوي إلى مكان سحيق، و بالفعل قد سقط أناس كثير.

و من ثمّ تجب معرفة حدود «التفسير بالرأي» و الوقوف على ثغوره، و جوانبه و أبعاده؛ لغاية الاجتناب عنه.

و نحن قد أوفينا الكلام حول مسألة «التفسير بالرّأي» «1» و يتلخّص في أنّ الممنوع منه هو ما كان بأحد وجهين:

1- الاستبداد بالرأي في تفسير كلامه تعالى، فيعتمد ما حانت له نظرته الخاصة، غير مبال بما قاله العلماء من قبله، فيعمد إلى تفسير آية، اعتمادا على ما فهمه من لغة و أدب مجرّد، من غير مراجعة لأقوال السلف و نظراتهم و توجيهاتهم، و المسالك التي سلكوها في فهم الآية، و ربما كانت قرائن و دلائل حافّة، لا ينبغي التغافل عنها. من ذلك معرفة أسباب النزول، و شرح الحوادث المقارنة لنزول الآية، و المناسبة الّتي استدعت نزولها، و كذا المأثور من كلام النبي و الصحابة الأوّلين، مما يعين على فهم كلام اللّه النازل على رسوله. و إنما يعرف القرآن من خوطب به، فإغفال ذلك و إعفاء الآثار و الدلائل المكتنفة، حياد عن طريقة العقلاء في فهم الكلام، فضلا عن كلامه تعالى، و

من استبدّ برأيه

هلك، كما

(1) عند البحث عن صلاحيّة المفسر في الجزء الأول، ص 61- 96؛ و ما كاد يزلّه لو لم يتحذّر.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 351

قال الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام.

و أيضا فإن علم التفسير، علم انحدر من نقطة أولى ثم توسّع و تنوّع، كسائر العلوم الّتي ورثتها البشرية من أسلافها العلماء. و لا ينبغي لعالم أن يعفي ما حققه الأسلاف، و ليس له أن يبدأ بما بدأ به الأوّلون، و إلّا لم تكن العلوم لتزدهر و تتوسّع مع اطّراد الزمان.

و الخلاصة: إن مراجعة الدلائل و الشواهد القرآنية، إلى جنب أقوال السلف و آرائهم، شرط أساسي في معرفة كلام اللّه، فمن استبد برأيه من دون مراجعة ذلك، هلك و أهلك.

و هذا معنى

الحديث الوارد: «من فسّر القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ»

فلو فرض أنّه ربّما أصاب الواقع صدفة، لكنه قد أخطأ الطريق التي تؤمّن عليه الإصابة لدى العقلاء.

2- أن يعمد إلى آية فيحاول تطبيقها على رأيه- مذهب أو عقيدة أو سلوك- ليبرّر موضعه من ذلك، أو يجعل ذلك داعية لعقيدته أو سلوكه، و هو- في الأغلب- يعلم أن لا مساس للآية بذلك، و إنما هو تحميل عليها.

و العمدة: أنه لم يرم فهم معنى الآية و تفسيرها الواقعي، و إنما رام دعم مذهبه و عقيدته بأيّ وسيلة كانت، و منها الآية إن وافق التقدير.

فهذا تحميل على الآية، و ليس تفسيرا لها، و من ثم فليتبوّأ مقعده من النار.

روى أبو جعفر الصدوق بإسناده إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قال اللّه عزّ و جل: «ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي» «1».

و

روى أبو جعفر الطبري

بإسناده عن ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من

(1) الأمالي للصدوق، ص 6، المجلس الثاني.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 352

قال في القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار» «1».

إذن فمن سلك طريقة العقلاء في فهم الكلام، و اعتمد الدلائل و الشواهد، و راجع أقوال السلف الصالح، ثم أعمل نظره في فهم كلام اللّه، لم يكن مفسرا بالرأي، لا مستبدا برأيه و لا محمّلا برأيه على القرآن الكريم، و العصمة باللّه سبحانه.

تنوّع التفسير الاجتهادي
اشارة

و مما يجدر التّنبّه له، أنّ التفسير الاجتهادي المبتني على إعمال الرأي و النظر، يتنوّع تنوّعا حسب مواهب المفسرين و قدراتهم العلميّة و الأدبيّة، و معطياتهم في العلوم و المعارف؛ إذ كل صاحب فنّ و علم إنما يجعل من صناعته العلمية وسيلة لفهم القرآن، و ينظر إليه من الزاوية الّتي كانت مقدرته متركّزة عليها، و من ثمّ تختلف براعة كل مفسر عن غيره، في الجهة التي كانت قدرته العلمية أبرع و أمتن. فصاحب الأدب الرفيع، إنما يفوق غيره في براعته الأدبية في التفسير، و هكذا صاحب الفلسفة و الكلام و الفقه و اللغة، و حتى صاحب العلوم الطبيعية و الرياضيات و الأفلاك، و نحو ذلك. فكل صاحب مهنة إنما يبرع في عمله، إذا خاض التفسير من جهة صناعته، و من زاوية اختصاصه، الأمر الذي جعل من التفسير متنوّعا، حسب معطيات أصحاب التفاسير.

و من ثم نستطيع أن ننوّع ألوان التفسير إلى: أدبي و لغوي، كلامي و فلسفي و عرفاني، اجتماعي و علمي، و جامع بين أمرين أو أمور من ذلك؛ ليكون من

(1) تفسير الطبري، ج 1، ص 27.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 353

النوع الجامع، الذي يغلب أكثر التفاسير. و ليس معنى ذلك أنّ الأديب يتمحّض تفسيره في الأدب و اللغة محضا أو الفقيه في الفقه محضا، و كذا المتكلّم و الفيلسوف و العارف و غيرهم، بل إنما يغلب على تفسير الأديب صياغته الأدبية، و على تفسير الفقيه صياغته الفقهية، و هكذا ... و إن كان لا يخلو سائر أنواع التفسير مما كان في بعضها من اختصاص.

أمّا تفاسير أصحاب المذاهب كالمعتزلة و الخوارج و الصوفيّة و أمثالهم، فهي إما داخلة في النوع الكلامي أو العرفاني، و ليس بخارج عن هذين اللّونين، و لذلك كان تنويعنا للتفسير يختلف عن تنويع الآخرين بعض الشي ء.

و عليه فينقسم التفسير الاجتهادي إلى: أدبي، و فقهي، و كلامي، و فلسفي، و عرفاني رمزي، و صوفي إشاري، و اجتماعي، و علمي، و جامع.

تلك أقسام للتفسير الغالبة عليه، حسب ألوان الاجتهاد فيه. و لنتعرّض للأهم من كتب التفسير المدوّنة على هذه الألوان.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 354

التفسير الفقهي (آيات الأحكام)
اشارة

و هي التفاسير الّتي تتعرض للآيات التي تتعلّق بالأحكام التكليفية و الوضعية المرتبطة بأعمال المكلّفين، و من ثم فهو من التفسير الموضوعي الذي له تعرّض لجانب من الآيات القرآنية. قالوا: و يقرب من نحو خمسمائة آية «1»، لها تعلّق مباشر بأعمال المكلفين من عبادات و معاملات، و إلّا فجميع آي القرآن هي دستورات عملية يجب على المسلمين أن يطبّقوا حياتهم الفكريّة و العملية عليها، دستورا عاما شاملا لمناحي الحياة كلها.

على أنّ الأرجح أنّ الآيات المرتبطة بأعمال المكلفين ارتباطا تكليفيا في حياتهم، تزيد على الخمسمائة، بكثير، و هي إلى الألفين آية أقرب منها إلى الخمسمائة، ذلك أنا لو أمعنّا النظر في سائر الآيات، و حققنا من فحواها العام،

مثلا: كان قوله تعالى- بشأن المرأة-: أَ وَ مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَ هُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ «2» ناظرا إلى جانب نفسيتها الخاصّة الرقيقة الفارهة، و قصورها الذاتي عن الخوض في خضمّ معارك الحياة، و هي نظرة علمية بشأن نفسيّة المرأة أبداها

(1) على ما ذكره الفاضل المقداد في مقدمة كتابه «كنز العرفان» ج 1، ص 5. لكن جاء في فهرس آيات الاحكام لابن العربي أنها نحو من ثمانمائة آية (ج 4، ص 1994- 2098). غير أنا لو نظرنا إلى القرآن من زاوية عنايته الخاصة بمسائل السياسة و الاجتماع، و التي أغفلها السلف، و اعتنى بها المتأخّرون، لارتفعت أعداد آيات الأحكام إلى ما ينوف على الألفين آية.

(2) الزخرف/ 18.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 355

القرآن الكريم.

لكن يستفاد من ذلك- فقهيّا- أنها لا تصلح لتصدّي الشئون الإدارية الشائكة من ذوات التشابك و التصادم العنيف؛ و منها: أمور القضاء، التي هي بحاجة إلى حدّة و شدة، من ورائهما تعقّل و اختيار حرّ؛ حيث المرأة بطبيعتها أسيرة عاطفتها و أحاسيسها الرقيقة العاطفية الحادّة، مما تجرف بها عن إمكان الخوض في معركة قضايا ذوات شجون، و هي بحاجة إلى صلابة و صمود و وعي، و اختيار فكري تام.

المرأة تنظر إلى الحياة كمظاهر للزينة، و تبهرها زبرجتها، و من ثم فجلّ اهتمامها التبرّج بمباهج الحياة الناعمة. أما هي في خضمّ معاركها فضعيفة، خائرة القوى، لا تستطيع إبداء ما في ضميرها إبداء كاملا لدى خصامها هي مع غيرها، فكيف بها و هي تريد الفصل في خصومات الآخرين.

و قد استفدنا من هذه الآية، عدم جواز تصدّيها لمنصب القضاء، و هي من المئات الآيات التي أغفلت في كتب آيات الأحكام

المعروفة.

أهم كتب آيات الأحكام

لا شك أنّ السنّة إلى جنب القرآن، تفسير لجانب آيات أحكامه، فما صدر عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بيّنته الصحابة الخيار و الأئمة الأطهار، هي تفاسير فقهية، ورثته الأمة كابرا عن كابر، و لكن بشكل غير مدوّن. و قد كان الصحابة و التابعون، و كذا من بعدهم من علماء و فقهاء، يراجعون القرآن فيما أشكل عليهم من أحكام و تكاليف و فرائض. و كانت الخلافات بين الصحابة و كذا بين التابعين و هكذا غيرهم من العلماء، كانت ترجع إلى كيفية فهم النص القرآني في الفرائض

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 356

و غيرها، و الشواهد على ذلك كثير.

و ظلّ الأمر على ذلك إلى عهد ظهور أئمّة المذاهب و الفقهاء المستنبطين من الكتاب و السنة. و فيه وجدت حوادث للمسلمين لم يسبق لمن تقدّم عليهم حكم عليها؛ حيث لم تكن في عهدهم و لم تكن مورد ابتلائهم حينذاك، و هي التي اصطلحوا على تسميتها ب «المسائل المستحدثة» و لا تزال تتجدّد مسائل هي تمس حياة المسلمين، في مختلف شئونهم الفردية و الاجتماعية، السياسية و الإدارية و غيرها. و هي كثير في كثير.

فكان كل فقيه ينظر في القرآن قبل كل شي ء ليحلّ تلك المشاكل، و يجيب على تلكم المسائل، في ظل توجيهاته الكريمة، و يحكم عليها بالحكم الذي ينقدح في ذهنه، و يعتقد أنه الصحيح في رأيه، و يدعمه بما لديه من أدلة و براهين. و هذه الاستنباطات كان منها ما يتفق فيه آراء الفقهاء، و كان منها ما تختلف. و لكن من غير أن تظهر منهم بادرة تعصّب في هذا الاختلاف، و إنما هو مجرد اختلاف نظر، قابل للتفاهم

و التشاور أحيانا؛ لأن الكل كانوا ينشدون الحق و يطلبون حكم اللّه الصحيح، و ليس بعزيز على الواحد منهم- و هم جميعا يخلصون العمل للّه- أن يرجع إلى رأي مخالفه إن ظهر له الحق في جانبه.

و كان من نتيجة تلكم الخلافات في استنباط مباني الأحكام من القرآن الكريم، أن دوّنت كتب مخصّصة لعرض الخلاف و الوفاق، في فهم معاني آيات الأحكام.

أحكام القرآن- للجصّاص الحنفي

هو أبو بكر أحمد بن علي الرازي المشهور بالجصّاص، توفّي سنة (370).

كان إمام الحنفيّة في وقته و إليه انتهت رئاسة الأصحاب. صاحب التآليف الكثيرة،

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 357

منها: أحكام القرآن، كتبه على مباني مذهب أبي حنيفة، و يعدّ من أهم الكتب المدوّنة في الموضوع، و لعله أبسط الكتب في ذلك، و قد تعرّض فيه لجوانب كثيرة من معاني آيات الأحكام في صورة مسهبة، و مستوعبة كل جوانب الكلام، بعيدا عن التعصّب المذهبي في غالب ما يكتبه، و إن كان الأستاذ الذهبي قد رماه بالتعصّب لمذهب أبي حنيفة، و تحامله على سائر الأئمة. لكنّا لم نر تحاملا منه و لا تعصّبا أعمى و إنما هو بيان الحق، حسبما يراه.

مثلا عند ما تعرّض لقوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ «1» نجده يحاول أن يجعل الآية دالّة على أنّ من دخل في صوم التطوع لزم اتمامه «2».

و قد عدّ الذهبي ذلك منه تعسّفا و تعصّبا لرأي أبي حنيفة في ذلك «3».

قلت: لا تعسّف و لا تعصّب، بعد ظهور الآية في ذلك، نظرا لإطلاق لفظها، و هو مذهب المالكية أيضا. و عند الشّافعي و أحمد الإتمام مسنون «4».

و الاختلاف في قضاء صوم التطوّع إذا لم يكن عن عذر، ناشئ عن اختلاف الأحاديث في ذلك

«5». و الجصاص رجّح القضاء استنادا إلى ظاهر إطلاق الآية، فلم يكن هناك تعسّف؛ لأنه استناد إلى ظاهر الدليل، كما لم يكن تعصّبا لمذهب أبي حنيفة بعد ذهاب مالك إليه أيضا.

و أما عند الشيعة الإمامية فهو بالخيار في صوم التطوع ما بينه و بين الزوال،

(1) البقرة/ 187.

(2) أحكام القرآن للجصاص، ج 1، ص 274- 285.

(3) التفسير و المفسرون، ج 2، ص 440.

(4) الفقه على المذاهب الأربعة، ج 1، ص 558.

(5) راجع: ابن رشد الأندلسي، في بداية المجتهد، ج 1، ص 322.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 358

و يكره بعد الزوال «1».

و عند ما تعرّض لقوله تعالى: وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ «2» قال الذهبي: نجده يحاول أن يستدلّ بالآية من عدّة وجوه، على أنّ للمرأة أن تعقد نفسها بغير الولي و بغير إذنه «3».

و هذا أيضا استظهار لطيف من الآية الكريمة، و لعل الآخرين غفلوها، على أنّ مسألة الولاية إنما تكون على الأبكار غير المتزوجات؛ و ذلك على القول به، و المشهور عدم الولاية إطلاقا. نعم هو مندوب إليه.

و عند ما تعرّض لقوله تعالى: وَ آتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ «4» و قوله: وَ ابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ «5» قال الذهبي: نجده يحاول أن يأخذ من مجموع الآيتين دليلا لمذهب أبي حنيفة، القائل بوجوب دفع المال لليتيم إذا بلغ خمسا و عشرين سنة، و إن لم يؤنس منه الرشد «6».

نعم هنا تعسّف في الرأي؛ لأنه أخذ بإطلاق الآية الأولى و حملها على ما بعد هذا السنّ؛ و ذلك لاتفاق الفقهاء على

الاشتراط بإيناس الرشد قبل ذلك، فما لم يبلغ خمسا و عشرين، لا يدفع إليه ما لم يؤنس منه الرشد، و أما إذا بلغها فيدفع

(1) راجع: الخلاف للشيخ الطوسي، ج 1، ص 400، م 83.

(2) البقرة/ 232.

(3) أحكام القرآن للجصّاص، ج 1، ص 400.

(4) النساء/ 2.

(5) النساء/ 6.

(6) أحكام القرآن، ج 2، ص 49.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 359

إليه مطلقا؛ و ذلك عملا بالآيتين.

و هذا تعسّف في الاستدلال؛ لأنه حمل للظاهر على بعض صوره من غير دليل، على أنّ الإطلاق في الآية الأولى يجب تقييده بالآية الثانية، و حمل المطلق على المقيّد ليس إبطالا للمطلق، كما زعمه الجصّاص.

و مما أخذ عليه الذهبي حملته على مخالفيه؛ بحيث لا يعفّ لسانه عنهم.

قال: ثم إن الجصّاص مع تعصّبه لمذهبه و تعسّفه في التأويل، ليس عفّ اللسان مع الإمام الشافعي، و لا مع غيره من الأئمة.

و كثيرا ما نراه يرمي الشافعي و غيره من مخالفي الحنفية بعبارات شديدة، لا تليق من مثل الجصّاص، فمثلا عند ما تعرّض لآية المحرّمات من النساء نجده يعرض الخلاف الّذي بين الحنفية و الشافعية، في حكم من زنى بامرأة، هل يجوز التزويج ببنتها أو لا؟

و تمسك الشافعي بأن الحرام لا يحرم الحلال، ثم ذكر مناظرة له مع سائل سأله: كيف تحرم بنت المنكوحة و لا تحرم بنت المزني بها؟ فأجابه الشافعي بأن ذاك حلال و هذا حرام، و لم يزد في الفرق بينهما على ذلك. و هنا يقول الجصّاص: فقد بان أن ما قاله الشافعي و ما سلمه له السائل كلام فارغ لا معنى تحته في حكم ما سئل عنه. ثم يقول: ما ظننت أن أحدا

ممن ينتدب لمناظرة خصم، يبلغ به الإفلاس من الحجاج، إلى أن يلجأ إلى مثل هذا، مع سخافة عقل السائل و غباوته «1».

و في هذا الكلام إهانة بموضع الشافعي، و فرضه فيمن لا يعتدّ بشأنهم.

(1) أحكام القرآن، ج 2، ص 118.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 360

قلت: لا شك أنّ استدلال الشّافعي هنا ضعيف؛ إذ كثير من المحرّمات حرمن المحلّات، كما في مسألة اللواط يحرّم أخته و أمه و بنته على اللاطي، و كالعقد على المعتدّة و الدخول بها، و الزنى بذات البعل.

و

حديث «الحرام لا يحرّم الحلال»

وارد فيمن أحل له فرج ثم زنى بأمها أو بنتها «1» فهو ناظر إلى السابق، أي الحلال الفعلي لا الحلال الشأني. و من الغريب أن الشافعي هنا أخذ بالقياس مع الفارق.

و هكذا أخذ عليه الذهبي ميله إلى مذهب الاعتزال، و كذا تحامله على معاوية.

أما ميله إلى الاعتزال فلأنه نفى إمكان رؤيته تعالى، و حمله أخبار الرؤية على العلم لو صحت «2».

قلت: و هذا من كمال فضله؛ حيث حكّم العقل على النقل، و هو دأب المحصّلين.

و أما تحامله على معاوية فمن ثبات عقيدته و صلابته في دينه. إنّ معاوية بغى على إمام زمانه و خرج عليه بالسيف، فعلى كل مسلم منابذته و التحامل عليه بالسيف، فضلا عن اللسان. و سكوت بعض السلف في ذلك مراوغة خبيثة.

يقول الذهبي: إننا نلاحظ على الجصّاص أنه تبدو منه البغضاء لمعاوية، و يتأثّر بذلك في تفسيره، فمثلا عند تفسيره لقوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ- إلى

(1) راجع: المسألة (28) من أحكام المصاهرة، من العروة الوثقى.

(2) أحكام القرآن للجصاص،

ج 3، ص 4- 5.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 361

قوله- الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ «1» يقول: و هذه صفة الخلفاء الراشدين الذين مكّنهم اللّه في الأرض ... و فيه الدلالة الواضحة على صحة إمامتهم؛ لإخبار اللّه تعالى بأنهم إذا مكّنوا في الأرض أقاموا بفروض اللّه عليهم، و قد مكّنوا في الأرض، فوجب أن يكونوا أئمة قائمين بأوامر اللّه، منتهين عن زواجره و نواهيه.

و لا يدخل معاوية في هؤلاء؛ لأن اللّه إنما وصف بذلك المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم، و ليس معاوية من المهاجرين، بل هو من الطلقاء «2».

و عند قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ «3» يقول: و فيه الدلالة على إمامة الخلفاء الأربعة أيضا؛ لأن اللّه استخلفهم في الأرض و مكّن لهم كما جاء الوعد، و لا يدخل فيهم معاوية؛ لأنه لم يكن مؤمنا في ذلك الوقت «4».

و عند قوله: وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ «5». نجده يجعل عليّا عليه السّلام هو المحق في قتاله، و معه كبراء الصحابة و أهل بدر من قد علم مكانهم، و كان معاوية من الفئة الباغية؛ لحديث عمار، و لم ينكره معاوية، بل حاول تأويله «6». قال الذهبي: فجعل عليا هو المحق و أما معاوية و من معه فهم الفئة

(1) الحج/ 39- 41.

(2) أحكام القرآن للجصّاص، ج 3، ص 246.

(3) النور/ 55.

(4) أحكام القرآن للجصّاص، ج 3، ص 329.

(5) الحجرات/ 9.

(6) أحكام القرآن للجصاص، ج 3، ص 400.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 362

الباغية، و كذلك كل من خرج على عليّ عليه السّلام.

قال: و ما كان أولى بصاحبنا أن يترك هذا التحامل على معاوية الصحابي، و يفوّض أمره إلى اللّه، و لا يلوي مثل هذه الآيات إلى ميوله و هواه «1».

قلت: و لعل نحوسة الدفاع عن معاوية قد أخذت صاحبنا الذهبي فانجرفت به إلى مهاوي الضلال، و أخيرا إلى شر قتلة، حشره اللّه مع مواليه «2».

أحكام القرآن (المنسوب إلى الشافعي المتوفّى سنة 204)

جمعه الحافظ الكبير أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي النيسابوري الشافعي، صاحب السنن الكبرى، المتوفّى سنة (458).

و الكتاب يشتمل على ما جاء في كلام محمد بن إدريس الشافعي إمام الشافعية، من استناد و استشهاد بآيات قرآنية، في عامة أبواب الفقه، فعمد البيهقي إلى جمعه و ترتيبه و إبدائه في صورة تأليف مستقل. قال البيهقي: فرأيت من دلّت الدلالة على صحّة قوله- أبا عبد اللّه محمد بن إدريس الشّافعي المطّلبي ابن عم محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- قد أتى على بيان ما يجب علينا معرفته من أحكام القرآن، و كان ذلك مفرّقا في كتبه المصنّفة في الأصول و الأحكام، فميّزته و جمعته في هذه الأجزاء على ترتيب المختصر؛ ليكون طلب ذلك منه على من أراد أيسر، و اقتصرت في حكاية كلامه على ما يتبيّن منه المراد دون الإطناب،

(1) التفسير و المفسرون، ج 2، ص 443.

(2) إنه في أخريات حياته صانع حكومة مصر في مسالمتها مع أعداء الإسلام، و من ثم اغتالته أيدي مسلمة مصر دفاعا عن حريم الإسلام. و ذلك في شعبان عام 1397 ه الموافق 1977 م. و 1356

ش.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 363

و نقلت من كلامه في أصول الفقه، و استشهاده بالآيات الّتي احتاج إليه من الكتاب، على غاية الاختصار، ما يليق بهذا الكتاب.

و مما استند إليه الشافعي في مسائل العقيدة، قوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ «1» قال: فلمّا حجبهم في السخط، كان في هذا دليل على أنهم يرونه في الرضا.

و هكذا استدلّ على أنّ المشيئة للّه بقوله تعالى: وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «2» قال: فأعلم خلقه أن المشيئة له «3».

و في مسائل أصول الفقه، استند في حجّية خبر الواحد بآيات بعث الرسل، إلى كل أمّة برسول واحد، ثم جعل يسرد الآيات في ذلك: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ... «4». وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً ... «5». وَ إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً ... «6»

و غير ذلك من آيات. قال: فأقام- جلّ ثناؤه- حجّته على خلقه في أنبيائه بالأعلام الّتي باينوا بها خلقه سواهم، و كانت الحجّة على من شاهد أمور الأنبياء دلائلهم الّتي باينوا بها غيرهم، و على من بعدهم- و كان الواحد في ذلك و أكثر منه سواء- تقوم الحجّة بالواحد منهم قيامها بالأكثر ... و كذا أقام الحجة على الأمم بواحد.

قال البيهقي: و احتج الشافعي بالآيات الّتي وردت في القرآن في فرض طاعة

(1) المطففين/ 15.

(2) الدهر/ 30.

(3) أحكام القرآن للشافعي (البيهقي)، ج 1، ص 40.

(4) نوح/ 1.

(5) الأعراف/ 65.

(6) الأعراف/ 73.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 364

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من بعده إلى يوم القيامة واحدا واحدا، في أن على كل واحد طاعته، و لم يكن أحد غاب

عن رؤية رسول اللّه، يعلم أمره إلّا بالخبر عنه، و بسط الكلام فيه «1».

و مما استدلّ به في مسائل الأحكام و هي الكثرة الكثيرة ما حدّث الشافعي بإسناده إلى مجاهد، قال: أقرب ما يكون العبد من اللّه- أو إلى اللّه- إذا كان ساجدا، أ لم تر إلى قوله تعالى: وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ «2» يعنى: افعل و اقرب. قال الشافعي: و يشبه ما قال مجاهد، و اللّه أعلم ما قال، أي ما قاله النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «3».

و في رواية حرملة عنه في قوله تعالى: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً «4» قال الشافعي: و احتمل السجود: أن يخرّ، و ذقنه- إذا خرّ- تلى الأرض، ثم يكون سجوده على غير الذقن.

و استدل بآية إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً «5» بوجوب الصلاة عليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الصلوات الفرائض.

قال: فلم يكن فرض الصلاة عليه في موضع، أولى منه في الصّلاة «6».

و من غريب استدلاله: أنه فهم من قوله تعالى: وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ «7» أنّ المني طاهر؛ حيث كان أصل الإنسان

(1) أحكام القرآن للشافعي (البيهقي)، ج 1، ص 31- 32.

(2) العلق/ 19.

(3) ممّا أثبته الشافعي قبل أثر مجاهد.

(4) الإسراء/ 107.

(5) الأحزاب/ 56.

(6) أحكام القرآن، ج 1، ص 70- 72.

(7) السجدة/ 7- 8.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 365

من ماء و تراب، و هما طاهران، فخلق النسل من ماء يدلّ على طهارته أيضا. قال:

بدأ اللّه خلق آدم من ماء و طين، و

جعلهما معا طهارة، و بدأ خلق ولده من ماء دافق. فكان في ابتداء خلق آدم من الطاهرين اللذين هما الطهارة دلالة لابتداء خلق غيره أنه من ماء طاهر لا نجس. قال: المني ليس بنجس؛ لأن اللّه أكرم من أن يبتدئ خلق من كرّمه من نجس. قال: و لو لم يكن في هذا- أي طهارة المني- خبر عن النبي؛ لكان ينبغي أن تكون العقول تعلم أن اللّه لا يبتدئ خلق من كرّمه و أسكنه جنّته من نجس. ثم ذكر الخبر الوارد في أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يغسل ثوبه من مني أصابه «1».

و الكتاب مطبوع جزءين في مجلد واحد.

أحكام القرآن لكيا الهرّاسي الشافعي أيضا

هو عماد الدين أبو الحسن علي بن محمد بن علي الطبري المعروف بالكياالهراسي «2». فقيه شافعي، أصله من خراسان ثم رحل إلى نيسابور، و تفقه على إمام الحرمين الجويني مدّة حتى برع، ثم خرج إلى بيهق ثم إلى العراق، و تولّى التدريس بالمدرسة النظامية ببغداد، إلى أن توفي سنة (504).

يعتبر كتابه هذا من أهمّ المؤلّفات في أحكام القرآن عند الشافعيّة؛ ذلك لتعصّب المؤلّف فيه لمذهب الشافعي، محاولا بكل جهده تفسير الآيات في صالح مذهبه. يقول في مقدمته: «إن مذهب الشافعي أسدّ المذاهب و أقومها و أرشدها و أحكمها، و إن نظر الشافعي في أكثر آرائه و معظم أبحاثه، يترقّى عن

(1) أحكام القرآن، ج 1، ص 81- 82.

(2) كيا: كلمة فارسية، معناها: الكبير القدر، المقدّم بين الناس.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 366

حدّ الظنّ و التخمين إلى درجة الحق و اليقين ... و إن اللّه فتح له من أبوابه، و يسّر عليه من أسبابه، و رفع له من حجابه،

ما لم يسهل لمن سواه، و لم يتأتّ لمن عداه».

هكذا يتعصّب لمذهب الشافعي، و يحاول ترجيحه على سائر المذاهب.

قال الذهبي: إنّ تقديم الكتاب بمثل هذا الكلام ناطق بأن الرجل متعصّب لمذهبه، و شاهد عليه بأنه سوف يسلك في كتابه مسلك الدفاع عن قواعد الشافعي و فروع مذهبه، و إن أدّاه ذلك إلى التعسّف و التأويل. قال: و دونك الكتاب، لتقف على مبلغ تعصّب صاحبه و تعسّفه «1».

و له حملات عنيفة على الجصّاص، مقابلة له بالمثل، فراجع الكتاب.

و الكتاب مطبوع أربعة أجزاء في مجلدين.

أحكام القرآن لابن العربي المالكي

هو أبو بكر محمد بن عبد اللّه بن محمد المعافري الأندلسي، ختام علماء الأندلس و آخر أئمتها و حفّاظها، توفي سنة (543). كان من أهل التفنّن في العلوم و التبحّر فيها، متكلّما في أنواعها، نافذا في جمعها، حريصا في طلبها.

و يعتبر هذا الكتاب مرجعا مهمّا للتفسير الفقهي عند المالكية؛ حيث مؤلفه مالكي متأثّر بمذهبه، فظهرت عليه في تفسيره روح التعصّب و الدفاع عنه، و ربما حمل على مخالفيه حملة عشواء، بما لا يتناسب و مقام الفقهاء العظام.

و على أي حال، فهو كتاب حافل بالأدب و اللغة مضافا إلى عرض مذاهب السلف في الفتيا، و الاستظهار من كتاب اللّه. تراه قد يطيل البحث بالقيل و القال،

(1) التفسير و المفسرون، ج 2، ص 445.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 367

و ردّا على مخالفي رأي أصحابه، من غير جدوى. نجده عند آية الوضوء «1» يتعرّض لأصحاب الشافعي في اعتبارهم النيّة في الوضوء، يقول: ظنّ ظانّون من أصحاب الشافعي الذين يوجبون النية في الوضوء، أنه لمّا أوجب الوضوء عند القيام إلى الصلاة دلّ على أنه أوجبه لأجله، و أنه أوجب به النية.

و هذا لا

يصحّ، فإن إيجاب اللّه سبحانه الوضوء لأجل الحدث لا يدلّ على أنه يجب عليه أن ينوي ذلك، بل يجوز أن يجب لأجله، و يحصل دون قصد تعليق الطهارة بالصلاة و بنيتها لأجله ... و يسهب في الكلام هنا، و ينتهي إلى قوله:

فركب على هذا سفاسفة المفتين، و أوردوا فيها نصّا عمن لا يفرّق بين الظن و اليقين.

و ينتقل بعد ذلك إلى الكلام حول وَ أَيْدِيَكُمْ، فيقول: اليد عبارة عمّا بين المنكب و الظفر، و هي ذات أجزاء و أسماء، منها المنكب و منها الكف و الأصابع، و هو محل البطش و التصرف العام في المنافع، و هو معنى اليد.

و غسلهما في الوضوء مرتين: إحداهما عند أوّل محاولة الوضوء و هو سنة، و الثانية في أثناء الوضوء و هو فرض.

قوله: إِلَى الْمَرافِقِ. و ذكر أهل التأويل في ذلك ثلاثة أقاويل:

الأول: أنّ «إلى» بمعنى «مع»، كما قال تعالى: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ «2» معناه: مع أموالكم.

الثاني: أنّ «إلى» حدّ، و الحدّ إذا كان من جنس المحدود دخل فيه.

الثالث: أن المرافق حد الساقط لا حد المفروض. قاله القاضي عبد الوهاب،

(1) المائدة/ 6.

(2) النساء/ 2.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 368

و ما رأيته لغيره.

و تحقيقه أنّ قوله: «و أيديكم» يقتضي بمطلقه من الظفر إلى المنكب، فلما قال: إلى المرافق أسقط ما بين المنكب و المرافق، و بقيت المرافق مغسولة إلى الظفر. و هذا كلام صحيح يجري على الأصول، لغة و معنى.

و أما قولهم: إنّ «إلى» بمعنى «مع» فلا سبيل إلى وضع حرف موضع حرف، و إنما يكون كل حرف بمعناه، و تتصرّف معاني الأفعال، و يكون التأويل فيها لا في الحروف. و معنى قوله:

إِلَى الْمَرافِقِ على التأويل الأول: فاغسلوا أيديكم مضافة، إلى المرافق. و كذلك قوله: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ معناه:

مضافة إلى أموالكم.

و

قد روى الدارقطني و غيره، عن جابر بن عبد اللّه: أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا توضّأ أدار الماء على مرفقيه «1».

و مما يمتاز به هذا الكتاب، كراهته للإسرائيليات، كما أنه شديد النفرة من الخوض فيها، فهو عند ما تعرض لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً «2» نجده يقول: «المسألة الثانية» في الحديث عن بني إسرائيل، كثر استرسال العلماء في الحديث عنهم في كل طريق. و

قد ثبت عن النبي أنه قال: «حدّثوا عن بني إسرائيل و لا حرج»

و معنى هذا الخبر: الحديث عنهم بما يخبرون به عن أنفسهم و قصصهم، لا بما يخبرون به عن غيرهم؛ لأن إخبارهم عن غيرهم مفتقرة إلى العدالة و الثبوت إلى منتهى الخبر، و ما يخبرون به عن أنفسهم فيكون من باب

(1) أحكام القرآن لابن العربي، ج 2، ص 562- 565.

(2) البقرة/ 67.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 369

إقرار المرء على نفسه أو قومه، فهو أعلم بذلك. و إذا أخبروا عن شرع لم يلزم قبوله.

ففي رواية مالك عن عمر، أنه قال: رآني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنا أمسك مصحفا قد تشرّمت حواشيه «1». فقال: ما هذا؟ قلت: جزء من التوراة! فغضب و قال: و اللّه لو كان موسى حيّا ما وسعه إلّا اتّباعي «2».

و الكتاب مطبوع في أربع مجلدات، طبعة أنيقة.

أحكام القرآن- للراوندي (فقه القرآن)

تأليف الفقيه المحدّث المفسّر الأديب، قطب الدين أبي الحسين سعيد بن هبة اللّه الراوندي، المتوفّى سنة (573). كان فاضلا و عالما جامعا

لأنواع العلوم، له مصنّفات في مختلف العلوم الإسلاميّة، فيما يقرب من ستين مؤلّفا، من أجملها:

منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، و عليه اعتمد ابن أبي الحديد في شرح النهج.

و منها هذا الكتاب الذي نحن بصدده، و هو من خير كتب أحكام القرآن و أقدمها و أجلّها. و هو مرتّب حسب ترتيب أبواب الفقه، حاويا في كل باب على آيات متناسبة مع فروع المسائل في ذلك الباب. و من ثمّ فهو أشبه بالتفسير الموضوعي للآيات المرتبطة بالأحكام. و هو غاية في الإيجاز و الاختصار بما أوجب إبهاما، في أكثر الأحيان.

مثلا يذكر قوله تعالى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ، رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ «3» و يروي عن ابن عباس: كل تسبيح

(1) المصحف: مجموعة صحائف. تشرّم: تشقّق و تمزّق.

(2) أحكام القرآن لابن العربي، ج 1، ص 23.

(3) النور/ 36- 37.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 370

في القرآن صلاة.

و

عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام: أن اللّه مدح قوما بأنهم إذا دخل وقت الصلاة تركوا تجارتهم و بيعهم و اشتغلوا بالصلاة.

قال: و هذان الوقتان من أصعب ما يكون على المتبايعين، و هما: الغداة و العشيّ؟! ثم ذكر قوله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ «1» قال: إنما أضاف الصلاة إلى أصل الواجبات من التوحيد و العدل؛ لأن فيها التعظيم للّه عند التكبير، و فيها تلاوة القرآن التي تدعو إلى كل برّ، و فيها الركوع و السجود، و هما غاية خضوع للّه، و فيها التسبيح الذي هو تنزيه اللّه تعالى.

و إنما جمع بين

صلاته و حياته و إحداهما من فعله و الأخرى من فعل اللّه؛ لأنهما جميعا بتدبير اللّه؟! و الكيفيات المفروضة في أول كل ركعة ثمانية عشر. و في أصحابنا من يزيد في العدد. و إن كانت الواجبات بحالها في القولين «2».

قلت: لا يخفى مواضع الإبهام و الإجمال في هذا الوجيز من الكلام.

و الكتاب مطبوع في مجلدين، بتحقيق السيد أحمد الحسيني- قم-.

أحكام القرآن- للسيوري (كنز العرفان في فقه القرآن)

هو جمال الدين أبو عبد اللّه المقداد بن عبد اللّه بن محمد بن الحسين بن محمد

(1) الأنعام/ 162- 163.

(2) فقه القرآن، ج 1، ص 111.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 371

السيوري الحلّي الأسدي، المعروف بالفاضل المقداد. كان من أجلّاء الأصحاب و عظماء المشايخ، عالما فاضلا متكلّما محققا فقيها. توفّي سنة (826)، و دفن في النجف الأشرف.

و هو صاحب مؤلفات جليلة و قيّمة، منها هذا الكتاب، و منها: التنقيح الرائع في شرح المختصر النافع، في الفقه. و منها: اللوامع في المباحث الكلامية.

و كتابه: «النافع في شرح الباب الحادي عشر»، معروف.

و كتابه هذا- كنز العرفان- مرتّب حسب ترتيب أبواب الفقه أيضا. و قد طبع الكتاب جزءين في مجلد واحد، و هو كثير الفائدة، متوسّع في البحث على اختصاره. و يتعرّض للمباحث اللغوية و الأدبية المتناسبة، في غاية الوجازة و الإيفاء، الأمر الذي يدلّ على سعة باع المؤلّف، و تضلّعه في الأدب و اللغة و البيان، مضافا إلى قوّة الاستدلال، و صلابته في إقامة البرهان.

زبدة البيان في أحكام القرآن للمقدس الأردبيلي

هو المولى الفقيه المحقّق أحمد بن محمد الأردبيلي المتوفّى سنة (993).

كان أعلم أهل زمانه في الفقه و الكلام، عظيم المنزلة رفيع الشّأن، صاحب كتاب «مجمع الفائدة» في شرح الإرشاد.

و هذا الكتاب أيضا مرتّب حسب ترتيب أبواب الفقه، و لا يتجاوز في البحث عن مسائل الأحكام العملية، على غرار متون الكتب الفقهية البحتة. و أكثر كتب آيات الأحكام التي ألّفها الأصحاب، على ذلك، لم يتجاوزوا حدود الأحكام. و هو كتاب جيّد حسن الترتيب، متين الاستدلال، قويّ البرهان.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 372

مسالك الأفهام- إلى آيات الأحكام للفاضل الجواد الكاظمي

هو شمس الدين أبو عبد اللّه محمد الجواد بن سعد بن الجواد الكاظمي، من أعلام القرن الحادي عشر. و هو أيضا مرتّب حسب ترتيب الفقه، مطبوع أربعة أجزاء في مجلّدين. و هو من أبسط التفاسير الفقهية، على مشرب أصحابنا الإمامية، و من اتقنها.

قلائد الدرر في بيان آيات الأحكام بالأثر

لأحمد بن إسماعيل بن عبد النبي الجزائري، المتوفّى سنة (1151). و هو من أجلّ كتب آيات الأحكام و أنفعها، و أشملها لفروع المسائل، و هو مطبوع طبعة أنيقة.

آيات الأحكام- للسيد الطباطبائي اليزدي

هو السيد محمد الحسين اليزدي المتوفّى (1386). و هو مرتّب حسب ترتيب السور، مع مقدمة وجيزة نافعة.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 373

التفاسير الجامعة
اشارة

و هو ثالث أنواع التفسير الّتي ظهرت إلى الوجود: التفسير النقلي (التفسير بالمأثور)، ثم التفسير الفقهي (آيات الأحكام)، و ثالثا التفاسير الاجتهادية الجامعة، و التي تعرضت لجوانب من الكلام النظري حول تفسير القرآن.

و هذه التفاسير الاجتهادية الجامعة من أقدم أنواع التفسير بعد التفسير بالمأثور، و تشمل الكلام في جوانب مختلفة من التفسير، لغة و أدبا و فقها و كلاما، حسب تنوّع العلوم و المعارف الّتي كانت دارجة ذلك العهد. نعم كان قد يغلب على بعض هذه التفسير لون التخصّص الذي كان يتخصّص فيه صاحب التفسير، من براعة في أدب أو فقه أو كلام. غير أنّ ذلك لم يكد يخرج بالتفسير عن كونه من التفسير الاجتهادي الجامع، و ليس في طابع ذي لون واحد.

و نحن ذاكرون الأهمّ من هذه التفاسير التي احتلّت المحل الأرفع في الأوساط العلمية، طول عهد الإسلام، و نضعها موضع دراستنا، بحثا وراء معرفة قيمتها في عالم التفسير:

التبيان- في تفسير القرآن لأبي جعفر الطوسي (460)
اشارة

هو الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي، نسبة إلى «طوس» من بلاد خراسان، الآهلة بالعلم و الثقافة و العمران، و لا تزال معهدا للدراسات الإسلامية؛ حيث مثوى الإمام علي بن موسى الرضا عليه السّلام، و تعدّ اليوم من أكبر مدن إيران الإسلامية المزدهرة.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 374

و شيخنا العلامة الطوسي، يعدّ علما من أعلام الطائفة و شيخها المقدّم و إمامها الأسبق، سبّاق العلوم و المعارف الإسلامية، و القدوة العليا لمن كتب و ألّف في شتى شئون العلوم الإسلامية، من فقه و تفسير و كلام، فضلا عن الأصول و الرجال و الحديث.

و لقّب بشيخ الطائفة؛ لأنه زعيمها و قائدها و سائقها و معلّمها الأول في مختلف العلوم.

ولد بطوس

في شهر رمضان سنة (385). و هاجر إلى بغداد سنة (408) أيّام زعامة عميد الطائفة محمد بن محمد بن النعمان المشتهر بالشيخ المفيد. فلازمه ملازمة الظل، و عكف على الاستفادة منه، و أدرك ابن الغضائري و شارك النجاشي. و بعد وفاة شيخه المفيد سنة (413) و انتقال الزعامة إلى علم الهدى السيد المرتضى، انحاز الشيخ إليه و لازم الحضور تحت منبره، و عنى به المرتضى و بالغ في توجيهه و تلقينه. و بقي ملازما له طيلة (23) سنة، حتى توفي السيد سنة (436) فاستقل شيخ الطائفة بأعباء الإمامة، و ظهوره على منصّة الزعامة، و أصبح علما من أعلام الشيعة و منارا للشريعة، و كانت داره في الكرخ مأوى الأمّة و مقصد الوفّاد، يأتونه من كل صوب و مكان. و تصدّر كرسي الكلام في بغداد، بطلب من الخليفة القادر باللّه العباسي؛ حيث لم يكن في بغداد يومذاك من يفوقه قدرا أو يفضّل عليه علما و معرفة، بمباني الشريعة و أصول الكلام فيها.

و لم يزل شيخنا المعظم إمام عصره و عزيز مصره، حتى ثارت القلاقل و حدثت الفتن في بغداد، و اتّسع ذلك على عهد طغرل بيك أوّل ملوك السلاجقة، فإنه ورد بغداد و كان أول ما فعل أن شنّ الإغارة على الكرخ، و أحرق مكتبة الشيعة هناك، و التي أنشأها أبو نصر سابور بن أردشير، وزير بهاء الدولة البويهي.

و كان قد جمع فيها من كتب فارس و العراق، و استجلب من بلاد الهند و الصين

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 375

و الروم. فكانت مكتبة ضخمة ثريّة، ربما تنوف كتبها على عشرات الألوف، و أكثرها نسخ الأصل بخطوط المؤلفين.

و من ثم اضطرّ شيخنا أبو جعفر

إلى الهجرة إلى النجف الأشرف سنة (449)، و استفرغ للعكوف على التأليف و التصنيف، و فيها خرجت أمّهات كتبه و تآليفه، أمثال: المبسوط، و الخلاف، و النهاية في الفقه، و التبيان في التفسير، و التهذيب، و الاستبصار في الحديث، و الاقتصاد، و التمهيد في الكلام، و سائر كتبه الرجالية و غيرها.

فيا له من منبع علم و مدّخر فضيلة، ازدهر به العالم الإسلامي، نورا و علما و حياة نابضة، فقد بارك اللّه فيه و في عمره (385- 460) 75

التعريف بهذا التفسير

هو تفسير حافل جامع، و شامل لمختلف أبعاد الكلام حول القرآن، لغة و أدبا، قراءة و نحوا، تفسيرا و تأويلا، فقها و كلاما ... بحيث لم يترك جانبا من جوانب هذا الكلام الإلهي الخالد، إلّا و بحث عنه بحثا وافيا، في وجازة و إيفاء بيان.

يبدو من ارجاعات الشيخ في تفسيره إلى كتبه الفقهية و الأصولية و الكلامية، أنه كتب التفسير متأخرا عن سائر كتبه في سائر العلوم، و من ثم فإن هذا الكتاب يحظى بقوّة و متانة و قدرة علمية فائقة، شأن أي كتاب جاء تأليفه في سنين عالية من حياة المؤلّف.

و بحق فإن هذا التفسير حاز قصب السبق من بين سائر التفاسير التي كانت دارجة لحد ذاك الوقت، و الّتي كانت أكثرها مختصرات، تعالج جانبا من التفسير دون جميع جوانبه، مما أوجب أن يكون هذا التفسير جامعا لكلّ ما ذكره

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 376

المفسرون من قبل، و حاويا لجميع ما بحثه السابقون عليه.

قال الشيخ في مقدمة تفسيره: فإن الّذي حملني على الشروع في عمل هذا الكتاب، أني لم أجد أحدا من أصحابنا قديما و حديثا من عمل كتابا يحتوي على تفسير جميع

القرآن، و يشتمل على فنون معانيه، و إنما سلك جماعة منهم في جمع ما رواه و نقله و انتهى إليه في الكتب المروية في الحديث، و لم يتعرّض أحد منهم لاستيفاء ذلك و تفسير ما يحتاج إليه، فوجدت من شرع في تفسير القرآن من علماء الأمة، بين مطيل في جميع معانيه، و استيعاب ما قيل فيه من فنونه- كالطبري و غيره- و بين مقصّر اقتصر على ذكر غريبه، و معاني ألفاظه.

و سلك الباقون المتوسطون في ذلك مسلك ما قويت فيه منّتهم «1»، و تركوا ما لا معرفة لهم به قال: و أنا إن شاء اللّه تعالى أشرع في ذلك على وجه الإيجاز و الاختصار لكل فن من فنونه، و لا أطيل فيملّه الناظر فيه، و لا اختصر اختصارا يقصر فهمه عن معانيه.

فهو تفسير وسط جامع شامل، حاويا لمحاسن من تقدّمه، تاركا فضول الكلام فيه مما يملّ قارئيه، فجاء في أحسن ترتيب و أجمل تأليف؛ فللّه درّه و عليه أجره.

منهجه في التفسير

أما المنهج الّذي سلكه في تفسير القرآن، فهو المنهج الصحيح الّذي مشى عليه أكثر المفسرين المتقنين، فيبدأ بذكر مقدمات تمهيدية، تقع نافعة في معرفة أساليب القرآن، و مناهج بيانه و سائر شئونه، مما يرتبط بالتفسير و التأويل، و المحكم و المتشابه، و الناسخ و المنسوخ، و معرفة وجوه إعجاز القرآن، و أحكام تلاوته و قراءته، و أنه نزل بحرف واحد، و الكلام عن الحديث

(1) المنّة- بضم الميم-: القوّة. و الكلمة من الأضداد.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 377

المعروف: نزل القرآن على سبعة أحرف. و التعرّض لأسامي القرآن و أسامي سوره و آياته، و ما إلى ذلك.

أمّا صلب التفسير، فيبدأ بذكر الآية، و يتعرّض

لغريب لغتها، و اختلاف القراءة فيها، ثم التعرّض لمختلف الأقوال و الآراء و ينتهى إلى تفسير الآية تفسيرا معنويا في غاية الوجازة و الإيفاء. و هكذا يذكر أسباب النزول، و المسائل الكلامية المستفادة من ظاهر الآية، حسب إمكان اللغة و الأدب الرفيع، كما يتعرّض للمسائل الخلافية في الفقه و الأحكام، و مسائل الاعتقاد و نحوها. كل ذلك مع عفّ اللسان و حسن الأدب في التعبير.

و مما يجدر التنبّه له، أنّ هذا التفسير يتعرّض لمسائل علم الكلام، في صبغة أدبية رفيعة، و لا يترك موضعا من الآيات الكريمة الّتي جاءت فيها الإشارة إلى جانب من مسائل العقيدة، إلّا و تعرض لها، و أكثر في تفصيل و بسط كلام. و هذا من اختصاص هذا التفسير.

يقول المؤلّف في المقدمة: و سمعت جماعة من أصحابنا قديما و حديثا يرغبون في كتاب مقتصد، يجتمع على جميع فنون علم القرآن: من القراءة، و المعاني، و الإعراب، و الكلام على المتشابه، و الجواب عن مطاعن الملحدين فيه، و أنواع المبطلين، كالمجبرة و المشبّهة و المجسّمة و غيرهم، و ذكر ما يختص أصحابنا به من الاستدلال بمواضع كثيرة منه، على صحّة مذهبهم في أصول الديانات و فروعها. و أنا إن شاء اللّه تعالى أشرع في ذلك على وجه الإيجاز و الاختصار لكل فن من فنونه، و لا أطيل، فيملّه الناظر فيه، و لا اختصر اختصارا يقصر فهمه عن معانيه.

و لنذكر أمثلة على ذلك:

مثلا عند تفسير قوله تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 378

يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ «1» يقول:

و اعلم أنّ هذه الآية من الأدلّة الواضحة على إمامة أمير

المؤمنين عليه السّلام بعد النبي بلا فصل. وجه الدلالة فيها أنه قد ثبت أنّ الولي في الآية بمعنى الأولى و الأحق، و ثبت أيضا أنّ المعنى بقوله: «و الذين آمنوا» أمير المؤمنين. فإذا ثبت هذان الأصلان، دلّ على إمامته.

ثم أخذ في بيان كون المراد من «الولي» في الآية هو الأولى بالأمر؛ لأنه المتبادر من اللفظ. و استشهد بقول العرب، و بآيات و أشعار، و شواهد أخر.

و أخذ في بيان دلالة «إنما» على الحصر، كما أثبت من رواية أكثر المفسرين على نزولها في علي عليه السّلام «2».

و عند قوله تعالى: وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ «3»

يروي عن الإمام أبي جعفر عليه السّلام: أنهم الأئمة المعصومون

، و قيل: هم أمراء السرايا و الولاة، و قيل: هم أهل العلم و الفقه الملازمين للنّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. قال الجبائي: هذا لا يجوز؛ لأنّ «أولى الأمر»، من لهم الأمر على الناس بولاية. قال الشيخ: و الأوّل أقوى؛ لأنه تعالى بيّن أنهم متى ردّوه إلى أولي العلم علموه، و الردّ إلى من ليس بمعصوم، لا يوجب العلم؛ لجواز الخطأ عليه بلا خلاف، سواء أ كانوا أمراء السرايا، أو العلماء «4».

و عند قوله تعالى:

(1) المائدة/ 55.

(2) التبيان، ج 3، ص 559.

(3) النساء/ 83.

(4) التبيان، ج 3، ص 273.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 379

إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ، إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَ جَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَ كَلِمَةُ

اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ «1» قال: فيمن تعود «الهاء» إليه قولان: أحدهما: قال الزجاج: إنها تعود إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و الثاني: قال الجبائي: تعود إلى أبي بكر؛ لانه كان الخائف و احتاج إلى الأمن. قال الشيخ: و الأول أصحّ؛ لأنّ جميع الكنايات قبل هذا و بعده راجعة إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلا يليق أن يتخلّل ذلك كله كناية عن غيره.

ثم قال: و ليس في الآية ما يدلّ على تفضيل أبي بكر؛ لان قوله: «ثاني اثنين» مجرد الإخبار أنّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خرج و معه غيره. و كذلك قوله: «إذ هما في الغار» خبر عن كونهما فيه. و قوله: «إذ يقول لصاحبه» لا مدح فيه أيضا؛ لان تسمية الصاحب لا تفيد فضيلة، أ لا ترى أنّ اللّه تعالى قال في صفة المؤمن و الكافر: قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ «2»، و قوله: «لا تحزن» إن لم يكن ذمّا فليس بمدح، بل هو نهي محض عن الخوف. قوله: «إنّ اللّه معنا»، قيل: إنّ المراد به النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لو أريد به أبو بكر معه لم يكن فيه فضيلة؛ لأنه يحتمل أن يكون ذلك على وجه التهديد. إلى أن يقول: فأين موضع الفضيلة للرجل لو لا العناد. ثم أضاف: و لم نذكر هذا للطعن على أبي بكر، بل بيّنا أن الاستدلال بالآية على الفضل غير صحيح «3».

و في مسألة «العدل» و تحكيم العقل في معرفة الصفات، نراه يذهب مذهب

(1) التوبة/ 40.

(2) الكهف/ 37.

(3) التبيان،

ج 5، ص 220- 223.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 380

أهل الاعتدال في النظر، فيؤوّل الآيات على خلاف ما يراه أهل الظاهر من الصفاتيين، من الأشاعرة و أهل القول بالجبر و التشبيه.

مثلا، في قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ «1» يقول: «ختم اللّه على قلوبهم» أي شهد عليها بأنها لا تقبل الحق. يقول القائل:

أراك تختم على كل ما يقول فلان، أي تشهد به و تصدّقه، و ذلك استعارة. و قيل:

«ختم» بمعنى طبع فيها أثرا للذنوب، كالسمة و العلامة، لتعرفها الملائكة فيتبرّءوا منهم، و لا يوالوهم، و لا يستغفروا لهم. و قيل: المعنى أنّه ذمهم بأنها كالمختوم عليها في أنّها لا يدخلها الإيمان، و لا يخرج عنها الكفر. قال الشاعر:

لقد أسمعت لو ناديت حيّا و لكن لا حياة لمن تنادي «2»

و عند قوله: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ «3» يقول: و المعنى أنهم صم عن الحق لا يعرفونه؛ لأنهم كانوا يسمعون بآذانهم. و بكم عن الحق لا ينطقون. مع أن ألسنتهم صحيحة، عمي لا يعرفون الحق و أعينهم صحيحة، كما قال:

وَ تَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَ هُمْ لا يُبْصِرُونَ «4». قال: و هذا يدل على أن قوله:

خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ و طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها «5» ليس هو على وجه الحيلولة بينهم و بين الإيمان؛ لأنه وصفهم بالصم و البكم و العمى مع صحة حواسهم، و إنما أخبر بذلك عن إلفهم الكفر و استثقالهم للحق و الإيمان، كأنهم ما سمعوه

(1) البقرة/ 7.

(2) التبيان، ج 1، ص 63- 64.

(3) البقرة/ 18.

(4) الأعراف/ 198.

(5) النساء/ 155.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 381

و لا رأوه، فلذلك قال: طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ «1» و أَضَلَّهُمُ «2» و فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمى أَبْصارَهُمْ «3» و جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً «4» و فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ «5». و كان ذلك إخبارا عما أحدثوه عند امتحان اللّه إياهم، و أمره لهم بالطاعة و الإيمان؛ لأنه ما فعل بهم ما منعهم من الإيمان.

و قد يقول الرجل: حب المال قد أعمى فلانا و أصمه، و لا يريد بذلك نفي حاسّته، لكنه إذا شغله عن الحقوق و القيام بما يجب عليه، قيل: أصمه و أعماه.

و كما قيل في المثل: حبّك الشي ء يعمي و يصمّ، و يريدون ما قلناه. و قال مسكين الدارمي:

أعمى إذا ما جارتي خرجت حتى يواري جارتي الخدر

و يصمّ عما كان بينهما سمعي و ما بي غيره وقر

و قال آخر: أصم عما ساءه سميع، فجمع الوصفين «6».

و عند قوله: كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ «7» يقول: و ليس المراد بالطبع- في الآية- المنع من الإيمان؛ لأنّ مع المنع من الإيمان لا يحسن تكليف الإيمان «8».

(1) التوبة/ 93- النحل/ 108- محمد/ 16.

(2) طه/ 85.

(3) محمد/ 23.

(4) الأنعام/ 25، الإسراء/ 46، الكهف/ 57.

(5) الصف/ 5.

(6) التبيان، ج 1، ص 88- 90.

(7) يونس/ 74.

(8) التبيان، ج 5، ص 412.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 382

مجمع البيان- في تفسير القرآن لأبي علي الطبرسي
اشارة

هو تفسير حافل جامع، و شامل لمختلف أبعاد الكلام حول القرآن، لغة و أدبا، قراءة و نحوا، تفسيرا و تأويلا، فقها و كلاما ... بحيث لم يترك جانبا من جوانب هذا الكلام الإلهي الخالد، إلّا و بحث عنه بحثا وافيا، في وجازة و إيفاء بيان.

يبدو من ارجاعات الشيخ

في تفسيره إلى كتبه الفقهية و الأصولية و الكلامية، أنه كتب التفسير متأخرا عن سائر كتبه في سائر العلوم، و من ثم فإن هذا الكتاب يحظى بقوّة و متانة و قدرة علمية فائقة، شأن أي كتاب جاء تأليفه في سنين عالية من حياة المؤلّف.

و بحق فإن هذا التفسير حاز قصب السبق من بين سائر التفاسير التي كانت دارجة لحد ذاك الوقت، و الّتي كانت أكثرها مختصرات، تعالج جانبا من التفسير دون جميع جوانبه، مما أوجب أن يكون هذا التفسير جامعا لكلّ ما ذكره

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 376

المفسرون من قبل، و حاويا لجميع ما بحثه السابقون عليه.

قال الشيخ في مقدمة تفسيره: فإن الّذي حملني على الشروع في عمل هذا الكتاب، أني لم أجد أحدا من أصحابنا قديما و حديثا من عمل كتابا يحتوي على تفسير جميع القرآن، و يشتمل على فنون معانيه، و إنما سلك جماعة منهم في جمع ما رواه و نقله و انتهى إليه في الكتب المروية في الحديث، و لم يتعرّض أحد منهم لاستيفاء ذلك و تفسير ما يحتاج إليه، فوجدت من شرع في تفسير القرآن من علماء الأمة، بين مطيل في جميع معانيه، و استيعاب ما قيل فيه من فنونه- كالطبري و غيره- و بين مقصّر اقتصر على ذكر غريبه، و معاني ألفاظه.

و سلك الباقون المتوسطون في ذلك مسلك ما قويت فيه منّتهم «1»، و تركوا ما لا معرفة لهم به قال: و أنا إن شاء اللّه تعالى أشرع في ذلك على وجه الإيجاز و الاختصار لكل فن من فنونه، و لا أطيل فيملّه الناظر فيه، و لا اختصر اختصارا يقصر فهمه عن معانيه.

فهو تفسير وسط جامع شامل،

حاويا لمحاسن من تقدّمه، تاركا فضول الكلام فيه مما يملّ قارئيه، فجاء في أحسن ترتيب و أجمل تأليف؛ فللّه درّه و عليه أجره.

منهجه في التفسير

أما المنهج الذي سار عليه مفسرنا فهو منهج رتيب، يبدأ بالقراءات، فيذكر ما جاء عن اختلاف القراءة في الآية، و يعقبها بذكر الحجج التي استندت إليها كل قراءة، ثم اللغة ثم الإعراب، و أخيرا المعنى. و قد يتعرّض لأسباب النزول، و القصص الّتي لها بعض الصلة بالآيات. و بحق قد وضع تفسيره على أحسن ترتيب و أجمل تبويب. يقول هو عن تفسيره:

و ابتدأت بتأليف كتاب هو في غاية التلخيص و التهذيب، و حسن النظم و الترتيب، يجمع أنواع هذا العلم و فنونه، و يحوي فصوصه و عيونه، من علم قراءته و إعرابه و لغاته و غوامضه و مشكلاته، و معانيه و جهاته، و نزوله و أخباره، و قصصه و آثاره، و حدوده و أحكامه، و حلاله و حرامه. و الكلام عن مطاعن المبطلين فيه، و ذكر ما ينفرد به أصحابنا رضى اللّه عنهم من الاستدلالات بمواضع كثيرة منه، على صحّة ما يعتقدونه من الأصول و الفروع، و المعقول و المسموع، على وجه الاعتدال و الاختصار، فوق الإيجاز و دون الإكثار. فإن الخواطر في هذا الزمان لا تحتمل أعباء العلوم الكثيرة، و تضعف عن الإجراء في الحلبات الخطيرة؛

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 384

إذ لم يبق من العلماء إلّا الأسماء، و من العلوم إلّا الذماء و هو بقية الروح في المذبوح.

قال: و قدّمت في مطلع كل سورة ذكر مكّيّها و مدنيّها، ثم ذكر الاختلاف في عدد آياتها، ثم ذكر فضل تلاوتها. ثم أقدم في كل آية الاختلاف في القراءات، ثم ذكر العلل

و الاحتجاجات، ثم ذكر العربيّة و اللغات، ثم ذكر الإعراب و المشكلات، ثم ذكر الأسباب و النزولات، ثم ذكر المعاني و الأحكام و التأويلات، و القصص و الجهات. ثم ذكر انتظام الآيات.

ثم إني قد جمعت في عربيّته كل غرّة لائحة، و في إعرابه كل حجّة واضحة، و في معانيه كل قول متين، و في مشكلاته كل برهان مبين. و هو بحمد اللّه للأديب عمدة، و للنحوي عدّة، و للمقرئ بصيرة، و للناسك ذخيرة، و للمتكلم حجّة، و للمحدّث محجّة، و للفقيه دلالة، و للواعظ آلة.

قال الذهبي بشأن هذا التفسير: و الحق أنّ تفسير الطبرسي- بصرف النظر عما فيه من نزعات تشيّعية و آراء اعتزاليّة- كتاب عظيم في بابه، يدلّ على تبحّر صاحبه في فنون مختلفة من العلم و المعرفة. و الكتاب يجري على الطريقة التي أوضحها لنا صاحبه، في تناسق تام، و ترتيب جميل. و هو يجيد في كل ناحية من النواحي التي يتكلم عنها. فإذا تكلم عن القراءات و وجوهها الإعراب أجاد، و إذا تكلم عن المعاني اللغوية للمفردات أجاد، و إذا تكلم عن وجوه الإعراب أجاد، و إذا شرح المعنى الإجمالي أوضح المراد، و إذا تكلم عن أسباب النزول و شرح القصص استوفى الأقوال و أفاض، و إذا تكلم عن الأحكام تعرض لمذاهب الفقهاء، و جهر بمذهبه و نصره إن كانت هناك مخالفة منه للفقهاء، و إذا ربط بين الآيات آخى بين الجمل، و أوضح لنا عن حسن السبك و جمال النظم، و إذا عرض لمشكلات القرآن أذهب الإشكال و أراح البال. و هو ينقل أقوال من تقدّمه من

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 385

المفسرين معزوّة لأصحابها، و يرجّح و يوجّه

ما يختار منها.

ثم يقول عنه الذهبي: و إذا كان لنا بعض المآخذ عليه فهو تشيّعه لمذهبه و انتصاره له، و حمله لكتاب اللّه على ما يتّفق و عقيدته، و تنزيله لآيات الأحكام على ما يتناسب مع الاجتهادات التي خالف فيها هو و من على شاكلته. و روايته لكثير من الأحاديث الموضوعة. غير أنه- و الحق يقال- ليس مغاليا في تشيّعه، و لا متطرفا في عقيدته، كما هو شأن كثير غيره، من علماء الإمامية «1».

ثم يذكر الذهبي أمثلة لما ظنّه مؤاخذة على مفسّرنا الجليل، و حسب أنه تعصّب لها انتصارا لمذهبه في التشيّع، في حين أنه أدّى الكلام حقه و لم يفرط في القول، كما أنه لم يفرط كما فرّط الآخرون من سائر المفسرين.

مثلا في قصّة الخاتم عند تفسير قوله تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ «2» نراه يفصّل في الكلام عن شأن نزول الآية، و دلالتها الصريحة في إمامة مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام بما أتم الحجة و بلّغ في البيان.

أما الأستاذ الذهبي فلم يرقه ذلك، و قال ناقما عليه: و لا شك أنّ هذه محاولة فاشلة، فإنّ حديث تصدّق عليّ بخاتمه في الصّلاة- و هو محور الكلام- حديث موضوع لا أصل له. و قد تكفّل العلامة ابن تيميّة بالرّد على هذه الدعوى في كتابه «منهاج السنة، ج 4، ص 3- 9» «3».

قلت: أ ترى ابن تيميّة لم يتعصّب لمذهبه في النّصب لعليّ و آل الرسول، في

(1) التفسير و المفسرون، ج 2، ص 104- 105.

(2) المائدة/ 55.

(3) التفسير و المفسرون، ج 2، ص 109.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص:

386

إنكاره لمنقبة هي من أكبر المناقب التي نزل بها القرآن الكريم، و أذعن لها أهل العلم و التحقيق، في الحديث و التفسير.

إن لهذا الحديث أسنادا متظافرة- إن لم تكن متواترة- أوردها جلّ أهل الحديث، حتى أن الحاكم النيسابوري عدّه من الأحاديث الّتي رواها أهل مدينة عن أهل مدينة، فقد رواه الرازيون عن الكوفيين «1»، و قد تعددت طرقه و كثرت مخارجه.

قال ابن حجر العسقلاني: و إذا كثرت الطرق و تباينت مخارجها دلّ ذلك على أن لها أصلا «2».

كيف، و هذا الحديث قد أخرجها الأئمة الحفاظ بعدة أسانيد، و فيها الصحاح. صرّح بذلك الحافظ أبو بكر ابن مردويه الأصبهاني، قال: إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات، و هكذا ابن أبي حاتم الرازي «3».

و أورده جلال الدين السيوطي، في أسباب النزول، بعدّة طرق، و ذكر له شواهد، ثم قال: فهذه شواهد يقوّي بعضها بعضا «4».

و قد استقصى العلامة الأميني موارد ذكر الحديث، فأنهاه إلى (66) موردا في أمّهات الكتب الحديثية، و كتب المناقب و التفسير و الكلام «5».

و هذا الحديث مما سارت به الركبان، و أنشد فيه الشعراء، منهم حسان بن ثابت شاعر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث يقول:

(1) معرفة علوم الحديث، ص 102، للإمام الحافظ الحاكم النيسابوري.

(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ج 8، ص 333.

(3) راجع: الغدير للعلامة الأميني، ج 3، ص 157 رقم 6 و 16.

(4) لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي ص 107.

(5) الغدير، ج 3، ص 156- 162. و راجع تفسير أبي الفتوح، ج 4، ص 244- 257.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 387

أبا حسن أفديك نفسي و مهجتي و

كل بطي ء في الهدى و مسارع

أ يذهب مدحي ذا المحبّر ضايعا و ما المدح في ذات الإله بضائع

فأنت الّذي أعطيت إذ كنت راكعا فدتك نفوس القوم يا خير راكع

بخاتمك الميمون يا خير سيّد و يا خير شار ثم يا خير بايع

فأنزل فيك اللّه خير ولاية و بيّنها في محكمات الشرائع «1»

كل ذلك يدل على شيوعه و استفاضته بما لا يكاد يمكن إنكاره، إلّا من عمى قلبه و أعمته عصبيته أمثال الذهبي، و من قبله ابن تيميّة.

هذا و قد أرسله الفقهاء و هم أبصر بمواضع الأحاديث إرسال المسلّمات، و أخذوه حجّة على أنّ الفعل القليل لا يبطل الصلاة، و من ثم عدّوا هذه الآية من آيات الأحكام، الأمر الذي ينمّ عن اتفاقهم على صحة الحديث. هكذا أورد الجصّاص هذه الآية دليلا على جواز العمل اليسير في الصلاة، و روى نزولها في علي عليه السّلام عن مجاهد و السدّي و أبي جعفر و عتبة بن أبي حكيم «2».

كما استوفى الكلام فيه الحاكم الحسكاني و أورده بإسناده إلى جماعة من كبار الصحابة، أمثال: عمار بن ياسر، و المقداد بن الأسود، و جابر بن عبد اللّه الأنصاري، و عبد اللّه بن عباس، و أنس بن مالك، و أبي ذر الغفاري، فضلا عن أقوال التابعين في ذلك، فراجع «3». و راجع- أيضا- فضائل الخمسة للسيد الفيروزآبادي «4».

(1) و نسبت هذه الأبيات إلى خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين أيضا، و لعلّه الأرجح. غير أنّ المشهور نسبتها إلى حسان، راجع هامش ابن عساكر- ترجمة الإمام عليه السّلام، ج 2، ص 410.

(2) أحكام القرآن للجصاص، ج 2، ص 446.

(3) شواهد التنزيل

للحاكم الحسكاني، ج 1، ص 161- 184.

(4) فضائل الخمسة، ج 2، ص 13- 19.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 388

و تعرّض الذهبي لمسائل في الأصول و الفروع مما اختصت الشيعة القول به، مثل: «الرجعة» و «المهدي» و «التقية» و «المسح على الأرجل» و نحوها، مما صرّحت به الآيات، أو جاء به النقل المتواتر متوافقا مع ظاهر القرآن. و قد أشاد به شيخنا الطبرسي في تفسيره حسب مسلكه، في تحكيم ظواهر القرآن عند تزاحم الآراء في مسائل الخلاف.

و أخيرا يقول عنه: و الطبرسي معتدل في تشيّعه غير مغال فيه، كغيره من متطرفي الإمامية، و لقد قرأنا في تفسيره فلم نلمس عليه تعصّبا كبيرا، و لم نأخذ عليه أنه كفّر أحدا من الصحابة، أو طعن فيهم بما يذهب بعدالتهم و دينهم، كما أنه لم يغال في شأن علي بما يجعله في مرتبة الإله أو مصافّ الأنبياء، و إن كان يقول بالعصمة.

و كل ما لاحظناه عليه من تعصّبه لمذهب أنه يدافع بكل قوّة عن أصول مذهبه و عقائد أصحابه. كما أنه إذا روى أقوال المفسرين في آية من الآيات، و نقل أقوال المفسّرين من أهل مذهبه فيها، نجده يرتضي قول علماء مذهبه و يؤيّده، بما يظهر له من الدليل «1».

قلت: و قد أساء الظنّ بالشيعة و لعلّه تعمّد مقيت حيث حسب منهم من يجعل عليا عليه السّلام في مرتبة الإله؛ إذ لم نجد من ينتمي إلى الشيعة من يزعم ذلك، اللّهمّ إلّا الغلاة و هم خارجون عن الملّة، و تحكم الشيعة عليهم بالكفر و الإلحاد.

أما مصافّ الأنبياء، فهو بلوغ مرتبة توازي مرتبة الأنبياء في الفضيلة دون النبوّة، فهو أمر معقول. و قد جعل النبي صلّى اللّه

عليه و آله و سلّم العلماء في مصافّ الأنبياء؛ حيث

(1) التفسير و المفسرون، ج 2، ص 142- 143.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 389

قال: علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل «1» . و

العلماء ورثة الأنبياء «2» . و قال بشأن علي عليه السّلام: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبيّ بعدي. حديث متواتر مستفيض، و قد رواه أصحاب الصحاح و المسانيد من أهل الحديث. «3»

و أما المسائل الّتي تعرّض لها الذهبي؛ حيث وقعت مورد تأييد مفسري الشيعة، فأظنّها خارجة عن اختصاص مثل الذهبي البعيد عن مسائل الخلاف بين المذاهب الإسلامية، في الأصول و في الفروع، كل يدافع عن رأيه، و يتكلم حسب فهمه من الكتاب و السنة و العقل الرشيد، ما لم يكن تحميلا ظاهرا، الأمر الذي يتحاشاه أمثال الطبرسي و قبله الشيخ في «التبيان».

و ليعلم أن في الشيعة جماعة أخبارية هم أصحاب جمود، نظير إخوانهم الحشوية من أهل الحديث في السنّة و الجماعة، و لا تحسب الطائفة على حساب هذه الفئة. و تفاسير علماء الشيعة من لدن شيخ الطائفة أمثال «التبيان» و «روح الجنان» و «مجمع البيان»، كلها على نمط واحد، تفاسير وضعت على أساس معقول لا إفراط فيها و لا قصور، و لا فيها شي ء من التعصّب المقيت.

و أما النزعة الاعتزالية الّتي نسبهم إليها أمثال الذهبي، فهي نسبة خاطئة، إنّ للشيعة الإمامية مباني في أصول معارفها قد تتفق مع مشرب الاعتزال، كمسألة العدل في الأفعال، و تجريد الذات عن مبادئ الصفات، و تحكيم العقل في معرفة الحسن و القبح في التكليف، و ما إلى ذلك. و هذا لا يعني أنّ الشيعة أخذت عن المعتزلة و لا العكس، بل

هو اتفاق نظر في مسائل من الكلام، كما اتّفقت الأمّة

(1) عوالي اللئالي، لابن أبي جمهور الأحسائي، ج 4، ص 77 رقم 67.

(2) المصدر، ج 1، ص 358 رقم 29 و ج 2 ص 241 رقم 9. و سنن ابن ماجة، ج 1، ص 98.

(3) راجع: فضائل الخمسة، ج 1، ص 299 فما بعد.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 390

على مسائل في أصول العقيدة و فروع من مسائل الأحكام.

ففي مثل مسألة «الهداية و الضلال» حيث زعم الذهبي أنّ مفسّرنا الجليل وافق المعتزلة في عقيدتهم و دافع عنها، و هدّم ما عداها «1». إنما هو توافق محض، و لعل الشيعة هم الأصل في هذا النظر؛ لأنهم إنما أخذوها عن أهل بيت الرسالة، و منهم نشر العلم و المعرفة في أرجاء الإسلام.

و كذا مسألة «الرؤية» و إنكار تأثير السحر لو لا إذنه تعالى، و هكذا مسألة «الشفاعة» و معرفة حقيقة الإيمان، و ما إليها. فإنا نرى الذهبي أخذها دليلا على محاكاة الشيعة فيها لأصحاب الاعتزال، و لعلّ الصواب العكس.

روح الجنان و روح الجنان لأبي الفتوح الرازي
اشارة

هو جمال الدين أبو الفتوح الحسين بن علي بن محمد بن أحمد الخزاعي الرازي، من أحفاد نافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي. و نافع و أبوه بديل من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و استشهد نافع و مات بديل في حياة الرسول، و أخوه عبد اللّه بن بديل استشهد بصفين في ركاب علي عليه السّلام. كانت أسرته ممن هاجر إلى بلاد فارس و سكنت في مدينة نيسابور، و انتقل جده إلى الرّي، فاشتهر بها. و كان جده أبو بكر أحمد بن الحسين بن أحمد الخزاعي، نزيل الرّي من تلامذة السيد

المرتضى قدّس سرّه و تتلمذ على يد السيد ابن زهرة، و الشيخ أبي جعفر الطوسي أيضا.

كان مترجمنا عالما خبيرا بأحوال الرواة و المحدّثين، و كان له صيت في أرجاء البلاد، كان يرتحل إليه روّاد العلم و طلاب الحديث. و من أشهر تلاميذه

(1) التفسير و المفسرون، ج 2، ص 128.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 391

ابن شهرآشوب و الشيخ منتجب الدين، و غيرهما من كبار العلماء. و تتلمذ على أيدي علماء مشاهير، أمثال الشيخ أبي الوفاء عبد الجبار المقري تلميذ الشيخ الطوسي، و الشيخ أبي علي ابن الشيخ، و القاضي عماد الدين الاسترابادي قاضي الري، و جار اللّه الزمخشري و غيرهم.

من أشهر مؤلّفاته: التفسير الكبير، المعروف بروح الجنان و روح الجنان، الذي وضعه باللغة الفارسية، التي كانت دارجة ذلك العهد، في بلاد إيران؛ و ذلك أن أحسّ بحاجة الأمة إلى تفسير يقرب من متناول أهل تلك البلاد، فكان في نثر أدبيّ بليغ و سبك سهل بديع. يقول هو في سبب تأليفه: إنّ جماعة من أعاظم أهل العلم في بلده التمسوا منه أن يضع لهم تفسيرا يقرب من أفهامهم، و يسهل التناول منه لدى عامة أهل زمانه؛ حيث إعوزازهم تفسيرا جامعا و شاملا و سهلا على الناس، فأجاب لملتمسهم و أزاح الإشكال من نفوسهم. فوضع تفسيرا جامعا و شاملا، و في نفس الوقت متوسطا بين الإيجاز المخلّ و الإطناب المملّ.

فقدّم على تفسيره مقدمات، ذكر فيها: أقسام معاني القرآن، و أنواع آيه، و أسماءه، و معنى السورة و الآية، ثم ثواب تلاوته، و الترغيب في معرفة غريبه، و معنى التفسير و التأويل.

و هو تفسير جيّد متين، قد فصّل في الكلام عن معضلات الآيات، و شرحها

شرحا وافيا في أوجز كلام و أخصر بيان. متعرضا لجوانب مختلفة من الكلام حول الآية، إن كلاميّة أو أدبيّة أو فقهية و نحو ذلك، و إنما يتكلم عن علم و معرفة واسعة، و يؤدّي المسألة حقها بإيجاز و إيفاء.

و لهذا التفسير مكانة رفيعة في كتب التفاسير، فكثير من كتب التفسير رست مبانيها على قواعده الركينة و بنت مسائلها على مباحثها الحكيمة. هذا الإمام

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 392

الرازي، شيخ المفسرين، بنى تفسيره الكبير على مباني شيخنا أبي الفتوح، فيما فتح اللّه عليه أمهات المباحث الجليلة. قال العلامة القاضي نور اللّه التستري المرعشي: إنّ هذا التفسير من خير التفاسير، و قد سمحت به قريحة شيخنا الرازي الوقّادة، و مما لا نظير له في كتب التفسير، في عذوبة ألفاظه و سلاسة عباراته، و ظرافة أسلوبه و دقّة اختياره، و قد بنى عليه الفخر الرازي في تفسيره الكبير، فأخذ منه اللّباب، و زاد عليه بعض تشكيكاته، مما زاد في الحجم، و لكن الأصل اللباب، هو ما ذكره مفسرنا الرازي أبو الفتوح الكبير «1».

و قد تتبعت مواضع من التفسيرين، فوجدت الأمر كما ذكره القاضي، كان الأصل ما ذكره أبو الفتوح الرازي، و جاء تحقيق الفخر فرعا عليه و مقتبسا منه، و لو مع زيادات.

مثلا عند قوله تعالى: فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ «2» ذهب أبو الفتوح إلى أنّ إبليس لم يزل كان كافرا، و أن المؤمن سوف لا يكفر؛ لأن الإيمان يوجب استحقاق الثواب الدائم، و كذا الكفر يوجب استحقاق العقاب الدائم، و الجمع بين الاستحقاقين محال «3».

و هكذا جاء الاستدلال في «التفسير الكبير»، قال: الوجه الثاني في تقرير أنه كان

كافرا أبدا، قول أصحاب الموافاة؛ و ذلك لأن الإيمان يوجب استحقاق الثواب الدائم، و الكفر يوجب استحقاق العقاب الدائم، و الجمع بين الثواب الدائم و العقاب الدائم محال، فإذا صدر الإيمان من المكلّف في وقت ثم صدر

(1) راجع: مجالس المؤمنين للقاضي التستري، ج 1، ص 490.

(2) البقرة/ 34.

(3) راجع: تفسير أبي الفتوح، ج 1، ص 138.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 393

عنه- و العياذ باللّه- بعد ذلك كفر، فإما أن يبقى الاستحقاقان معا و هو محال- على ما بينّاه- أو يكون الطارئ مزيلا للسابق، و هو أيضا محال؛ لأنّ القول بالإحباط باطل ... «1».

و يبحث الرازي عن قوله: «و كان من الكافرين» هل كان هناك كفّار غير إبليس حتى يكون واحدا منهم؟ فيجيب عن ذلك بجوابات، كلها واردة في كلام أبي الفتوح الرازي «2».

أما منهجه في التفسير

فجرى على منوال سائر التفاسير، فيبدأ بذكر السورة و أسمائها و فضلها و ثواب قراءتها، ثم يذكر جملة من الآيات، مع ترجمتها بالفارسية، و يفسرها جملة جملة، فيبدأ باللغة و النحو و الصرف، ثم القراءة أحيانا ثم ذكر أسباب النزول، و التفسير أخيرا، كل ذلك باللغة الفارسية القديمة، و لكن في أسلوب سهل بديع.

و من براعته في اللغة: إحاطته بمفردات اللغة الفارسية المرادفة تماما مع مفردات لغة العرب، في مثل: «فسوس» مرادفة لكلمة «الاستهزاء»، و «ديو» لكلمة «الشيطان»؛ لأنه من الجنّ، و الجنّ في الفارسية: «ديو» «3» و «پيمان» لكلمة «الميثاق» و «برفروزد» لقوله «استوقد» و «دوزخ» لجهنم، و «كارشكسته» بمعنى

(1) راجع: التفسير الكبير، ج 2، ص 237.

(2) راجع: تفسير أبي الفتوح، ج 1، ص 139، و التفسير الكبير، ج 2، ص 237- 238.

(3) تفسير أبي الفتوح، ج 1، ص 79 و 80.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 394

«كاركشته» مرادفة لكلمة «ذلول» «1» و «شكمش بياماساند» بمعنى «انتفخ بطنه» «2» و «خداوندان علم» بمعنى «أولوا العلم» «3» و «خاك باز شياراند» بمعنى «تثير الأرض» «4» و «همتا» و «انباز» بمعنى «الشريك» «5» و «ستون چوب دركش گرفت» بمعنى «چوب ستون را در بغل گرفت» مرادفة لقولهم: «احتضن الشي ء» «6» و «ما خواستمانى كه در آن خيرى بودى تا ما نيز به آن خير برسيدمانى» تعبير فارسى قديم «7» و هكذا «و ما را بپاى، و گوش نما» مرادفة لكلمة «راعنا» «8» و «با من بازار مى كنى» ترجمة لعبارة:

«أم إليّ تشوقت» من كلام الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام «9»

، و ربما قرئ بالسين، و لعل العبارة ترجمة «تسوّقت» بالسين لتكون ترجمتها «بازار گرمى مى كنى».

و استعمل «مه»- بكسر الميم- بمعنى «الأكبر» في قوله: «هارون در سال امن و عفو زاد و به يكسال مه موسى بود». «10»، و هو في مقابلة «كه»- بكسر الكاف- بمعنى «الأصغر». و قد جاء في كلام «سعدي» الشيرازي

(1) تفسير أبي الفتوح، ج 1، ص 225.

(2) المصدر، ج 2، ص 484.

(3) المصدر، ص 477.

(4) المصدر، ج 1، ص 255.

(5) المصدر، ص 240.

(6) المصدر، ص 241.

(7) المصدر، ص 283.

(8) المصدر، ص 280.

(9) الكلمة رقم 77، من قصار الكلم- نهج البلاغة.

(10). تفسير أبي الفتوح، ج 1، ص 179.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 395

چه از قومى يكى بى دانشى كرد نه كه را منزلت ماند نه مه را

كما أنه لم يتقيد

بترجمة ظاهر الكلمة، و إنما فسر معناها تفسيرا يتطابق مع العقل و الواقع.

مثلا: فسّر قوله تعالى: وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ ... «1»: بإذا خلوا إلى رؤسائهم و أكابرهم؛ لأنه فسّر «الشيطان» بكل متمرّد عات، سواء أ كان من الجن أم الإنس، و حتى الحيوان الخبيث يقال له: شيطان عند العرب، كالأفعى في قوله تعالى: كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ «2» أي رءوس الأفاعي و الحيّات «3».

و المطالع في هذا التفسير يجد براعته الفائقة في مختلف العلوم الإسلامية، و لا سيما الفقه و علم الكلام.

من ذلك نجده عند تفسير قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ... «4»

يبحث هل كان بنو إسرائيل مكلّفين بالخصوصيات من بدء الأمر؟ أو ليس في ذلك تأخير للبيان عن وقت الخطاب؟ فيقول: هذا عند المعتزلة و أصحاب الحديث و أكثر أهل الكلام غير جائز، لكن السيد المرتضى علم الهدى أجاز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة، و يأخذ الآية دليلا على صحة مذهب المرتضى «5».

(1) البقرة/ 14.

(2) الصافات/ 65.

(3) تفسير أبي الفتوح، ج 1، ص 79- 80.

(4)- البقرة/ 67.

(5) تفسير أبي الفتوح، ج 1، ص 220.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 396

و هكذا يذهب إلى أن المؤمن لا يرتدّ و لا يكفر بعد الإيمان، و يؤوّل ما ظاهره الخلاف، مستدلا بأنّ الإيمان عمل يستحق صاحبه المثوبة الدائمة، و لا مثوبة مع موافاة الكفر، و كانت عقوبته دائمة أيضا؛ إذ لا يجتمع تداوم الأمرين.

قال عند تفسير قوله تعالى: وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ «1» القائل بأنّ ذلك كفر من إبليس، جعلوا «كان» بمعنى

«صار» أي و صار من الكافرين، لكنه خطأ من وجهين: أولا:

ذلك عدول عن ظاهر اللفظ بلا ضرورة تدعو إليه، ثانيا: جعل العمل الجوارحي كفرا، أي موجبا للكفر، في حين أنه يوجب الفسق، حتى و لو كانت كبيرة، على خلاف مذهب أهل الاعتزال؛ حيث جعلوا فعل الكبيرة موجبا للكفر، و هذا خلاف البرهان.

ثم أخذ في الاستدلال على أن الإيمان لا يتعقّبه كفر أو نفاق، و إنما هو كاشف عن عدمه من قبل، و لم يكن سوى إيمان ظاهري لا واقعي. قال- ما لفظه بالفارسية-:

«و مذهب ما آن است كه مؤمن حقيقى، كه خداى تعالى از او ايمان داند، كافر نشود، براى منع دليلى، و آن دليل آن است كه اجماع امّت است كه مؤمن مستحق ثواب ابد بود، و كافر مستحق عقاب ابد بود، و جمع بين استحقاقين بر سبيل تأبيد محال بود، چه استحقاق در صحت و استحالت، تبع وصول باشد. و احباط به نزديك ما باطل است، چنانكه بيانش كرده شود، پس دليل مانع از ارتداد مؤمن اين است كه گفتيم. و ابليس هميشه كافر بود و منافق وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ «2».

(1) البقرة/ 34.

(2) تفسير أبي الفتوح، ج 1، ص 138- 139. و راجع ايضا ج 4، ص 233.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 397

يقول: انعقد إجماع الأمّة على أنّ المؤمن يستحق مثوبة دائمة، و كذلك الكافر يستحق عقوبة دائمة، و الجمع بين تداوم الاستحقاقين محال؛ ذلك لأن الاستحقاق يستدعي بلوغ الثواب و وصوله إليه. فإذا كان الإيمان متأخرا كفّر ما قبله

«الإسلام يجبّ ما قبله» «1» و أما الكفر المتأخر فلا يوجب حبط الإيمان؛ لأن فَمَنْ يَعْمَلْ

مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ.

و نجده يفصّل الكلام حول الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر، كلّما حنّ الكلام في تفسيره بالمناسبة.

مثلا: يقول

في تفسير «الغيب» من قوله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ «2» جاء في تفسير أهل البيت عليهم السّلام: أنّ المراد به هو المهدي عليه السّلام

و هو الغائب الموعود في الكتاب و السنّة، أما الكتاب فقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ «3» و أما الأحاديث، فكثيرة، منها

قوله عليه السّلام: «لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل اللّه ذلك اليوم حتى يخرج رجل من أهل بيتي يواطي اسمه اسمي و كنيته كنيتي، يملأ الأرض عدلا و قسطا كما ملئت جورا و ظلما».

و هذه الأوصاف لم تجتمع إلّا في شخص المهدي المنتظر- عجل اللّه تعالى فرجه الشريف- ثم يقول: كلّما مررنا بآية تعرّضت لهذا المعنى، استقصينا الأخبار

(1) المستدرك، ج 7، ص 448، رقم 8625 و البحار، ج 21، ص 114.

(2) البقرة/ 3.

(3) النور/ 55.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 398

بشأنه «1».

و له في مباحث الهداية و الضلال بحوث مذيّلة، و في نفس الوقت ممتعة، استفاض فيها الكلام من جميع جوانبه «2».

ثم إنه لا يترك موضعا من التفسير يناسب ذكر مسائل الخلاف إلّا بيّنه بتفصيل، و ذكر مواقف الشيعة الإمامية في ذلك.

مثلا، عند تفسير قوله تعالى: وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا «3» يتعرّض لأنحاء السجود، منها: السجود في الصلاة، و هو ركن من أركانها- و يفسّر معنى الركن- و سجدة السهو، و سجدة الشكر، و سجدة القرآن، و هذه الأخيرة إما واجبة في أربعة مواضع: الم تنزيل، حم السجدة، النجم،

اقرأ.

أو سنة، ففي أحد عشر موضعا، فالمجموع: خمسة عشر موضعا عندنا. و عند الشافعي: أربعة عشر موضعا، كلها سنة. ثم يفصّل في أحكام سور العزائم، مما يخص مذهب الإمامية، و يذكر مواضع سجود السهو للصلاة، و مذهب سائر المذاهب في ذلك.

و يذكر علائم المؤمن الخمس: الصلاة إحدى و خمسين، و زيارة الأربعين- في اليوم العشرين من شهر صفر بكربلاء- و التختم باليمين، و تعفير الجبين، و الجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم. و يذكر سبب استحباب زيارة

(1) تفسير أبي الفتوح، ج 1، ص 64.

(2) راجع مباحثه عن «الضلال و الإضلال» ذيل تفسير قوله تعالى: «يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ»، البقرة/ 26. راجع: التفسير ج 1، ص 114- 115.

(3)- البقرة/ 34.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 399

الحسين عليه السّلام في يوم الأربعين بكربلاء، و هو يوم ورود جابر بكربلاء، بعد مقتل الحسين بأربعين يوما «1».

و مما يمتاز به هذا التفسير، إحاطة صاحبه بالتاريخ و السيرة الكريمة، و كذلك بالأحاديث الشريفة في مختلف شئون الدين، و من ثم تراه في شتّى المناسبات يخوض المعركة، و يأتي بلباب القول باستيفاء و شمول. و قد يأتي على حوادث قلّ ما يوجد في سائر الكتب.

من ذلك حادثة يوم الصريخ، جاء بها ذيل الآية رقم (54) من سورة المائدة؛ حيث قوله تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ.

فذكر أولا غزوة خيبر و فتحها على يد الإمام أمير المؤمنين، و شعر حسان بن ثابت فيه:

و كان عليّ مرمد العين يبتغي دواء فلمّا لم يحسّ

مداويا

رماه رسول اللّه منه بتفلة فبورك مرقيا و بورك راقيا

و قال سأعطي الراية اليوم صارما كميّا محبّا للرسول مواليا «2»

يحب الإله و الإله يحبّه به يفتح اللّه الحصون الأوابيا «3»

فأصفى بها دون البريّة كلها عليّا و سمّاه الوزير المؤاخيا

و بعد ذلك يذكر غزوة الصريخ، و فيها: خرج «أسد عويلم» مبارزا، متترسا

(1) أبو الفتوح، ج 1، ص 135- 136.

(2) الكمي: البطل الكفي.

(3) الأوابي: جمع آبية، أي حصينة ممتنعة.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 400

بترس حديدي، يبلغ وزنه مئات الأمنان، و كان يعادل أربعين فارسا، و هو يرتجز و يقول:

و جرد شعال و زغف مزال و سمر عوال بأيدي رجال «1»

كآساد ديس و أشبال خيس غداة الخميس ببيض صقال «2»

تجيد الضراب و حزّ الرّقاب أمام العقاب غداة النزال

يكيد الكذوب و يجري الهبوب و يروي الكعوب دما غير آل «3»

فبرز إليه علي عليه السّلام فقدّه نصفين، ثم أتى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو يقول:

ضربته بالسيف وسط الهامة بشفرة صارمة هدّامه «4»

فبتّكت من جسمه عظامه و بيّنت من أنفه إرغامه «5»

أنا عليّ صاحب الصمصامة و صاحب الحوض لدى القيامة «6»

أخي نبي اللّه ذو العلامة قد قال إذ عمّمني العمامة

«أنت الذي بعدي له الإمامة» «7»

(1) الجرد: الفرس القصار الشعر و هو من صفات حسنهنّ. و الشعال: ما كان في أعالي ذيلها بياض. و الزغف: السّرد. و المذال: الواسعة. و السمر: جمع أسمر: القناة. و العوالي:

جمع عالية.

(2) آساد: جمع أسد. و الديس: الشجعان. و الأشبال: جمع شبل ولد الأسد. و الخيس: الغابة.

و الخميس: الجند

عند ما تتهيأ و تترتب للقتال.

(3) العقاب: راية النضال. و غير آل: غير مقصّر.

(4) الهامة: عظم فوق الرأس. و الشفرة: حد السيف.

(5) بتّكت: فرّقت. و إرغام الأنف: تعفيره بالتراب.

(6) الصمصامة: السيف الصارم.

(7) راجع: تفسير أبي الفتوح، ج 4، ص 237- 241.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 401

و هذه الغزوة بهذا الإسم غير معروفة، و لا أثبتها أصحاب السير بهذا الشكل، و إنما ذلك من اختصاصات هذا الكتاب، و كم له من نظير.

و «أسد عويلم» غير معروف، سوى ما ذكره المحقق الشعراني في هامش الكتاب «1» و لم نجده فيما أرجعه من مصدر.

و مما امتاز به هذا التفسير أنه لم يترك موضعا جاءت مناسبة الوعظ و الإرشاد إلّا و قد استغلّ الفرصة، و أخذ في الوعظ و الزجر و الترغيب و الترهيب.

من ذلك عند ذكره لقصّة آدم و توبته، و أنه إنما تقبّل اللّه منه التوبة بأمور ثلاثة تمثّلت في آدم، فليكن ذلك من كل تائب، و هي: الحياء، و الدعاء، و البكاء ... ثم أخذ في الوعظ و الإرشاد، متمثّلا بقول محمود الورّاق:

يا ناظرا يرنو بعيني راقد و مشاهدا للأمر غير مشاهد

منّتك نفسك ضلّة فأبحتها سبل الرجاء و هنّ غير قواصد

تصل الذنوب إلى الذنوب و ترتجي درك الجنان بها و فوز العائد

و نسيت أن اللّه أخرج آدما منها إلى الدنيا بذنب واحد «2»

كنز الدقائق و بحر الغرائب للمولى المشهدي

هو الميرزا محمد بن محمد رضا بن إسماعيل بن جمال الدين القمي الأصل، المشتهر بالمشهدي؛ حيث نشأ و تربّى بمشهد الإمام الرضا عليه السّلام- و ميرزا:

مخفف «ميرزاده» بمعنى «وليد الأمير»- كان فاضلا أديبا جامعا، و محدّثا فقيها،

(1) تفسير أبي الفتوح، ج

1، ص 240، رقم 1.

(2) المصدر، ج 1، ص 149.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 402

علما من أعلام القرن الثاني عشر، توفي حدود سنة (1125).

و يظهر من تفسيره هذا أنه كان متبحّرا في شتّى العلوم الإسلامية التي كانت دارجة ذلك العهد، من الفلسفة و الكلام، و الأدب و اللغة، و الفقه و الحديث.

و قد اضطلع بعلم التفسير و التأويل.

و تفسيره هذا من خير تفاسير ذلك العهد، و هو كما كتبنا في المقدمة حصيلة ما سبقه من أمهات تفاسير أصحابنا الإمامية: النقلية و الاجتهادية، قد جمع فيه من لباب البيان و عباب التعبير، أينما وجده طي الكتب و التفاسير السابقة عليه، و التي كانت راقية لديه. فقد اختار حسن تعبير البيضاوي، اقتداء بشيخه الفيض الكاشاني في تفسيره الصافي. كما انتخب من أسلوب الطبرسي في «مجمع البيان» تبويبه و ترتيبه، مضيفا إليه ما استحسنه من «كشّاف» الزمخشري و حواشي العلّامة الشيخ البهائي، و كثيرا من تأويلات جاءت في تفاسير أهل الرّمز و الإشارات.

و قد قرّظ تفسيره علمان من أعلام الأمة: المجلسي العظيم، و الخوانساري الكبير، مما يدلّك على جلالة قدر هذا التفسير الفخيم.

و بحق إنه تفسير جامع كامل، مع إيجازه و إيفائه، شمل جوانب مختلفة من الكلام حول تفسير كلام اللّه، فلم يترك شاردة و لا واردة من الأحاديث الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام إلّا أوردها و تعرّض لها بتفصيل، ثم الأدب و اللغة بشكل مستوعب، ثم مسائل الكلام و الفلسفة و الفقه في مجالاته المناسبة، و أخيرا يتعرّض لتأويل الآية و تفسير بطونها حسب تعبيره، و من ثم فإنه يعدّ من التفاسير الجامعة الشاملة لكل جوانب التفسير المعهود ذلك الحين.

و قد طبع

هذا التفسير عدة طبعات أنيقة في عهدنا الحاضر، و هو في متناول العموم.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 403

تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن)

لأبي عبد اللّه محمد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري الخزرجي الأندلسي القرطبي، توفي سنة (671). كان من العلماء العارفين، صاحب تصانيف ممتعة، منها هذا التفسير الذي يعدّ من أمثل التفاسير و أجودها تصنيفا و تأليفا و جمعا للآراء و الأقوال، مع العناية التامة باللغة و الأدب و الفقه و الكلام، و من ثم عدّه بعضهم من التفاسير الفقهية كما فعله الذهبي و لعلّه لمناسبة عنوان الكتاب.

و قد وصف المؤلف تفسيره هذا بما يلي: رأيت أن أكتب فيه تعليقا وجيزا يتضمّن نكتا من التفسير، و اللغات و الإعراب، و القراءات، و الردّ على أهل الزيغ و الضلالات، جامعا بين المعاني، و مبينا ما أشكل منها بأقاويل السلف، و من تبعهم من الخلف.

و انتهج في تفسيره منهج سائر التفاسير الجامعة، فيذكر الآية أوّلا، و يعقبها بذكر مسائل، يأتي فيها على شرح مواضع الآية جملة جملة، فيشرحها و يبيّن مواضع إغلاقها، و ربما تعرّض لأسباب النزول، و ذكر القراءات و اللغة و الإعراب، و أحيانا جاء بأقوال السلف أو الخلف إن مسّت الحاجة إلى ذلك.

و هو تفسير جيد نافع، جمع بين الاختصار و الإيفاء بجوانب الكلام، بما يفيد المطالع إفادة تامّة، تجعل المراجع في غنى عن مراجعة أمّهات كتب التفسير، على و جازته.

و جعل لتفسيره مقدمة جامعة في عشرين بابا، ذكر فيها مسائل تفيد المراجع قبل الخوض في التفسير.

و حاول القرطبي في تفسيره هذا نبذ الإسرائيليات و الموضوعات، فتركها حسب وسعه، كما فعله ابن عطية في «المحرّر الوجيز». و كانا موفّقين في هذا

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2،

ص: 404

السبيل بعض الشي ء.

تفسير الماوردي (النكت و العيون)

لأبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي البصري المتوفّى سنة (450).

و النسبة إلى «ماء ورد» كان يعمل به والده و يبيعه. ولد بالبصرة، ثم ارتحل إلى بغداد، و فيها سمع الحديث و أخذ الفقه و انضم إلى حلقات أبي حامد الأسفراييني. و لما بلغ أشدّه تصدّر للتدريس آونة في بغداد و أخرى في البصرة، و تنقّل في البلاد لنشر العلم، ثم استقرّ به المقام في بغداد، فقام بالتدريس و التحديث و تفسير القرآن. و ألّف فيها كتبه في الأدب و الفقه و الحديث و التفسير.

و تفسيره هذا يعدّ من أوجز التفاسير الّتي عنيت باللغة و الأدب و نقل الآراء و نقدها، و المشي على طريقة أهل النظر في التفسير. قال في مقدّمة تفسيره:

«و لما كان الظاهر الجليّ مفهوما بالتلاوة، و كان الغامض الخفي لا يعلم إلّا من وجهين: نقل، و اجتهاد، جعلت كتابي هذا مقصورا على تأويل ما خفي علمه، و تفسير ما غمض تصوّره و فهمه. و جعلته جامعا بين أقاويل السلف و الخلف، و موضّحا عن المؤتلف و المختلف، و ذاكرا ما سنح به الخاطر من معنى يحتمل.

عبّرت عنه بأنه محتمل، ليتميّز ما قيل مما قلته، و يعلم ما استخرج مما استخرجته» «1».

و يعتبر تفسير الماوردي من أهم كتب التفسير، و قد اهتم به كثير من المفسرين المتأخرين عنه، كابن الجوزي في تفسيره «زاد المسير»، و القرطبي في

(1) النكت و العيون، ج 1، ص 21.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 405

«الجامع لأحكام القرآن».

و مفسرنا هذا لم يأل جهدا في إعمال رأيه و إبداء نظره في شرح معاني الآيات على طريقة تحكيم العقل

الرشيد نافيا أن يكون ذلك من التفسير بالرأي الممنوع؛ حيث يقول:

«تمسّك بعض المتورّعة، ممّن قلّت في العلم طبقته، و ضعفت فيه خبرته، و استعمل هذا الحديث على ظاهره، و امتنع أن يستنبط معاني القرآن باجتهاده، عند وضوح شواهده، إلّا أن يرد بها نقل صحيح، و يدلّ عليها نصّ صريح. و هذا عدول عما تعبّد اللّه تعالى به خلقه في خطابهم بلسان عربي مبين، قد نبّه على معانيه ما صرّح من اللّغز و التعمية، الّتي لا يوقف عليها إلّا بالمواضعة إلى كلام حكيم، أبان عن مراده، و قطع أعذار عباده، و جعل لهم سبلا إلى استنباط أحكامه، كما قال تعالى: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ «1» و لو كان ما قالوه صحيحا، لكان كلام اللّه غير مفهوم، و مراده بخطابه غير معلوم، و لصار كاللّغز المعمّى، فبطل الاحتجاج به، و كان ورود النّص على تأويله مغنيا عن الاحتجاج بتنزيله، و أعوذ باللّه من قول في القرآن يؤدّي إلى التوقف عنه، و يؤول إلى ترك الاحتجاج به» «2».

و قد أخذ ذلك بعضهم عليه، زاعما سدّ باب الاجتهاد في القرآن، تاركا وراءه قوله تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «3»

(1) النساء/ 83.

(2) النكت و العيون، ج 1، ص 34.

(3) محمد/ 24.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 406

التفسير الكبير (مفاتيح الغيب)
اشارة

للإمام فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي، المعروف بابن الخطيب، من أصل طبرستاني، نزل والده الرّي و اشتهر بها. في ظاهره أشعري شافعي المذهب، صاحب تصانيف ممتعة في فنون المعارف الإسلامية، مضطلعا بالأدب و الكلام و الفلسفة و العرفان. قال ابن خلّكان: إن كتبه ممتعة، و قد انتشرت تصانيفه في البلاد، و

رزق فيها سعادة عظيمة، فإن الناس اشتغلوا بها و رفضوا كتب المتقدمين، توفي سنة (606).

و تفسيره هذا من جلائل كتب التفسير، و قد استوفى الكلام فيه، بما وسعه من الاضطلاع بأنحاء المعارف و فنون العلوم، و لم يدع براعته متجوّلة في مختلف مسائل الأصول و الفلسفة و الكلام، و سائر المسائل الاجتهادية النظرية و العقلية، و أسهب الكلام فيها، بما ربما أخرجه عن حدّ الاعتدال. و كثيرا ما يترك وراءه لمّة من تشكيكات و إبهامات بما يعرقل سبيل الباحثين في التفسير، و لكنّه مع ذلك فإنه فتّاح لكثير من مغالق المسائل في أبحاث إسلامية عريقة.

أما منهجه في التفسير، فإنه يذكر الآية أوّلا، و يعقّبها بموجز الكلام عنها بصورة إجمالية، و يذكر أن فيها مسائل، يبحث في كل مسألة عن طرف من شئون الآية: قراءة، و أدبا، و فقها، و كلاما، و ما أشبه من المباحث المتعلقة بتفسير الآية، و يستوفي الكلام في ذلك في نهاية المطاف. و هو من أحسن الأساليب التفسيرية، تتجزّأ المسائل و تتركّز الأبحاث، مفصلة كلّا في محلّها، من غير أن يختلط البحث أو تتشابك المطالب، و من ثمّ لا يترك القارئ حائرا في أمره من البحث الّذي ورد فيه.

و من طريف الأمر أنه لم يجعل لتفسيره مقدمة ليشرح فيها موضعه من

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 407

التفسير، و الغاية التي أقدم لأجلها على كتابة مثل هذا التفسير الضخم، و السفر الجلل العظيم، و كان لا بدّ أن يشرح ذلك. كما لم يذكر منابعه في التفسير، و لا الكتب التي اعتمدها في مثل هذا التصنيف، في حين أنّا نعلم أنه اعتمد خير المؤلفات لذاك العهد، و أحسن المصنفات في ذلك

الزمان، في مثل تفسير أبي مسلم الأصفهاني و الجبّائي و الطبري و أبي الفتوح الرازي، و أمثالهم من مشايخ عظام و علماء أجلّة معروفين حينذاك.

و تفسيره هذا، يغلب عليه اللّون الكلامي الفلسفي، لاضطلاعه بهذين العلمين، و من ثم نجده يكثر الكلام في ذلك كلما أتاحت له الفرصة، فيغتنمها، و يسهب الكلام في مسائل فلسفية بعيدة الأغوار، بما ربما أخرجه عن حدّ تفسير القرآن، إلى مباحث جدلية كلامية، و ربما كانت فارغة.

و هل أكمل تفسيره أم تركه ناقصا ليكمله غيره من تلاميذ و أحفاد، كما قيل؟

قال ابن خلكان: له التصانيف المفيدة في فنون عديدة، منها تفسير القرآن الكريم، جمع فيه كل غريب و غريبة، و هو كبير جدا، لكنه لم يكمله «1».

قال ابن حجر: الّذي أكمل تفسير فخر الدين الرازي، هو أحمد بن محمد بن أبي حزم نجم الدين المخزومي القمولي، المتوفّى سنة (727)، و هو مصري «2».

و قال حاجي خليفة: صنف الشيخ نجم الدين أحمد بن محمد القمولي تكملة له، و قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن خليل الخوئي الدمشقي كمّل ما

(1) وفيات الاعيان، ج 4، ص 249، رقم الترجمة 600.

(2) الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، ج 1، ص 304.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 408

نقص منه أيضا. توفّي سنة (639) «1».

و قال ابن أبي أصيبعة المتوفّى سنة (668) في ترجمة أحمد بن خليل الخوئي: و لشمس الدين الخوئي من الكتب، تتمة تفسير القرآن لابن الخطيب «2».

و أما إلى أيّ موضع بلغ الإمام الرازي من تفسيره ليترك البقية لغيره، فهذا مختلف فيه اختلافا غريبا:

يقول الأستاذ محمد حسين الذهبي: وجدنا على هامش كشف الظنون ما نصّه: «الّذي رأيته بخطّ السيد مرتضى نقلا

عن «شرح الشفا» للشهاب، أنه وصل فيه إلى سورة الأنبياء» «3».

و احتمل بعضهم أنّ الرازي أتمّ تفسيره ما عدا سورة الواقعة؛ حيث فيها بعض التعليق من غيره، مثلا جاء ذيل تفسير قوله تعالى: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ «4» و فيه مسائل، المسألة الأولى أصولية، ذكرها الإمام فخر الدين رحمه اللّه في مواضع كثيرة، و نحن نذكر بعضها «5».

قال الأستاذ الذهبي تعقيبا على هذا الكلام: و هذه العبارة تدلّ على أنّ الإمام الرازي لم يصل في تفسيره إلى هذه السورة «6».

ثم أبدى رأيه في حلّ الاختلاف قائلا: «و الذي أستطيع أن أقوله كحلّ لهذا الاضطراب هو أنّ الإمام الرازي كتب تفسيره إلى سورة الأنبياء، فأتى بعده شهاب

(1) كشف الظنون، ج 2، ص 1756.

(2) عيون الأنباء، ج 2، ص 171. (الرازي مفسّرا لمحسن عبد الحميد، ص 52).

(3) التفسير و المفسرون، ج 1، ص 292.

(4) الواقعة/ 24.

(5) راجع: التفسير الكبير، ج 29، ص 156.

(6) التفسير و المفسرون، ج 1، ص 292.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 409

الدين الخوئي فشرع في تكملة هذا التفسير، و لكنه لم يتمّه، فأتى بعده نجم الدين القمولي فأكمل ما بقي منه. كما يجوز أن يكون الخوئي أكمله إلى النهاية، و القمولي كتب تكملة أخرى غير التي كتبها الخوئي. و هذا هو الظاهر من عبارة كشف الظنون» «1».

قلت: و على ذلك، فإنّ الإمام الرازي لم يبلغ من تفسيره سوى حوالى النصف، الأمر الذي لا يمكن تصديقه، بل الظاهر أنه فسّر القرآن كله حتى آخر سورة منه، نظرا لوحدة الأسلوب و المنهج و القلم و البيان، فضلا عن الشواهد الموفورة، على أنّ الإمام الرازي قد أكمل تفسيره

حتى النهاية، اللّهم إلّا بعض التعليق مما أضيف إليه بعد ذلك، فألحق بالمتن في الاستنساخات المتأخرة.

و نذكر شاهدا على ذلك أنّه عند تفسير الآية رقم (22) من سورة الزمر (رقمها 39 و رقم سورة الأنبياء 21) في تفسير قوله تعالى: أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ «2» يقول: و اعلم أنّا بالغنا في تفسير سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ «3» في تفسير شرح الصدر، و في تفسير الهداية «4».

و أمثال هذه العبارة كثيرة في القسم المتأخر من التفسير.

(1) التفسير و المفسرون، ج 1، ص 293.

(2) الزمر/ 22.

(3) الأنعام/ 125.

(4) راجع التفسير الكبير، ج 26، ص 265- 266.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 410

عنايته بأهل البيت

له عناية خاصة بآل بيت الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يذكرهم بإجلال و إكبار، و يفخّم من شأنهم؛ مما ينبؤك عن ولاء متين بالنسبة إلى العترة الطاهرة، الذين هم عدل القرآن العظيم.

تجده يقول عند الكلام عن الجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم: و أما أنّ علي بن أبي طالب عليه السّلام كان يجهر بالتسمية، فقد ثبت بالتواتر، و من اقتدى في دينه بعليّ بن أبي طالب فقد اهتدى، و الدليل عليه

قوله عليه السّلام: «اللهم أدر الحقّ مع علي حيث دار».

ثم يقول عند ترجيحه للقول بوجوب الجهر: إنّ راوي قولنا عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، و أخيرا يقول: و عمل علي بن أبي طالب عليه السّلام معنا، و من اتّخذ عليّا إماما لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه و نفسه «1».

و من دأبه تعقيب أسماء أئمة أهل البيت ب

«السلام عليهم» كتعقيبه لاسم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قد عرفت تعقيب اسم علي ب «السلام عليه»، و هكذا في تعقيب أسماء سائر الأئمة. هو عند ما يروي عن الإمام جعفر بن محمد، يصفه أولا بلقبه الفخيم «الصادق» ثم يعقبه ب «السلام عليه». قال في تفسير النعيم:

قال جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام: النعيم: المعرفة و المشاهدة، و الجحيم: ظلمات الشهوات «2».

و في كثير من عباراته: محمد عليه السّلام، علي عليه السّلام على سواء، راجع تفسيره

(1) راجع: تفسير سورة الفاتحة، ج 1، ص 204- 207 من التفسير الكبير.

(2) التفسير الكبير، ج 31، ص 85.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 411

لسورة النصر «1». و هكذا نجده يذكر أئمة أهل البيت بإكبار و إجلال، هو عند ما يتعرض لوفرة ذرية الرسول في تفسير سورة الكوثر، يقول: انظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء، كالباقر و الصادق و الكاظم و الرضا عليهم السّلام، و النفس الزكية و أمثالهم «2» و الذي يجلب النظر أنه عقّب أسماء الأئمة الأربعة فقط ب «السلام عليهم»، الأمر الذي يدل بوضوح على مبلغ تشيّعه لآل البيت عليهم السّلام.

هو عند ما يتعرض لآية المتعة من سورة النساء (24) يقول: إنها نسخت في حياة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و يقول: إنا لا ننكر أنّ المتعة كانت مباحة، إنما الذي نقوله:

إنها صارت منسوخة. و يقول بصدد نهي عن عمر عنها: إنه لو كان مراده أنّ المتعة كانت مباحة في شرع محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنا أنهى عنها، لزم تكفيره و تكفير كل من لم يحاربه و ينازعه، و

يفضي ذلك إلى تكفير أمير المؤمنين؛ حيث لم يحاربه و لم يردّ ذلك القول عليه «3».

المقصود من «أمير المؤمنين» هو الإمام علي بن أبي طالب عليه السّلام يصفه بهذا اللقب الفخم أيّام عهد عمر، و يعتقد في شخصيته الكريمة حراسة لدين اللّه و حفظا لحدوده، الأمر الّذي جرى عليه أهل الولاء لهذا البيت الرفيع، و هكذا تعتقد الشيعة الإمامية في أئمتها الأطهار.

و هكذا تمثّله بأبيات شعريّة تنوّه من شأن أهل البيت عليهم السّلام في كثير من مواضع تفسيره، منها: استشهاده بشعر حسان بن ثابت، لغرض بيان أنّ السجدة ليوسف إنما كان من جهة أنهم جعلوه قبلة في سجودهم، و استشهد لذلك بقوله:

(1) التفسير الكبير، ج 32، ص 153.

(2) المصدر، ص 124.

(3) المصدر، ج 10، ص 53- 54.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 412

ما كنت أعرف أنّ الأمر منصرف عن هاشم ثم منها عن أبي الحسن

أ ليس أوّل من صلّى لقبلتكم و أعرف الناس بالقرآن و السنن «1»

و أما ما نجده أحيانا من تحامله على الشيعة و ربما لعنهم بعنوان «الروافض» «2» فلعلّه من عمل النسّاخ؛ إذ لا يليق بقلم كاتب أديب، و علامة أريب أن يهدر في سفه الهذر، من يعن بالحمد لا ينطق بما سفه، و لم يحد عن سبيل الحلم و الأدب.

ذكر عند تفسير آية المودّة نقلا عن صاحب الكشاف

الحديث المعروف: «من مات على حب آل محمد مات شهيدا، ألا و من مات على حب آل محمد مات مغفورا له، ألا و من مات على حب آل محمد مات تائبا، ألا و من مات على حب آل محمد مات مؤمنا، مستكمل الإيمان، ألا و

من مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه: آيس من رحمة اللّه».

قال بعد نقل ذلك: و أنا أقول: آل محمد هم الذين يؤول أمرهم إليه، فكل من كان أمرهم إليه أشدّ و أكمل كانوا هم الآل، و لا شك أنّ فاطمة و عليّا و الحسن و الحسين كان التعلّق بينهم و بين رسول اللّه أشدّ التعلّقات، و هذا كالمعلوم بالنقل المتواتر، فوجب أن يكونوا هم الآل.

و أيضا اختلف الناس في «الآل» فقيل: هم الأقارب، و قيل: هم أمته. فإن حملناه على القرابة فهم الآل، و إن حملناه على الأمّة الذين قبلوا دعوته فهم أيضا آل، فثبت أنّ على جميع التقديرات هم الآل. و أما غيرهم فهل يدخلون تحت لفظ الآل؟ فمختلف فيه!

(1) التفسير الكبير، ج 18، ص 212.

(2) راجع: المصدر، ج 12، ص 21 و 29.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 413

و

روى صاحب الكشاف: أنه لما نزلت هذه الآية قيل: يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ فقال: «عليّ و فاطمة و ابناهما»،

فثبت أن هؤلاء الأربعة أقارب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إذا ثبت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم.

و يدلّ عليه وجوه:

الأول: قوله تعالى: «إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى و وجه الاستدلال به ما سبق.

الثاني: لا شك أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يحبّ فاطمة عليها السّلام

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها».

و ثبت بالنقل المتواتر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه كان يحب عليّا

و الحسن و الحسين، و إذا ثبت ذلك وجب على كل الأمة مثله، لقوله:

وَ اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ «1» و لقوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ. «2» و لقوله: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ. «3» و لقوله سبحانه: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ «4».

الثالث: إن الدعاء «للآل» منصب عظيم، و لذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهّد في الصلاة، و هو

قوله: «اللهم صلّ على محمد و على آل محمد، و ارحم محمدا و آل محمد»

، و هذا التعظيم لم يوجد في حق غير الآل. فكل ذلك يدل على أنّ حبّ آل محمد واجب.

و قال الشافعي رضى اللّه عنه:

(1) الأعراف/ 158.

(2) النور/ 63.

(3) آل عمران/ 31.

(4) الأحزاب/ 21.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 414

يا راكبا قف بالمحصّب من منى و اهتف بساكن خيفها و الناهض

سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى فيضا كما نظم الفرات الفائض

إن كان رفضا حبّ آل محمد فليشهد الثقلان أنّي رافضي «1»

و نقل ابن حجر العسقلاني عن ابن خليل السكوني في كتابه «الرّد على الكشّاف» أنه أسند عن ابن الطباخ: أنّ الفخر كان شيعيّا، يقدّم محبة أهل البيت، كمحبّة الشيعة، حتى قال في بعض تصانيفه: «و كان علي عليه السّلام شجاعا بخلاف غيره» «2».

و قال الطوفي: إنه يورد شبه المخالفين في المذهب، على غاية ما يكون من القوّة و التحقيق، ثم يورد مذهب أهل السنة و الحق على غاية من الوهاء (أو الدهاء). قال: و بعض الناس يتّهمه في هذا، و ينسب ذلك إلى أنه كان ينصر بهذا الطريق، ما يعتقده، و لا يجسر على التصريح به

«3».

و قال الشيخ محمد بهاء الدين العاملي في حوادث شهر شوال، يوم عيد الفطر: «و فيه سنة ست و ستمائة، توفي فخر الدين الرازي، الملقّب بالإمام، و أصله من مازندران، و ولد بالرّيّ، و كان يميل إلى التّشيّع، كما لا يخفى على من تصفّح تفسيره الكبير. و قبره بمدينة هرات» «4».

(1) التفسير الكبير، ج 27، ص 165- 166.

(2) لسان الميزان، ج 4، ص 429.

(3) الإكسير في علم التفسير للطوفي، ص 26. و اللسان، ج 4، ص 428.

(4) راجع: رسالته الوجيزة «توضيح المقاصد»، ص 25، المطبوعة ضمن رسائل باسم «المجموعة النفيسة»، ص 583، من مطبوعات مكتبة المرعشي بقم.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 415

إمام المشككين

و مما اختص به الإمام الرازي خوضه في أنحاء المسائل، من أدب و كلام و فلسفة و أصول، و لكنه لا يخرج منها في الأكثر إلّا و يترك وراءه لمّة من تشكيكات و إبهامات في وجه المسألة، إنه ربما أثار إشكالا أو إشكالات، لكنه لا يجب عليها إلّا إجابات ضعيفة و موهونة، يترك القارئ في حيرة، هل إنّ مثل الإمام الرازي عاجز عن الإجابة لمثل تلكم المسائل، أم هناك تعمّد لغرض تقرير الإشكال حسب نظره؟! المعروف عن الرازي أنه أشعري المذهب في أصول العقيدة، جبريّ ظاهري، لكنه عند عرضه لمسائل الكلام، يقرّر من مذاهب الخلاف بما يضعف به المذهب الأشعري أحيانا، و ربما إلى حدّ الوهن و الافتضاح.

قال نجم الدين الطوفي البغدادي- من أعلام القرن السابع-: و أجمع ما رأيته من التفاسير لغالب علم التفسير كتاب القرطبي، و كتاب «مفاتيح الغيب» للإمام الرازي، و لعمري كم فيه من زلّة و عيب. و حكى لي الشيخ شرف الدين

النصيبي المالكي: أن شيخه الإمام الفاضل سراج الدين المغربي صنّف كتاب «المآخذ على مفاتيح الغيب» و بيّن فيه من البهرج و الزيف في نحو مجلّدين، و كان ينقم عليه كثيرا، خصوصا إيراده شبه المخالفين في المذهب و الدين، على غاية ما يكون من القوّة، و إيراد جواب أهل الحق منها على غاية ما يكون من الدهاء. قال الطوفي: و لعمري إن هذا لدأبه في غالب كتبه الكلامية و الحكمية، كالأربعين، و المحصّل، و النهاية، و المعالم، و المباحث المشرقية، و نحوها. و بعض الناس يتّهمه في هذا و ينسبه إلى أنه ينصر بهذا الطريق ما يعتقده، و لا يجسر على التصريح به.

و قال في سبب ذلك: إنه كان شديد الاشتياق إلى الوقوف على الحق- كما

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 416

صرح به في وصيته التي أملاها عند موته- فلهذا كان يستفرغ وسعه، و يكدّ قريحته في تقرير شبه الخصوم، حتى لا يبقى لهم بعد ذلك مقال، فتضعف قريحته عن جوابها على الوجه، لاستفراغه قوّتها في تقرير الشبه. و نحن نعلم بالنفسية الوجدانية، أنّ أحدنا إذا استفرغ قوّة بدنه في شغل ما من الأشغال، ضعف عن شغل آخر، و قوى النفس على وزان قوى البدن غالبا. و قد ذكر في مقدمة كتاب «نهاية العقول» ما يدل على صحة ما أقول؛ لأنه التزم فيه أن يقرّر مذهب كل خصم، لو أراد ذلك الخصم تقريره، لما أمكنه الزيادة عليه أو أوفى بذلك. و لهذا السبب قرر في كتاب «الأربعين» أدلّة القائلين بالجهة، ثم أراد الجواب عنها، فما تمكن منه على الوجه، فغالط فيه في موضعين قبيحين، ذكرهما في مواضع كثيرة «1».

و مما بحث على أصول مذهبه الأشعري

في ظاهر الأمر ما ذكر عند تفسير الآية إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ «2».

قال: احتج أهل السنة- يعني بهم الأشاعرة- بهذه الآية و كل ما أشبهها من قوله: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ «3»، و قوله: ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً- إلى قوله- سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً «4»، و قوله: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ «5» احتجوا بأمثال هذه الآيات على جواز تكليف ما لا يطاق.

ثم أخذ في تقرير هذا الاحتجاج من وجوه خمسة:

(1) الإكسير في علم التفسير، ص 26- 27. تحقيق عبد القادر حسين.

(2) البقرة/ 6.

(3) يس/ 7.

(4) المدثّر/ 17.

(5) تبت/ 1.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 417

أولا: أنه تعالى أخبر عن أشخاص معيّنين أنهم لا يؤمنون قطّ، فلو صدر منهم الإيمان، لزم انقلاب خبر اللّه تعالى الصدق كذبا.

و ثانيا: أنه تعالى لما علم منهم الكفر، فكان صدور الإيمان منهم مستلزما لانقلاب علمه تعالى جهلا.

و ثالثا: أنّ وجود الإيمان يستحيل أن يوجد مع العلم بعدم الإيمان؛ لأنه إنما يكون علما لو كان مطابقا للمعلوم، و العلم بعدم الإيمان إنما يكون مطابقا لو حصل عدم الإيمان، فلو وجد الإيمان مع العلم بعدم الإيمان، لزم أن يجتمع في الإيمان كونه موجودا و معدوما معا، و هو محال، فالأمر بالإيمان مع وجود علم اللّه تعالى بعدم الإيمان، أمر بالجمع بين الضدّين، بل بالجمع بين العدم و الوجود، و كل ذلك محال.

و رابعا: أنه تعالى كلّف هؤلاء- الذين أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون- بالإيمان البتّه، و الإيمان يعتبر فيه تصديق اللّه تعالى في كل ما أخبر عنه، و مما أخبر عنه أنهم لا يؤمنون قط،

فقد صاروا مكلّفين بأن يؤمنوا بأنهم لا يؤمنون قط، و هذا تكليف بالجمع بين النفي و الإثبات.

و خامسا: أنه تعالى عاب الكفار على أنهم حاولوا فعل شي ء على خلاف ما أخبر اللّه عنه في قوله يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ «1» فثبت أنّ القصد إلى تكوين ما أخبر اللّه تعالى عن عدم تكوينه، قصد لتبديل كلام اللّه، و ذلك منهي عنه. و هاهنا أخبر اللّه تعالى عنهم بأنهم لا يؤمنون البتة، فمحاولة الإيمان منهم تكون قصدا إلى تبديل كلام اللّه، و ذلك منهي عنه. و ترك

(1) الفتح/ 15.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 418

محاولة الإيمان يكون أيضا مخالفة لأمر اللّه تعالى، فيكون الذم حاصلا على الترك و الفعل.

قال: فهذه هي الوجوه المذكورة في هذا الموضع. و هذا هو الكلام الهادم لأصول الاعتزال. و لقد كان السلف و الخلف من المحقّقين معوّلين عليه في دفع أصول المعتزلة و هدم قواعدهم. و لقد قاموا- أي المعتزلة- و قعدوا و احتالوا على دفعه فما أتوا بشي ء مقنع.

هذه هي الوجوه الخمسة التي زعم منها دلائل ثابتة تدعم نظرية أصحابه في جواز التكليف بغير المستطاع، و حسب أنّ خصومهم أصحاب الاعتزال عجزوا عن ردّها مهما أوتوا من حول و قوّة.

في حين أنّ آثار الوهن بادية عليها، لأنّ أساسها العلم الأزلي الإلهي المتعلق بعدم إيمان الكافر الجاحد. و الحال أنّ العلم مهما يكن فإنه ليس سببا لوقوع المعلوم، بل إن وقوع المعلوم في وقته سبب لحصول هذا العلم، فالعلم تبع للمعلوم. فلو فرض أنهم كانوا يؤمنون؛ لكان العلم حاصلا بإيمانهم. فليس العلم القديم أصلا، بل هو فرع تحقّق المعلوم في

حينه المتأخر، كما قال أبو الحسين البصري: إن العلم تبع المعلوم، فإذا فرض الواقع من العبد الإيمان، عرف أن الحاصل في الأزل للّه تعالى هو العلم بالإيمان، و العمدة أن العبد مختار في الكفر و الإيمان، فأي منهما تحقّق منه، علمه اللّه في الأزل، و ليس علمه تعالى سببا قهريّا يسلب عن العبد اختياره في العمل.

و هذا واضح لمن تدبّر، و لا أظنّ خفاءه على مثل الإمام الرازي صاحب الذهنيّة الوقّادة، و لكن تظاهرا بالدفاع عن مذهبه الرسمي المفروض عليه من قبل السلطات، دعاه إلى ذكر مثل هذه الوجوه البادي عليها الضعف و الوهن. و تماشيا

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 419

مع الجوّ الحاكم أجبر على الانسجام مع الوضع الراهن.

و من ثمّ نراه- عند ما يذكر دلائل أصحاب الاعتزال- نراه يذكرها بقوّة و دقّة و إحاطة و تفصيل، بما لا يدع مجالا في إمكان قبول تلكم الوجوه الأشعرية.

ذكر دلائل أهل الاعتزال في ثلاث مقامات، أوّلا: عدم المانع من الإيمان و الكفر، و ثانيا: أن العلم لا يوجب منعا في العمل، الثالث: نقض تلكم الوجوه الخمسة. ذكرهن بإسهاب و تفصيل، نقتطف منها ما يلي:

قال: و أنا أذكر أقصى ما ذكره أصحاب الاعتزال بعونه تعالى و توفيقه. و ذكر وجوها خمسة، في المقام الأول؛ و خلاصتها: أن القرآن مملوء من الآيات الدالّة على أنه لا مانع لأحد من الإيمان، قال تعالى: وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى «1»، و ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا «2»، فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ «3» قال الصاحب ابن عباد: كيف يأمر العبد بالإيمان و قد منعه عنه؟! و ينهاه عن الكفر و قد حمله عليه؟! و أيضا فإنّ

اللّه تعالى قال: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ «4»، و قال: وَ لَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزى «5».

فلما بيّن تعالى أنه ما أبقى لهم عذرا إلّا و قد أزاله عنهم، فلو كان علمه بكفرهم و خبره عن كفرهم مانعا لهم عن الإيمان، لكان ذلك من أعظم الأعذار،

(1) الإسراء/ 94.

(2) النساء/ 39.

(3) الانشقاق/ 20.

(4) النساء/ 165.

(5) طه/ 134.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 420

كما أنّ الذم على الكفر و الجحود، هو خير دليل على اختياريته، و عدم وجود مانع قاهر عن الإيمان.

و ذكر في المقام الثاني وجوها عشرة على أنّ المعلوم لا ينقلب عما هو عليه بسبب العلم؛ لأن العلم إنما يتعلق بالمعلوم على ما هو عليه، فإن كان ممكنا علمه ممكنا، و إن كان واجبا علمه واجبا، و لا شك أنّ الإيمان و الكفر كل واحد بالنظر إلى ذاته ممكن الوجود، فلو صار واجبا بسبب العلم، كان العلم مؤثرا في المعلوم، و هو باطل بالضرورة.

و أيضا فان اللّه تعالى قال: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها «1» و قال: ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «2» و قال: وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ «3» فكيف يكلف اللّه العبيد ما لا يطيقون؟! و في المقام الثالث، نقل عن القاضي عبد الجبار جواب المعتزلة عن الأشاعرة، و تخطئة انقلاب العلم جهلا و الصدق كذبا. قال الكعبي و أبو الحسين البصري: إنّ العلم تبع المعلوم، فإذا فرضت الواقع من العبد الإيمان عرفت أنّ الحاصل

في الأزل للّه تعالى هو العلم بالإيمان، و متى فرضت الواقع منه هو الكفر بدلا عن الإيمان عرفت أنّ الحاصل في الأزل هو العلم بالكفر بدلا عن الإيمان.

فهذا فرض علم بدلا عن علم آخر، لا أنه تغيّر العلم. قال الإمام الرازي: فهذا الجواب هو الّذي اعتمده جمهور المعتزلة.

قلت: و قد عرفت قوّة استدلالهم، و ضعف دلائل خصومهم، غير أنّ الإمام

(1) البقرة/ 286.

(2) الحج/ 78.

(3) الأعراف/ 157.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 421

الرازي ترك وهن تلك الوجوه و قوّة هذه الدلائل بمعرض القارئ و مسمعه، ليحكم هو حسب ذهنيّته الفطريّة الحاكمة بأنّ العبد مختار في فعله. و اللّه تعالى لا يكلّف بما لا يستطاع، الأمر الذي يجعل من دلائل أهل الاعتزال هي الكفّة الراجحة، و هذا شي ء فعله الإمام الرازي، عن حسن نية و عن عمد فعله- حسب الظاهر- إذ الظاهر أنه ليسي ء الظن بمذاهب أصحابه الأشعريين.

و مما يدلك على ذلك، أنه لم يطعن في دلائل أهل الاعتزال، و ذكرها تامة وافية، كما هي عادته في كل أمر يعتقده صحيحا.

ثم إنه بعد إيراد دلائل الطرفين، أورد شبهاته في المسألة و ذكر مقالات تشكيكيّة، و أسندها إلى أهل التشكيك، ممن فرضهم أهل العناد في مسائل الكلام.

قال: و اعلم أنّ هذا البحث صار منشأ لضلالات عظيمة، فمنها: أنّ منكري التكاليف و النبوّات قالوا: قد سمعنا كلام أهل الجبر- يعنى بهم الأشاعرة- فوجدناه قويّا قاطعا. و هذان الجوابان اللذان ذكرهما المعتزلة يجريان مجرى الخرافة، و لا يلتفت العاقل إليهما! و سمعنا كلام المعتزلة في أنّ مع الجبر يقبح التكليف، و الجواب الذي ذكره أهل الجبر ضعيف جدا، فصار مجموع الكلامين كلاما قويّا في نفي

التكاليف، و متى بطل ذلك بطل القول بالنبوّات.

هكذا يلقي التشكيك، عند عرض الآراء، سواء المخالف أم المؤالف.

ثم يذكر مطاعن أخر وجّهها الطاعنون في القرآن و في الإسلام، على أثر هذه المناظرة بين أهل الجبر و القدر، و يستنتج: أنّ الرجوع إلى العقليّات يورث الكفر و الضلال، و لهذا قيل: من تعمّق في الكلام تزندق.

ثم يذهب في تشكيكاته حيث يشاء، و يذكر في أثنائها حكاية طريفة

يرويها

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 422

عن ابن عمر، أنّ رجلا قام إليه فقال: يا أبا عبد الرحمن إنّ أقواما يعملون الكبائر و يقولون: كان ذلك في علم اللّه فلم نجد بدّا منه. فغضب و قال: سبحان اللّه، قد كان في علمه أنهم يفعلونها، فلم يحملهم على اللّه على فعلها. حدّثني أبي أنه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: مثل علم اللّه فيكم كمثل السماء التي أظلّتكم، و الأرض التي أقلّتكم. فكما لا تستطيعون الخروج من السماء و الأرض، فكذلك لا تستطيعون الخروج عن علم اللّه تعالى، و كما لا تحملكم السماء و الأرض على الذنوب، فكذلك لا يحملكم علم اللّه تعالى عليها.

و المقصود: أن علمه تعالى الأزلي محيط بأفعال العباد، و لكن من غير أن يكون علمه تعالى سببا و علّة في إيجادها؛ لأنّ علمه تعالى السابق، تبع لعمل العبد اللّاحق، فكيفما يعمل يعلمه تعالى من غير أن يكون هذا العلم مؤثرا في إرادة العبد.

و هذا المعنى الواضح، لم يدركه مثل الإمام الرازي؟ و لعلّه تظاهر بعدم الفهم! قال تعقيبا على هذه الحكاية: إنّ في الأخبار التي يرويها الجبرية و القدرية كثرة، و الغرض من رواية هذا الحديث بيان أنّه لا يليق بالرسول صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم أن يقول مثل ذلك؛ لأنه متناقض و فاسد، أما المتناقض فلأنّ الصدر يدل على الجبر، و الذيل صريح في القدر. و أما أنه فاسد فلأن العلم بعدم الإيمان و وجود الإيمان متنافيان، فالتكليف بالإيمان مع وجود العلم بعدمه تكليف بالجمع بين النفي و الإثبات «1».

قلت: و لعل إمامنا الرازي طاعن في ضلاله القديم أو متظاهر بذلك.

و من ذلك أيضا، ما ذكره عند تفسير قوله تعالى:

(1) راجع: التفسير الكبير، ج 2، ص 42- 47.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 423

قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ «1».

قال: احتج أصحابنا بهذه الآية في بيان أنه لا يجب على اللّه رعاية مصالح العبد في دينه و لا في دنياه، و تقريره: أن إبليس استمهل الزمان الطويل فأمهله اللّه تعالى، ثم بيّن أنه إنما استمهله لإغواء الخلق و إضلالهم و إلقاء الوساوس في قلوبهم، و كان تعالى عالما بأنّ أكثر الخلق يطيعونه و يقبلون وسوسته، كما قال تعالى: وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «2» فثبت بهذا أن إنظار إبليس و إمهاله هذه المدّة الطويلة يقتضي حصول المفاسد العظيمة و الكفر الكبير، فلو كان تعالى مراعيا لمصالح العباد لامتنع أن يمهله و أن يمكّنه من هذه المفاسد، فحيث أنظره و أمهله، علمنا أنه لا يجب عليه شي ء من رعاية المصالح أصلا.

و مما يقوي ذلك أنّه تعالى بعث الأنبياء دعاة إلى الخلق، و علم من حال إبليس أنه لا يدعو إلّا إلى الكفر و الضلال، ثم إنه تعالى أمات الأنبياء الذين هم الدعاة للخلق، و أبقى إبليس و

سائر الشياطين الذين هم الدعاة للخلق إلى الكفر و الباطل، و من كان يريد مصالح العباد امتنع منه أن يفعل ذلك.

قالت المعتزلة: اختلف شيوخنا في هذه المسألة، فقال الجبّائي: إنه لا يختلف الحال بسبب وجوده و عدمه، و لا يضلّ بقوله أحد إلّا من لو فرضنا عدم إبليس لكان يضلّ أيضا. و الدليل عليه قوله تعالى:

(1) الأعراف/ 14- 16.

(2) سبأ/ 20.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 424

ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ «1»؛ و لأنه لو ضلّ به أحد لكان بقاؤه مفسدة. و قال أبو هاشم: يجوز أن يضلّ به قوم، و يكون خلقه جاريا مجرى خلق زيادة الشهوة، فإنّ هذه الزيادة من الشهوة لا توجب فعل القبيح إلّا أنّ الامتناع منها يصير أشقّ، و لأجل تلك الزيادة من المشقّة تحصل الزيادة في الثواب، فكذا هنا بسبب إبقاء إبليس يصير الامتناع من القبائح أشدّ و أشقّ، و لكنه لا ينتهي إلى حد الإلجاء و الإكراه.

و أجاب الرازي: أن الشيطان لا بدّ أن يزيّن القبائح، و معلوم أن حال الإنسان مع هذا التزيين لا يكون مساويا مع عدمه. فحصول هذا التزيين يوجب الإقدام على القبائح، و هو إلقاء في المفسدة. و مسألة الزيادة في الشهوة حجة أخرى لنا في أنّ اللّه لا يراعي مصلحة العباد بسبب خلق تلك الزيادة في شهوة الإنسان، و حصول الزيادة في الثواب لا حاجة إليه؛ حيث دفع العقاب المؤبّد من أعظم الحاجات، فلو كان إله العالم مراعيا لمصالح العباد لاستحال أن يهمل الأكمل الأعظم؛ لطلب الزيادة التي لا حاجة إليها و لا ضرورة «2».

انظر كيف فضح أصحابه بهذا النمط من البحث، و الخوض في مسألة

تمسّ جانب حكمته تعالى، فينفي كونه تعالى حكيما لا يفعل إلّا عن مصلحة، و المصلحة التي يراعيها الخالق تعالى إنما تعود إلى العباد أنفسهم؛ حيث في ذاته تعالى الغناء المطلق. كما أنه يتنافى و قاعدة اللّطف الناشئة عن مقام حكمته تعالى، بفعل ما يقرّب العباد إلى الطاعة، و يبعّدهم عن المعصية. و هو أساس التشريع و بعث الأنبياء و إنزال الكتب، الأمر الذي يعترف به الإمام الرازي.

نعم لا شك أنه تعالى حكيم لا يفعل إلّا عن مصلحة تعود إلى العباد أنفسهم؛

(1) الصافات/ 162- 163.

(2) التفسير الكبير، ج 14، ص 39- 40.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 425

حيث إنه تعالى غنيّ بالذات.

قال تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ- إلى قوله- رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً «1».

فقد كان اللّه تعالى عزيزا لا يغالب على أمره، لكنّه لا يفعل إلّا ما تقتضيه حكمته، مراعيا فيها مصلحة العباد. فقد كان في مصلحتهم بعث الرسل و الأنبياء و إنزال الشرائع، و كان في طبيعتهم اقتضاء ذلك. فقد أجاب طلبهم اتماما للحجّة عليهم، فلا تكون للناس على اللّه حجّة بعد الرسل.

و قد جاء في القرآن حوالي ثمانين موضعا، جاء التصريح فيها بأنه تعالى حكيم عليم، و حكيم خبير، و عزيز حكيم؛ مما ينبؤك عن علم و حكمة لا يفعل شيئا إلّا عن إحاطة و قدرة و حكمة شاملة.

و أما مسألة خلق إبليس و إمهاله و تسليطه على إغواء الناس، فهذا أمر يعود إلى مصلحة النظام القائم في الخلق، لا شي ء إلّا و هو واقع بين قطبين: سلب و إيجاب، جذب

و دفع؛ و بذلك استوى الوجود. فلولا دوافع الشرور، لم يكن في الاندفاع نحو المطلوب الخير كثير فضل، بل لم يكن هنا اندفاع نحو الخير؛ حيث لا دافع إلى الشرّ.

فالإنسان واقع بين دوافع الخير و دوافع الشر على سواء، و هو مختار في الانجذاب إلى أيهما شاء، و يملك قدرته في الاختيار و عقله و إرادته التامّة في اختيار الخير أو الشر. فإذا اختار الخير فعن إرادته و تحكيم عقله فكانت فضيلة، و إذا اختار الشر فعن إرادته و الاستسلام لهوى نفسه فكانت رذيلة. و لا فضيلة

(1) النساء/ 163- 165.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 426

و لا رذيلة إلّا إذا كانت هنا دوافع للخير و للشر معا، و كان الإنسان يملك إرادته في الاختيار.

أما الشيطان فلا سلطة له على الإنسان سوى دعوته و بعثه إلى فعل الشرور وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي «1»، نعم كان كيد الشيطان ضعيفا «2». و أن اللّه لهو القوي العزيز «3» كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ «4»، إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا «5».

و عند تفسير قوله تعالى: وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ «6».

نراه يبحث عن مسائل الإمامة على مذهب الشيعة الإمامية، و اشتراطهم العصمة في إمام المسلمين، و يذكر حججهم القاطعة في المسألة، ثم يجيب عليها لا بتلك القوة و المتانة.

قال عند الكلام عن قوله تعالى: قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ: احتج الروافض بهذه الآية على القدح في إمامة الشيخين؛ حيث كانا كافرين و كانا حال

كفرهما ظالمين؛ لأن الشرك ظلم عظيم. فوجب أن يصدق عليهما في تلك الحالة:

أنهما لا ينالان عهد الإمامة البتة، و أيضا فإنهما لعدم عصمتهما حال الإمامة، كانا غير صالحين لها.

(1) إبراهيم/ 22.

(2) قال تعالى: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً، النساء/ 76.

(3) قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ- هود/ 66»

(4) المجادلة/ 21.

(5) غافر/ 51.

(6) البقرة/ 124.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 427

ثم حاول الإجابة على ذلك من وجهين: أحدهما: أنّ الاستدلال مبتن على كون المشتق حقيقة فيمن انقضى عنه المبدأ، كما هو حقيقة فيمن تلبّس. و ليس الأمر كذلك؛ لأن المشتق حقيقة فيمن تلبّس باتّفاق الأصوليين؛ و لا يصدق على من انقضى عنه المبدأ. و الثاني: أن المراد بالإمامة هنا هي النبوّة، فمن كفر باللّه طرفة عين فإنه لا يصلح للنبوّة «1».

لكن استدلال الإمامية لا يتوقّف على كون المشتق حقيقة في الأعم ممن تلبّس أو انقضى عنه المبدأ، بل كما صرّح هو أيضا: إنه في حال التلبّس يتوجّه الخطاب بعدم اللّياقة. و النفي تأبيد شمل الظالم و وصمه بوصمة العار: أنّه غير صالح للإمامة أبدا. و من ثمّ فإن الكافر لا يصلح للنّبوّة حتى و لو تاب و آمن، و لا دليل عليه سوى شمول هذه الآية، حسبما صرّح به الرازي نفسه. إذن فالآية صالحة لسلب الصلاحيّة أبدا عمّن كفر و أشرك باللّه طرفة عين.

فمن كفر باللّه و أشرك فقد ظلم ربّه و ظلم نفسه، و الظالم مسلوب الصلاحية أبدا، حتى بعد توبته و إيمانه أيضا؛ إذ يتوجّه إليه حينذاك- أي حين ظلمه-:

لا ينالك عهدي أيّها الظالم الخائن لربّه. و هو نفي تأبيد مترتّب على ظلم، صادر من المكلّف.

و هذا من خاصية الظلم؛ حيث يترتب عليه حكم عام، نظير السرقة يترتّب عليها حكم القطع، فيجب إجراؤه سواء حال سرقته أم بعدها. نعم إذا تاب السارق قبل إمكان القبض عليه، فإنه يسقط حكم القطع، و لكنه بدليل خاص، و إلّا كان الحكم ثابتا على عمومه.

و مسألتنا الحاضرة من هذا القبيل، أي من قبيل السرقة و الزنى و شرب الخمر، يثبت أحكامها بمجرد الصدور و صدق الموضوع خارجا، و يدوم حتى

(1) التفسير الكبير، ج 4، ص 45- 50.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 428

الإجراء.

فقوله تعالى: الظالم لا يناله عهدي، نظير قوله: السارق تقطع يده، و الزاني يجلد، و الشارب يحدّ، يجري الحكم بعد انقضاء المبدأ، و لا يختص بحال التلبّس.

و الإمامة- هنا- شي ء وراء النبوّة، و هو القدوة للناس، التي ليست سوى إمامة الأمّة مطلقة؛ لأن هذه الإمامة إنما جاءت إبراهيم، حال كونه نبيّا، فهي رتبة الإمامة جاءته بعد النبوّة، و من ثم فإنها تشمل الخلافة التي هي إمامة عامة.

و إذا كانت الإمامة بهذا المعنى لا تنال من كفر باللّه طرفة عين، فلا يصلح للإمامة إلّا من كان معصوما من الخطأ و الزلل.

و دليل آخر تمسّك به الإمامية، أغفله الرازي، و هو: أنّ هذه الآية نفت صلاحية من كان يظلم نفسه، و لو بارتكاب الكبائر، غير الكفر و الشرك. فمن يحتمل في شأنه ارتكاب المعصية- أي لم يكن معصوما- لم يطمئن خروجه عن شمول الآية بنفي لياقة الإمامة.

و من ثم فإنه يشترط في الإمام سواء النبي أم خليفته أن يكون معصوما.

مباحث تافهة

و هناك تجد في هذا التفسير الضخم الفخم بعض أبحاث تافهة، لا تمسّ مسائل الإنسان في الحياة، و لا تفيده علما

و لا عملا، تعرّض لها الإمام الرازي، و أظنه قد تفكّه بها، و لم يردها عن جدّ عقلاني، هذا فضلا عن تلكم المجادلات العنيفة التي أضاع بها كثيرا من صفحات تفسيره، و لقد كان الكفّ عنها أجدر.

من ذلك تفصيله الكلام حول مسألة تافهة للغاية، و هي: المسألة السادسة،

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 429

في أنّ السماء أفضل أم الأرض؟! و يأتي لتفضيل كل منهما بوجوه «1».

و هكذا عند تفسير قوله: «السماء بناء» يأتي في المسألة الثانية بفضائل السماء من وجوه خمسة. ثم يأتي في المسألة الثالثة بفضائل السماء، و بيان فضائل ما فيها من الشمس و القمر و النجوم، و يذكر لكل منها وجوها من فضائل «2».

و بهكذا أمور لا طائل تحتها يسوّد كثيرا من صفحات تفسيره، الأمر الذي يدلّ على فراغ و جدة كان يتمتع بهما مفسّرنا الخبير.

و ربما يردّ المسائل، هي بالهزل أشبه منه إلى الجدّ مما لا يتناسب و مقام علميته الرفيعة.

مثلا: عند تفسير قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «3» يحاول توجيه نزول القرآن في شهر رمضان- ليلة القدر- نزوله الدفعي جملة إلى سماء الدنيا، ثم نزوله التدريجي إلى الأرض نجوما. يقول: إنما جرت الحال على ذلك لما علمه اللّه من المصلحة، فإنه لا يبعد أن يكون للملائكة الذين هم سكّان سماء الدنيا مصلحة، أو كان فيه مصلحة للرّسول عليه السّلام في توقّع الوحي من أقرب الجهات، أو كان فيه مصلحة لجبرئيل؛ حيث كان هو المأمور بإنزاله و تأديته «4».

(1) حول الآية رقم (20) من سورة البقرة، التفسير الكبير، ج 2، ص 105- 106.

(2) المصدر، ج 2، ص 106- 109.

(3) البقرة/ 185.

(4) التفسير الكبير،

ج 5، ص 93.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 430

تفسير البيضاوي (أنوار التنزيل و أسرار التأويل)

المؤلف هو القاضي ناصر الدين أبو الخير، عبد اللّه بن عمر بن محمد بن علي، البيضاوي الشافعي، نسبة إلى بيضاء، مدينة كانت مشهورة بفارس، بينها و بين شيراز ثمانية فراسخ، ولي قضاء شيراز، و كان إماما بارزا نظّارا خيّرا كما قال السبكي توفّي سنة (685). له مصنفات جيّدة أهمها هذا التفسير الذي اعتمد فيه على تفسير «الكشاف» للزمخشري.

و هو تفسير جيّد لطيف، جمع فيه بين حسن العبارة و قوّة البيان، و من ثم اعتمده كثير من المفسرين، كالمولى الفيض الكاشاني في تفسيره الصافي، و له نظرات و آراء دقيقة في حلّ معضلات الآيات، هو عند تفسير قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ من سورة الحمد، ينوّع الهداية إلى مراحل أربعة، مترتّبة بعضها إثر بعض، فإنما يسأل العباد النيل إلى مراتب أعلى من هداية اللّه للعباد.

و هذا تفسير طريف يوجّه سؤال الهداية في أمثال هذه الآية، ربما لم يسبقه إليه أحد من المفسرين.

يقال: إنه أشعري المسلك، و من ثم إنه أخذ من تفسير الكشاف كثيرا، لكنه ترك ما فيه من اعتزال، و هذا غير صحيح؛ لأنه يذهب في تفسيره مذهب أهل العدل و التنزيه، و من ثم نراه يؤوّل كثيرا من ظواهر آيات تنافي دليل العقل.

مثلا عند تفسير قوله تعالى الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ «1» وجدناه يقول: إلّا قياما كقيام المصروع، و هو وارد على ما يزعمون أنّ الشيطان يخبط الإنسان فيصرع. ثم يفسّر «المس» بالجنون، و يقول: و هذا أيضا من زعماتهم أنّ الجنّي يمسّ الرجل فيختلط

(1) البقرة/ 275.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 431

عقله «1».

و هذا الذي مشى عليه موافق مع مذهب الاعتزال الذي مشى عليه الزمخشري من أنّ الجن لا تسلّط لها على الإنسان، فيما عدا الوسوسة و الإغواء؛ حيث قوله تعالى حكاية عن إبليس في مشهد القيامة: وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي «2» و قوله تعالى: وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ «3».

و هذا التفسير كما ذكرنا مختصر من تفسير «الكشاف» للزمخشري و قد استمدّ أيضا من «التفسير الكبير» للإمام الرازي، و من «تفسير الراغب» الأصفهاني، و ضم إلى ذلك بعض الآثار الواردة عن الصحابة و التابعين، لكنه أعمل فيه عقله، فضمّنه نكتا بارعة، و لطائف رائعة، و استنباطات دقيقة، كل هذا في أسلوب رائع موجز، و عبارة تدق أحيانا و تخفى إلّا على ذي بصيرة ثاقبة، و فطنة نيّرة. و هو يهتمّ أحيانا بذكر القراءات، و ربما ذكر الشواذ أيضا، كما أنه يعرض للصناعة النحوية، و لكن بدون توسع و استفاضة، كما أنه يتعرّض عند آيات الأحكام لبعض المسائل الفقهية بدون توسّع منه في ذلك.

و مما يمتاز به البيضاوي في تفسيره أنه مقلّ جدا من ذكر الروايات الإسرائيلية، و هو يصدر الرواية بقوله: روي أو قيل، إشعارا منه بضعفها.

ثم إنه إذا عرض للآيات الكونية، فإنه لا يتركها بدون أن يخوض في مباحث

(1) البيضاوي، ج 1، ص 267.

(2) إبراهيم/ 22.

(3) سبأ/ 21.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 432

الكون الطبيعية، و لعل هذه الظاهرة سرت إليه عن طريق «التفسير الكبير» للإمام الرازي.

و إليك من نصّ عبارته الشارحة لمنهجه في التفسير، و المبيّنة للمصادر التي اعتمدها أو اختصرها في تفسيره، قال في مقدّمة تفسيره:

«و

لطالما أحدّث نفسي بأن أصنّف في هذا الفنّ- أي التفسير- كتابا يحتوي على صفوة ما بلغني من عظماء الصحابة، و علماء التابعين، و من دونهم من السلف الصالحين. و ينطوي على نكات بارعة و لطائف رائعة، استنبطتها أنا و من قبلي من أفاضل المتأخرين، و أماثل المحققين، و يعرب عن وجوه القراءات المشهورة المعزيّة إلى الأئمة الثمانية المشهورين، و الشواذ المروية عن القراء المعتبرين».

و يقول في خاتمة الكتاب ما نصه: «و قد اتفق إتمام تعليق سواد هذا الكتاب المنطوي على فرائد فوائد ذوي الألباب، المشتمل على خلاصة أقوال أكابر الأئمة، و صفوة آراء أعلام الأمّة، في تفسير القرآن و تحقيق معانيه، و الكشف عن عويصات ألفاظه و معجزات مبانيه، مع الإيجاز الخالي عن الإخلال، و التلخيص العاري عن الإضلال ...».

يقول عنه صاحب كشف الظنون: «و تفسيره هذا كتاب عظيم الشأن، غني عن البيان، لخّص فيه من «الكشاف». ما يتعلق بالإعراب و المعاني و البيان، و من «التفسير الكبير» ما يتعلق بالحكمة و الكلام، و من «تفسير الراغب» ما يتعلق بالاشتقاق و غوامض الحقائق و لطائف الإشارات. و ضم إليه ما وري زناد فكره من الوجوه المعقولة، فجلا رين الشك عن الصريرة، و زاد في العلم بسطة

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 433

و بصيرة ...» «1».

غير أننا نجد البيضاوي قد وقع فيما وقع فيه «الكشاف» و غيره من المفسرين، من ذكرهم في نهاية كل سورة حديثا أو أحاديث في فضلها و فضل قارئها، و قد عرفنا قيمة هذه الأحاديث، و إنها موضوعة باتفاق أهل الحديث.

و لسنا نعرف كيف اغتر بها أمثال البيضاوي فرواها، و تابع الزمخشري و أمثاله في ذكرها، مع ما لهم من مكانة

علمية و حصانة عقل و دراية.

و قد اعتذر عنه صاحب كشف الظنون بقوله: «و أما أكثر الأحاديث التي أوردها في أواخر السور، فإنه لكونه ممن صفت مرآة قلبه، و تعرّض لنفحات ربه، تسامح فيه، و أعرض عن أسباب التجريح و التعديل، و نحا نحو الترغيب و التأويل، عالما بأنها مما فاه صاحبه بزور و دلّى بغرور ...» «2». لكنه اعتذار غير عاذر.

ثم إنّ هذا الكتاب رزق بحسن القبول عند الجمهور، فعكفوا عليه بالدرس و التحشية، فمنهم من علّق تعليقة على سورة منه، و منهم من حشّى تحشية تامة، و منهم من كتب على بعض مواضع منه.

تفسير النسفي (مدارك التنزيل و حقائق التأويل)

تأليف أبي البركات، عبد اللّه بن أحمد بن محمود النسفي، نسبة إلى «نسف» من بلاد ماوراء النهر «3». كان إمام زمانه، رأسا في الفقه على المذهب الحنفي، بارعا

(1) كشف الظنون لحاجي خليفة، ج 1، ص 187.

(2) المصدر، ص 188.

(3) نسف معرّب «نخشب» ببلاد السند، بين جيحون و سمرقند.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 434

في الحديث و التفسير، و له تصانيف في الفقه و الأصول، و منها هذا التفسير الذي اختصره من «تفسير البيضاوي» و من «الكشاف» للزمخشري، جمع فيه من وجوه الإعراب و القراءات، و ضمّنه ما اشتمل عليه «الكشاف» من النكت البلاغية و المحسنان البديعية، و أورد فيه ما أورده الزمخشري من الأسئلة و الأجوبة، لكن لا صريحا بل مدرجا ضمن شرحه للآية. توفّي سنة (701 ه ق)، و دفن بأيذج- وزان أحمد معرّب «ايذه»- بلدة بين أهواز و أصفهان، من محافظة خوزستان.

و هناك تفسير آخر بهذا الاسم، لأبي حفص نجم الدين عمر بن محمد النسفي الحنفي أيضا، توفيّ سنة (538 ه ق) و

قد طبع هذا التفسير أيضا في مجلّدين. و له ترجمة للقرآن بالفارسية، طبعت سنة (1353 ش) بتصحيح الدكتور عبد اللّه الجويني. و النسفيون كثيرون، غير أنّ المعروف منهم هما هاذان المفسران.

تفسير أبي السعود (إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم)

لأبي السعود محمد بن محمد بن المصطفى العمادي، توفي سنة (982). كان من العلماء الترك و لازم السلطان سليمان القانوني، و تقلّد القضاء، و أنيط إليه الافتاء سنة (952). كان حاضر الذهن، سريع البديهة، يكتب باللّغات العربية و الفارسية و التركية، و قد مكّنت له معرفته بهذه اللغات الاطلاع على الكثير من المؤلفات.

كان منهوما بتدريس «الكشاف» و «البيضاوي» معجبا بهما، و من ثم وضع

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 435

تفسيره على منوالهما، فجاء صورة أخرى عنهما مع تغييرات يسيرة. و مع ذلك فهو من أجود التفاسير المشتملة على النكات الأدبية و الدقائق البلاغية، فكان غاية في حسن الصوغ و جمال التعبير، و من ثم ذاعت شهرته بين أهل العلم، و شهد له كثير من العلماء بأنه من خير التفاسير.

و المطالع في تفسيره هذا يجده لا بالطويل المملّ، و لا بالقصير المخلّ، وسطا مشتملا على لطائف و نكات، و فوائد و إشارات.

و من مميّزات هذا التفسير إقلاله من القصص الإسرائيلية، و إن ذكر منها شيئا فإنّه يذكره مضعّفا له أو منكرا، و مبيّنا منشأ بطلانه و ذلك كما صنع في قصّة هاروت و ماروت؛ حيث فنّد ما جاء حولها من أساطير إسرائيلية، و لهذا نراه قد صنّف فيها رسالة خاصة و بيّن فيها جهات ضعفها. و مع ذلك نجده لم يخل من قصص إسرائيلية، كما نجده في قصة داود و أوريا، و الخرافات التي حيكت حولها، و قد زعم المؤلف: أن ذلك كان

جائزا في شريعة داود «1». هكذا يبرّر من غير تبرير. و هو أشعري في مسلكه، و يفسّر الآيات في ضوء ذاك المذهب البائد.

تفسير الآلوسي (روح المعاني)

للسيد محمود أفندي الآلوسي البغدادي المتوفّى سنة (1270). كان شيخ علماء الأحناف ببغداد، جمع بين المعقول و المنقول، حسبما أوتي من حظ عظيم في التوسع و التتبّع. كان عالما بمبادئ الأصول و الفروع، محدّثا و مفسرا خبيرا.

و كان ذا حافظة غريبة، كان لا يحفظ شيئا إلّا و قد حضره. كان يقول: ما استودعت ذهني شيئا فخانني. تقلّد إفتاء الحنفية سنة (1242)، و تولّى أوقاف مدرسة

(1) راجع: القصة في تفسير أبي السعود، ج 7، ص 222.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 436

المرجانية ببغداد. و في سنة (1263) انفصل عن منصب الإفتاء و بقي مشتغلا بتفسير القرآن، حتى أتمّه، و سافر به إلى القسطنطينية، ليعرض تفسيره على السلطان عبد المجيد خان، لينال إعجابه و رضاه.

و تفسيره هذا جامع لآراء السلف و أقوال الخلف، مشتملا على مقتطفات كثيرة من تفاسير من تقدّمه، كتفسير ابن عطية، و تفسير أبي حيان، و تفسير الكشاف، و أبي السعود، و ابن كثير، و البيضاوي، و الأكثر من الفخر الرازي.

و ربما نقد المنقول من هذا التفسير، و لكن قليلا.

و هو في تفسيره يتعصّب للمذهب السلفي أصولا و فروعا، باد عليه تعصّبه، و لذلك نراه لم يراع أدب الكتابة في كثير من الأحيان.

مثلا عند تفسيره لقوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ «1». يقول بعد كلام طويل و لجاج عنيف: و إضافته- أي الطغيان- إليهم؛ لأنه فعلهم الصادر منهم، بقدرهم المؤثرة بإذن اللّه تعالى، فالاختصاص المشعرة به الإضافة، إنما هو بهذا الاعتبار، لا باعتبار المحلية و

الاتّصاف، فإنه معلوم لا حاجة فيه إلى الإضافة، و لا باعتبار الإيجاد استقلالا من غير توقّف على إذن الفعّال لما يريد، فإنه اعتبار عليه غبار، بل غبار ليس له اعتبار.

فلا تهولنّك جعجعة الزمخشري و قعقعته «2».

و هو تفسير فيه تفصيل و تطويل، و أحيانا بلا طائل. إنه يستطرد إلى الكلام في الصناعة النحويّة، و يتوسّع في ذلك ربّما إلى حدّ يكاد يخرج به عن وصف

(1) البقرة/ 15.

(2) روح المعاني، ج 1، ص 148.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 437

كونه مفسرا. قال الذهبي: و لا أحيلك على نقطة بعينها، فإنه لا يكاد يخلو موضع من الكتاب من ذلك «1».

و هكذا يستطرد في المسائل الفقهية مستوعبا آراء الفقهاء و مناقشاتهم بما يخرجه عن كونه كتاب تفسير إلى كتاب فقه. أمّا المسائل الكلامية فحديثه عنها مسهب مملّ لا يكاد يخرج من التعصب في الغالب.

كما لم يفته أن يتكلّم عن التفسير الإشاري، بعد الفراغ عن الكلام في تفسير الظاهر من الآيات، و هو في ذلك يعتمد التفسير النيسابوري و القشيري و ابن العربي و أضرابهم، و ربّما يتيه في وادي الخيال.

و جملة القول فهذا التفسير موسوعة تفسيرية مطوّلة تطويلا يكاد يخرجه عن مهمته التفسيرية في كثير من الأحيان. فتفسير الآلوسي هذا هو أوسع تفسير ظهر بعد الرازي على الطريقة القديمة، بل هو نسخة ثانية من تفسير الرازي مع بعض التغيير- ليس بالمهم- إذ كل من قرأ تفسير الآلوسي يجده معتمدا تفسير الرازي كل الاعتماد، و كان مصدره الأول من مصادره في التفسير، كما قال الأستاذ عبد الحميد «2».

تفسير البلاغي (آلاء الرحمن)

للإمام المجاهد و العلّامة الناقد الشيخ محمد جواد البلاغي النجفي. ولد سنة (1282) و توفّي سنة (1352

ه). كان- رحمه اللّه- قد قضى حياته الكريمة في

(1) التفسير و المفسرون، ج 1، ص 358.

(2) الرازي مفسرا لعبد الحميد، ص 170.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 438

النضال و الدفاع عن حامية الإسلام، قلما و قدما «1». و له في كلا المجالين مواقف مشهودة. و مصنفاته في الدفاع عن حريم الإسلام معروفة. منها: «الرحلة المدرسية»، في ثلاثة أجزاء، حاول فيها الرد على شبه المسيحيّين ضدّ الإسلام. و منها: «الهدى إلى دين المصطفى»، دافع فيه عن كرامة القرآن العتيدة في جزءين كبيرين. و غيرهما من كتب و رسائل عنيت بأهمّ المسائل الإسلاميّة العريقة.

و هذا التفسير من أفضلها؛ حيث كان من آخر تآليفه، فكان أدقّها و أمتنها.

سوى أنه من المؤسف جدّا إذ لم يمهله الأجل، فقضى نحبه عند بلوغه لتفسير قوله تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا «2». فأكمل تفسير الآية و لحق بجوار ربّه الكريم ليوفّيه أجره حسبما وعد في الآية، و الكريم إذا وعد وفى.

و كان شيخنا العلامة البلاغي عارفا باللغات العبريّة و الإنجليزيّة و الفارسيّة الى لغته العربيّة. مجيدا فيها، مما ساعده على مراجعة أهم المصادر للتحقيق عن

(1) شارك في حركة العراق الاستقلاليّة ضد الإنجليز، في ثورة (1920 م) الدّامية.

(2) الآية رقم 57 من سورة النساء.

لكن هنا للأستاذ الذهبي إساءة تعبير بشأن هذا المفسّر الجليل، ينبؤك عن خبث طويّة.

يقول في صفافته: «و ينتهى تفسير البلاغي عند قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً ... (التفسير و المفسرون، ج 2، ص 44).

و لعلّ القضاء صبّ عليه البلاء (عام

1977 م) حيث هلاكه في شرّ قتلة مغبّة تجاسره على أمثال هذا العبد الصالح الذي قضى حياته في الدفاع عن حريم الإسلام. لكن شيخنا البلاغي عمل عمله للّه، فكان مصداقا لقوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (الحجر/ 294).

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 439

مبادئ الأديان القديمة، و الوقوف على مبانيها. فكانت تآليفه في هكذا مجالات ذوات إسناد متين و أساس ركين.

و تفسيره هذا هادف إلى بيان حقائق كلامه تعالى و إبداء رسالة القرآن، في أسلوب سهل متين، يجمع بين الإيجاز و الإيفاء، و الإحاطة بأطراف الكلام، بما لا يدع لشبه المعاندين مجالا، و لا لتشكيك المخالفين مسربا. هذا إلى جنب أدبه البارع و معرفته بمباني الفقه و الفلسفة و الكلام و التاريخ، و لا سيّما تاريخ الأديان و أعراف الأمم الماضية، و التي حلّ بها كثيرا من مشاكل أهل التفسير. و من ثمّ كان منهجه في التفسير ذا طابع أدبي كلامي بارع، فرحمة اللّه عليه من مجاهد مناضل في سبيل الإسلام.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 440

التفسير في العصر الحديث
اشارة

لم يترك الأقدمون لمن تأخّر عنهم كبير جهد في تفسير كتاب اللّه، و الكشف عن معانيه و مراميه، فقد تناولوه من أول أمرهم بدراسته التفسيرية التحليلية دراسة توسّعت و اطّردت مع الزمن على تدرّج ملحوظ، و تلوّن بألوان مختلفة حسبما عرفت. و لا شك أنّ كلّ ما يتعلّق بالتفسير من الدراسات المختلفة قد وفّاه هؤلاء المفسرون القدامى حقّه من البحث و التحقيق، فالنواحي اللغوية و البلاغية و الأدبية و النحوية، و حتى الفقهية و الكلامية و الكونية الفلسفيّة، كل هذه النواحي و غيرها تناولوها بتوسّع ظاهر ملموس، لم يتركوا لمن

جاء بعدهم إلى ما قبل عصرنا بقليل من عمل جديد أو أثر مبتكر يقومون به في تفاسيرهم التي دوّنوها، سوى أعمال ضئيلة لا يعدو أن يكون جمعا لأقوال المتقدمين، أو شرحا لغامض آرائهم، أو نقدا أو تفنيدا لما يعتوره الضعف منها، أو ترجيحا لرأي على رأي؛ مما جعل التفسير يقف وقفة طويلة مليئة بالركود، خالية من التجديد و الابتكار.

و لقد ظلّ الأمر على هذا، و بقي التفسير واقفا عند هذه المرحلة- مرحلة

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 441

الركود و الجمود- لا يتعداها، و لا يحاول التخلّص منها. حتى جاء عصر النهضة العلمية الحديثة، فاتجهت أنظار العلماء الذين لهم عناية بدراسة التفسير إلى أن يتحرّروا من قيد هذا الركود، و يتخلّصوا من نطاق هذا الجمود، فنظروا في كتاب اللّه نظرة فاحصة من جديد و إن كان لها اعتماد كبير على ما دوّنه الأوائل في التفسير أثّرت في الاتّجاه التفسيري للقرآن تأثيرا ملموسا، و غيّرت من اتجاهاته القديمة، و ألبسته ثوبا جديدا لا ينكر؛ إذ عملت في التخلّص من كل الاستطرادات التي حشرت في التفسير حشرا و مزجت به على غير ضرورة لازمة، و ثابرت على تنقية التفسير من القصص الإسرائيلية التي كادت تذهب بجمال القرآن و جلاله، و تمحيص ما جاء فيه من الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو على أصحابه و الأئمة من بعده عليهم السّلام و إلباس التفسير ثوبا أدبيّا اجتماعيا، في صياغة جديدة أظهرت روعة القرآن و جمال بهائه، كما كشفت عن كثير من مراميه الدقيقة و أهدافه السامية، في تعرفة الإنسان و الحياة و السياسة و الاجتماع، و هكذا حاولت التوفيق بجدّ

بالغ و جهد بيّن، بين ظواهر القرآن و ما جدّ من نظريات علميّة صحيحة، على تفاوت بين الموقفين في الغلوّ و الاعتدال. كل ذلك من أجل أن يعرف المسلمون و من ورائهم الناس جميعا أنّ القرآن هو الكتاب الخالد، الذي يتمشّى مع الزمان في جميع أطواره و مراحله. و لقد أجادوا و أفادوا في هذا المجال، و لكنّهم توسّعوا في ذلك، و ربّما بلغ ببعضهم حدّ الإفراط و الغلوّ، بما أخرجهم عن حدّ الاعتدال.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 442

ألوان التفسير في العصر الحديث
اشارة

كان الجري مع الزمن في التفسير استدعى تنوّعه مع تنوّع متطلّبات العصر و متقلباته، بما نستطيع أن نجمل القول في ألوان التفسير في العصر الحديث في الألوان الأربعة التالية، و هي أهمها:

أولا: اللّون العلمي: و هو أوّل الألوان التي ظهرت إلى الوجود، متأثّرا بمكتشفات العصر الحديث.

ثانيا: اللّون الأدبي الاجتماعي: و هو ثاني الألوان، المتأثّر بالأدب المعاصر، و المظاهر الاجتماعية الحاضرة.

ثالثا: اللّون السياسي: و قد ظهر هذا اللّون على أثر التشعّبات الحزبيّة السياسيّة الحديثة في المجتمع الإسلامي.

رابعا: اللّون العقلي: فقد رافقت الألوان المتقدّمة هذا اللون من التفسير العقلي، الذي كان فيه بعض المحاولات لتأويل آيات، كانت بظاهرها متنافية مع مظاهر العلم أو العقيدة الإلحادية، التي أورثتها النهضة الصناعية العلمية، منذ القرن التاسع عشر للميلاد.

و إليك بعض الكلام عن اللّونين العلمي و الأدبي الاجتماعي، فقد ازدهر العصر الحديث بهما، نتيجة الوعي الديني الذي ساد أكثر أبناء هذا العصر. أمّا اللّونان الآخران: السياسي و العقلي، فهما حصيلة أفكار سياسية متطرفة و أخرى إلحادية كافرة، سيطرت على نفوس ضعيفة، أو تشكّلات حزبية منحرفة، و لم تكن لهم تفاسير شاملة، سوى بضع آيات التقطوها، كانت من المتشابهات، و من

ثمّ اتبعوها ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويلها. فهي تفاسير مقطوعة الدابر منبوذة لا يعتدّ بها، فلم نعتمدها و لا كان لها شأن.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 443

1- اللّون العلمي
اشارة

إن هذا اللّون من التفسير الذي يرمي إلى جعل القرآن مشتملا على إشارات عابرة إلى كثير من أسرار الطبيعية، الّتي كشف عنها العلم الحديث، و لا تزال على مسرح الاكتشاف قد استشرى أمره في العصر الأخير، و راج لدى بعض المثقفين الذين لهم عناية و شغف بالعلوم، إلى جنب عنايتهم بالقرآن الكريم. و كان من أثر هذه النزعة التفسيرية الخاصّة، الّتي تسلّطت على قلوب أصحابها، أن أخرج لنا المشغوفون بها كثيرا من الكتب و الرسائل التي يحاول أصحابها فيها أن يحمّلوا القرآن كثيرا من علوم الأرض و السماء، و أن يجعلوه دالّا عليها بطريق التصريح أو التلميح، اعتقادا منهم أنّ هذا بيان لناحية من أهم نواحي صدقه، و إعجازه، و صلاحيته للبقاء.

أهم الكتب التي عنيت بهذا اللّون

من أهم هذه الكتب التي ظهرت فيها هذه النزعة التفسيرية، كتاب «كشف الأسرار النورانية القرآنية، فيما يتعلق بالأجرام السماوية، و الأرضية، و الحيوانات، و النباتات، و الجواهر المعدنية» تأليف الطبيب الفاضل محمد بن أحمد الإسكندراني، أحد رجال القرن الثالث عشر الهجري، برع في الطب الروحاني و الجسماني، و كانت له علاقة شديدة في دفع شبهات الأجانب التي كانت تثار ضد الدين، و كان له إلمام بالعلوم الحديثة التي كانت معروفة على عهده، من طب و صناعة، و العلوم الطبيعية و الكيمياء، و طبقات الأرض و الحيوان و النبات.

و من ثمّ حاول إثبات أن لا منافاة بين الدين و العلم، بل أنّ أحدهما ليكمّل الآخر و يؤيّده. توفي سنة (1306 ه).

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 444

و كتابه هذا من أوّليات الكتب التي ظهرت في هذا الشأن، و هو كتاب كبير الحجم، يقع في ثلاث مجلدات، لكن من غير أن يستوعب جميع آي

القرآن، سوى ما يتعلق بموضوع دراسته الخاصة. بحث في الجزء الأول عن الحياة و خلق الأحياء في الأرض، و في الجزء الثاني، عن الأجرام السماويّة و عن مظاهر الكون في الأرض و السماء، و في الجزء الثالث، عن أسرار النباتات و المعادن، و ما إلى ذلك.

و قد ذكر الإسكندراني في هذا الكتاب أنّ القرآن يحتوي على علوم جمّة، على ما جدّ من نظرات علميّة تؤيّد إعجاز القرآن، و يثبت أنّ عصر العلم الذي يتحدثون عنه قد بيّنه القرآن في صورة حقائق الكون، و خلق الحيوان، و أسرار النباتات و المعادن.

و أبان في المقدمة غرضه من هذا التأليف، قائلا:

«و كنت منذ زالت عني تمائم الطفولية، و نيطت بي عمائم الرجولية، ممن شغف بتعلّم الطب ليالي و أياما، أنهمك في دراسته على قدر الطاقة سنين و أعواما، ثم أقمت بدمشق الشام معتنيا بمداواة أهلها الأماثل الأعلام، إلى أن اجتمعت في محفل سنة (1290 ه) كان حافلا ببعض الأطباء المسيحيّين، فشرعوا يتحادثون في كيفية تكوّن الأحجار الفحميّة، و في أنها هل أشير إليها في التوراة و الإنجيل أم لا؟ فلم يحصلوا على شي ء، لا صريحا و لا إشارة، ثم وجّهوا إلىّ السؤال عن القرآن الكريم هل فيه إشارة إلى ذلك؟ فتصدّرت للجواب و تلطّفت في التفهيم و الخطاب، قدر طاقتي و وسعي، و تتبّعت كلام كثير من العلماء، و تفرّدت في طلبه من كتب التفسير و الطب، مع زيادة الاجتهاد».

و هو كتاب لطيف في بابه، طريف في أسلوبه، اعتمد فيه آراء القدماء و المحدثين، و جدّ في ذلك حسب إمكانه، و أفاد، جزاه اللّه خيرا.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 445

و هناك مختصرات في هذا الشأن

كثيرة جرت على نفس المنوال، فهناك الأطباء و المهندسون و علماء اختصاصيون كانت لهم عناية بالدين و بالقرآن الكريم، حاول كلّ حسب وسعه و حسب طاقته العلمية، في الإبانة عن وجه إعجاز القرآن، من ناحية اختصاصه. و الكتب و الرسائل من هذا القبيل كثيرة و منبثّة، ربّما تفوق الحصر، و لا تزال تزداد حسب اطّراد الزمان «1».

و في العلماء الدينيين أيضا كثير ممن قام بهذا الأمر، و كتب في جوانب علمية من القرآن الكريم، أمثال العلامة السيد هبة الدين الشهرستاني المتوفّى سنة (1386 ه) قام بتأليف رسالة يقارن فيها بعض مسائل الهيأة و الفلكيات حسب إشارات جاءت في الشريعة و في نصوص القرآن الكريم. طبعت طبعتها الأولى في بغداد سنة (1328 ه) و ترجمت عدة ترجمات منها بالفارسية، مما يدل على إعجاب العلماء بهذا الكتاب.

و رسالة الأستاذ عبد اللّه باشا فكري في مقارنة بعض مباحث الهيأة. طبعت بالقاهرة سنة (1315 ه).

و رسالة السيد عبد اللّه الكواكبي، و هي عبارة عن مجموعة مقالات له، نشرها في بعض الصحف عند ما زار مصر سنة (1318 ه) ثم جمعت ضمن كتاب باسم «طبائع الاستبداد و مصارع الاستعباد».

و رسالة إعجاز القرآن للأستاذ مصطفى صادق الرافعي، عقد فيه بحثا عن

(1) لديّ رسالتان قيّمتان فيما يخص مسائل الطب و القرآن الكريم، إحداهما: «القرآن و الطب الحديث» تأليف صديقنا الفاضل الدكتور صادق عبد الرضا علي، طبعت في بيروت.

و الأخرى: «مع الطب في القرآن الكريم» تأليف الدكتورين عبد الحميد دياب و أحمد قرقوز، طبعت في دمشق. رسالة أعدّت لنيل إجازة دكتورا في الطب.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 446

القرآن و العلوم.

و رسالة الأستاذ رشيد رشدي العابري، مدرس الجغرافية في ثانوية

التفيّض ببغداد، قام بنشرها سنة (1951 م).

و رسائل من هذا القبيل مبثوثة فوق حد الإحصاء.

هذا، و أكثر علماء العصر الحديث نزعة إلى التفسير العلمي، و أكبرهم انتاجا هو الشيخ طنطاوي جوهري، فإنه أكثر من جمع في هذا المجال و أطال في تفسيره «الجواهر» و ربما أسهب بما يخرجه عن طور التفسير أحيانا. يقع في خمسة و عشرين جزءا، و ألحقه بجزء آخر هو المتمم للجزء السادس و العشرين. و إليك بعض الكلام عن هذا التفسير العجيب.

الجواهر في تفسير القرآن للطنطاوي

هو الشيخ طنطاوي بن جوهري المصري، توفّي سنة (1358 ه). و تفسيره هذا يعتبر أطول و أول من فسر القرآن الكريم في ضوء العلم الحديث، و من قبله محمد أحمد الإسكندراني، و لكنه بصورة غير شاملة، و كذلك جاء بعده مفسرا للقرآن بطريقة علمية حديثة محمد عبد المنعم الجمال في صورة أوجز، حسبما يأتي.

و يرى الشيخ الجوهري أنّ معجزات القرآن العلميّة لا زالت تنكشف يوما بعد يوم، كلّما تقدّمت العلوم و الاكتشافات، و أنّ كثيرا من كنوز القرآن العلميّة ما زالت مذخورة، يكشف عنها العلم شيئا فشيئا على مرّ العصور.

و الشيخ الجوهري كان منذ صباه مولعا بهكذا كشائف علميّة دينيّة، مغرما بالعجائب الكونيّة، و معجبا بالبدائع الطبيعية، مشوّقا إلى ما في السماء و الأرض من جمال و كمال و بهاء كمال يقول هو عن نفسه قال في مقدّمة تفسيره:

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 447

«لمّا تأمّلت الأمّة الإسلامية، و تعاليمها الدينية، ألفيت أكثر العقلاء و بعض أجلّة العلماء، عن تلك المعاني معرضين، و عن التفرّج عليها ساهين لاهين، فقليل منهم من فكّر في خلق العوالم و ما أودع فيها من الغرائب. فأخذت أؤلّف كتبا لذلك شتّى، كنظام

العالم و الأمم، و جواهر العلوم، و التاج المرصّع، و جمال العالم ... و مزجت فيها الآيات القرآنية بالعجائب الكونية، و جعلت آيات الوحي مطابقة لعجائب الصنع ...» «1».

لكنه وجد أنّ هذه الكتب رغم كثرتها و انتشارها و ترجمتها إلى اللغات الأخرى كالأوردية و القازانية الروسية لم تشف غليله، فتوجّه إلى اللّه أن يوفّقه إلى تفسير القرآن تفسيرا ينطوي على كل ما وصل إليه البشر من علوم، فوفّقه اللّه لتحرير هذا التفسير الجليل.

و مفسرنا هذا يقرّر في تفسره أنّ في القرآن من آيات العلوم ما يربو على سبعمائة و خمسين (750) آية، في حين أن علم الفقه لا تزيد آياته الصريحة على مائة و خمسين (150) آية «2».

و نجده كثيرا ما يهيب بالمسلمين أن يتأمّلوا في آيات القرآن التي ترشد إلى علوم الكون، و يحثّهم على العمل بما فيها، و يندّد بمن يغفل هذه الآيات على كثرتها، و ينعى على من أغفلها من السابقين الأوّلين.

منهج المؤلف في التفسير

إنه يذكر الآيات فيفسّرها أوّلا لفظيّا مختصرا، لا يكاد يخرج بذلك عمّا في كتب التفسير المألوفة، لكنّه سرعان ما يخلص من هذا التفسير الذي يسمّيه تفسيرا

(1) الجواهر في تفسير القرآن، ج 1، ص 2.

(2) المصدر نفسه، ص 3.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 448

لفظيّا و يدخل في أبحاث علمية مستفيضة، يسمّيها لطائف أو جواهر. هذه الأبحاث عبارة عن مجموعة آراء علماء الشرق، و الغرب في العصر الحديث، ليبين للمسلمين و غيرهم أن القرآن الكريم قد سبق إلى هذه الأبحاث، و نبّه على تلك العلوم قبل أن يصل إليها هؤلاء العلماء. و نجده يضع لنا في تفسيره كثيرا من صور النباتات، و الحيوانات، و مناظر الطبيعة، و تجارب

العلوم، بقصد أن يوضّح للقارئ ما يقول، توضيحا، يجعل الحقيقة أمامه كالأمر المشاهد المحسوس، و لقد أفرط في ذلك، و جاز حدّ المجاز.

و مما يؤخذ عليه: أنه قد يشرح بعض الحقائق الدينيّة بما جاء عن أفلاطون في جمهوريّته، أو بما جاء عن إخوان الصفا في رسائلهم، و هو حين ينقلها يبدي رضاه عنها و تصديقه بها، في حين أنها تخالف في ظاهرها ما عليه أصحابه السلفيّون الأشاعرة «1».

و هكذا نراه قد يستخرج كثيرا من علوم القرآن بواسطة حساب الجمل، الذي لا نكاد نصدّق بأنه يوصل إلى حقيقة ثابتة. قال الذهبي: و إنما هي عدوى تسرّبت من اليهود إلى المسلمين، فتسلّطت على عقول الكثير منهم.

هذا، و إنّا نجد المؤلف يفسّر آيات القرآن تفسيرا يقوم على نظريّات علميّة حديثة، غير مستقرة في ذاتها، و لم تمض فترة التثبّت منها، و هذا ضرب من التكلّف ارتكبه المؤلّف، إن لم يكن يذهب بغرض القرآن أحيانا، فلا أقلّ من أن يذهب بروائه و بهائه.

(1) الأمر الذي جعل الحكومة السعودية أن أصدرت الأمر بمصادرة الكتاب، و عدم السماح بدخوله إلى الحجاز. يجد القارئ ذلك في نص الكتاب المرسل من المؤلف إلى الملك عبد العزيز آل سعود في الجزء 25، ص 238.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 449

و تكفيك مراجعة عبرى إلى هذا التفسير لكي تعرف مغزى هذا النقد الخطير، و قد أتى الذهبي بنماذج من هذا النمط العليل، و استنتج أخيرا: أنّ الكتاب في ذاته موسوعة علمية، ضربت في كل فن من فنون العلم بسهم وافر، مما جعل هذا التفسير يوصف بما وصف به تفسير الإمام الرازي؛ إذ قيل عنه: «فيه كل شي ء إلّا التفسير» بل هو أحقّ من

تفسير الرازي بهذا الوصف و أولى به. و إن دلّ الكتاب على شي ء، فهو أنّ المؤلف إنما يحلّق في أجواء خياله، و يسبح حسب زعمه في ملكوت السماوات و الأرض، و يطوف في نواح شتى من العلم بفكره و عقله، ليجلّي للناس آيات اللّه في الآفاق و الأنفس، و ليظهر لهم أنّ القرآن قد جاء بكل ما جاء به الإنسان من علوم و نظريّات، تحقيقا لقوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ «1». و لكن هذا خروج بالقرآن عن قصده، و انحراف به عن هدفه، و لعله إطاحة بشأنه في كير من الأحيان، و يبدو من خلال التفسير أنّه لاقى الكثير من لوم العلماء على مسلكه هذا الذي سلكه في تفسيره، و لم تلق هذه النزعة التفسيريّة قبولا لدى كثير من المثقّفين.

التفسير الفريد

و يتلو تفسير الجواهر، تفسير علمي آخر أوجز منه، هو «التفسير الفريد» تأليف العالم الفقيه محمد عبد المنعم الجمال. تفسير تحليلي موجز، شامل لجميع آيات القرآن، اهتم مؤلفه بالتوفيق بين الدين و العلم، و أن يفسّر القرآن على ضوء العلم الحديث، مسترشدا في ذلك بأبحاث من العلماء و المفسرين، من دون بسط و استطراد. يقول في المقدمة:

(1) الأنعام/ 38.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 450

«في سنة (1949 م) اجتمعت في مدينة لندرة ببعض الإنجليز، الذين أسلموا حديثا، و كانوا يلحّون عليّ في أن أوافيهم ببعض التفاسير القرآنية، فاضطررت إلى اقتناء بعض الكتب التي اهتمت بترجمة و تفسير الآيات القرآنية. و قد لاحظت على كثير منها. أنها لا تستجلي معاني القرآن، أو لا تستوعب النواحي العلميّة. فسألت اللّه أن يوفّقني إلى تفسير كتابه على ضوء العلم الحديث».

ثم بيّن معيار التوفيق

بين الدين و العلم، و حدوده قائلا:

«و لا مشاحّة في أنّ العلوم مهما تقدّمت فهي عرضة للزلل، فينبغي أن لا يطبّق على آياته الكريمة إلّا ما يكون قد ثبت منها قطعيا، و كلّ نظريّة علميّة تختلف مع آية من آي الذكر الحكيم، لا بدّ أنّها لم تصل بعد إلى سبر غور الحقيقة، فلا زالت معجزات القرآن الكريم يكشفها العلم، و لا زالت العلوم كلما تقدمت تجلو الغشاوات الّتي تحجب النور عن عيون الغافلين».

هذا و قد سلك المؤلف في تفسيره المسلك العلمي الاجتماعي، الملائم للثقافة العربية في وقته، بما يتيسر للناشئة من الشباب المثقّف التعرف إلى دين الإسلام، و الوقوف على أسرار القرآن و عظمته. و هو تفسير جيّد في ذاته، سهل التناول لذوي الثقافات المختلفة، خال عن الإطالة و الاستطرادات المملّة، جزى اللّه المؤلّف خيرا.

و التفسير يقع في أربع مجلّدات، و طبع في القاهرة سنة (1970 م)، (1390 ه).

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 451

2- اللّون الأدبي الاجتماعي
اشارة

يمتاز التفسير في هذا العصر، بتلوّنه باللّون الأدبي الاجتماعي، و نعني بذلك أنّ التفسير لم يعد يظهر عليه في هذا العصر ذلك الطابع التقليدي الجافّ، من معالجة مسائل شكليّة، كادت تصرف الناس عن هداية القرآن الكريم، و انشغالهم بمباحث فارغة لا تمسّ روح القرآن و حقيقته. و إنّما ظهر عليه طابع آخر و تلوّن بلون يكاد يكون جديدا و طارئا على التفسير، ذلك هو معالجة النصوص القرآنية معالجة تقوم أولا و قبل كل شي ء على إظهار مواضع الدقة في التعبير القرآني، ثم بعد ذلك تصاغ تلك المعاني التي يهدف القرآن إليها في أسلوب شيّق أخّاذ، ثم يطبّق النص القرآني على ما في الكون و الحياة من سنن الاجتماع

و نظم العمران.

هذه النهضة الأدبية الاجتماعية قامت بمجهود كبير في تفسير كتاب اللّه تعالى، قرّبت القرآن إلى أفهام الناس، في مستوى عام كان أقرب إلى الواقعية من الأمس الدابر.

و إليك من امتيازات هذه المدرسة التفسيرية الحديثة: إنها نظرت إلى القرآن نظرة بعيدة عن التأثّر بمذهب من المذاهب، فلم يكن منها ما كان من كثير من المفسّرين القدامى من التأثر بالمذهب، إلى درجة كانت تجعل القرآن تابعا لمذهبه، فيؤوّل القرآن بما يتّفق معه، و إن كان تأويلا متكلّفا و بعيدا.

كما أنها وقفت من الروايات الإسرائيليّة موقف الناقد البصير، فلم تشوّه التفسير بما شوّه به في كثير من كتب المتقدمين، من الروايات الخرافية المكذوبة، التي أحاطت بجمال القرآن و جلاله، فأساءت إليه و جرّأت الطاعنين عليه.

كذلك لم تغترّ هذه المدرسة بما اغترّ به كثير من المفسّرين من الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة، التي كان لها أثر سيّئ في التفسير.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 452

و لقد كان من أثر عدم اغترار هذه المدرسة بالروايات الإسرائيلية، و الأحاديث الموضوعة أنها لم تخض في تعيين ما أبهمه القرآن، من مثل الحروف المقطّعة، و بعض الألفاظ المبهمة الواردة في القرآن، مما أبهمه القرآن إبهاما، و لم تكن غاية في إظهاره حينذاك، كما لم تجرأ على الخوض في الكلام عن الأمور الغيبيّة، التي لا تعرف إلّا من جهة النصوص الصحيحة الصريحة، بل قرّرت مبدأ الإيمان بما جاء من ذلك مجملا، و منعت من الخوض في التفصيلات و الجزئيات، في مثل الحياة البرزخية و الجنة و النار و الحور و القصور و الغلمان و ما شابه ذلك، و هذا مبدأ سليم، يقف حاجزا منيعا دون تسرّب شي ء من خرافات الغيب المظنون، إلى

المقطوع و المعقول من العقائد.

كذلك نجد هذه المدرسة أبعدت التفسير عن التأثر باصطلاحات العلوم و الفنون و الفلسفة و الكلام، التي زجّ بها في التفسير، بدون أن يكون في حاجة إليها، و لم تتناول من ذلك إلّا بمقدار الحاجة، و على حسب الضرورة فقط. هذه كلها من الناحية السلبية التي سلكتها هذه المدرسة.

و أمّا من الناحية الإيجابيّة، فإنّ هذه المدرسة نهجت بالتفسير منهجا أدبيّا اجتماعيا، فكشفت عن بلاغة القرآن و إعجازه في البيان، و أوضحت معانيه و مراميه، و أظهرت ما فيه من سنن الكون الأعظم و نظم الاجتماع، و عالجت مشاكل الأمّة الإسلامية خاصّة، و مشاكل الأمم عامّة، بما أرشد إليه القرآن، من هداية و تعاليم، و التي جمعت بين خيري الدنيا و الآخرة.

كما وفّقت بين القرآن و ما أثبته العلم من نظريّات صحيحة و ثابتة، و جلت للناس أنّ القرآن كتاب اللّه الخالد، الذي يستطيع أن يساير التطوّر الزمني و البشري، إلى أن يرث اللّه الأرض و من عليها.

كما دفعت ما ورد من شبه على القرآن، و فنّدت ما أثير حوله من شكوك

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 453

و أوهام، بحجج قويّة، قذفت بها على الباطل فدمغته فإذا هو زاهق.

كل ذلك بأسلوب شيّق جذّاب يستهوي القارئ، و يستولي على قلبه، و يحبّب إليه النظر في كتاب اللّه، و يرغّبه في الوقوف على معانيه و أسراره.

و أيضا فإنّ هذه المدرسة فتحت في وجه التفسير بابا كان مغلقا عليه، منذ زمن سحيق، إنها أعطت لعقلها حريّة واسعة النطاق، و أتاحت للعقل و الفكر البشري مجاله الواسع الذي منحه اللّه له، و رغّبه في ذلك. وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ

وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ «1».

و من ثمّ حكّمت العقل الرشيد على كل مظاهر الدين، فتأوّلت ما ظاهره المنافاة مع الحقائق الشرعية الثابتة، و التي دعمها العقل، و عدلت بها عن إرادة الحقيقة إلى المجاز و التمثيل، و بذلك و بهذه الحرية العقلية الواسعة، جارت أهل العدل في تعاليمها و عقائدها، و التي كان عليها السلف النابهون، و قذفت بتعاليم الأشاعرة المتجمّدة وراء الظهور، و بذلك لم تترك مجالا لأحاديث أهل الحشو أن تتدخّل في التفسير، و لا في عقائد المسلمين في شي ء من الأصول و الفروع.

فقد طعنت في بعض الأحاديث بالضعف تارة و بالوضع أخرى، رغم ورودها في المجاميع الحديثية الكبرى، أمثال البخاري و مسلم و غيرهما؛ إذ أنّ خبر الواحد لا تثبت به عقيدة إجماعا، و لا هو حجة في هذا الباب عند أرباب الأصول.

أهم روّاد هذه المدرسة

رائد هذه المدرسة الأول و زعيمها و عميدها، هو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، الذي بنى أساس هذا البنيان الرفيع، و فتح باب الاجتهاد في التفسير بعد ما

(1) النحل/ 44.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 454

كان مغلقا طيلة قرون، فقد نبذ طريقة التقليد السلفي، و أعطى للعقل حريته في النقد و التمحيص. و سار على منهجه الأجلّاء من تلامذته، أمثال السيد محمد رشيد رضا، و الشيخ محمد محمد القاسمي، و الشيخ أحمد مصطفى المراغي، و من جاء بعدهم جاريا على نفس التعاليم، أمثال السيد قطب، و الشيخ محمد جواد مغنية، و الشيخ محمد الصادقي، و السيد محمد حسين فضل اللّه، و السيد محمد الشيرازي، و الشيخ سعيد حوى، و الأستاذ محمد علي الصابوني، و السيد محمد تقي المدرسي، و الشيخ ناصر مكارم الشيرازي. و الذي فاق الجميع في

هذا المجال، هو العلامة الفيلسوف السيد محمد حسين الطباطبائي، الذي حاز قصب السبق في هذا المضمار.

و إليك بعض الكلام عن أهم ما كتب من جلائل التفسير المدوّن في هذا العصر:

المنار (تفسير القرآن العظيم)
اشارة

تفسير حافل جامع و لكنه غير كامل، يشتمل على اثني عشر مجلدا و ينتهي عند الآية (53) من سورة يوسف. كان من أوّل القرآن إلى الآية (126) من سورة النساء بإنشاء الشيخ محمد عبده (المتوفى سنة 1323 ه) و إملاء السيد رشيد رضا (المتوفّى سنة 1354) و من بعده سار السيّد في التفسير متّبعا منهج الشيخ في تفسيره للآيات حتى سورة يوسف.

كان الشيخ يلقي دروسه في التفسير بالجامع الأزهر على الطلاب لمدّة ست سنوات، و كان السيد رشيد رضا يكتب ما سمعه و يزيد عليه بما ذاكره مع الشيخ، و قام بنشر ما كتب في مجلته «المنار» و ذلك بعد مراجعة الأستاذ ليقوم بتنقيحه و تهذيبه، أو إضافة ما يكمله.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 455

قال الذهبي: كان الأستاذ الإمام، هو الذي قام وحده من بين رجال الأزهر بالدعوة إلى التجديد، و التحرّر من قيود التقليد، فاستعمل عقله الحرّ في كتاباته و بحوثه، و لم يجر على ما جمد عليه غيره من أفكار المتقدمين و أقوال السابقين، فكان له من وراء ذلك آراء و أفكار خالف بها من سبقه. و هذه الحريّة العقلية، و هذه الثورة على القديم، كان لهما أثر بالغ في المنهج الذي نهجه الشيخ لنفسه، و سار عليه في تفسيره «1».

قد رسم محمد عبده في تفسيره منهجا تربويّا للأمّة الإسلامية، يبعث مقوّماتها، و يثير أمجادها، و ينادي بآداب القرآن من الشجاعة و الكرامة و الحفاظ، قد حارب جمود الفقهاء و تقليدهم،

و تقديم المذاهب على القرآن و السنّة مكانهما الأول من التشريع، و دعا المسلمين إلى استخدام عقولهم و تفكيرهم «2».

و من خصائص هذا التفسير العناية بمشاكل المسلمين الحاضرة، و التوجّه إلى معالجة أسباب تأخّر المجتمع الاسلامي، و إلى إمكان بناء مجتمع قوي، و عودة الأمّة إلى ثورة حقيقية قرآنية على أوضاعها المتخلفة، و مواجهة الحياة مواجهة علمية صحيحة، و العناية التامة إلى الأخذ بأسباب الحضارة الإسلامية من جديد، و مواجهة أعدائها، و ردّ الغزوات الفكريّة الاستعمارية التي شنّت على الإسلام عقيدة و تاريخا و حضارة و رجالا، و مناقشتها بالأدلة العلمية و الوقائع التاريخيّة، و تفنيدها و إثبات بطلانها من ذاتها.

و يتلخص منهج تفسير المنار في البنود التالية:

(1) التفسير و المفسرون، ج 2، ص 554- 555.

(2) منهج الإمام محمد عبده- لشحاتة- المفسرون، ص 668.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 456

1- الإسلام هو دين العقل و الشريعة، و هو مصدر الخير و الصلاح الاجتماعي.

2- القرآن لا يتبع العقيدة، و إنما تؤخذ العقيدة من القرآن.

3- عدم وجود تعارض بين القرآن و الحقائق العلمية الراهنة.

4- اعتبار القرآن جميعه وحدة واحدة متماسكة.

5- التحفظ في الأخذ بما سمّي بالتفسير المأثور، و التحذير من الأقاصيص الإسرائيلية و المكذوبة.

6- عدم إغفاله الوقائع التاريخية، و التي لها دخل في فهم معاني القرآن الكريم.

7- استعمال الذوق الأدبي النزيه في فهم مرامي الآيات الكريمة.

8- معالجته للمسائل الاجتماعية في الأخلاق و السلوك.

9- تفسيره للقرآن على ضوء العلم الحديث القطعي الثابت.

10- حذره عن الخوض في الأمور المغيّبة عن الحسّ و الإدراك.

11- موضعه النزيه تجاه سحر السحرة، و لا سيما بالنسبة إلى التأثير في شخصية الرسول.

12- موقفه الصحيح من روايات أهل الحشو، حتى و لو

كانت في الكتب الصحاح.

موقفه من حقيقة الملائكة و الشياطين

و لقد كان من أثر إعطاء الشيخ عبده لنفسه الحريّة الواسعة في فهم القرآن الكريم، أنّا نجده يخالف رأي جمهور أهل السنّة «1»، و يذهب على خلاف مذهب

(1) راجع: الذهبي في التفسير و المفسرون، ج 2، ص 572.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 457

الأشعري في الأخذ بالظواهر و الجمود عليها، و ترك الخوض في فهم حقيقتها أو تأويلها، نراه يخالف هذا المسلك السلفي، و يذهب إلى ما ذهب إليه أهل الرأي و النظر و التمحيص و أصحاب التأويل، و قد عبّر عنهم الذهبي بالمعتزلة و ليسوا هم وحدهم بل و أهل القول بالعدل و تحكيم العقل مطلقا فيرى من الملائكة و الشياطين، القوى الفعّالة المودعة في عالم الطبيعية، في صالح الحياة أو فسادها، أما إنها موجودات مستقلة ذوات شمائل و أعضاء كشمائل الإنسان و أعضائه، حسب ما فهمه الظاهريّون من تعابير الشرع التي هي أمثال و استعارات فلا، نظرا لأنها موجودات لا تسانخ وجود الإنسان بذاته، و لا هي على شاكلته.

قال في قصة سجود الملائكة لآدم و امتناع إبليس (البقرة: 34):

«و ذهب بعض المفسرين مذهبا آخر في فهم معنى الملائكة، و هو: أنّ مجموع ما ورد في الملائكة من كونهم موكّلين بالأعمال من إنماء نبات و خلقة حيوان و حفظ إنسان و غير ذلك، فيه إيماء إلى الخاصّة بما هو أدقّ من ظاهر العبارة، و هو أنّ هذا النموّ في النبات لم يكن إلّا بروح خاص، نفخه اللّه في البذرة، فكانت به الحياة النباتيّة المخصوصة، و كذلك يقال في الحيوان و الإنسان، فكلّ أمر كلّي قائم بنظام مخصوص تمّت به الحكمة الإلهية في إيجاده، فإنّما قوامه بروح

إلهي، سمّي في لسان الشرع ملكا، و من لم يبال في التسمية بالتوقيف يسم هذه المعاني «القوى الطبيعية»، إذا كان لا يعرف من عالم الإمكان إلّا ما هو طبيعة، أو قوة يظهر أثرها في الطبيعة. و الأمر الثابت الذي لا نزاع فيه، هو أن في باطن الخلقة أمرا هو مناطها، و به قوامها و نظامها، لا يمكن لعاقل أن ينكره، و إن أنكر غير المؤمن بالوحي تسميته ملكا، و زعم أنه لا دليل على وجود الملائكة، أو أنكر بعض المؤمنين بالوحي تسميته قوّة طبيعية أو ناموسا طبيعيا؛ لأنّ هذه الأسماء لم ترد في الشرع، فالحقيقة واحدة و العاقل لا تحجبه الأسماء عن المسمّيات، و إن

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 458

كان المؤمن بالغيب يرى للأرواح وجودا لا يدرك كنهه، و الذي لا يؤمن بالغيب يقول لا أعرف الروح، و لكن أعرف قوّة لا أفهم حقيقتها، و لا يعلم إلّا اللّه، على م يختلف الناس، و كل يقرّ بوجود شي ء غير ما يرى و يحسّ، و يعترف بأنه لا يفهمه حقّ الفهم، و لا يصل بعقله إلى إدراك كنهه؟ و ما ذا على هذا الذي يزعم أنه لا يؤمن بالغيب- و قد اعترف بما غيب عنه- لو قال: أصدق بغيب أعرف أثره، و إن كنت لا أقدر قدره، فيتّفق مع المؤمنين بالغيب، و يفهم بذلك ما يرد على لسان صاحب الوحي، و يحظى بما يحظى به المؤمنون؟

«يشعر كل من فكّر في نفسه، و وازن بين خواطره، عند ما يهمّ بأمر فيه وجه للحقّ أو للخير، و وجه للباطل أو للشر، بأنّ في نفسه تنازعا، كأنّ الأمر قد عرض فيها على مجلس شورى، فهذا

يورد و ذاك يدفع، و أحد يقول: افعل، و آخر يقول: لا تفعل، حتى ينتصر أحد الطرفين، و يترجّح أحد الخاطرين، فهذا الشي ء الذي أودع في أنفسنا و نسمّيه: قوّة و فكرا، و هي في الحقيقة معنى لا يدرك كنهه، و روح لا تكتنه حقيقتها، لا يبعد أن يسمّيه اللّه ملكا، أو يسمّى أسبابه ملائكة، أو ما شاء من الأسماء، فإنّ التسمية لا حجر فيها على الناس، فكيف يحجر فيها على صاحب الإرادة المطلقة، و السلطان النافذ و العلم الواسع! قال: «فإذا صحّ الجري على هذا التفسير، فلا يستبعد أن تكون الإشارة في الآية إلى أنّ اللّه تعالى لما خلق الأرض و دبّرها بما شاء من القوى الروحانية التي بها قوامها و نظامها، و جعل كل صنف من القوى مخصوصا بنوع من أنواع المخلوقات، لا يتعدّاه و لا يتعدى ما حدّد له من الأثر الذي خصّ به، خلق بعد ذلك الإنسان، و أعطاه قوّة يكون بها مستعدّا للتصرف بجميع هذه القوى، و تسخيرها في عمارة الأرض، و عبّر عن تسخير هذه القوى له بالسجود، الذي يفيد معنى الخضوع و التسخير، و جعله بهذا الاستعداد الذي لا حدّ له، و التصرف الذي

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 459

لم يعط لغيره، خليفة اللّه في أرضه؛ لأنه أكمل الموجودات في الأرض، و استثنى من هذه القوى قوة واحدة، عبّر عنها بإبليس، و هي القوّة التي لزّها اللّه بهذا العالم لزّا، و هي التي تميل بالمستعد للكمال، أو بالكامل إلى النقص، و تعارض مدّ الوجود لتردّه إلى العدم، أو تقطع سبيل البقاء، و تعود بالموجود إلى الفناء، أو التي تعارض في اتّباع الحق، و تصدّ عن عمل

الخير، و تنازع الإنسان في صرف قواه إلى المنافع و المصالح التي تتمّ بها خلافته، فيصل إلى مراتب الكمال الوجودي التي خلق مستعدّا للوصول إليها، تلك القوّة التي ضلّلت آثارها قوما فزعموا أنّ في العالم إلها يسمّى إله الشر، و ما هي بإله، و لكنها محنة إله لا يعلم أسرار حكمته إلّا هو.

قال: «و لو أن نفسا مالت إلى قبول هذا التأويل، لم تجد في الدين ما يمنعها من ذلك، و العمدة على اطمينان القلب و ركون النفس إلى ما أبصرت من الحق» «1».

ثم يعود في موضع آخر إلى تقرير التمثيل في القصة، فيقول: «و تقرير التمثيل في القصّة على هذا المذهب هكذا: إنّ إخبار اللّه الملائكة بجعل الإنسان خليفة في الأرض هو عبارة عن تهيئة الأرض و قوى هذا العالم و أرواحه الّتي بها قوامه و نظامه، لوجود نوع من المخلوقات يتصرّف فيها، فيكون به كمال الوجود في هذه الأرض. و سؤال الملائكة عن جعل خليفة يفسد في الأرض؛ لأنه يعمل باختياره، و يعطى استعدادا في العلم و العمل لا حدّ لهما، هو تصوير لما في استعداد الإنسان لذلك، و تمهيد لبيان أنه لا ينافي خلافته في الأرض. و تعليم آدم الأسماء كلها، بيان لاستعداد الإنسان لعلم كل شي ء في هذه الأرض، و انتفاعه به

(1) تفسير المنار، ج 1، ص 267- 269.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 460

في استعمارها. و عرض الأسماء على الملائكة و سؤالهم عنها و تنصّلهم في الجواب، تصوير لكون الشعور الذي يصاحب كل روح من الأرواح المدبّرة للعوالم محدودا لا يتعدى وظيفته. و سجود الملائكة لآدم، عبارة عن تسخير هذه الأرواح و القوى له، ينتفع بها في

ترقية الكون بمعرفة سنن اللّه تعالى في ذلك.

و إباء إبليس و استكباره عن السجود، تمثيل لعجز الإنسان عن إخضاع روح الشّر و إبطال داعية خواطر السوء الّتي هي مثار التنازع و التخاصم، و التعدي و الإفساد في الأرض. و لو لا ذلك لجاء على الإنسان زمن يكون فيه أفراده كالملائكة بل أعظم، أو يخرجون عن كونهم من هذا النوع البشري» «1».

انكاره على أهل الحديث في روايتهم للطامّات

ثم إنّ الشيخ عبده كان ممن يرى تساهل أهل الحديث في رواياتهم الغثّ و السمين، غير مبالين في متونها أ هي مخالفة لأصول العقيدة أم متنافية مع مباني الإسلام الركينة، الأمر الذي يؤخذ على أهل الحشو في الحديث في ذلك.

قال بشأن قصة زكريا و بشارة الملائكة له بيحيى، و طلبه من اللّه أن يجعل له آية:

«و من سخافات بعض المفسرين زعمهم أنّ زكريا عليه السّلام اشتبه عليه وحي الملائكة و نداؤهم، بوحي الشياطين؛ و لذلك سأل سؤال التعجّب، ثم طلب آية للتثبّت. و روى ابن جرير عن السدّي و عكرمة: أنّ الشيطان هو الّذي شكّكه في نداء الملائكة، و قال له: إنّه من الشيطان، قال: «و لو لا الجنون بالروايات مهما هزلت و سمجت، لما كان لمؤمن أن يكتب مثل هذا الهزء و السخف، الذي ينبذه العقل، و ليس في الكتاب ما يشير إليه، و لو لم يكن لمن يروي مثل هذا إلّا هذا

(1) تفسير المنار، ج 1، ص 281- 282.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 461

لكفى في جرحه، و أن يضرب بروايته على وجهه. فعفى اللّه عن ابن جرير إذ جعل هذه الرواية مما ينشر» «1».

و قال فيما جاء من الروايات في سحر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و

سلّم:

«و قد رووا هنا أحاديث في أن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سحره لبيد بن أعصم، و أثّر سحره فيه، حتى كان يخيّل له أنه يفعل الشي ء و هو لا يفعله، أو يأتي شيئا و هو لا يأتيه، و أنّ اللّه أنبأه بذلك و أخرجت مواد السحر من بئر، و عوفي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ممّا كان نزل به من ذلك، و نزلت هذه السورة (سورة الفلق) «2».

قال: «و لا يخفى أنّ تأثير السحر في نفسه عليه السّلام حتى يصل به الأمر إلى أن يظنّ أنه يفعل شيئا و هو لا يفعله، ليس من قبيل تأثير الأمراض في الأبدان، و لا من قبيل عروض السهو و النسيان في بعض الأمور العاديّة، بل هو ماسّ بالعقل، آخذ بالروح، و هو مما يصدق قول المشركين فيه: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً «3».

و ليس المسحور عندهم إلّا من خولط في عقله، و خيّل له أنّ شيئا يقع و هو لا يقع، فيخيل إليه أنه يوحى إليه، و لا يوحى إليه.

«و قد قال كثير من المقلّدين الذين لا يعقلون ما هي النبوّة و لا ما يجب لها:

أنّ الخبر بتأثير السحر في النفس الشريفة قد صحّ، فيلزم الاعتقاد به، و عدم التصديق به من بدع المبتدعين؛ لأنه ضرب من إنكار السحر، و قد جاء القرآن بصحّة السحر. أنظر كيف ينقلب الدين الصحيح، و الحق الصريح، في نظر المقلّد

(1) تفسير المنار، ج 3، ص 298- 299.

(2) راجع: الدر المنثور، ج 6، ص 417. و رواه البخاري و مسلم و ابن ماجة (روح المعاني، ج 30، ص 282- 283).

(3) الفرقان/ 8.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 462

بدعة، نعوذ باللّه، يحتج بالقرآن على ثبوت السحر، و يعرض عن القرآن في نفيه السحر عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عدّه من افتراء المشركين عليه، و يؤوّل في هذه و لا يؤوّل في تلك، مع أنّ الذي قصده المشركون ظاهر؛ لأنهم كانوا يقولون: إن الشيطان يلابسه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ملابسة الشيطان تعرف بالسحر عندهم، و ضرب من ضروبه و هو بعينه أثر السحر الذي نسب إلى لبيد، فإنه خولط في عقله و إدراكه، في زعمهم. و الذي يجب اعتقاده، أنّ القرآن مقطوع به، و أنه كتاب اللّه بالتواتر عن المعصوم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فهو الذي يجب الاعتقاد بما يثبته، و عدم الاعتقاد بما ينفيه، و قد جاء بنفي السحر عنه عليه السّلام حيث نسب القول بإثبات حصول السحر له إلى المشركين أعدائه، و وبّخهم على زعمهم هذا، فإذا هو ليس بمسحور قطعا. و أما الحديث فعلى فرض صحته هو آحاد، و الآحاد لا يؤخذ بها في باب العقائد، و عصمة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من تأثير السحر في عقله عقيدة من العقائد، لا يؤخذ في نفيها عنه إلّا باليقين، و لا يجوز أن يؤخذ فيها بالظن و المظنون، على أنّ الحديث الذي يصل إلينا من طريق الآحاد إنما يحصل الظن عند من صح عنده. أما من قامت له الأدلة على أنه غير صحيح فلا تقوم به عليه حجّة.

«و على أيّ حال فلنا بل علينا أن نفوّض الأمر في الحديث، و لا نحكّمه في عقيدتنا، و نأخذ بنصّ الكتاب و بدليل العقل،

فإنه إذا خولط النبي في عقله- كما زعموا- جاز عليه أن يظنّ أنه بلّغ شيئا و هو لم يبلّغه، أو أنّ شيئا نزل عليه و هو لم ينزل عليه، و الأمر ظاهر لا يحتاج إلى بيان» «1».

قال الذهبي ناقما على هذه الطريقة التي هي طريقة أهل الاعتزال:

(1) ذكر ذلك في تفسيره لجزء عم ص 185- 186. و تعرض له في تفسير المنار، ج 3، ص 291.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 463

«و هذا الحديث الذي يردّه الأستاذ الإمام، رواه البخاري و غيره «1» من أصحاب الكتب الصحيحة، و ليس من وراء صحّته ما يخلّ بمقام النبوّة. (و علّل عدم الإخلال بأنه من قبيل المرض، و قد عرفت ردّ الإمام عليه بأحسن ردّ) و أضاف قائلا:

«ثم إنّ الحديث رواية البخاري و غيره من كتب الصحيح، و لكن الأستاذ الإمام، و من على طريقته، لا يفرقون بين رواية البخاري و غيره، فلا مانع عندهم من عدم صحّة ما يرويه البخاري، كما أنه لو صح في نظرهم فهو لا يعدو أن يكون خبر آحاد، لا يثبت به إلّا الظنّ، و هذا في نظرنا هدم للجانب الأكبر من السنّة التي هي بالنسبة للكتاب في منزلة المبيّن من المبيّن، و قد قالوا: إن البيان يلتحق بالمبيّن، قال: «و ليس هذا الحديث وحده الذي يضعّفه الشيخ، أو يتخلص منه بأنه رواية آحاد، بل هناك كثرة من الأحاديث نالها هذا الحكم القاسي»، فمن ذلك أيضا حديث الشيخين «كل بني آدم يمسّه الشيطان يوم ولدته أمّه إلّا مريم و ابنها» فإنه قال فيه: «إذا صح الحديث فهو من قبيل التمثيل لا من باب الحقيقة» «2».

«فهو لا يثق بصحّة

الحديث رغم رواية الشيخين له، ثم يتخلّص من إرادة الحقيقة على فرض الصحة، بجعل الحديث من باب التمثيل، و هو ركون إلى مذهب المعتزلة، الذين يرون أنّ الشيطان لا تسلّط له على الإنسان إلّا بالوسوسة و الإغواء فقط» «3».

قلت: الحق أحقّ أن يتّبع، حتى و لو كان القائل به أصحاب الاعتزال؛ إذ الحق

(1) صحيح البخاري، ج 7، ص 178. و مسلم ج 7، ص 14. فتح الباري، ج 10، ص 193.

(2) راجع: تفسير المنار، ج 3، ص 290.

(3) التفسير و المفسرون، ج 2، ص 575.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 464

ضالّة المؤمن، أخذها حيث وجدها. فإن كان مذهب أهل الجمود يقضي بالأخذ بالظواهر الظنيّة، حتى في باب العقائد، التي تستدعي اليقين فيها، فإنّ مذهب أهل النظر و الاجتهاد، يرى وجوب التدبّر في آياته تعالى و التعمّق فيها؛ ذلك أنه دستور القرآن الكريم، و الذي هدى إليه العقل الرشيد.

نعم لا تقاس عقليّة مثل شيخنا الإمام الكبيرة، مع ذهنية أمثال الذهبي الهزيلة التي اقتنعت بتقاليد أشعرية سلفية، رغم منافاتها لأصول الشرع و محكمات القرآن الكريم.

أوّلا: لا سلطان لإبليس على أحد، سوى وسوسته و إغوائه، قال تعالى فيما يحكيه عن إبليس لما قضى الأمر: وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي، فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ «1».

ثانيا: ليس للشيطان سلطان على عباد اللّه المخلصين: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ «2» فلم يكن لإبليس على عباد اللّه المخلصين حتى سلطان الوسوسة و الإغواء، فكيف بالاستحواذ على عقليتهم الكريمة «3».

ثالثا: أنّى للبيد أن يستحوذ على عقليّة مثل الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو مثال

العقل الأول في عالم الإمكان.

إذن فلا يصح ما ورد في ذلك من تأثير السحر على عقله عليه السّلام و لم يثبت شي ء من ذلك من طرق أهل البيت عليهم السّلام. أما الوارد في جامع البخاري (ج 7، ص 178)

(1) راجع: المنار، ج 7، ص 512- 513. إبراهيم/ 22.

(2) الحجر/ 42.

(3) و قد أنكر الشيخ الإمام إمكان استحواذ الشيطان على عباد اللّه المخلصين. راجع: المنار، ج 3، ص 291.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 465

و فتح الباري (ج 10، ص 193) و مسلم (ج 7، ص 14) فمردود على قائله، و هو من المفتعلات «1».

رأي صاحب المنار في الجنّ

يرى السيد رشيد رضا ما يراه شيخه و أستاذه في الجنّ، و أنه لا يرى، و كل من ادّعى رؤية الجنّ فهو مخطئ في إدراكه، و لم يصحّ في ذلك حديث. و يرجّح أنّ من ادّعى رؤية الجن فذلك وهم منه و تخيّل، و لا حقيقة له في الخارج، أو لعلّه رأى حيوانا غريبا كبعض القردة، فظنّه أحد أفراد الجنّ، يقول هذا ثم يعرض في الهامش لذكر حديث أبي هريرة فيمن كان يسرق تمر الصدقة، و إخبار النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم له بأنه شيطان- و هو في البخاري- و لغيره من الأحاديث التي تدل على أنّ الإنسان يرى الجنّي و يبصره، ثم يقول بعد أن يفرغ من سرده للروايات:

و الصواب أنه ليس في هذه الروايات كلها حديث صحيح «2».

بل و نجده يزيد على ذلك فيجوّز أن تكون ميكروبات الأمراض نوعا من الجن؛ و ذلك حيث يقول عند ما تعرض لتفسير قوله تعالى في الآية (275) من سورة البقرة: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ

إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ: «و المتكلمون يقولون: إن الجنّ أجسام حيّة خفيّة لا ترى. و قد قلنا في «المنار» غير مرّة: إنه يصحّ أن يقال: إنّ الأجسام الحيّة الخفيّة التي عرفت في هذا العصر بواسطة النظّارات المكبّرة و تسمّى بالمكروبات، يصح أن تكون نوعا من الجنّ، و قد ثبت أنها علل لأكثر الأمراض «3».

(1) تكلّمنا عن ذلك في التمهيد (ج 1، ص 163- 169) عند الكلام عن سورتي المعوذتين.

(2) تفسير المنار، ج 7، ص 516، التفسير و المفسرون، ج 2، ص 584.

(3) تفسير المنار، ج 3، ص 96.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 466

تفسير القاسمي (محاسن التأويل)

لجمال الدين أبي الفرج محمد بن محمد المعروف بالقاسمي. توفي سنة (1332 ه). ولد في دمشق، و كان معروفا في الفقه و التفسير و الحديث، و كان من زعماء النهضة السياسية ضد الاستعمار في بلاد الشام. كان قد تتلمذ على يد الأستاذ الشيخ محمد عبده، فأخذ عنه العلم و السياسة و علم الاجتماع، و أفرغه في تفسيره هذا الممتع. التزم فيه المؤلف بمتابعة آراء السلف و الاهتمام بنظراتهم في الفقه و التفسير، مراعيا ما توصّل إليه العلم، في شي ء من الحذر. و من ثم فهو من خير التفاسير المعاصرة، الجامعة بين آراء السلف و نظرات الخلف، مراعيا جوانب الاحتياط؛ و بذلك قد جمع بين المأثور و المعقول، في سبك رائع و جزالة في الألفاظ و دقة في الآراء. و قد تكلم بلغة أهل عصره في براعة فائقة، و من ثم طار صيته و أصبح من التفاسير المشار إليها بالبنان.

و من ميزات هذا التفسير، اهتمامه البالغ بجانب الإشارات العلمية التي جاءت في القرآن، إنه

يعتقد اشتمال القرآن على أسرار من علوم الكون، و من ثم افتتح فصلا في مقدمة تفسيره اختصاصا بالكلام عن المسائل الفلكية الواردة في القرآن، و يتعرّض للقضايا الكونية في الخلق و التدبير، و في النهاية يقول: «من عجيب أمر هذا القرآن أن يذكر أمثال هذه الدقائق العلمية العالية، التي كانت جميع الأمم تجهلها، بطريقة لا تقف عثرة في سبيل إيمان أحد به، في أي زمن كان، مهما كانت معلوماته، فالناس قديما فهموا أمثال هذه الآيات بما يوافق علومهم، حتى إذا كشف العلم الصحيح عن حقائق الأشياء، علمنا أنهم كانوا واهمين، و فهمنا معناها الصحيح. فكأن هذه الآيات جعلت في القرآن معجزات للمتأخرين، تظهر لهم كلما تقدمت علومهم ... و هو معجزات للمتأخرين يشاهدونها، و تتجلّى لهم كلما

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 467

تقدموا في العلم الصحيح» «1». فرغ من تأليف التفسير سنة (1329 ه).

تفسير المراغي

هو الشيخ أحمد مصطفى المراغي، شقيق الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر في وقته، و تلميذ الإمام الشيخ محمد عبده صاحب تفسير «المنار»، و الذي وضع تفسيره هذا مشاكلا له، و مستفادا من بحوث شيخه الأستاذ. توفي سنة (1371 ه).

و تفسيره هذا من أشمل التفاسير لحاجة العصر في أسلوبه و في طريق سرد المطالب و نضد المقاصد، متجنّبا القصص الإسرائيلية المدسوسة و الخرافات الدخيلة. و لا يغفل في أي مناسبة اللجوء إلى علوم الطبيعة فيما يمسّ فهم كتاب اللّه العزيز، و من ثم فهو تفسير جيّد مفيد في ذاته.

قال الذهبي: «لم نعرف من رجال هذه المدرسة- مدرسة الشيخ محمد عبده- رجلا تأثّر بروح الأستاذ الإمام، و نهج على طريقته من التجديد و إطراح التقليد، و العمل على تنقية الإسلام من

الشوائب التي ألصقت به، و تنبيه الغافلين عن هديه و إرشاده، مثل الأستاذ المراغي. تربّى هذا الرجل في مدرسة الأستاذ الإمام، و تخرّج منها و هو يحمل بين جنبيه قلبا مليئا بالرغبة في الإصلاح، و الثورة على كل ما يقف في سبيل الإسلام و المسلمين» «2».

و قد نهج في تفسيره منهج شيخه، نراه لا يخوض في مبهمات القرآن بالتفصيل، و لا يدخل في جزئيات سكت عنها القرآن و أعرض عنها

(1) راجع: محاسن التأويل، ج 1، ص 337.

(2) التفسير و المفسرون، ج 2، ص 590.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 468

الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلا الروايات الموضوعة أو الضعيفة بكافية عنده حتى يزجّ بها في تفسيره، و لا الأخبار الإسرائيلية بمقبولة لديه، حتى يجعل منها شروحا لما أجمله القرآن و سكت عن تفصيله.

و ممّا يمتاز به هذا التفسير، عنايته بإظهار أسرار التشريع، فنراه يهتم اهتماما كبيرا بإظهار سر التشريع الإسلامي، و حكمة التكليف الإلهي، ليظهر محاسن الإسلام، و يكشف عن هدايته للناس.

كما نجده يعرض لمشاكل المجتمع و أسباب الانحطاط في دول الإسلام، فيعالج كل ذلك بما يفيضه اللّه عليه من بيان هداية القرآن و إرشاده. فقد كان بصيرا بمواطن الداء و أسباب الشفاء، فكان يهدف في دروسه إلى علاجها و استئصالها، و كان كثيرا ما يوجّه الخطاب إلى أرباب الحلّ و العقد في الدولة.

و هكذا وفّق في التوفيق بين القرآن و العلم الحديث، رغم اعتقاده أنّ القرآن قد أتى بأصول عامّة لكلّ ما يهم الإنسان معرفته و العلم به، و كراهته أن يسلك المفسر للقرآن مسلك من يجرّ الآية القرآنية إلى العلوم، أو العلوم إلى الآية، كي يفسرها تفسيرا

علميا يتّفق مع نظريات العلم الحديث، و لكن مع ذلك كان يرى أن يكون المفسّر على شي ء من العلم ببعض نظريات العلم الحديث، ليستطيع أن يأخذ منها دليلا على قدرة اللّه، و يستلهم منها مكان العبرة و العظة.

في ظلال القرآن

لسيد بن قطب بن إبراهيم الشاذلي، المستشهد سنة (1386 ه) على يد طغاة مصر الحاكمة حينذاك. نشأ المؤلف في بيئة إسلامية عريقة، و كان والده من المؤمنين المتعهدين، ولد سنة (1326 ه) في قرية موشا من محافظة أسيوط، ثم ارتحل إلى القاهرة و كانت دراساته العليا هناك. كان كاتبا إسلاميا مجيدا، له في

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 469

الإسلاميات كتب و رسائل مفيدة، تهدف إلى الحركة الإسلامية المتناسبة مع النهضة العلمية الحديثة، فكان تفسيره هذا من خير التفاسير الأدبية الاجتماعية الهادفة إلى إحياء الحركة الإسلامية العتيدة. فمن أهدافه إزاحة الفجوة العميقة بين مسلمي العصر الحاضر و القرآن الكريم، و تعريف المسلمين إلى المهمة العلمية السياسية التي قام بها القرآن، و بيان الحميّة الجهادية التي يهدفها القرآن الكريم.

إلى جنب تربية الجيل المسلم تربية قرآنية إسلامية كاملة، و بيان معالم هذا الطريق الذي يجب على المسلمين سلوكه.

و كان منهجه في التفسير: أولا، عرض آيات مترابطة بعضها مع البعض، في مجموعة منسجمة، و بيان الهدف الكلي للسورة، ثم للآيات المعروضة. و تقسيم السور إلى دراسات، تقسيما موضوعيا، لتعتبر كل مجموعة من الآيات ذات وحدة موضوعية، و ذات هدف معيّن خاص.

ثم يحاول تفسير الآيات- في ذوق أدبي خالص- ببيان الأهداف الكلية التي ترمي إليها الآيات، من غير تعرّض للجزئيات، كما يجتنب من ذكر الإسرائيليات، و الروايات الموضوعة أو الضعيفة، كما يجتنب الخوض في مسائل الخلاف، و هكذا يتجنّب التعرض

للعلوم القديمة و الحديثة التي لا علاقة لها بفهم معاني الآيات الكريمة، و يعتبر التعرّض لها جفاء بالقرآن؛ لأنه في غنى عنها، يقول هو في ذلك:

«و أني لأعجب لسذاجة المتحمّسين لهذا القرآن، الذين يحاولون أن يضيفوا إليه ما ليس منه، و أن يحملوا عليه ما لم يقصد إليه، و أن يستخرجوا منه جزئيات في علوم الطب و الكيمياء و الفلك و ما إليها، كأنما ليعظّموه بهذا و يكبّروه. إنّ القرآن كتاب كامل في موضوعه، و موضوعه أضخم من تلك العلوم كلها؛ لأنه هو الإنسان ذاته الذي يكشف هذه المعلومات و ينتفع بها، و البحث و التجريب

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 470

و التطبيق من خواص العقل في الإنسان، و القرآن يعالج بناء هذا الإنسان نفسه، بناء شخصيته و ضميره و عقله و تفكيره، كما يعالج بناء المجتمع الإنساني الذي يسمح لهذا الإنسان بأنه يحسن استخدام هذه الطاقات المذخورة فيه» «1».

الميزان في تفسير القرآن

تأليف العلّامة الحكيم السيد محمد حسين الطباطبائي، من رجالات الفكر الإسلامي القلائل الذين انتجتهم الحياة العلمية الإسلامية في العصر الأخير. ولد بتبريز سنة (1321 ه) و توفّي بقم سنة (1402 ه).

و هو تفسير جامع حافل بمباحث نظريّة تحليليّة ذات صبغة فلسفية في الأغلب، جمع فيه المؤلّف إلى جانب الأنماط التفسيرية السائدة، أمورا مما أثارته النّهضة الحديثة في التفسير، فقد تصدّى لما يثيره أعداء الإسلام من شبهات، و ما يضلّلون به من تشويه للمفاهيم الإسلامية، بروح اجتماعية واعية، على أساس من القرآن الكريم، و فهم عميق لنصوصه الحكيمة.

و لهذا التفسير القيّم مزايا جمّة نشير إلى أهمّها:

1- جمع بين نمطي التفسير: الموضوعي و الترتيبي، فقد فسّر القرآن آية فآية و سورة فسورة. لكنه إلى

جنب ذلك، نراه يجمع الآيات المتناسبة بعضها مع البعض، ليبحث عن الموضوع الجامع بينها، كلما مرّ بآية ذات هدف موضوعي، و كانت لها نظائر منبثّة في سائر القرآن.

2- عنايته التامّة بجانب الوحدة الموضوعية السائدة في القرآن، كل سورة هي ذات هدف أو أهداف معيّنة، هى تشكّل بنيان السورة بالذات، فلا تتم السورة إلّا

(1) راجع: في ظلال القرآن، ج 1، ص 260، ج 2، ص 94.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 471

عند اكتمال الهدف الموضوعي الذي رامته السورة، و بذلك نجد السور تتفاوت في عدد آيها. يقول هو في ذلك: «إن لكل طائفة من هذه الطوائف من كلامه تعالى التي فصّلها قطعا قطعا و سمّى كل قطعة سورة نوعا من وحدة التأليف و الالتئام، لا يوجد بين أبعاض من سورة، و لا بين سورة و سورة، و من هنا نعلم أن الأغراض و المقاصد المحصّلة من السور مختلفة، و أنّ كل واحدة منها مسوقة لبيان معنى خاص و لغرض محصّل، لا تتمّ السورة إلّا بتمامه» «1».

3- نظريّة «الوحدة الكليّة» الحاكمة على القرآن كلّه، باشتماله على روح كلية سارية في جميع آياته و سوره، و تلك الروح هي التي تشكّل حقيقة القرآن الأصلية السائدة على أبعاضه و أجزائه. يرى المؤلّف: أنّ وراء هذا الظاهر من ألفاظ و كلمات و حروف روحا كليّة، كانت هي جوهر القرآن الأصيل، و كانت بمثابة الروح في الجسد من الإنسان.

قال في ذلك: «فالمحصل من الآيات الشريفة أنّ وراء ما نقرؤه و نعقله من القرآن، أمرا هو من القرآن بمنزلة الروح من الجسد، و المتمثل من المثال، و هو الذي يسمّيه تعالى بالكتاب الحكيم، و هو الذي تعتمد عليه معارف القرآن،

و ليس من سنخ الألفاظ و لا المعاني» «2».

و بذلك و بالذي قبله، تتشكّل وحدة السياق في القرآن، كما لا يخفى.

4- الاستعانة بمنهج «تفسير القرآن بالقرآن». فقد حقق المؤلف هذا الأمر و أوجده بعيان؛ اذ نراه يعتمد في تفسيره على القرآن ذاته، فيرى أنّ غير القرآن غير صالح لتفسير القرآن، بعد أن كان هو تبيانا لكل شي ء فيا ترى كيف يكون

(1) الميزان، ج 1، ص 14 (ط. طهران) و ص 16 (ط. بيروت).

(2) الميزان، ج 3، ص 55.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 472

القرآن تبيانا لكل شي ء و لا يكون تبيانا لنفسه؟! لكن التزام تفسير القرآن بنفسه، يتطلّب جهدا بالغا و إحاطة تامة، و قد لمسناه في مفسّرنا العلّامة، و وجدناه على قدرة فائقة في ذلك.

يقول هو في ذلك: «الطريقة المرضية في التفسير هي أن نفسّر القرآن بالقرآن، و نشخص المصاديق و نتعرّفها بالخواصّ التي تعطيها الآيات، كما قال تعالى: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ «1» و حاشا القرآن أن يكون تبيانا لكل شي ء و لا يكون تبيانا لنفسه «2».

الفرقان في تفسير القرآن

تأليف الشيخ محمد الصادقي الطهراني، و قد تمّ تأليفه خلال السنوات (1397- 1407 ه)، و كان بصورة محاضرات يلقيها على طلبة العلوم الدينية في الحوزتين النجف و قم. و هو تفسير جامع شامل، اتخذ منهج تفسير القرآن بالقرآن حسب الإمكان، و هو تحليلي تربوي اجتماعي، مع الاستناد إلى أحاديث يراها صحيحة و أخرى ملائمة مع ظواهر القرآن، و لذا احترز عن الإسرائيليات بشكل قاطع، و كذا عن الأحاديث الموضوعة و الضعيفة. و بما أنّ المؤلّف يعدّ من الفقهاء، فإن في تفسيره الشي ء الكثير من التعرّض لمسائل الفقه و الأحكام

بصورة مبسّطة، و هكذا تجده يفصّل في المسائل الكلامية الاعتقادية في نزاهة، كما و يجتنب تحميل القرآن بنظرات العلم الحديث، و يرى أنّ القرآن في غنى عن ذلك، اللهم إلّا إذا رفع بذلك إبهام في إشارات عابرة جاءت في القرآن، على

(1) النحل/ 89.

(2) الميزان، ج 1، ص 9.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 473

شرط أن تكون النظرية ثابتة؛ و لذلك نراه يحمل على الشيخ طنطاوي في ولعه بحمل النظريات العلمية على القرآن. و في ذلك يقول: «و من ذلك كثير عند المتفرنجين من المفسّرين الذين غرقوا في العلوم و النظريات الجديدة، و نسوا أنّ القرآن هو علم اللّه، فلن يتبدّل، و العلم دوما في تبدّل و تحوّل من خطأ إلى صواب و من صواب إلى أصوب» «1».

من هدى القرآن

تفسير تربوي تحليلي شامل، يبحث فيه المؤلف هو السيد محمد تقي المدرسي عن الربط الموضوعي بين الواقع المعاش، و بين الحقائق الراهنة و الدلائل البيّنة التي أبانها القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرنا، كمنهج تربوي و أخلاقي، يستهدف وضع الحلول الناجعة لكل مشكلات العصور المختلفة حتى قيام الساعة. قال المؤلف: «و اعتمدت فيه على منهج التدبّر المباشر، انطلاقا مما بيّنته في التمهيد، أي منهج الاستلهام مباشرة من الآيات، و العودة إلى القرآن ذاته، كلما قصرنا عن فهم بعض آياته وفق المنهج الذي علّمنا إياه الرسول الكريم و أئمة أهل البيت عليهم السّلام حيث أمرونا بتفسير القرآن ببعضه» «2» فكان تفسيرا تحليليا تربويا، لم توجد فيه المعمعات الجدلية، و لا الخرافات الإسرائيلية، معتمدا شرح الآيات و ذكر مقاصدها العالية و أهدافها السامية، و معالجة أدواء المجتمع معالجة ناجعة موفّقة.

تمّ تأليف الكتاب سنة (1405 ه)، في

(18) مجلّدا، و طبع سنة (1406)

(1) الفرقان في تفسير القرآن، ج 1، ص 31.

(2) من هدى القرآن، ج 1، ص 5.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 474

بطهران.

من وحي القرآن

تفسير تربوي اجتماعي شامل، و يعدّ من أروع التفاسير الجامعة، النابعة من روح حركيّة نابضة بالحيويّة الإسلامية العريقة. انطلق فيه المؤلف هو السيد محمد حسين فضل اللّه، من ألمع علماء الإسلام في القطر اللبناني يعمل في إحياء الجوّ القرآني في كل مجالات الحياة المادية و المعنوية، نظير ما صنعه سيد قطب في تفسيره «في ضلال»، مضيفا عليه تعاليم صادرة عن أهل البيت في تربية الجيل المسلم، و متناسبا مع كل دور من أدوار الزمان.

و قد بدأ المؤلف بمقدمة في بيان هدفه من التفسير و الخطوات الأساسية التي مشى عليها، قال: «هل هذا كتاب تفسير، و هل نحن بحاجة إلى تفسير جديد أمام هذا الحشد من التفاسير، التي لم تترك جانبا من جوانب المعرفة القرآنية، إلّا و أفاضت في تحليله و توسيعه و تعميقه، من الجوانب اللغوية، إلى الجوانب البلاغية و الفلسفية، و النفسية و الاجتماعية ... و ما تزال المحاولات مستمرة في استحداث آفاق جديدة لتفاسير جديدة؟ و الجواب: إننا لم نكتب هذه الأبحاث في البداية كمحاولة تفسيرية جديدة، بل كانت دروسا قرآنية تلقى على مجموعة من الطلاب المؤمنين المثقفين، من أجل خلق وعي قرآني يركّز الوعي الإسلامي على قواعد ثابتة. انطلقت هذه الدروس في خط عملي متحرك يركّز على استيحاء أجواء القرآن، من أجل أن نعيش تلك الأجواء في حياتنا الإسلامية الصاعدة؛ لأن القرآن ليس كلمات لغوية تتجمّد في معناها اللغوي، بل هي كلمات

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 475

تتحرّك في أجواء

روحية و عملية ...» «1».

و من ثم يغلب على التفسير الطابع التربوي بما لكلمة التربية من معنى اصطلاحي، يتجسّد في الارتقاء بالإنسان في كل مجالاته المختلفة، و يسعى إلى إحداث عملية التكيّف و التفاعل بين الكائن الآدمي و بيئته الطبيعية و الاجتماعية، لتحقيق خلافة اللّه في الأرض «2».

و هكذا يمتاز هذا التفسير بأسلوبه الأدبي الرائع، مع المزج بينه و بين الأسلوب العلمي المتأدّب النزيه، مما يجعل الكتاب رائعا يجذب القارئ إليه جذبا، و يجعله يتفاعل معه مغرما به.

و قد تم تأليف هذا التفسير القيم عام (1399 ه)، و طبع عدة طبعات، و لا تزال تعاد طبعاته، حسب رغبة الجيل المثقّف من الأمّة في اقتنائه و الاستضاءة بأنواره، لا زال المؤلّف مؤيّدا مسدّدا.

تفسير نمونه (الأمثل)

هو أول تفسير نموذجي ظهر إلى الوجود، و كان قد تعاون عليه جمع من فضلاء الحوزة العلمية بقم المقدسة؛ و ذلك خلال مدة (14) سنة (1396- 1410 ه) و لهذا كان التفسير عملا جماعيّا، قد بذلت في تدوينه جهود، و لكن تحت إشراف العلّامة الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، أحد أعلام العصر، و من المجاهدين في سبيل الدعوة الإسلامية، صاحب تآليف إسلامية عريقة، و صاحب نظر و رأي و اجتهاد.

(1) تفسير من وحي القرآن، ج 1، ص 8.

(2) رسالة القرآن، العدد الرابع، مقال: الملامح العامة لتفسير «من وحي القرآن»، ص 59.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 476

و هذا التفسير إنما دوّن و كتب ليكون غذاء نافعا للجيل المعاصر؛ و لذلك جاء بالأهم من المواضيع الإسلامية، التربوية و الأخلاقية، و متناسبا مع المستوى العام، فكانت خدمة جليلة أسداها الشيخ مكارم و أعوانه، و قدّموها للجيل المتعطّش إلى فهم معاني القرآن بشكل واسع،

و الاستقاء من مناهله العذبة. جاء في المقدمة: «لكل عصر خصائصه و ضروراته و متطلباته، و هي تنطلق من الأوضاع الاجتماعية و الفكرية السائدة في ذلك العصر، و لكل عصر مشاكله و ملابساته الناتجة عن تغيير المجتمعات و الثقافات، و هو تغيير لا ينفك عن مسيرة المجتمع التاريخية، و المفكر الفاعل في الحياة الاجتماعية، هو ذلك الذي فهم الضرورات و المتطلبات، و أدرك المشاكل و الملابسات. و قد واجهنا دوما أسئلة وردت إلينا من مختلف الفئات، و خاصّة الشباب المتعطّش إلى نبع القرآن عن التفسير الأفضل، كانت هذه الأسئلة تنطوي ضمنيا على بحث عن تفسير يبيّن عظمة القرآن عن تحقيق لا عن تقليد، و يجيب على ما في الساحة من احتياجات و تطلّعات و آلام و آمال. تفسير يجدي كل الفئات، و يخلو عن المصطلحات العلمية المعقّدة، و نحن نفتقر إلى تفسير مثل هذا. فالسلف و المعاصرون كتبوا في ذلك كثيرا، و لكنها بأساليب خاصة بالعلماء و الأدباء، و على مستويات رفيعة» «1». فمن هنا لم يجدوا بدّا من الإقدام على مثل هذا التفسير بهذا الشكل الصالح للفهم العام، الأمر الذي يجعل من هذا التفسير على أهمية كبرى في سبيل التثقيف العام، خدمة جليلة مشكورة.

و هذا التفسير قد كتب بالفارسية في (27) مجلدا، و ترجم إلى العربيّة باسم «الأمثل» في (20) مجلدا. و طبع عدة مرات.

(1) الأمثل، ج 1، ص 11.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 477

الكاشف

للكاتب العلّامة الشيخ محمد جواد مغنية، من كبار علماء لبنان (1322- 1400 ه) المتخرّجين من حوزة النجف الأشرف. عيّن قاضيا شرعيّا في بيروت، ثم مستشارا للمحكمة العليا، فرئيسا لها بالوكالة. و عرضت عليه الرئاسة، لكنّه رفض

و انعزل، و انصرف إلى التأليف، فأخرج العديد من المؤلّفات ذوات الاعتبار، منها هذا التفسير القيّم، أخرجه في سبع مجلدات، و طبع عدّة طبعات.

و كان الشيخ مغنية من الدعاة إلى التقريب بين المذاهب، و كتب رسالات و مقالات في مجلّة «رسالة الإسلام» بهذا الشأن، و أحسن و أفاد.

و يعدّ تفسيره هذا من النمط الجديد، الذي يتلائم و حاجة المسلمين في هذا العصر. و لقد أجاد في هذا المضمار، و أوجز الكلام حول مفاهيم القرآن الكريم المتوافقة مع متطلّبات الزمن، في عبارات شيّقة رصينة، و دلائل متينة معقولة، من غير أن يتغافل عمّا حقّقه المفسرون السلف و زاد عليه الخلف. فكان تفسيرا جامعا و شاملا و مجيبا على أسئلة الجيل الحديث، فجزاه اللّه خير الجزاء.

و هناك تفسير آخر بنفس الاسم «كاشف» تفسير فارسي، تعاون على تأليفه، كلّ من الأستاذ السيّد محمد باقر حجتي، و الأستاذ عبد الكريم الشيرازي، من أساتذة جامعة طهران. يقع في 12 مجلدا، و طبع منذ عام (1404 ه) عدة طبعات.

و يعدّ تفسيرا جديدا في بيان الشكل الموزون لسور القرآن و نظمها، و مناسبات الآيات و السور و تبيينها و تفسيرها، مع الاهتمام بالبيان اللّغوي، و ترجمة تفسيريّة موجزة، و ذكر الصور و الأشكال و الجداول الإحصائيّة و الرسوم الجغرافية لتوضيح المعنى، مما تتطلّبه حاجة الطلبة الجامعيين اليوم و قد حاولا

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 478

جهدهما في عرض معلومات قرآنية هي بحاجة للجيل الجديد، مما لا يتاح غالبا العثور عليها في سائر التفاسير أو هي بعيدة عن متناول الشباب المثقّف في العصر الحاضر. فقد كانا موفّقين في هذا الهدف السامي، جزاهما اللّه خيرا.

مخزن العرفان

تفسير حافل جامع، هو من خير التفاسير التي

أنتجها الجيل الجديد، في أسلوب رائع بديع، في خمسة عشر مجلدا، باللغة الفارسيّة السهلة السلسة، وضعتها مفخرة النساء الإيرانيّات، السيدة نصرت بنت السيد محمد على أمين، من كبار علماء أصفهان.

و قد تفرّدت أصفهان من بين البلاد الإسلاميّة، بهذه السيّدة الجليلة، التي انصرفت بمجهودها نحو العلوم الإسلاميّة، حتى نالت درجة عالية من الاجتهاد في الفقاهة و في سائر العلوم الأدبيّة و الفلسفية و العرفان، في أرقى درجات.

و هذه السيدة المعروفة ب «بانو امين» قد بذلت جهدها البالغ في تربية النساء الفاضلات في شتى مناحي إيران الإسلامية. و قد ازدهر البلاد بكثرة من هذه النساء العالمات، و لا تزال تزدهر البلاد بالتوسّع في سبيل تثقيف المرأة المسلمة ثقافة إسلامية عريقة و رائقة؛ كلّ ذلك بفضل جهود هذه السيدة الفاضلة الواعية.

و توفّيت سنة (1403 ه) عن عمر ناهز التسعين، فلقد عاشت سعيدة و ماتت حميدة. فرحمة اللّه عليها و بارك في علمها باقيات صالحات.

و لها في شتّى العلوم و المعارف الإسلاميّة كتب و رسائل قيّمه، لا تزال موضع انتفاع طلّاب العلم و روّاد المعرفة.

و التفسير وضع على أسلوب تربويّ، يعمد إلى تزكية النفس، ثم إلى تهذيب الأخلاق، في شكل جيّد بديع. و يعدّ من خير الآثار، فجزاها اللّه خير الجزاء

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 479

الصالحات.

و هناك تفاسير أخر باللّغتين الفارسيّة و العربيّة، دوّنت أخيرا على أثر النهضة الدينيّة و الحركة الثقافية، في ربوع إيران الإسلامية. نطوي الكلام عن ذكرها، و نحيل الطالب إلى ما جمعه الفاضل العلامة السيد محمد على أيازي في موسوعته القيّمة «المفسّرون حياتهم و منهجهم». و هو كتاب حافل جامع لأنواع التفاسير التي زخرت بها البلاد الإسلامية و لا سيّما في العصر الحاضر،

جزاه اللّه خيرا.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 480

تفاسير أدبيّة
اشارة

هناك تفاسير غلب عليها الطابع الأدبي، النحو و البلاغة و سائر علوم اللغة، و امتازت بالتعرّض لهذه الجوانب من تفسير القرآن، نذكر الأهم منها:

الكشّاف
اشارة

للعلامة جار اللّه الزمخشري. هو أبو القاسم، محمود بن عمر الخوارزمي. ولد سنة (467) و توفي سنة (538 ه) كان معتزلي الاعتقاد، متجاهرا بعقيدته، و بنى تفسيره هذا على مذهب الاعتزال، طاعنا في تفاسير حادت عن جادّة العقل بظواهر هي متنافية مع نصّ الشرع. و هو تفسير قيّم لم يسبق له نظير في الكشف عن جمال القرآن و بلاغته و سحر بيانه، فقد امتاز المؤلّف بإلمامه بلغة العرب و المعرفة بأشعارهم و الإحاطة بعلوم البلاغة و البيان و الإعراب. و لقد أضفى هذا النبوغ العلمي الأدبي على تفسير الكشاف ثوبا جميلا، لفت إليه أنظار العلماء، و علق به قلوب المفسرين، و من ثمّ أثنى عليه كثير من أولي البصائر في الأدب و التفسير و الكلام. غير أن أصحاب الرأي الأشعري نقموا عليه صراحته بمذهب الاعتزال، و تأويله لكثير من ظواهر الآيات المنافية مع دليل العقل.

إنّ نظرة الزمخشري في دلالة الآيات الكريمة نظرة أدبيّة فاحصة، و كان فهمه لمعاني الآيات فهما عميقا غير متأثر بمذهب كلامي خاص، فهو لا ينظر في الآيات من زاوية مذهب الاعتزال، كما رموه بذلك. بل من زاوية فهم إنسان حرّ، عاقل أريب، و يحلّل الآيات تحليلا أدبيّا في ذوق عربيّ أصيل، الأمر الذي

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 481

يتحاشاه أتباع مذهب الاشعري.

مثلا عند ما تعرّض لتفسير قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «1» يقول: و الوجه عبارة عن الجملة. و الناضرة: من نضرة النعيم. إلى ربها نظرة: تنظر إلى ربها خاصة لا تنظر

إلى غيره. و هذا معنى تقديم المفعول، أ لا ترى إلى قوله: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ «2»، إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ «3»، إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ «4»، وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ «5»، وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ «6»، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ «7». كيف دلّ فيها التقديم على معنى الاختصاص، و معلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر، و لا تدخل تحت العدد، في محشر يجتمع فيه الخلائق كلهم، فإنّ المؤمنين نظّارة ذلك اليوم؛ لأنهم الآمنون الذين لا خوف عليهم و لا هم يحزنون. فاختصاصه بنظرهم إليه، لو كان منظورا إليه، محال؛ فوجب حمله على معنى يصح معه الاختصاص. و الذي يصح معه، أن يكون من قول الناس: أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي، تريد معنى التوقّع و الرجاء. و منه قوله القائل:

و إذا نظرت إليك من ملك و البحر دونك زدتني نعما

و سمعت سرويّة مستجدية بمكة وقت الظهر، حين يغلق الناس أبوابهم،

(1) القيامة/ 22- 23.

(2) القيامة/ 12.

(3) القيامة/ 30.

(4) الشورى/ 53.

(5) آل عمران/ 28، النور/ 42، فاطر/ 18.

(6) البقرة/ 245.

(7) الشورى/ 10.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 482

و يأوون إلى مقائلهم، تقول: «عيينتي نويظرة إلى اللّه و إليكم». و المعنى: أنهم لا يتوقّعون النعمة و الكرامة إلّا من ربّهم، كما كانوا في الدنيا لا يخشون و لا يرجون إلّا إياه «1».

أنظر إلى هذا التحقيق الأنيق الذي سمحت به قريحة مثل الزمخشري العلامة الأديب الأريب، و لكن أصحاب الرأي المعوّج لم يرقهم هذا البيان الكافي الشافي، فجعلوا يهرولون حوله في ضجيج و عويل، زاعمين أنه خالف رأي أهل السنة، و أوّل القرآن وفق

مذهب الاعتزال.

هذا ابن المنير الاسكندري تراه يهاجم الزمخشري في لحن عنيف، قائلا: ما أقصر لسانه عند هذه الآية، فكم له يدندن و يطبّل في جحد الرؤية، و يشقق القباء و يكثر و يتعمّق، فلما فغرت هذه الآية فاها، صنع في مصادمتها بالاستدلال ...

و ما يعلم أن المتمتّع برؤية جمال وجه اللّه تعالى لا يصرف عنه طرفه، و لا يؤثر عليه غيره، كما لا يصرف العاشق إذا ظفر برؤية محبوبه النظر عنه، فكيف بالمحبّ للّه عزّ و جل إذا أحظاه النظر إلى وجهه الكريم. نسأل اللّه أن يعيذنا من مزالق البدعة و مزلّات الشبهة «2».

و يقول الشيخ محمد عليان- في الهامش أيضا-: عدم كونه تعالى منظورا إليه، مبني على مذهب المعتزلة، و هو عدم جواز رؤيته تعالى. و مذهب أهل السنة جوازها.

و قال الشيخ أحمد مصطفى المراغي إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ: أي تنظر إلى ربها عيانا بلا حجاب. قال جمهور أهل العلم: المراد بذلك ما تواترت به الأحاديث

(1) تفسير الكشاف، ج 4، ص 662.

(2) بهامش التفسير، ج 4، ص 662.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 483

الصحيحة، من أن العباد ينظرون إلى ربّهم يوم القيامة، كما ينظرون إلى القمر ليلة البدر. قال ابن كثير: و هذا بحمد اللّه مجمع عليه من الصحابة و التابعين و سلف هذه الأمّة، كما هو متّفق عليه بين أئمّة الإسلام و هداة الأنام. و روى البخاري: «أنكم سترون ربكم عيانا». و

روى الشيخان: «أن ناسا قالوا: يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: هل تضارّون في رؤية الشمس و القمر ليس دونهما سحاب؟ قالوا: لا، قال: فانكم ترون ربكم كذلك» «1».

و

قد أكثر أهل الحديث من روايات بهذا الشأن، أخذ بظاهرها السلف، و من تبعهم من أهل الظاهر «2».

و استدل شيخ أهل السنة أبو الحسن الأشعري بهذه الآية على جواز رؤية اللّه في الآخرة، و استشهد بموضع «إلى» من هذه الآية، قال: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ أي رائية؛ إذ ليس يخلو النظر من وجوه ثلاثة: إما نظر الاعتبار، كما في قوله تعالى: أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ «3»، أو نظر الانتظار، كما في قوله تعالى: ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً «4»، أو نظر الرؤية. أما الاول فلا يجوز؛ لأنّ الآخرة ليست بدار اعتبار. و كذا الثاني؛ لأن النظر إذا ذكر مع الوجه فمعناه نظر العينين اللتين في الوجه؛ و لأنّ نظر الانتظار لا يقرن ب «إلى»، كما في قوله تعالى: فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ «5». قال: فان قال قائل: لم لا يجوز أن يراد «إلى ثواب ربها ناظرة»؟ قيل له: ثواب اللّه غيره، و قد قال تعالى:

(1) تفسير المراغي، ج 10، ص 152- 153.

(2) راجع: الطبري، ص 73- 75. و ابن كثير، ج 2، ص 414. و كذا القشيري، ج 3، ص 91.

(3) الغاشية/ 17.

(4) يس/ 49.

(5) النمل/ 35.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 484

إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ، و لم يقل: إلى غيره ناظرة، و القرآن على ظاهره، و ليس لنا أن نزيله عن ظاهره إلّا لحجة «1».

أما أهل العدل و التنزيه فكانت نظرتهم في توحيد اللّه نظرة في غاية السموّ و الرفعة، فطبّقوا قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ «2» أبدع تطبيق، و فصّلوه خير تفصيل، و حاربوا الأنظار الوضعية التي تثبت أنّ للّه تعالى جسما، و

أنّ له وجها و يدين و عينين، و له جهة فوقية، و عرش يستوي عليه جالسا، و أنه يرى بالأبصار، إلى آخر ما قالته الأشاعرة و أذنابهم من المشبّهة و المجسمة. فأتى أهل العدل و سموا على هذه الأنظار، و فهموا من روح القرآن: تجريد اللّه عن المادّية، فساروا في تفسيرها تفسيرا دقيقا واسعا، و أوّلوا ما يخالف هذا المبدأ، و سلسلوا عقائدهم تسلسلا منطقيا.

و قد فصّل الكلام- في نفي رؤيته تعالى- القاضي عبد الجبار في كتابه «شرح الأصول الخمسة» «3» و أوفى البحث حقّه. و هكذا الخواجا نصير الدين الطوسي في مختصر العقائد «التجريد» «4».

و ملخّص الكلام في نفي الرؤية: أنّ النظر بالعين عبارة عن إشعاع نوري يحيط بالجسم المرئي، الأمر الذي يستدعي مقابلة و مواجهة، و هو يلازم الجسمية. و الآية الكريمة تصف موقف المؤمنين في ذلك اليوم، أنهم على رغم

(1) راجع: كتاب «الإبانة» لأبي الحسن الأشعري، ص 10- 19. و «اللّمع» له أيضا ص 61- 68.

(2) الشورى/ 11.

(3) باب نفي الرؤية، ص 232- 277.

(4) شرح تجريد العقائد للعلّامة الحسن بن المطهّر الحلّي، ص 163- 165. ط. بمبئي.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 485

أهواله الجسام مبتهجون مسرورون، ليس لشي ء إلّا لأنهم منصرفون بكلّيتهم عن غيره تعالى، و متوجهون بكل وجودهم إلى اللّه. و النظر بهذا المعنى يتعدّى ب «إلى» كما جاء في قوله السرويّة، و قول الشاعر:

إني إليك لما و عدت لناظر نظر الفقير إلى الغني الموسر

و كانت عائشة تنكر أشدّ الإنكار إمكان رؤيته تعالى بالأبصار. ففي حديث مسروق عنها المتفق عليه قال: قلت لعائشة: يا أمّتاه، هل رأى محمد ربّه ليلة المعراج؟ فقالت: لقد

قفّ شعري مما قلت! أين أنت من ثلاث، من حدّثكهنّ فقد كذب: من حدثك أن محمدا رأى ربّه فقد كذب، و قد أعظم على اللّه الفرية، ثم قرأت لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ... «1»، و من حدّثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب، ثم قرأت وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً «2»، و من حدّثك أنه ... كتم شيئا من الدين، فقد كذب ثم قرأت يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ... «3»

هذا حديث متفق عليه رواه الشيخان و غيرهما من أصحاب الصحاح «4».

و هكذا كان مجاهد يقول في آية القيامة إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ: تنتظر ثواب ربها. في حديث رواه عبد بن حميد عنه، قال الحافظ ابن حجر: سنده إلى مجاهد صحيح «5».

(1) الأنعام/ 103.

(2) لقمان/ 34.

(3) المائدة/ 67.

(4) تفسير المنار، ج 9، ص 153.

(5) المصدر، ص 134.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 486

و من ثم فإنّ النابهين من الأمة، و لا سيما في عصر متأخّر، هبّوا ينكرون إمكان رؤيته تعالى على الإطلاق؛ إذا كان المقصود من الرّؤية الإحاطة بذاته المقدّسة بتحديق العين إليه، فإنه محال البتة، فإنه ملازم للتقابل و الجسمية المحالين عليه سبحانه.

قال صاحب المنار في وجل من أصحابه في الخروج من مذهب أسلافه:

و أما رؤية الربّ تعالى فربما قيل بادئ الرأي: إن آيات النفي فيها أصرح من آيات الإثبات، كقوله تعالى: لَنْ تَرانِي، و قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ فهما أصرح دلالة على النفي من دلالة قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ على الإثبات، فإن استعمال النظر بمعنى الانتظار، كثير في

القرآن و كلام العرب، كقوله: ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً «1»، هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ «2»، هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ «3». و ثبت أنه استعمل بهذا المعنى متعديا ب «إلى»؛ و لذلك جعل بعضهم وجه الدلالة فيه على المعنى الآخر- و هو توجيه الباصرة، إلى ما تراد رؤيته- أنه أسند إلى الوجوه، و ليس فيها ما يصحّح إسناد النظر إليها إلّا العيون الباصرة، و هو في الدقة كما ترى (أي ليس ذلك ظاهر الآية ظهورا عرفيا) «4». و لصاحب المنار هنا في توجيه و تأويل كلام أهل السنة كلام طويل، لا يستغني الباحث عن مراجعتها.

و لنا أيضا بحث مستوف بمسألة الرؤية عرضناه في بحث المتشابهات «5».

(1) يس/ 49.

(2) الأعراف/ 53.

(3) البقرة/ 210.

(4) تفسير المنار، ج 9، ص 134.

(5) راجع: التمهيد، ج 3، ص 90- 111.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 487

اعتماده على التأويل و التمثيل

و هكذا نجد الزمخشري يعتمد في تفسيره على ضروب من التأويل و المجاز و التمثيل، فيحمل ما ظاهره التنافي مع العقل أو الأصول المتلقّاة من الشرع، على ضرب من التمثيل و الاستعارة و المجاز، الأمر الذي أثار نعرات خصومه أهل السنة و الجماعة، ناقمين عليه تصريفه لظواهر آيات القرآن الحكيم.

مثلا نجده عند تفسير الآية (72) من سورة الأحزاب، يقول:

قوله: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ و هو يريد بالأمانة الطاعة، فعظّم أمرها و فخّم شأنها، و فيها وجهان:

أحدهما: أنّ هذه الأجرام العظام من السماوات و الأرض و الجبال، قد انقادت لأمر اللّه عزّ و علا، انقياد مثلها، و هو ما يتأتى من الجمادات، و أطاعت له الطاعة التي تصحّ منها و تليق بها؛

حيث لم تمتنع على مشيئته و إرادته إيجادا و تكوينا و تسوية على هيآت مختلفة و أشكال متنوعة، كما قال: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ «1». و أما الإنسان فلم تكن حاله- فيما يصحّ منه من الطاعات، و يليق به من الانقياد لأوامر اللّه و نواهيه، و هو حيوان عاقل صالح للتكليف- مثل حال تلك الجمادات فيما يصحّ منها و يليق بها من الانقياد، و عدم الامتناع.

و المراد بالأمانة، الطاعة؛ لأنها لازمة الوجود، كما أنّ الأمانة لازمة الأداء.

و عرضها على الجمادات، و إباؤها و إشفاقها: مجاز.

و أما حمل الأمانة، فمن قولك: فلان حامل للأمانة و محتمل لها، تريد أنه لا يؤدّيها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمّته و يخرج عن عهدتها؛ لأنّ الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها و هو حاملها. أ لا تراهم يقولون: ركبته الديون. ولي عليه

(1) فصّلت/ 11.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 488

حق، فإذا أدّاها لم تبق راكبة له و لا هو حامل لها. و نحوه قولهم: لا يملك مولى لمولى نصرا، يريدون أنه يبذل النصرة له و يسامحه بها، و لا يمسكها كما يمسك الخاذل. و منه قول القائل:

أخوك الذي لا تملك الحسّ نفسه و ترفضّ عند المحفظات الكتائف «1»

أي لا يمسك الرقّة و العطف إمساك المالك الضنين ما في يده، بل يبذل ذلك و يسمح به. و منه قولهم: أبغض حق أخيك؛ لأنه إذا أحبّه لم يخرجه إلى أخيه و لم يؤدّه، و إذا أبغضه أخرجه و أدّاه.

فمعنى فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ «2»: فأبين إلّا أن يؤدّينها، و أبى الإنسان إلّا أن يكون محتملا لها لا يؤدّيها، ثم وصف بالظلم لكونه تاركا

لأداء الأمانة، و بالجهل، لإخطائه ما يسعده مع تمكّنه منه، و هو أداؤها.

و الثاني: أن ما كلّفه الإنسان بلغ من عظمه و ثقل محمله، أنه عرض على أعظم ما خلق اللّه من الأجرام و أقواه و أشدّه، أن يتحمّله و يستقلّ به، فأبى حمله و الاستقلال به و أشفق منه. و حمله الإنسان على ضعفه و رخاوة قوّته. إنه كان ظلوما جهولا؛ حيث حمل الأمانة ثم لم يف بها، و ضمنها ثم خاس بضمانه فيها «3».

قال: و نحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب، و ما جاء القرآن إلّا على

(1) هو للقطامي، و قيل: لذي الرمة. و حسّ له حسّا: رقّ له و عطف. و الحسّ أيضا: العقل و التدبير و النظر في العواقب. و الارفضاض: الترشرش و التناثر. و أحفظه إحفاظا: أغضبه.

و الكتائف جمع كتيفة، و هي الضغينة و الحقد. يقول: أخوك هو الذي لا تملك نفسه الرحمة، بل يبذلها لك و يسرع إليك بغتة و تذهب ضغائنه.

(2) الأحزاب/ 72.

(3) خاس به يخيس و يخوس: غدر به. خاس بالعهد، إذا نكث.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 489

طرقهم و أساليبهم. و من ذلك قولهم: لو قيل للشحم أين تذهب، لقال: أسوّي العوج. و كم لهم من أمثال على ألسنة البهائم و الجمادات. و تصوّر مقالة الشحم محال، و لكن الغرض أن السمن في الحيوان ممّا يحسّن قبيحه، كما أن العجف مما يقبّح حسنه. فصوّر أثر السمن فيه تصويرا هو أوقع في نفس السامع، و هي به آنس، و له أقبل، و على حقيقته أوقف.

و كذلك تصوير عظم الأمانة و صعوبة أمرها و ثقل محملها و الوفاء بها.

و هنا تقوم

أمام الزمخشري صعوبات و مشاكل، يصوّرها لنا في سؤاله:

فإن قلت: قد علم وجه التمثيل في قولهم للذي لا يثبت على رأي واحد: أراك تقدّم رجلا و تؤخّر أخرى؛ لأنه مثّلت حاله في تميّله و ترجّحه بين الرأيين، و تركه المضي على أحدهما بحال من يتردّد في ذهابه، فلا يجمع رجليه للمضي في وجهه. و كل واحد من الممثّل و الممثّل به، شي ء مستقيم، داخل تحت الصحة و المعرفة. و ليس كذلك ما في هذه الآية، فإنّ عرض الأمانة على الجماد و إباءه و إشفاقه محال في نفسه، غير مستقيم، فكيف صحّ بناء التمثيل على المحال. و ما مثال هذا إلّا أن تشبّه شيئا، و المشبّه به غير معقول.

و لكنّ الزمخشري لا توقفه هذه الصعوبات، بل نراه يتخلّص منها بكل دقّة و براعة؛ حيث يقول:

قلت: الممثّل به في الآية و في قولهم: «لو قيل للشحم أين تذهب ...» و في نظائره، مفروض، و المفروضات تتخيّل في الذهن كما المحقّقات: مثّلت حال التكليف في صعوبته، و ثقل محمله بحاله المفروضة لو عرضت على السماوات و الأرض و الجبال لأبين أن يحملنها و أشفقن منها «1».

(1) الكشاف، ج 3، ص 564- 565.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 490

قال الذهبي: و هذه الطريقة التي يعتمد عليها الزمخشري في تفسيره أعني طريقة الفروض المجازية، و حمل الكلام الذي يبدو غريبا في ظاهره، على أنه من قبيل التعبيرات التمثيليّة أو التخييليّة قد أثارت حفيظة خصمه السنّي ابن المنير الإسكندري عليه، فاتّهمه بأشنع التّهم في كثير من المواضع التي تحمل هذا الطابع، و نسبه إلى قلّة الأدب و عدم الذوق «1».

فمثلا عند ما يعرض الزمخشري لقوله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا

الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ «2» نراه يقول: هذا تمثيل و تخييل، كما مرّ في آية عرض الأمانة، و قد دلّ عليه قوله تعالى: وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ ... و الغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه و قلّة تخشعه عند تلاوة القرآن، و تدبّر قوارعه و زواجره «3».

و لكن هذا قد أغضب ابن المنير، فقال معقّبا عليه: و هذا مما تقدم إنكاري عليه فيه، أ فلا كان يتأدّب بأدب الآية، حيث سمى اللّه هذا مثلا، و لم يقل: و تلك الخيالات نضربها للناس. ألهمنا اللّه حسن الأدب معه، و اللّه الموفّق.

غير أنّ الزمخشري ولع بهذه الطريقة، فمشى عليها من أوّل تفسيره إلى آخره، و لم يقبل المعاني الظاهرة التي أخذ بها أهل السنة و حسبوها أقرب إلى الصواب، كما لا ينفك عن التنديد بأهل السنة الذين يقبلون هذه المعاني الظاهرة و يقولون بها، و كثيرا ما ينسبهم من أجل ذلك إلى أنهم من أهل الأوهام و الخرافات، كما عرفت من هجوه لهم في الشعر المتقدّم. و قد سمّاهم أهل الحشو، عند تفسيره

(1) التفسير و المفسرون، ج 1، ص 449.

(2) الحشر/ 21.

(3) الكشاف، ج 4، ص 509.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 491

لآية (36) من سورة آل عمران وَ إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ.

قال: و ما يروى من

الحديث: «ما من مولود يولد إلّا و الشيطان يمسّه حين يولد فيستهلّ صارخا من مسّ الشيطان إيّاه إلّا مريم و ابنها»

فاللّه أعلم بصحّته. فإن صحّ فمعناه: أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلّا مريم و ابنها، فإنهما

كانا معصومين. و كذلك كل من كان في صفتهما، كقوله تعالى: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ «1». و استهلاله صارخا من مسّه، تخييل و تصوير لطمعه فيه، كأنّه يمسّه و يضرب بيده عليه، و يقول: هذا ممن أغويه، و نحوه من التخييل قول ابن الرومي:

لما تؤذن الدنيا به من صروفها يكون بكاء الطفل ساعة يولد

و أما حقيقة المسّ و النخس كما يتوهم أهل الحشو فكلّا. و لو سلّط إبليس على الناس بنخسهم، لامتلأت الدنيا صراخا و عياطا مما يبلونا به من نخسه «2».

و إليك أمثلة أخرى لتقف على مقدار تمسّكه بهذه الطريقة:

ففي سورة البقرة عند قوله تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ «3» يذكر الزمخشري في معنى «الكرسي» أربعة أوجه، و يقول في الوجه الأول منها:

إن كرسيّه لم يضق عن السماوات و الأرض لبسطته و سعته، و ما هو إلّا تصوير لعظمته و تخييل فقط، و لا كرسي ثمّة، و لا قعود، و لا قاعد، كقوله تعالى:

(1) الحجر/ 39- 40.

(2) الكشاف، ج 1، ص 356- 357.

(3) الآية 255.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 492

وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ «1» من غير تصوّر قبضة و طيّ و يمين، و إنما هو تخييل لعظمة شأنه، و تمثيل حسّي، أ لا ترى إلى قوله: وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ «2»؟! الأمر الذي لم يرتض ابن المنير، و من ثم عقّبه بقوله: قوله: «إن ذلك تخييل للعظمة» سوء أدب في الإطلاق، و بعد في الإصرار، فإن التخييل إنما يستعمل في الأباطيل و ما ليست له حقيقة صدق، فإن يكن معنى

ما قاله صحيحا فقد أخطأ في التعبير عنه بعبارة موهمة، لا مدخل لها في الأدب الشرعي. و سيأتي له أمثالها مما يوجب الأدب أن يجتنب.

و في سورة الأعراف عند تفسير آية الميثاق يقول: و قوله: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا «3» من باب التمثيل. و معنى ذلك: أنه نصب لهم الأدلّة على ربوبيّته و وحدانيّته، و شهدت بها عقولهم و بصائرهم التي ركّبها فيهم، و جعلها مميّزة بين الضلالة و الهدى، فكأنّه أشهدهم على أنفسهم و قرّرهم، و قال لهم:

أ لست بربكم، و كأنّهم قالوا: بلى أنت ربّنا، شهدنا على أنفسنا و أقررنا بوحدانيّتك. و باب التمثيل واسع في كلام اللّه تعالى و رسوله عليه السّلام و في كلام العرب. و نظيره قوله تعالى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «4»، فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ «5».

و قوله:

(1) الزمر/ 67.

(2) الكشاف، ج 1، ص 301.

(3) الآية 172.

(4) النحل/ 40.

(5) فصّلت/ 11.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 493

إذ قالت الأنساع للبطن الحق قدوما فآضت كالفنيق المحنق «1»

و قوله:

قالت له ريح الصبا قرقار و اختلط المعروف بالإنكار «2»

قال الذهبي: و لكن ابن المنير السني لم يرض هذا من الزمخشري بطبيعة الحال، و لذا تعقّبه بقوله: إطلاق التمثيل أحسن. و قد ورد الشرع به. أما إطلاق التخييل على كلام اللّه تعالى فمردود، و لم يرد به سمع، و قد كثر إنكارنا عليه لهذه اللفظة.

ثم إنّ القاعدة مستقرة على أن الظاهر ما لم يخالف المعقول يجب إقراره على ما هو عليه، فلذلك أقرّه الأكثرون على ظاهره و حقيقته،

و لم يجعلوه مثالا. أما كيفية الإخراج و المخاطبة فاللّه أعلم بذلك «3».

و مسألة «التمثيل» و «التخييل» يستعملها الزمخشري بحريّة أوسع فيما ورد من الأحاديث التي يبدو ظاهرها مستغربا، و قد مرّ كلامه في حديث مسّ الشيطان و نخسه للمواليد، الأمر الذي أثار ثائرة خصمه السنّي الذي لم يرتض هذا الصنيع من خصمه المعتزلي، فتراه يتورّك عليه بقوله: أما الحديث فمذكور في الصحاح متفق على صحته، فلا محيص له إذن عن تعطيل كلامه عليه السّلام بتحميله ما لا يحتمله،

(1)- هو لأبي النجم العجلي. و النسع- بالكسر-: حزام عريض يشدّ به وسط الدابة و ستر الهودج. و الحق: فعل أمر، أي التصق يا ظهر بالبطن و انضمر. و قدوما مصدر منصوب بمحذوف أو بما قبله على أنه مفعول له. و آض يئيض: صار بصير. و الفنيق: الفحل المنعم المكرم. و المحنق: المغيظ من الحنق، و هو الغيظ.

(2)- أيضا لأبي النجم. و قرقار: اسم فعل بمعنى قرقر، أمر السحاب لتنزيله منزلة العاقل، أي صوّت بالرعد. و المقصود من الإنكار: المواضع غير المعروفة، أي سوّ بين الإمكان المعهودة بالإمطار و غير المعهودة.

(3) الكشاف، ج 2، ص 176- 177.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 494

جنوحا إلى اعتزال منتزع، في فلسفة منتزعة، في إلحاد، ظلمات بعضها فوق بعض «1».

امتهانه بشأن القراء

و هكذا نجد الزمخشري قد أغاظ خصومه أهل الظاهر و المقلّدة من أهل السنّة و الجماعة؛ حيث رفض حجيّة القراءات حجية تعبديّة، حتى و لو كانت على خلاف الفصحى من اللّغة؛ إذ لم تثبت حجّيتها بهذه السعة و الإطلاق، فإذا ما تعارضت قراءة مع المقرر من لغة العرب الفصحى، نجد العلماء المحققين أمثال الزمخشري يرفضون تلك القراءة،

حفاظا على سلامة القرآن، من خلل في فصاحته العليا، الأمر الذي لم يرتضه المقلّدة من أهل الظاهر، فهبّوا يهاجمونه بأشنع القذائف.

هذا ابن عامر قارئ دمشق، و هو أحد القراء السبعة قرأ: وَ كَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ «2» برفع «قتل» و نصب «أولادهم» و جرّ «شركائهم» باضافة «قتل» إلى «شركائهم» مع الفصل بالمفعول به، و قراءة «زيّن» مبنيا للمفعول.

فأنكر عليه الزمخشري و عدّ قراءته هذه سمجة مردودة، قال: و أما قراءة ابن عامر ... فشي ء لو كان في مكان الضرورات و هو الشعر، لكان سمجا مردودا، كما سمج و ردّ:

فزججتها بمزجّة زجّ القلوص أبي مزادة «3»

(1) التفسير و المفسرون، ج 1، ص 452.

(2) الأنعام/ 137.

(3) الزجّ: الطعن. و المزجّة: الرمح القصير لأنه آلة للزجّ. و القلوص: الناقة الشابّة، و هو مفعول

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 495

فكيف به في الكلام المنثور، فكيف به في القرآن المعجز بحسن نظمه و جزالته.

قال: و الذي حمله على ذلك، أنّ رأى في بعض المصاحف «شركائهم» مكتوبا بالياء. و لو قرأ بجر الأولاد و الشركاء؛ لأنّ الأولاد شركاؤهم في أموالهم، لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب «1».

و في ذلك امتهان بشأن ابن عامر «2» و استهانة بشأن قراءته غير المستندة إلى حجة معتبرة «3»، الأمر الذي أثار نعرات القوم ضدّه و جعلوه يقذفونه بأقبح الشتائم. هذا ابن المنير الإسكندري الهائم في تيه ضلاله، يعلو بنشيجه في ذلك، يقول في حدّة و غضب: لقد ركب المصنف في هذا الفصل متن عمياء، و تاه في تيهاء، و أنا أبرأ إلى اللّه، و أبرئ حملة كتابه و حفظة كلامه مما رماهم به،

فإنه تخيّل أن القرّاء- أئمة الوجوه السبعة- اختار كل منهم حرفا قرأ به اجتهادا لا نقلا

فاصل بين المضاف و المضاف إليه.

(1) الكشاف، ج 2، ص 70.

(2) هو عبد اللّه بن عامر اليحصبي قارئ الشام، توفّي سنة (118). كان خامل النسب خامل الذكر، لم يعرف نسبه كما لم يعرف له شيخ، تعلّم القراءة عفوا، و قد كرهه الناس و كرهوا قراءته، كان يؤمّ الناس بالمسجد الأموي، فلما استخلف سليمان بن عبد الملك بعث إلى مهاجر و قال: قف خلف ابن عامر فإذا تقدّم فخذ بثيابه و اجذبه، فلن يتقدم منا دعىّ، و صلّ أنت يا مهاجر، ففعل. راجع: التمهيد، ج 2، ص 186، و طبقات الفراء، ط 3، رقم 8.

(3) و قد تكلمنا عن القراءات السبع و أنها غير متواترة، و إنما هي اجتهادات للقراء، لا حجّية فيها ذاتية في سوى قراءة عاصم برواية حفص، فإنها لوحدها القراءة المتواترة التي توارثها المسلمون من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا حجّية في غيرها إطلاقا. راجع: التمهيد، ج 2، ص 60- 84، مبحث القرّاء و القراءات.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 496

و سماعا، فلذلك غلط ابن عامر في قراءته هذه. و لم يعلم الزمخشري أنّ ابن عامر قرأ بها، يعلم ضرورة أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قرأها على جبرائيل كما أنزلها عليه كذلك، و تواترت عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و لو لا عذر أنّ المنكر ليس من أهل الشأنين: علم القراءة و علم الأصول، لخيف عليه الخروج من ربقة الدين، و أنه على هذا العذر لفي عهدة خطرة و زلّة

منكرة «1».

و قال أبو حيان الأندلسي: «و أعجب لعجمي ضعيف في النحو يردّ على عربي صريح محض قراءة متواترة، موجود نظيرها في «لسان العرب» في غير ما بيت، و أعجب لسوء ظنّ هذا الرجل بالقرّاء الأئمة الذين تخيّرتهم هذه الأمة لنقل كتاب اللّه شرقا و غربا، و قد اعتمد المسلمون على نقلهم لضبطهم و معرفتهم و ديانتهم. و لا التفات لقول أبي علي الفارسي: هذا قبيح قليل في الاستعمال.

و قال قبل ذلك: و لا التفات إلى قول ابن عطية: و هذه قراءة ضعيفة في استعمال العرب» «2».

و قال الكواشي- هو أحمد بن يوسف أبو العباس الموصلي صاحب تفسير، توفّي سنة (680 ه)-: «كلام الزمخشري يشعر بأن ابن عامر ارتكب محظورا، و أنه غير ثقة؛ لأنه يأخذ القراءة من المصحف لا من المشايخ، و مع ذلك أسندها إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و ليس الطعن في ابن عامر طعنا فيه، و إنما هو طعن في علماء الأمصار؛ حيث جعلوه أحد القرّاء السبعة المرضيّة، و في الفقهاء حيث لم ينكروا عليه، و أنهم يقرءونها في محاريبهم، و اللّه أكرم من أن يجمعهم على الخطأ».

و قال التفتازاني: هذا أشدّ الجرم؛ حيث طعن في أسناد القرّاء السبعة

(1) هامش الكشاف، ج 2، ص 69.

(2) تفسير «البحر المحيط» لأبي حيان، ج 4، ص 229- 230.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 497

و رواياتهم، و زعم أنهم إنما يقرءون من عند أنفسهم. و هذه عادته، يطعن في تواتر القراءات السبع، و ينسب الخطأ تارة إليهم، كما في هذا الموضع، و تارة إلى الروايات عنهم. و كلاهما خطأ» «1».

و تقلّد الآلوسي عبارة ابن المنير: «و قد ركب

في هذا الكلام عمياء و تاه في تيهاء، فقد تخيّل أن القراء أئمة الوجوه السبعة اختار كل منهم حرفا قرأ به اجتهادا لا نقلا و سماعا، كما ذهب إليه بعض الجهلة، فلذلك غلّط ابن عامر في قراءته هذه و أخذ يبيّن منشأ غلطه، و هذا غلط صريح يخشى منه الكفر و العياذ باللّه تعالى فإن القراءات السبع متواترة جملة و تفصيلا عن أفصح من نطق بالضاد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فتغليط شي ء منها في معنى تغليط رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بل تغليط اللّه عزّ و جل، نعوذ باللّه سبحانه من ذلك» «2».

تهاجمه على أهل السنة

كما و لم يقصر الزمخشري في تهاجمه على خصومه من أهل السنّة، فلم يدع فرصة أثناء تفسيره إلّا و قذفهم بقذائف لاذعة و قرعهم بمقامع دامغة. قال الذهبي: و إن المتتبع لما في «الكشاف» من الجدل المذهبي، ليجد أنّ الزمخشري قد مزجه في الغالب بشي ء من المبالغة في السخريّة و الاستهزاء بأهل السنة، فهو لا يكاد يدع فرصة تمرّ بدون أن يحقّرهم و يرميهم بالأوصاف المقذعة، فتارة يسمّيهم المجبّرة، و أخرى يسميهم الحشوية، و ثالثة يسميهم المشبّهة، و أحيانا يسميهم القدريّة، تلك التسمية التي أطلقها أهل السنة على منكري القدر، فرماهم بها الزمخشري، لأنهم يؤمنون بالقدر. كما جعل حديث الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذي

(1) بنقل الشيخ يوسف البحراني في الكشكول، ج 3، ص 339.

(2) روح المعاني، ج 8، ص 33.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 498

حكم فيه على القدريّة أنهم مجوس هذه الأمّة، منصبّا عليهم؛ و ذلك حيث قال عند تفسيره لقوله تعالى وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ

فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى «1»: و لو لم يكن في القرآن حجة على القدرية الذين هم مجوس هذه الأمّة، بشهادة نبيّها صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- و كفى به شاهدا- إلّا هذه الآية لكفى بها حجة «2».

كما سمّاهم بهذا الاسم و رماهم بأنهم يحيون لياليهم في تحمّل الفاحشة، ينسبونها إلى اللّه تعالى؛ حيث قال عند تفسيره لقوله تعالى قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها «3»: و أما قول من زعم أنّ الضمير في «زكّى» و «دسّى» للّه تعالى، و أنّ تأنيث الضمير الراجع إلى «من» لأنّه في معنى النفس، فمن تعكيس القدريّة الذين يورّكون «4» على اللّه قدرا هو بري ء منه و متعال عنه. و يحيون لياليهم في تمحّل فاحشة ينسبونها إليه «5».

و الظاهرة العجيبة في خصومة الزمخشري، أنه يحرص كل الحرص على أن يحوّل الآيات القرآنية التي وردت في حق الكفار، إلى ناحية مخالفيه في العقيدة من أهل السنة، ففي سورة آل عمران حيث يقول تعالى: وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ «6»، نجد الزمخشري بعد ما يعترف بأنّ الآية واردة في حق اليهود و النصارى يجوز أن تكون واردة في حق مبتدعي

(1) فصّلت/ 17.

(2) الكشاف، ج 4، ص 194.

(3) الشمس/ 9- 10.

(4) ورك فلان ذنبه على غيره، إذا قرفه به، أي اتهمه به ظلما.

(5) الكشاف، ج 4، ص 760.

(6) الآية 105.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 499

هذه الأمة، و ينصّ على أنهم «المشبّهة» و «المجبّرة» و «الحشويّة» و أشباههم «1».

و في سورة يونس، حيث يقول تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمَّا

يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ «2»، يقول: بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن و فاجئوه في بديهة السماع قبل أن يفقهوه و يعلموا كنه أمره، و قبل أن يتدبروه و يقفوا على تأويله و معانيه؛ و ذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم، و شرادهم عن مفارقة دين آبائهم، كالناشئ على التقليد من «الحشويّة» إذا أحسّ بكلمة لا توافق ما نشأ عليه و ألفه و إن كانت أضوأ من الشمس في ظهور الصحة و بيان الاستقامة أنكرها في أوّل وهلة، و اشمأزّ منها قبل أن يحسّ إدراكها بحاسّة سمعه، من غير فكر في صحة أو فساد؛ لأنّه لم يشعر قلبه إلّا صحة مذهبه و فساد ما عداه من المذاهب «3».

و لقد أظهر الزمخشري تعصّبا قويّا لمذهبه، إلى حدّ جعله يخرج خصومه السّنّيين من دين اللّه، و هو الإسلام؛ و ذلك حيث يقول عند تفسيره لقوله تعالى شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ «4»: فإن قلت: ما المراد بأولي العلم الذين عظّمهم هذا التعظيم، حيث جمعهم معه و مع الملائكة في الشهادة على وحدانيته و عدله؟

قلت: هم الذين يثبتون وحدانيته و عدله بالحجج الساطعة و البراهين القاطعة، و هم علماء العدل و التوحيد- يريد أهل مذهبه-.

فإن قلت: ما فائدة هذا التوكيد يعني في قوله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ

(1) الكشاف، ج 1، ص 399.

(2) الآية 39.

(3) الكشاف، ج 2، ص 347- 348.

(4) آل عمران/ 18.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 500

قلت: فائدته أن قوله: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ هو توحيد، و قوله: قائِماً بِالْقِسْطِ تعديل، فإذا أردفه بقوله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ فقد آذن أن الإسلام هو العدل

و التوحيد، و هو الدين عند اللّه، و ما عداه فليس عنده في شي ء من الدين.

و فيه: أن من ذهب إلى تشبيه، أو ما يؤدّي إليه كإجازة الرؤية، أو ذهب إلى الجبر الذي هو محض الجور، لم يكن على دين اللّه الذي هو الإسلام، و هذا بيّن جليّ كما ترى «1».

و عند تفسيره لقوله تعالى: قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ «2»، قال: «ثم تعجّب من المتّسمين بالإسلام، المتّسمين بأهل السنة و الجماعة، كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهبا، و لا يغرّنك تسترهم بالبلكفة «3» فإنه من منصوبات أشياخهم! و القول ما قال بعض العدلية فيهم:

لجماعة سمّوا هواهم سنّة و جماعة حمر لعمري موكفة «4»

قد شبّهوه بخلقه و تخوّفوا شنع الورى فتستّروا بالبلكفة

و حمل الآية على أنها ترجمة عن مقترح قومه و حكاية لقولهم.

و تفسير آخر، و هو: أن يريد بقوله: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ عرّفني نفسك تعريفا واضحا جليّا، كأنّها إراءة في جلائها بآية، مثل آيات القيامة التي تضطر

(1) الكشاف، ج 1، ص 344- 345. و راجع: التفسير و المفسرون، ج 1، ص 465- 467.

(2) الأعراف/ 143.

(3) لأنهم قالوا: إنه يرى بلا كيف، أي لا تسأل عن كيفية رؤيته تعالى. و البلكفة مخففة ذلك.

و عدّ الزمخشري ذلك ذريعة للتخلّص من مأزق القول بالجسمية و القول بالجهة، فهو من منصوبات أشياخهم، أي شبكات يتصيّدون بها الضعفاء.

(4) أي موضوع عليها الإكاف و هي البرذعة. و هي بمنزلة السرج للفرس.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 501

الخلق إلى معرفتك، أنظر إليك: أعرفك معرفة اضطرار، كأني أنظر إليك، كما جاء في

الحديث «سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر»

بمعنى: ستعرفونه معرفة جليّة هي في

الجلاء كإبصاركم للقمر إذا امتلأ و استوى «1».

و قد أثار ذلك ثورة أحمد الإسكندري، فجعل يقابل هجاءه لأهل السنّة بهجاء أهل العدل، قال: «و لو لا الاستناد بحسّان بن ثابت الأنصاري صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و شاعره، و المنافح عنه و روح القدس معه، لقلنا لهؤلاء المتلقّبين بالعدليّة و بالناجين سلاما، و لكن كما نافح حسّان عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أعداءه، فنحن ننافح عن أصحاب سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أعداءهم فنقول:

و جماعة كفروا برؤية ربهم حقّا و وعد اللّه ما لن يخلفه

و تلقّبوا عدليّة قلنا: أجل عدلوا بربّهم فحسبهمو سفه

و تلقّبوا الناجين، كلّا إنهم إن لم يكونوا في لظى فعلى شفه» «2».

البحر المحيط

لأثير الدين محمد بن يوسف بن علي الحياني الأندلسي النحوي، كان من أقطاب سلسلة العلم و الأدب، و أعيان المبصرين بدقائق ما يكون من لغة العرب.

حكي أنه سمع الحديث بالأندلس و إفريقيّة و الإسكندرية و مصر و الحجاز، من نحو أربعمائة و خمسين شيخا، و كان شيخ النحاة بالديار المصرية، و أخذ عنه أكابر عصره. فعن الصفدي أنه قال: لم أره قطّ إلّا يسمع أو يشتغل أو يكتب

(1) تفسير الكشاف، ج 2، ص 152- 156.

(2) هامش تفسير الكشّاف، ج 2، ص 156.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 502

أو ينظر في كتاب. و كان ثبتا صدوقا حجّة، سالم العقيدة من البدع و القول بالتجسيم، و مال إلى مذهب أهل الظاهر و إلى محبّة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام. كثير الخشوع و البكاء عند

قراءة القرآن. توفّي بالقاهرة سنة (745 ه).

و من شعره:

هم بحثوا عن زلّتي فاجتنبتها و هم نافسوني فاكتسبت المعاليا

يروي عنه شيخنا الشهيد الثاني بواسطة تلميذة جمال الدين عبد الصمد بن إبراهيم بن الخليل البغدادي «1».

و تفسيره هذا من أجمع التفاسير على النكات الأدبية الرائعة التي اشتمل عليها القرآن الكريم، و أوفرهم بحثا وراء كشف المعاني الدقيقة التي حواها كلام اللّه العزيز الحميد. و قد امتاز بالاهتمام البالغ بجهات اللّغة و النحو و الأدب البارع، و يعدّ تفسيره ديوانا حافلا بشواهد تفسير الكلمات و اللغات و التعابير العربية و الوجوه الإعرابية، كما اهتم بالقراءات و اللهجات؛ إذ كان عارفا بها، و نقل أقوال الأئمة و آراء الفقهاء، فكان تفسيرا جامعا و شاملا يروي الغليل و يشفي العليل.

و قد أبان عن منهجه في المقدمة، قائلا:

«و ترتيبي في هذا الكتاب أني ابتدأت أوّلا بالكلام على مفردات الآية التي أفسّرها لفظة لفظة، فيما يحتاج إليه من اللغة و الأحكام النحوية التي لتلك اللّفظة قبل التركيب، و إذا كان لكلمة معنيان أو معان، ذكرت ذلك في أوّل موضع فيه تلك الكلمة، لينظر ما يناسب لها من تلك المعاني في كل موضع تقع فيه فيحمل

(1) الكنى و الألقاب للقمي، ج 1، ص 59- 60.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 503

عليه. ثم أشرع في تفسير الآية، ذاكرا سبب نزولها إذا كان لها سبب و نسخها و مناسبتها و ارتباطها بما قبلها، حاشدا فيها القراءات، شاذها و مستعملها، ذاكرا توجيه ذلك في علم العربية، ناقلا أقاويل السلف و الخلف في فهم معانيها، متكلّما على جليّها و خفيّها؛ بحيث إنّي لم أغادر منها كلمة و إن اشتهرت، حتى أتكلّم

عليها، مبديا ما فيها من غوامض الإعراب و دقائق الأدب، من بديع و بيان، مجتهدا. ثم أختتم الكلام في جملة من الآيات التي أفسرها إفرادا و تركيبا، بما ذكروا فيها من علم البيان و البديع ملخصا» «1».

معاني القرآن

لأبي زكريّا يحيى بن زياد الفرّاء المتوفّى سنة (207 ه). كان تلميذ الكسائي و صاحبه، و أبرع الكوفيين و أعلمهم بالنحو و اللغة و فنون الأدب. قال ثعلب:

لو لا الفراء لما كانت عربيّة؛ لأنه خلّصها و ضبطها. و كانت له حظوة عند المأمون، كان يقدّمه، و عهد إليه تعليم ابنيه، و اقترح عليه أن يؤلّف ما يجمع به أصول النحو و ما سمع من العربيّة، و أمر أن تفرد له حجرة في الدار و وكّل بها جواري و خدما للقيام بما يحتاج إليه، و صيّر إليه الورّاقين يكتبون ما يمليه، و قد عظم قدر الفرّاء في الدولة العباسيّة.

كان الفراء قويّ الحافظة، لا يكتب ما يتلقّاه عن الشيوخ استغناء بحفظه.

و بقيت له قوة الحفظ طوال حياته، و كان يملي كتبه من غير نسخة. قيل عنه: إنه أمير المؤمنين في النحو. يقول ثمامة بن الأشرس المعتزلي عنه- و هو يتردّد على باب المأمون-: فرأيت أبّهة أديب، فجلست إليه ففاتشته عن اللغة فوجدته بحرا،

(1) مقدمة تفسير البحر المحيط، ج 1، ص 4- 5.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 504

و فاتشته عن النحو فشاهدته نسيج وحده، و عن الفقه فوجدته رجلا فقيها عارفا باختلاف القوم، و بالنحو ماهرا، و بالطب خبيرا، و بأيام العرب و أشعارها حاذقا.

و كان سبب تأليفه لكتاب معاني القرآن على ما حكاه أبو العباس ثعلب أنّ عمر بن بكير كان من أصحابه و كان منقطعا إلى

الحسن بن سهل، فكتب إلى الفرّاء: أن الأمير الحسن بن سهل ربما سألني عن الشي ء بعد الشي ء من القرآن، فلا يحضرني فيه جواب، فإن رأيت أن تجمع لي أصولا أو تجعل في ذلك كتابا أرجع إليه فعلت. فأجابه الفرّاء، و قال لأصحابه: اجتمعوا حتّى أملّ عليكم كتابا في القرآن، و جعل لهم يوما، فلما حضروا خرج إليهم و كان في المسجد رجل يؤذّن و يقرأ بالناس في الصلاة، فالتفت إليه الفرّاء، فقال له: اقرأ بفاتحة الكتاب، ففسّرها، ثم توفّى الكتاب كله، يقرأ الرجل و يفسّر الفرّاء. قال أبو العباس: لم يعمل أحد قبله، و لا أحسب أنّ أحدا يزيد عليه. و عن أبي بديل الوضّاحي: فأردنا أن نعدّ الناس الذين اجتمعوا لإملاء الكتاب فلم يضبط، قال: فعددنا القضاة فكانوا ثمانين قاضيا.

و عن محمد بن الجهم: كان الفراء يخرج إلينا- و قد لبس ثيابه- في المسجد الذي في خندق عبويه، و على رأسه قلنسوة كبيرة، فيجلس فيقرأ أبو طلحة الناقط عشرا من القرآن، ثم يقول: أمسك، فيملي من حفظه المجلس. ثم يجي ء سلمة بن عاصم من جلّة تلامذته بعد أن ننصرف نحن، فيأخذ كتاب بعضنا فيقرأ عليه و يغيّر و يزيد و ينقص.

يقول محمد بن الجهم السّمري راوي الكتاب في المقدمة: هذا كتاب فيه معاني القرآن، أملاه علينا أبو زكريا يحيى بن زياد الفرّاء- يرحمه اللّه- عن حفظه من غير نسخة، في مجالسه أول النهار من أيام الثلاثاوات و الجمع، في شهر رمضان و ما بعده من سنة اثنتين، و في شهور سنة ثلاث، و شهور من سنة أربع

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 505

و مائتين «1».

فقد تم إملاء الكتاب خلال ثلاث سنوات، كل

يوم الثلاثاء و الجمعة من الأسبوع في كل شهر، ابتداء من شهر رمضان المبارك، في سنين اثنتين و ثلاث و أربع بعد المائتين.

و هو أجمع كتاب أتى على نكات القرآن الأدبية: اللغة و النحو و البلاغة، لا يستغني الباحث عن معاني القرآن من مراجعته و الوقوف على لطائفه و دقائقه.

و قد اعتنى المفسرون بهذا الكتاب و جعلوه موضع اهتمامهم، سواء صرّحوا بذلك أم لم يصرّحوا. فإنه أحد مباني التفسير، و كان معروفا بذلك.

و الكتب في «معاني القرآن» كثيرة، أوّلها: «معاني القرآن» لأبان بن تغلب بن رباح البكري التابعي، من خواصّ الإمام علي بن الحسين السجاد عليه السّلام المتوفّى سنة (141 ه)، و هو أول من صنّف في هذا الباب. صرّح به النجاشي و ابن النديم.

و الثاني: «معاني القرآن» لإمام الكوفيّين في النحو و الأدب و اللغة، و أوّلهم بالتصنيف فيه، أستاذ الكسائي و الفراء، هو الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن، أبو سارة الرواسي الكوفي، الراوي عن الإمامين الباقر و الصادق عليهما السّلام، و قد نسبه إليه الزبيدي. و عدّ النجاشي من كتبه «إعراب القرآن» و لعلهما واحد، ذكره ابن النديم.

و الثالث: «معانى القرآن» لأبي العباس محمد بن يزيد بن عبد الأكبر بن عمير الثمالي الأزدي البصري المتوفّى سنة (285 ه) إمام العربية، الملقّب من أستاذه

(1) معاني القرآن، للفرّاء، ج 1، ص 9- 14.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 506

المازني بالمبرّد، أي المثبت للحق «1».

و قد كتب في معاني القرآن كثير من الفحول، يقول الخطيب بصدد الحديث عن معاني القرآن لأبي عبيد و أنه احتذى فيه من سبقه: «و كذلك كتابه في معاني القرآن، و ذلك أنّ أوّل من صنّف في ذلك

من أهل اللغة أبو عبيدة معمر بن المثنّى، ثم قطرب بن المستنير، ثم الأخفش. و صنّف من الكوفيين الكسائي ثم الفرّاء.

فجمع أبو عبيد (القاسم بن سلام الإمام) من كتبهم، و جاء فيه بالآثار و أسانيدها، و تفاسير الصحابة و التابعين و الفقهاء، توفّي سنة (224 ه) بمكة المكرمة» «2».

إملاء ما منّ به الرحمن من وجوه الإعراب و القراءات في جميع القرآن

لأبي البقاء عبد اللّه بن الحسين بن عبد اللّه العكبري المتوفّى سنة (616 ه).

هو أخصر و أشمل كتاب حوى على بيان إعراب الأهمّ من ألفاظ القرآن و أنحاء قراءاته. و لقد أوجز المؤلّف في ذلك، و أوفى الكلام حول إعراب القرآن في أشكل مواضعه، فيما يحتاج إليه المفسّر أو النّاظر في معاني القرآن الكريم.

يقول المؤلّف في مقدمة الكتاب:

إنّ أولى ما عني باغي العلم بمراعاته، و أحق ما صرف العناية إلى معاناته ما كان من العلوم أصلا لغيره منها، و حاكما عليها، و ذلك هو القرآن المجيد، و هو المعجز الباقي على الأبد، و المودع أسرار المعاني التي لا تنفد. فأول مبدوء به من ذلك تلقّف ألفاظه من حفّاظه، ثم تلقّي معانيه ممن يعانيه. و أقوم طريق يسلك

(1) جاء ذكر هؤلاء الثلاثة في الذريعة للطهراني، ج 21، ص 205- 206، رقم 4632 و 33 و 34.

(2) تاريخ بغداد، ج 12، ص 405.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 507

في الوقوف على معناه، و يتوصّل به إلى تبيين أغراضه و مغزاه، معرفة إعرابه و اشتقاق مقاصده من أنحاء خطابه، و النظر في وجوه القرآن المنقولة عن الأئمة الأثبات.

و الكتب المؤلّفة في هذا العلم كثيرة جدّا، فمنها المختصر حجما و علما، و منها المطوّل بكثرة إعراب الظواهر، و خلط الإعراب بالمعاني، و قلّما تجد فيها مختصر

الحجم كثير العلم، فلما وجدتها على ما وصفت، أحببت أن أملي كتابا يصغر حجمه و يكثر علمه، اقتصر فيه على ذكر الإعراب و وجوه القراءات، فأتيت به على ذلك.

و الكتاب مرتب حسب ترتيب السور، متعرضا لإعراب القرآن آية فآية و كلمة فكلمة، حتى يأتي إلى آخره.

و الكتب في إعراب القرآن كثيرة، أفضلها ما كتبه المتقدمون، و قد استرسل فيها المتأخرون، فأتوا بما لا طائل تحته في كثير من تصانيفهم بهذا الشأن.

و من أحسن كتب السلف في إعراب القرآن، كتاب «البيان» في غريب إعراب القرآن، تأليف كمال الدين، عبد الرحمن بن محمد بن عبيد اللّه، أبي البركات.

المعروف بابن الأنباري، المتوفّى سنة (577 ه). و قد انتهت إليه زعامة العلم في العراق، و كان قبلة الأنظار بين أساتذة المدرسة النظامية في بغداد، يرحل إليه العلماء من جميع الأقطار، و قد تخاطف الطلاب و الأدباء تصانيفه، و طولب بالتأليف في مختلف علوم اللغة.

و قد وضع كتابه هذا على أحسن أسلوب و أجمل ترتيب، في بيان أعاريب القرآن، منتهجا ترتيب معاني القرآن للفرّاء، و أسلوبه في شرح مواضع الكلمات، و بيان تفاصيل وجوهها. و هو مرتّب حتى نهاية القرآن الكريم.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 508

و من الكتب المؤلّفة في هذا الباب، و يعدّ من أجملها: كتاب «إعراب القرآن» المنسوب إلى الزجّاج المتوفّى سنة (316 ه). لكن من المحتمل القريب أنه من تأليف أبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي المغربي، صاحب التآليف الكثيرة في القرآن، و في الأدب و اللغة، توفّي سنة (437 ه) «1».

هذا الكتاب وضع على تسعين بابا، جاء الكلام فيها في مختلف شئون النكات الأدبية و النحوية و اللغوية، كل باب بنوع خاص من

المسائل الأدبية. و قد استوفى الكلام حول مسائل اللغة في القرآن و بعض مسائل البلاغة و البديع كالباب التاسع عشر، فيما جاء في التنزيل من ازدواج الكلام و المطابقة و المشاكلة و غير ذلك. و الباب الخامس و الثلاثين، فيما جاء في التنزيل من التجريد.

و الباب الثالث و الثمانين، فيما جاء في التنزيل من تفنن الخطاب و الانتقال من الغيبة إلى الخطاب و من الخطاب إلى الغيبة و من الغيبة إلى التكلم. كما تعرض لبعض القراءات، كالباب السابع و الثمانين فيما جاء في التنزيل من القراءة التي رواها سيبويه في كتابه. و الباب الثامن و الثمانين في نوع آخر من القراءات.

و سائر الأبواب متمحّضة في النحو و الاشتقاق.

و على أيّ حال، فهو كتاب ممتع، و مفيد للباحثين، عن نكات القرآن الأدبية و الدقائق اللغوية البارعة.

و لمكي بن أبي طالب، كتاب آخر في «مشكل إعراب القرآن» طبع في جزءين. و هو تأليف لطيف وضعه على ترتيب السور، تعرّض للمشكل من أعاريب ألفاظ القرآن الكريم، هادفا وراء ذلك إيضاح المعاني؛ حيث وضّح

(1) راجع: ملحق الكتاب، برقم 5، ص 1096- 1099.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 509

الإعراب هو خير معين في فهم المعنى. قال في المقدمة: «إذ بمعرفة حقائق الإعراب تعرف أكثر المعاني و ينجلي الإشكال، فتظهر الفوائد و يفهم الخطاب و تصحّ معرفة حقيقة المراد. و قد رأيت أكثر من ألّف في الإعراب، طوّله بذكره لحروف الخفض و حروف الجزم، و بما هو ظاهر من ذكر الفاعل و المفعول، و اسم إنّ و خبرها، في أشباه لذلك يستوي في معرفتها العالم و المبتدئ، و أغفل كثيرا مما يحتاج إلى معرفته من المشكلات، فقصدت في

هذا الكتاب إلى تفسير مشكل الإعراب، و ذكر علله و صعبه و نادره» «1».

(1) مشكل إعراب القرآن لمكي، ج 1، ص 63- 64.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 510

تفاسير لغويّة
اشارة

هناك كتب تعرّضت لغريب اللغة في القرآن، و فسّرت معاني الكلمات التي جاءت غريبة في كتاب اللّه. و قد فسّرنا فيما مضى معنى «الغريب» الواقع في القرآن، و أنها اللّفظة المستعملة و المعروفة في لغة قبيلة دون أخرى، فجاء استعمالها في القرآن غريبا على سائر اللغات، و ذلك في مثل «الودق» بمعنى المطر، لغة جرهم. و «المنسأة» بمعنى العصا، لغة حضرموت. و «آسن» بمعنى منتن، لغة تميم. و «سعر» بمعنى جنون، لغة عمان. و «بسّت» بمعنى تفتّتت، لغة كندة، و هلمّ جرّا. و عليه فالذي جاء منه في القرآن الشي ء الكثير، هو الغريب العذب و الوحش السائغ، الذي أصبح بفضل استعماله ألوفا، و صار بعد اصطياده خلوبا، دون البعيد الركيك، و المتوعّر النفور. و قد بحثنا عن ذلك مستوفى عند الكلام عن إعجاز القرآن البياني «1».

و المؤلفون في غريب القرآن كثير، أوّلهم: محمد بن السائب الكلبي الكوفي النسّابة، من أصحاب الإمامين الباقر و الصادق عليهما السّلام المتوفّى سنة (146 ه) ثم أبو فيد مؤرّج بن عمر النحوي السدوسي البصري المتوفّى سنة (174 ه)، و أبو الحسن النضر بن شميل المازني البصري المتوفّى سنة (203 ه) و استمر الحال و تسلسل تأليف رسائل و كتب في غريب القرآن طول القرون، على أيدي علماء أدباء و لغويين نبهاء، أوضحوا الكثير من غريب ألفاظ القرآن الكريم،

(1) التمهيد في علوم القرآن، ج 5، ص 108- 130.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 511

و عنوا بذلك عناية بالغة،

جزاهم اللّه عن الإسلام و القرآن خير جزاء.

و أقدم كتاب وصل إلينا في تفسير غريب القرآن، ما هو المنسوب إلى الإمام الشهيد زيد بن علي بن الحسين عليه السّلام، و هو برواية الشيخ الإمام العالم الزاهد الفقيه أبي جعفر محمد بن منصور المقري رضي اللّه عنه، و كان شيخ الزيدية بالكوفة.

رواه عن أحمد بن عيسى، و القاسم بن إبراهيم، و الحسن بن يحيى، و عبد اللّه بن موسى، و محمد بن علي، و زيد بن علي، و جعفر بن محمد.

و هو تفسير موجز لطيف، و تبيين شاف لمواضع الإبهام من الذكر الحكيم، تجده وافيا بإيفاد المعاني في تسلسل رتيب حسب ترتيب السور و الآيات؛ مما ينبؤك عن علم غزير و ذوق ظريف و دقة فائقة «1».

و خير كتاب وجدته تعرّض للمشكل من معاني القرآن، متصدّيا لتأويله و تبيينه، هو كتاب «تأويل مشكل القرآن» تأليف العلّامة الناقد البصير أبي محمد عبد اللّه بن مسلم (ابن قتيبة) الدينوري المروزي المتوفّى سنة (276 ه).

و قد استوفى المؤلف الكلام حول أنواع المتشابه في القرآن، و شرحها شرحا وافيا. تكلّم عن الطاعنين في القرآن، و ما ادّعى فيه من التناقض و الاختلاف، و التكرار و الزيادة و مخالفة الظاهر، و ما ادعى فيه من فساد النظم و الإعراب. كما تعرض للأشباه و النظائر في معاني ألفاظ القرآن (و لعلّه كان المرجع لحبيش التفليسي في تأليفه الآتى) و تكلّم في حروف المعاني و ما شاكلها من أفعال، و استعمال بعض الحروف مكان البعض، و أخيرا الكلام عن مشكل القرآن و ما شابه ذلك.

(1) و أخيرا قام بتحقيقه و تنميقه زميلنا الفاضل السيد محمد جواد الجلالي. و طبع طبعة أنيقة.

التفسير

و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 512

فهو كتاب فريد في بابه، لم يسبق له نظير في مثله، كما لم يخلفه بديل.

و أحسن كتاب في هذا الباب، هو كتاب «المفردات» لأبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني، المتوفّى سنة (502 ه)، فإنه أول كتاب فتح باب الاجتهاد في اللغة و أعمل الرأي و الاستنباط في فهم معاني اللّغات. و لقد أجاد في ذلك و أفاد، و استقصى لغات القرآن كلّها و استوعب الكلام في الجمع و التفريق، و البسط و التفصيل، في المعاني و مفاهيم الكلمات.

و لأبي الفضل حبيش بن إبراهيم التفليسي من أعلام القرن السادس كتاب لطيف، كتبه في وجوه معاني القرآن، تعرّض فيه للمعاني المحتملة من تعابير جاءت في القرآن الكريم، وضعه بالفارسية، و هو موجز مختصر طريف في بابه.

حقّقه الأستاذ الدكتور مهدي محقق، و طبع و نشر أخيرا في عدّة طبعات بطهران.

و أجمع كتاب ظهر أخيرا جامعا لمعاني القرآن و شاملا و مستوعبا لغرائب ألفاظه الكريمة، هو كتاب «تفسير غريب القرآن الكريم» للفقيه المفسر اللغوي الأديب الشيخ فخر الدين الطريحي النجفي المتوفّى سنة (1085 ه). و هو كتاب شاف و واف بالموضوع، طبع طبعة أنيقة، بتحقيق الأستاذ محمد كاظم الطريحي، بالنجف الأشرف- العراق.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 513

تفسير المتشابهات
اشارة

و يلحق بهذا الباب تفاسير خصّت الكلام حول متشابهات القرآن و ردّ المطاعن عنه، و هي كثيرة و متنوعة، كان من أهمها:

1- متشابه القرآن

للقاضي عماد الدين أبي الحسن عبد الجبّار بن أحمد الهمداني المعتزلي المتوفّى سنة (415 ه). ولد في ضواحي مدينة همدان، في قرية أسدآباد، و خرج إلى البصرة في طلب العلم، و اختلف إلى مجالس العلماء، حتى برع في الفقه و الحديث و الأدب و التفسير، و تكلّم على مذهب الاعتزال، و تولّى القضاء في الريّ، على عهد الصاحب بن عباد في دولة بني بويه؛ حيث كان الصاحب لا يرى تولية القضاء في دولته الشيعية إلّا لمن كان معروفا من أهل القول بالعدل.

كان عبد الجبار إمام المعتزلة في عصره، و اتّصل بالصاحب، و وقع تحت عنايته، و من ثم كتب له عهدا بتولية رئاسة القضاء في الريّ و قزوين و غيرهما، من الأعمال التي كانت لفخر الدولة، ثم أضاف إليه بعد ذلك في عهد آخر إقليمي جرجان و طبرستان.

و له تصانيف قيّمة و جيّدة، و لا سيما في الأصول و الكلام، مثل «المغني»، و «شرح الأصول الخمسة»، و كتاب «الحكمة و الحكيم»، و غير ذلك.

و من جيّد تصانيفه: كتابه في متشابهات القرآن، يستعرض فيه سور القرآن حسب ترتيبها في المصحف، و يقف في كل منها عند نوعين من الآيات: الآيات المتشابهة التي يزعم الخصم أن فيها دلالة على مذهبه الباطل، و الآيات المحكمة الدالة على مذهب الحق، و ذلك ما ألزم به نفسه في مقدمة الكتاب، و استمر عليه حتى نهاية الكتاب. و لقد أجاد فيما أفاد، و استوعب الكلام فيما أراد.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 514

2- تنزيه القرآن عن المطاعن

أيضا للقاضي عبد الجبار. كتبه في دفع الشكوك عن القرآن الكريم، و رتّبه حسب ترتيب السور، و تكلّم في إيراد الإشكالات الأدبية و المعنوية الواردة، أو المحتملة

على القرآن، ثم الإجابة عليها إجابة شافية و كافية، حسبما أوتي من حول و قوّة. و لقد استوفى الكلام في ذلك حتى نهاية القرآن.

3- متشابهات القرآن و مختلفه

للشيخ الجليل رشيد الدين أبي جعفر محمد بن علي بن شهرآشوب السروري المازندراني المتوفّى سنة (588 ه). كان علما من أعلام عصره، وضّاء كثير التصنيف و التأليف، في مختلف العلوم الإسلامية، و كان خبيرا ناقدا و بصيرا بشئون الدين و الشريعة.

قال المحقق القمي بشأنه: فخر الشيعة و مروّج الشريعة، محيي آثار المناقب و الفضائل، و البحر المتلاطم الزخّار الذي لا يساجل، شيخ مشايخ الإمامية. و عن الصفدي: حفظ أكثر القرآن و لم يبلغ الثامنة من عمره، كان يرحل إليه من البلاد، له تقدم في علم القرآن و الغريب و النحو. و وعظ على المنبر أيام المقتفي العباسي ببغداد، فأعجبه و خلع عليه. و كان بهيّ المنظر، حسن الوجه و الشيبة، صدوق اللّهجة، مليح المحاورة، واسع العلم، كثير الخشوع و العبادة و التهجّد، لم يكن إلّا على وضوء. عاش عيشته الحميدة مائة عام، و توفّي بحلب. و قبره مزار بمشهد السقط على جبل جوشن خارج حلب «1».

أما كتابه هذا فهو من خير ما كتب في متشابهات القرآن، و أجمعها و أشملها، و أتقنها إحكاما و بيانا و تفصيلا، وضعه على أسلوب طريف، يبدأ بمسائل

(1) الكنى و الألقاب للقمي، ج 1، ص 332.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 515

التوحيد و صفات الذات و الفعل، و عالم الذر و القلب و الروح و العقل، و القضاء و القدر، و السعادة و الشقاء، و النبوّة و العصمة، و تاريخ الأنبياء، و الكلام على إعجاز القرآن، و المحكم و المتشابه، و الوحي و

الخلافة و التكليف، و الجن و الملك و الشياطين، و مسائل الإمامة و الولاية، ثم بأصول الفقه و الأحكام و الشرائع، و النسخ، و الاستثناء و الشرط، و الحقيقة و المجاز، و الكناية و الاستعارة و التشبيه، و سائر المسائل الأدبية و اللغوية، و ما إلى ذلك، ترتيبا طبيعيا منسجما، سهل التناول قريب المنال، في عبارات سهلة جزلة، فللّه درّه و عليه أجره.

4- أسئلة القرآن المجيد و أجوبتها

تأليف زين الدين محمد بن أبي بكر الرازي المتوفّى سنة (666 ه)، يشتمل على ألف و مأتي سؤال و جواب حول متشابهات القرآن، أوردها بصورة موجزة و موفية بالمقصود، و كانت معروفة بمسائل الرازي.

كان المؤلف- و هو من مواليد الريّ، و من ثم نسب إليه- على غاية من الذكاء وسعة الاطّلاع، و له تآليف جيّدة، مثل «الذهب الإبريز في تفسير الكتاب العزيز»، و «روضة الفصاحة» في البديع و البيان، و «مختار الصحاح»، و «شرح مقامات الحريري» و «تحفة الملوك» في العبادات، مما ينبؤك عن أدب جم و خبرة واسعة.

وضع كتابه على ترتيب السور، يتعرّض للشبهة بصورة سؤال، ثم يجيب عليها إجابة وافية، حسبما أوتي من علم و بصيرة، و هو تأليف لطيف في بابه، حسن الأسلوب، بديع في مثله.

و للشيخ خليل ياسين، من أبرز علماء لبنان في العصر الأخير، كتاب حافل

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 516

و شامل، حوى ألفا و ستمائة سؤال و جواب حول شبهات القرآن، عرضها حسب ترتيب السور و الآيات، عرضا علميّا أدبيّا، و كانت الأجوبة موفية حسب إمكان المؤلّف العلمي، بصورة موجزة و وافية. و جاء اسم الكتاب «أضواء على متشابهات القرآن» اسما متطابقا مع المسمّى. طبع في بيروت- لبنان- سنة (1388 ه) و هو

كتاب جليل جميل.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 517

التفاسير الموجزة
اشارة

هناك تفاسير اتخذت طريقة الإيجاز في تفسير القرآن و تبيين معانيه، ابتعدت عن طريقة التفصيل التي مشى عليها أكثر المفسّرين الكبار، محاولين بذلك إلى تقريب معاني القرآن إلى الأذهان في خطوات سريعة و متقاربة، و الأكثر أن يكون ذلك خدمة للناشئة من طلبة العلوم الدينيّة، و من قاربهم من ذوي الثقافات العامّة.

[1- الوجيز:]

1- و ممن حاز قصب السبق في هذا المضمار، هو (السيد عبد اللّه شبّر) في تفسيره الوجيز الذي قدّمه للملإ من المسلمين خدمة موفّقة إلى حدّ بعيد، فهو على وجازته يحتوي على نكات و دقائق تفسيرية رائقة، مما قد يفوت بعض التفاسير الضخام. فإنه لا يفوته أن يكشف لنا عن كثير من النكات اللفظيّة و البيانيّة و المعنويّة، مع الخوض أحيانا في المعاني اللغوية و المسائل النحوية، كل هذا- كما قال الأستاذ الذهبي- في أسلوب ممتع لا يملّ قارئه من تعقيد و لا يسأم من طول «1».

و قد حرص المؤلف على أن يكون جلّ اعتماده على ما ورد من التفسير عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام و إن كان لا يعزو كل قول إلى قائله في الغالب، كما حرص على أن ينصر المذهب و يدافع عنه سواء في ذلك ما يتعلق بأصول المذهب أم بفروعه. و هو بعد ذلك يشرح الآيات التي لها صلة بمسائل علم الكلام شرحا يتّفق مع مذهب أهل العدل، أو الظاهر المتفق عليه لدى أهل الحديث، ثم لا يفوت

(1) راجع: التفسير و المفسرون، ج 2، ص 187.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 518

المؤلف في تفسيره هذا أن يشير إلى بعض مشكلات القرآن التي ترد على ظاهر النظم الكريم، و يجيب عنها إجابة سليمة عن تكلّف أهل

البدع. و لا غرو فإنّه الأديب البارع و الفقيه المحدّث الجامع.

و لقد وصف المؤلف تفسيره هذا، و بيّن مسلكه فيه، جاء في مقدمته:

«هذه كلمات شريفة، و تحقيقات منيفة، و بيانات شافية، و إشارات وافية، تتعلق ببعض مشكلات الآيات القرآنية، و غرائب الفقرات الفرقانية، و نتحرّى غالبا ما ورد عن خزان أسرار الوحي و التنزيل، و معادن جواهر العلم و التأويل، الذين نزل في بيوتهم جبرائيل، بأوجز إشارة و ألطف عبارة، و فيما يتعلّق بالألفاظ و الأغراض و النكات البيانية، تفسير وجيز. فإنه ألطف التفاسير بيانا، و أحسنها تبيانا، مع وجازة اللفظ و كثرة المعنى» «1».

و لقد و فى المؤلف بما وعد، فقد أسند جواهر تفسيره و جيّد آرائه إلى معينه الأصل من علوم أئمة أهل البيت عليهم السّلام. كما أوجز و أوفى في البيان و إبداء النكت و الظرائف في عبارات سهلة قريبة وافية.

قال الأستاذ حامد حفني (أستاذ كرسي الأدب في كليّة الألسن العليا بالقاهرة) في مقدمة التفسير المطبوع بالقاهرة: «و العالم بهذا الفن يدرك لأوّل وهلة دقة المفسّر و إمساكه بخطام هذه الصناعة، و جمعه لأدوات المفسر. و لعلك و أنت تقرأ تفسير الفاتحة في تفسيره هنا و توازن ذلك بما جاء في «تفسير الجلالين» تقف بنفسك على قدرات المفسّر، و لا سيّما في الأصول اللغويّة، حين يردّ لفظ الجلالة «اللّه» إلى أصله اللّغوي، و حين يفرّق في حصافة منقطعة النظير بين معنى اسمه تعالى «الرحمن» و اسمه تعالى «الرحيم». و حين لا يكتفي بالفروق اللّغوية،

(1) تفسير القرآن، سيد عبد اللّه شبّر، ص 38.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 519

فيزيدك إيضاحا بما حفظه من نصوص و أدعية مرفوعة إلى أئمة أهل

البيت النبويّ عليهم السّلام. و هو في ذلك كله سهل الجانب، معتدل العبارة، يسوقها في حماس العالم، و ليس في ثورة المتعصّب. كما لا ينسى و هو يفسّر أن يشرح الآية بآيات أخرى، و أن يذكر سبب النزول كلّما دعا الأمر إلى ذلك، و كان عونا له على توضيح المعنى المطلوب من الآية، و هكذا نلحظ هذا الصنيع في سائر عبارات هذا التفسير الجليل» «1».

هذا، و قد أتم المؤلّف تفسيره هذا- كما قال في خاتمته- في جمادى الأولى سنة تسع و ثلاثين و مائتين بعد الألف من الهجرة (1239 ه ق). و قد طبع عدة طبعات، و لا يزال.

هذا ما يرجع إلى التفسير ذاته، و أما المؤلف، فهو المولى المحقق العلامة السيد عبد اللّه بن محمد رضا العلوي الحسيني الشهير بشبّر. ولد بالنجف الأشرف سنة (1188 ه)، ثم ارتحل مع والده إلى الكاظمية، و مكث بها إلى أن مات بها سنة (1242 ه). كان من أفاضل العلماء، فقيها و محدّثا نبيها و مفسّرا متبحّرا، جامعا لعلوم كثيرة، آية في الأخلاق النبيلة. كان يعتبر علما من أعلام الشيعة، و شخصية علمية بارزة، لها مكانتها و مقدارها. و لقد عكف مدة حياته العلمية على التأليف و التصنيف، حتى أخرج للناس- مع سنّه الذي لم يتجاوز الأربع و الخمسين- كتبا كثيرة و مصنّفات عديدة، كلها ذوات فوائد و ممتعة، لا تزال رائجة في الأوساط العلمية، فرحمة اللّه عليه من فقيه محدّث خبير، و مفسر نابه بصير.

(1) تفسير شبّر، مقدمة الدكتور حامد حفني داود.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 520

2- الأصفى:

أوسط التفاسير الثلاثة التي ألّفها العلامة المحدّث الفيض الكاشاني المتوفّى سنة (1091 ه)، انتخبه من تفسيره «الصافي»

و أوجزه، و أنهاه إلى أحد و عشرين ألف بيت. اقتصر فيه على المأثور من تفاسير أهل البيت عليهم السّلام.

أوّله: «الحمد للّه الذي هدانا للتمسّك بالثقلين و جعل لنا القرآن و المودّة في القربى قرة عين ...». فرغ منه سنة (1076 ه).

و هو تفسير موجز لطيف يحتوي على أمّهات المسائل التفسيرية، على مشرب أهل الحديث، مقتصرا عليه. ففيه لباب الكلام و عباب المرام، يكفي المراجع في تبيين معاني القرآن و شرح مبانيه. طبع طبعات حجريّة، و هي منتشرة. و أخيرا طبع في مجلدين طبعة أنيقة.

[3- المصفّى:]

3- و لخّص الأصفى أيضا، و سماه «المصفّى»، و هو أوجز تفسير يوجد في هذا الباب.

4- التسهيل لعلوم التنزيل،

لأبي القاسم محمد بن أحمد بن محمد بن جزىّ الكلبي الغرناطي توفّي سنة (741 ه). كان من مشاهير العلماء بغرناطة عاكفا على العلم و الاشتغال بالنظر و التحقيق و التدوين، و قد ألّف في فنون من علوم القرآن و الفقه و الحديث و التفسير. كان المؤلف ممن يرغب في الجهاد، فقتل شهيدا في معركة «طريف» بالقرب من «جبل طارق».

و تفسيره هذا موجز شامل لتفسير القرآن كله، مع إيضاح المشكلات و بيان المجملات و شرح الأقوال و الآراء بصورة موجزة وافية. قال في المقدمة:

«و صنّفت هذا الكتاب في تفسير القرآن العظيم، و سائر ما يتعلّق به من العلوم، و سلكت مسلكا نافعا؛ إذ جعلته وجيزا جامعا، قصدت به أربعة مقاصد،

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 521

تتضمن أربعة فوائد: 1- جمع كثير من العلم في كتاب صغير الحجم. 2- ذكر نكت عجيبة و فوائد غريبة. 3- إيضاح المشكلات، و بيان المجملات. 4- تحقيق أقوال المفسّرين، و تمييز الراجح من المرجوح» «1».

و جعل المؤلف لتفسيره مقدمة وجيزة ذكر فيها ما يتعلق بشئون القرآن و علومه الشي ء الوفير، و حقّق فيها مسائل كثيرة نافعة، جعلها في اثني عشر بابا، و هي أشبه بمقدمة «المحرّر الوجيز» لابن عطية، و لعلّها مأخوذة منها. فإنّ المؤلف اعتمد في تفسيره هذا الوجيز على تفسير ابن عطية، و الكشّاف للزّمخشري، و غيرهما من تفاسير أدبية و لغوية كانت معروفة آنذاك، و على أيّ تقدير فهو تفسير لطيف و جامع كامل في بابه. و قد طبع عدة طبعات.

5- تفسير الجلالين،

اشترك في تأليف هذا التفسير، جلال الدين المحلّي، و جلال الدين السيوطي. فقد ابتدأ جلال الدين محمد بن أحمد المحلّي الشافعي- المتوفّى سنة (864 ه)

و كان علّامة عصره- في تفسير القرآن من أول سورة الكهف إلى آخر القرآن، ثم شرع في تفسير الفاتحة، و بعد أن أتمها اخترمته المنية فلم يفسّر ما بعدها. فجاء جلال الدين السيوطي المتوفّى (911 ه) فأكمل التفسير، فابتدأ بتفسير البقرة و انتهى عند آخر سورة الإسراء، و وضع تفسير الفاتحة في آخر تفسير الجلال المحلّي لتكون ملحقة به. و قد نهج السيوطي في التفسير منهج المحلّي، من إيجاز المطالب، و ذكر ما يفهم من كلام اللّه تعالى، و الاعتماد على أرجح الأقوال، و إعراب ما يحتاج إليه، و التنبيه على القراءات المختلفة المشهورة، على وجه لطيف، و تعبير وجيز، بحيث لا يكاد قارئ تفسير الجلالين

(1) مقدمة التسهيل لعلوم التنزيل، ج 1، ص 3.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 522

يلمس فرقا بيّنا بين طريقة الشيخين فيما فسّراه، اللهم في مواضع قليلة لا تبلغ العشرة.

و التفسير قيّم في بابه، و حظى بكثرة الانتشار و رواجه بين روّاد العلم، و قد طبع مرارا و طار صيته.

6- التفسير المقارن،

و هو خلاصة التفاسير الإسلامية المشهورة. قام بتأليفه العلامة المعاصر الشيخ محمد باقر الناصري- من أهل الناصرية بالعراق- اعتمد ما يقرب من ثلاثين تفسيرا فلخّصها و جمع لبابها و حوى على عبابها، في تفسير مختصر وجيز، حسن الأسلوب، جيّد العبارة، سهل التناول، مما يطلعك على قدرة المؤلّف العلمية و الأدبية. و كان منهجه: أن يذكر المعاني اللغوية النادرة أوّلا، ثم ينتقي أوضح النصوص و أجمعها لما حوت الآية من دلالة، مع إدخال بعض التعديلات في عبارات السلف، لتتناسب مع لغة العصر، و يعتمد أهم كتب التفسير عند الشيعة الإمامية، و خيرة تفاسير أهل السنة و الجماعة. و قدّم

مباحث تمهيدية قبل الورود في التفسير، مما يهمّ للمفسر رعايتها لدى تفسير الآيات.

و قد قام بطبعه و نشره مركز البحوث و الدراسات العلمية، التابع للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية- في قم المقدسة- في شهر رجب المرجب سنة (1416 ه) و كان تاريخ التأليف (1415 ه).

7- صفوة التفاسير

تأليف الأستاذ محمد علي الصابوني، من أساتذة كلية الشريعة بمكة المكرمة. كان له نشاط في علوم القرآن و التفسير، و من ثم قام بتأليف عدة كتب في التفسير و علوم القرآن، أكثرها مختصرات، كمختصر تفسير ابن كثير، و مختصر تفسير الطبري، و التبيان في علوم القرآن، و روائع البيان في

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 523

تفسير آيات الأحكام، و قبس من نور القرآن، و صفوة التفاسير؛ و هو الكتاب الذي نحن بصدده.

و هو تفسير موجز، شامل جامع بين المأثور و المعقول، مستمد من أوثق التفاسير المعروفة كالطبري و الكشاف و ابن كثير و البحر المحيط و روح المعاني، في أسلوب ميسّر سهل التناول، مع العناية بالوجوه البيانية و اللغويّة. قال في المقدّمة: و قد أسميت كتابي «صفوة التفاسير»؛ و ذلك لأنه جامع لعيون ما في التفاسير الكبيرة المفصّلة، مع الاختصار و الترتيب، و الوضوح و البيان. فهو تفسير توسّط فيه المؤلف في مسلكه العلمي، ليسهل فهمه على طلبة العلم بأسلوب سهل و عبارات ميسّرة، و إيضاحات جيدة في بيان تحليلي تربوي قريب التناول.

طبع الكتاب في ثلاث مجلدات، و كان تاريخ التأليف سنة (1400 ه).

8- الوجيز في تفسير القرآن العزيز

تأليف الأستاذ محمد علي دخيل، من ذوي النشاطات الدينية الحريصة على الإسلام و الدفاع عنه، إلى جنب تربية النش ء الجديد تربية إسلامية عريقة، و من ثم كانت تآليفه تدور حول هذا المحور، مثل:

ثواب الأعمال و عقابها، علي في القرآن، دراسات في القرآن الكريم، قصص القرآن الكريم، المصحف المفسر، الوجيز- الذي هو مورد دراستنا-. فقد تم تأليفه سنة (1405 ه)، و طبع سنة (1406 ه)، في مجلد واحد كبير، في (829) صفحة.

و هو تفسير موجز شامل، يغلب عليه اللون التربوي

التحليلي، متناسبا مع مستوى الجيل الحاضر. التزم فيه بنص الطبرسي في مجمع البيان مع مراعاة الاختصار. يبيّن فيه مجمل المعنى من دون أن يتوسّع فيه أو يتعرّض للأدب و البلاغة، و إنما يذكر اللغة و التفسير الموجز، مع ذكر الأحاديث الواردة، عن النبي أو أحد الأئمة عليهم السّلام بحذف الأسناد، أحيانا، كما يتعرّض لمواضع الاستدلال

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 524

في المذهب الإمامي في ظرافة و إيفاء. و قد ألحق بآخره بحثا حول العقائد و الأخلاق و القصص، كدراسات موضوعية في التفسير، كما تعرّض في الختام لجانب من التفسير العلمي لآيات متناسبة في ذلك. و من ثمّ فهو تفسير جامع في وضعه، و شاف كاف لأبناء الجيل الحاضر، لمن أراد الإيجاز و الاختصار.

9- تقريب القرآن إلى الأذهان

تفسير مزجي لطيف، شرح معاني الآيات على طريقة المزج بين الأصل و الشرح، مع بيان اللغة و أسباب النزول لدى الحاجة، و تعرّض لمسائل الفقه و الكلام عند المناسبة بصورة موجزة. يقع في ثلاثين جزء حسب تجزئة القرآن، و كان تأليفه سنة (1383 ه) و تم طبعه سنة (1400 ه).

تأليف الفقيه العلّامة السيد محمد الشيرازي، من أعلام النهضة الإسلامية المعاصرة، صاحب بحوث و دراسات إسلامية موسّعة، و في متنوّع جوانبها. و له حول القرآن كتابات غير هذا، منها: «تسهيل القرآن» في عشرة أجزاء، و «توضيح القرآن» في ثلاثة أجزاء، و «تبيين القرآن»، و «الجنة و النار في القرآن»، لم تخرج إلى عالم الطباعة.

10- النهر المادّ من البحر المحيط

تفسير أدبي، و نحوي لغوي، تأليف أبي حيان محمد بن يوسف الأندلسي الغرناطي، المتوفّى سنة (745 ه). اختصره من تفسيره الكبير «البحر المحيط» و طبع على هامشه، و هو تفسير لطيف حوى النكات الأدبية الرائعة التي كان أودعها في تفسيره الكبير، و حذف منه الأبحاث الجدلية المسهبة، و لخّصها في هذا التفسير. قال في المقدمة: لما صنّفت كتابي الكبير المسمّى ب «البحر المحيط»، عجز عن قطعه لطوله السابح. فأجريت منه نهرا تجري عيونه، و تلتقي بأبكاره فيه عيونه، لينشط الكسلان في اجتلاء جماله،

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 525

و يرتوي الظمآن بارتشاف زلاله. و ربما نشأ في هذا النهر مما لم يكن في البحر، و ذلك لتجدّد نظر المستخرج للآلية، المبتهج بالفكرة في معانيه و معاليه. و ما أخليته من أكثر ما تضمنه البحر من نقوده، بل اقتصرت على يواقيت عقوده، و نكبت فيه عن ذكر ما في البحر من أقوال اضطربت بها لججه، و إعراب متكلّف تقاصرت عنه حججه «1».

و

هناك مختصر آخر للبحر المحيط لتاج الدين الحنفي النحوي تلميذ أبي حيان، سماه «الدرّ اللقيط من البحر المحيط» مطبوع بالهامش أيضا.

(1) مقدمة النهر الماد، بهامش البحر المحيط، ج 1، ص 4- 10.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 526

تفاسير عرفانيّة (التفسير الرمزي و الإشاري)
اشارة

هناك لأهل العرفان الباطني تفاسير وضعت على أساس تأويل الظواهر، و الأخذ ببواطن التعابير دون دلالاتها الظاهرة، اعتمادا على دلالة الرمز و الإشارة فيما اصطلحوا عليه، مستفادة من عرض الكلام و جانبه، و ليس من صريح اللفظ و صميم صلبه. فقد فرضوا لظواهر التعبير بواطن حملوها حملا على القرآن الكريم، استنادا إلى مجرّد الذوق العرفاني الخاص، وراء الفهم المتعارف العام.

و هي نزعة صوفية «1» قديمة، دخيلة على الإسلام، بعد أن ترجمت الفلسفة

(1) الصوفية، نسبة إلى الصوف: اسم رمزي لفئات جعلت شعارها التقشّف في الحياة و التزهّد عن مباهجها، و منه الاجتزاء بلبس الصوف بدلا من فاخر الثياب، كناية عن الإعراض عن مطلق الترفّه في الحياة. و كان من مبتدعاتهم أن جعلوا «الطريقة» في مقابلة «الشريعة»، فزعموا: من أهل الشريعة هم أهل الظواهر، و أهل الطريقة هم أهل البواطن، و حسبوا من أنفسهم الجمع بين الطريقة و الشريعة، و لكن مفضّلين الطريقة على الشريعة، زعما بأنّ الأصل هو الباطن، و أنّ الظاهر عنوان الباطن.

و قد تسرّبت النزعة الصوفية إلى بعض أوساط الخواصّ، حاملة اسم «العرفان» كانت طريقتهم في السلوك و العرفان أمتن و أدقّ ظرافة من طرائق العامّة، و كانت تأويلاتهم لظواهر الكتاب و السنّة أقرب و أضبط.

و لكلا الطائفتين تفاسير مبتنية على أساس التأويل، كل على شاكلته، سوف نتعرّض إلى أمثلتها إن شاء اللّه.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 527

اليونانية، في القرنين الثاني

و الثالث، و تفشّت في أوساط عامّيّة كانت بعيدة عن تعاليم أهل البيت عليهم السّلام.

و نحن إذ نستنكر على هؤلاء تأويلاتهم غير المستندة، نرى أن للقرآن ظهرا و بطنا، كما جاء في حديث الرسول الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أسبقنا الكلام عنه، و كان «الظهر» عبارة عن المعنى المستفاد من تنزيل الآية، و من ظاهر التعبير حسب الأصول المقررة في باب التفهيم و التفهّم. و أما «البطن» فهو عبارة عن المفهوم العام الشامل، المستنبط من فحوى الآية و تأويلها إلى حيث تنطبق عليه من موارد مشابهة، حسب مرّ الدهور. و كان للتأويل ضوابط ذكرنا حدودها و شرائطها، و ليس حسب الذوق المختلف حسب تنوّع السلائق، كما ارتكبه القوم مع الأسف.

كان الصوفي إنما ينظر إلى القرآن نظرة تتمشّى مع أهدافه و تتّفق مع تعاليمه، حسب النزعة الصوفيّة الباطنيّة، و لم يكن من السهل أن يجد في القرآن صراحة تتّفق مع نظرته، أو يتمشّى بوضوح مع نزعته؛ حيث القرآن جاء لهداية الناس إلى معالم الحياة الكريمة، و جاء بتعاليم تتّفق مع واقعيّات الحياة. و لم يأت لإثبات أو دعم نظريّات و تعاليم جاءت غير مألوفة، و لا هي ماسّة بواقع الإنسان في هذه الحياة، و إنما هي أشياء فرضوها فرضا و احتملوها احتمالا مجردا عن الواقعيّات، و ربما كانت متنافرة مع الفطرة و العقل السليم.

غير أنّ الصوفي، زعما منه في إمكان الجمع بين الشريعة و الطريقة، يحاول أن يعثر على مقصوده حيثما وجد إلى ذلك سبيلا و لو بالفرض و الاحتمال، و من ثمّ تراه يتعسّف في تأويل ظواهر الكتاب و السنة من غير هوادة، و يتكلّف في حمل الآيات القرآنية على معاني

غريبة عن روح الشريعة، و يتخبّط خبط عشواء بلا تورّع. و كان ذلك مصداقا لامعا

لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من فسّر القرآن برأيه فإن

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 528

أصاب فقد أخطأ»

حيث أخطأ الطريق لا محالة.

و أولى سمات التفسير الصوفي البارزة، هو التكلم بلا هوادة، و الأخذ في التأويل من غير ضابطة، و الاعتماد على سجع الكلام في تكلّف ظاهر.

إن التفسير الصوفي لا يعتمد على مقدّمات علمية و لا براهين منطقية، و لا يعلّله سبب معقول، و إنما هو شي ء حسبه قد أفيض عليه بسبب إشراقات نوريّة، جاءته من محلّ أرفع. أنه يرى من مقامه الصوفي العرفاني و صلا إلى درجة الكشف و الشهود، لتنكشف له المعاني من سجف العبارات، و تظهر له الإشارات القدسيّة، و تنهلّ على قلبه من سحب الغيب ما تحمله الآيات القرآنية و السنّة النبويّة، من معارف سبحانية متعالية عن أفهام العامّة، هكذا يزعم الصوفي في هواجس خياله.

و بذلك افترقت طرائق الصوفية عن مذاهب العلماء و الفقهاء، و طريقتهم القويمة في فهم الكتاب و السنة الشريفة، و من ثمّ لم يعتبر العلماء شيئا من تأويلات الصوفيّة و من مشى على طريقتهم من أهل العرفان الباطني المجرّد.

و سيتّضح هذا الجانب عند التعرّض لتفاسيرهم.

هذا القشيري- في تفسيره «لطائف الإشارات»- يفسّر كل بسملة من كل سورة حسبما يحلو له من مقال أو يتوح له من خيال، من غير ضابطة يعتمد عليها أو حجة مقبولة.

هو عند تفسير البسملة من سورة الحمد يقول:

الباء في «بسم اللّه» حرف التضمين، أي باللّه ظهرت الحادثات، و به وجدت المخلوقات، فما من حادث مخلوق، و حاصل منسوق، من عين و أثر و غبر، و غير

من حجر و مدر، و نجم و شجر، و رسم و طلل، و حكم و علل، إلّا بالحق

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 529

وجوده، و الحق ملكه و من الحق بدؤه، و إلى الحق عوده، فبه وحد من وحّد، و به جحد من ألحد، و به عرف من اعترف، و به تخلّف من اقترف «1».

لم نعرف حرف التضمين، و لم نعرف كيف فسّر البسملة من هذه السورة بهذه المعاني، و لكنه في سائر السور يفسّرها بمعان أخر، و لعله يدّعي أنّ هكذا ألهم و أشرق عليه، انظر إلى تفسيره لبسملة سورة البقرة:

الاسم مشتق من السموّ و السمة، فسبيل من يذكر هذا الاسم أن يتّسم بظاهره بأنواع المجاهدات، و يسمو بهمّته إلى محالّ المشاهدات، فمن عدم سمة المعاملات على ظاهره، و فقد سموّ الهمّة للمواصلات بسرائره، لم يجد لطائف الذكر عند قالته، و لا كرائم القرب في صفاء حالته «2».

و في بسملة سورة آل عمران:

اختلف أهل التحقيق- يعني بهم الصوفية و أهل التأويل- في اسم «اللّه» هل هو مشتق من معنى أم لا؟ فكثير منهم قالوا: إنه ليس بمشتق من معنى، و هو له سبحانه على جهة الاختصاص، يجري في وضعه مجرى أسماء الأعلام في صفة غيره، فإذا قرع بهذا اللفظ أسماع أهل المعرفة لم تذهب فهو مهم و لا علومهم إلى معنى غير وجوده سبحانه و حقه. و حق هذه القالة أن تكون مقرونة بشهود القلب، فإذا قال بلسانه: «اللّه» أو سمع بآذانه شهد بقلبه «اللّه».

و كما لا تدلّ هذه الكلمة على معنى سوى «اللّه» لا يكون مشهود قائلها إلّا «اللّه»، فيقول بلسانه «اللّه»، و يعلم بفؤاده «اللّه»، و يعرف بقلبه «اللّه»، و

يحبّ بروحه «اللّه»، و يشهد بسره «اللّه»، و يتملّق بظاهره بين يدي «اللّه»، و يتحقق بسرّه

(1) لطائف الإشارات، ج 1، ص 56.

(2) المصدر، ص 64- 65.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 530

«اللّه»، و يخلو بأحواله «للّه» و «في اللّه»، فلا يكون فيه نصيب لغير «اللّه»، و إذا أشرف على أن يصير محوا في اللّه، للّه، باللّه، تداركه الحق سبحانه برحمته، فيكاشفه بقوله: «الرحمن الرحيم» استبقاء لمهجتهم أن تتلف، و إرادة في قلوبهم أن تنقى، فالتلطّف سنّة منه سبحانه؛ لئلا يفنى أولياؤه بالكلية «1».

و في بسملة النساء:

اختلفوا في «الاسم» عمّا ذا اشتقّ، فمنهم من قال: إنه مشتق من السموّ، و هو العلوّ، و منهم من قال: إنه مشتق من السمة، و هي الكيّة. و كلاهما في الإشارة؛ فمن قال: إنه مشتق من «السموّ» فهو اسم من ذكره سمت رتبته، و من عرفه سمت حالته، و من صحبه سمت همّته، فسمو الرتبة يوجب و فور المثوبات و المبارّ، و سموّ الحالة يوجب ظهور الأنوار في الأسرار، و سموّ الهمّة يوجب التحرّز عن رقّ الأغيار.

و من قال: أصله من «السمة»، فهو اسم من قصده وسم بسمة العبادة، و من صحبه وسم بسمة الإرادة، و من أحبّه وسم بسمة الخواصّ، و من عرفه وسم بسمة الاختصاص. فسمة العبادة توجب هيبة النار أن ترمى صاحبها بشررها، و سمة الإرادة توجب حشمة الجنان أن تطمع في استرقاق صاحبها، مع شرف خطرها، و سمة الخواص توجب سقوط العجب من استحقاق القربة للماء و الطينة على الجملة، و سمة الاختصاص توجب امتحاء الحكم عند استيلاء سلطان الحقيقة.

و يقال: اسم من و اصله سما عنده عن الأوهام قدره سبحانه.

و من فاصله

(1) لطائف الإشارات، ج 1، ص 229- 230.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 531

وسم بكيّ الفرقة قلبه، و على هذه الجملة يدلّ اسمه «1».

و في بسملة المائدة:

سماع اسم «اللّه» يوجب الهيبة، و الهيبة تتضمّن الفناء و الغيبة، و سماع «الرحمن الرحيم» يوجب الحضور و الأوبة، و الحضور يتضمن البقاء و القربة.

فمن أسمعه «بسم اللّه» أدهشه في كشف جلاله، و من أسمعه «الرحمن الرحيم» عيّشه بلطف إفضاله «2».

و هكذا عند كل بسملة يأتي بجمل و عبارات ذات تسجيع متكلّف فيه إلى تمام السور، لكنه عند سورة قريش، يغيّر الاتّجاه، و ينسى منهجه الدائر، و يقول:

«بسم»، الباء في «بسم» تشير إلى براءة سرّ الموحّدين عن حسبان الحدثان، و عن كل شي ء مما لم يكن فكان، و تشير إلى الانقطاع إلى اللّه في السرّاء و الضرّاء و الشدّة و الرّخاء. و السين تشير إلى سكونهم في جميع أحوالهم تحت جريان ما يبدو من الغيب، بشرط مراعاة الأدب. و الميم تشير إلى منّة اللّه عليهم بالتوفيق، لما تحققوا به من معرفته، و تخلّقوا من طاعته «3».

و لم هذا التغيير في الاتجاه؟ و لعله ألهم إليه إلهاما! نعم هناك ما يبرّر موقف الصوفية من هذه التأويلات، بأنها من تفسير الباطن للقرآن وراء تفسيره الظاهري، مع العلم أن للقرآن ظهرا و بطنا، و لا يعني التفسير الباطني نفي التفسير الظاهري، بل هما معا ثابتان جميعا، و معه لا موضع للإنكار

(1) لطائف الإشارات، ج 2، ص 5- 6.

(2) المصدر، ج 2، ص 91.

(3) المصدر، ج 4، ص 339.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 532

عليهم.

قال الأستاذ حسن عباس زكي «1» بصدد الدفاع عن

مواضع الصوفية في تأويل القرآن:

فالمفسرون من علماء الشريعة يقفون عند ظاهر اللفظ و ما دلّ عليه الكلام من الأمر و النهي و القصص و الأخبار و التوحيد، و غير ذلك، و أهل التحقيق أو الصوفية يقرّون تفسيرهم هذا، و يرونه الأصل الذي نزل فيه القرآن. و لكن لهم في كلام اللّه مع الأخذ بهذا التفسير الظاهري مذاقات لا يمكنهم إغفالها؛ لأنها بمثابة واردات أو هواتف من الحق لهم. فلا ينبغي أن نقف القرآن على تفسير معيّن على أنه المراد، فلا نقول كما يقول البعض: إنّ التفسير الظاهري وحده هو المقصود، كما لا يرى أهل التحقيق أنّ تفسيرهم وحده هو المراد؛ لأن القول بالتفسير الظاهري و حسب، تحديد لكلام اللّه غير المحدود، و إخضاع القرآن للّغة التي مقياسها العقل المحدود، و الوقوف في تفسير كلام اللّه عند العقل المحدود، عقال عن الانطلاق فيما وراء الغيوب، و إغلاق الباب لمذاقات ليس العقل مجالها؛ لأنها لا تخضع لمقاييسه و إنما تخضع لشي ء آخر فوقه، و تدرك بلطيفة أخرى سواه، إذن فهناك ما فوق العقل إلا و هو القلب؛ فإن للقلب لغته كما أنّ للعقل لغته. و إذا كانت لغة العقل تدرك بالألفاظ، و يعبّر عنها بالكلمات، فلغة القلب تدرك بالذوق؛ لأنه لا يحيط بالتعبير عنها اللفظ.

و لنقرب إلى الفهم، فلغة القلب مثل التفّاحة، فلن يستطيع من أكلها و أحسّ حلاوتها أن يترجم باللفظ أو يعبّر بالوصف- لمن لم يأكلها قبل- عن طعمها

(1) وزير الاقتصاد و التجارة الخارجية بمصر، له تعريف بتفسير القشيري أثبته في مقدمة الكتاب.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 533

و مذاقها، و هكذا لا تدرك لغة القلب بوصف أو بلفظ، و إنما يدركها ذو

قلب متذوّق؛ و لذلك لا تحيط بالتعبير عن لغة القلب العبارة، و إنما يعبّر عنها بالإشارة.

فالإشارة ترجمان لما يقع في القلوب من تجلّيات و مشاهدات، و تلويح لما يفيض به اللّه على صفوته و أحبابه من أسرار في كلام اللّه، و كلام رسوله.

و من هنا كانت مذاقات الصوفية و أهل التحقيق في القرآن الكريم، و هم لا يرون أنّ تلك المذاقات وحدها هي المرادة، و إنما يأخذونها إشارات من اللّه لهم بعد إقرار ما قاله أهل الظاهر من تفسير، باعتباره أصل التشريع.

و جليّ بعد ذلك أنه لا مجال لمتعرض ممن ينكر عليهم مذاقاتهم، و يراها ميلا بكلام اللّه عن مجراها، ما داموا لا يأخذون بمذاقاتهم وحدها، و إنما يأخذون بهما مع إقرارهم لتفسير أهل الشرع. فلا يعنينا من ذي جدل أن يقول عن هذه الإشارات: إنها إحالة لكلام اللّه و تغيير لسياقه و مجراه؛ لأنّ ذلك يصدق لو قالوا:

إنه لا معنى للآية إلّا هذا، و هم لا يقولون ذلك، بل يقرّون الظواهر على ظواهرها، و يفهمون عن اللّه ما أفهمهم.

و ذلك مصداق الحديث الشريف: «لكل آية ظهر و بطن و حدّ و مطلع» فالباطن لا يعارض الظاهر، و الظاهر لا يعارض الباطن.

و ذلك النهج بعيد كل البعد عما نادى به «الباطنيّة» من الأخذ بباطن القرآن لا ظاهره، و قصرهم معاني القرآن على ما ادعوه من تفسيراتهم دون غيره؛ لأنّهم بذلك لا يقرّون الشريعة و يبطلون العمل بها، و هم لا يخضعون دعواهم للنص القرآني، بل يخضعون النص القرآني لدعواهم.

و هنا يزول ما التبس على البعض من أن مذاقات الصوفية في القرآن الكريم، نزعة باطنية، فبينهم و بينها آماد و أبعاد، بل أنهم لبريئون منها، و

لينكرونها كل الإنكار، و واضح ذلك من أنهم يأخذون بالباطن بعد الأخذ بالظاهر، و يقرّون

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 534

الحقيقة بعد الأخذ بالشريعة، و يرون أن الحقيقة نفسها أساسها الشريعة، فالفرق ثمة كبير، و البون شاسع و عظيم.

و لا مجال بعد هذا الإيضاح لإنكار من ينكر على الصوفية مذهبهم في الإشارات و ما يختصهم اللّه به في كلامه و كلام رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الأسرار و الفيوضات.

على أنّ تلك الإشارات أمر مشروع أقرّه الحديث المذكور آنفا «لكل آية ظاهر و باطن و حدّ و مطلع» فأربابها متّبعون لا مبتدعون، اختصهم اللّه بأسراره في آياته، ليكونوا مصابيح الهدى في غسق الدّجى، كما أقره عمد الدين و ذوو العلم من المؤلّفين:

قال سعد الدين التفتازاني، في شرح العقائد النسفية: «و أما ما ذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص مصروفة على ظواهرها، و مع ذلك فيها إشارات خفيّة إلى حقائق تنكشف على أرباب السلوك، يمكن التطبيق بينها و بين الظواهر المرادة، فهو من كمال الإيمان و محض العرفان» «1».

و قال الشيخ زروق: «نظر الصوفي أخصّ من نظر المفسّر و صاحب فقه الحديث؛ لأن كلّا منهما يعتبر الحكم و المعنى ليس إلّا، و هو يزيد بطلب الإشارة بعد إثبات ما أثبتاه».

فإذا دار المفسر في حدود اللفظ القرآني، و استنبط منه الفقهاء ما استنبطوا من أحكام، فلأولي الألباب و ذوي البصائر فيه بعد ذلك من الأسرار و الحقائق ما لا ينكشف لسواهم و لا يدركه غيرهم، و ذلك لتجدّد واردات الحق عليهم، و دوام

(1) شرح العقائد النسفية، ص 120 (ط كابل).

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 535

تنزّل الفيوضات على

قلوبهم؛ لأنهم أهله و محبّوه «1».

و لقد أبدع الأستاذ زكي و أبدى براعته في الدفاع عن حريم الصوفية و تأويلاتهم لنصوص الشريعة، لكنه تطوّع في الدفاع محاولا التغطية على انحرافات القوم و عدم الإفشاء، مرورا عليها مرور الكرام، صونا على عرضهم و عدم هتك نواميسهم. و هل الواقعية تساند هذا الدفاع؟ هذا شي ء آخر، و لعلّ الأمر بخلافه.

إنّ شريعة اللّه، ظاهرة و باطنة، ذات حقيقة واحدة، و تتجلى خلال أوامره و نواهيه و أحكامه و تكاليفه، من عبادات و فرائض و أصول معارف و فروع مسائل، إن قام بها المكلّف عن إيمان و إخلاص، فقد احتضن الحقيقة و أصابها و استضاء بنورها، و كانت له فيها السعادة و النجاة في الدّارين، كما سعد السلف الصالح و بلغوا ساحل النجاة.

أمّا أنّ هناك طريقة وراء الشريعة، فمن سلك الطريقة بلغ الحقيقة، و من اقتصر على الشريعة لم ينل سوى المظاهر دون اللّب و الصميم. فهذا أمر غريب و مبتدع ابتدعه أهل التأويل. في عهد متأخر عن دور الصحابة و التابعين لهم بإحسان.

و ما هذه الحقيقة الكامنة وراء الشريعة، و التي اتّخذها الصوفية طريقة في السلوك و عرفانا إلى الواقع الصميم؟! هل هي تلك الخلسات و الجلسات العجيبة، و الأوراد و الأذكار المبتدعة في أطوارها و كيفيّاتها، مما لم يأت اللّه بها من سلطان، و إنما هي شي ء ابتدعوها ابتداعا لا مستند لها.

(1) مقدمة تفسير القشيري، ج 1، ص 4- 6.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 536

أما الواردات (إلهامات) التي أشار إليها الأستاذ، فشي ء تدّعيه الصوفية و أرباب السلوك الصوفي المجرّد، و ليست سوى خواطر و أوهام و هواجس و تخيّلات بحتة، لو لم نقل إنها

من همزات الشياطين.

نعم السلوك إلى اللّه كامن وراء الإخلاص في العمل بتكاليف الشريعة و الالتزام بتعاليمه القيمة محضا، و ليس في غير ذلك سوى ابتداع و انحراف عن الحقيقة، أيّا كان نمطه و لونه، فربّ عمل كان في أصله مشروعا، لكنه أصبح بسبب ملابسات و زيادات كمّا أو كيفا ضلالة و بدعة؛ إذ لم يرد بشأنها نص في الكتاب أو السنة الشريفة.

و بالجملة فإن الأعمال التي يزاولها أهل القشف في السلوك الصوفي، أعمال غريبة عن روح الإسلام، و لا ينبغي أن نصفها بصفة الحقيقة الربانية كما يزعمون.

و كلّ يدّعي وصلا بليلى و ليلى لا تقرّ لهم جوابا

هذا مضافا إلى وفرة شطحات هؤلاء ملأت دفاترهم و سجلّاتهم، لا تدع مجالا لأيّ تبرير لمواضعهم، حتى و لو كان شكليّا. و سيوافيك نقم العلماء على مواضع الصوفية في تأويلاتهم الباطلة، عند الكلام عن تفسير السلمي، شيخ القشيري و مقتداه في التفسير. و نتعرض هناك لتأويلات لا تنسجم مع روح الشريعة، و لا هي تتوافق مع لفظ القرآن، لا في ظاهره و لا في باطنه.

و الحديث الشريف: «إنّ للقرآن ظهرا و بطنا ...»، و «أن ظهره تنزيله و بطنه تأويله ...» لا يعني هواجس أهل التصوّف أو تخيّلاتهم المزعومة. و قد أسبقنا أنّ للتأويل (كشف باطن الآية) شروطا كما أنّ للتفسير (فهم ظاهر الآية) أيضا شروطا، و ليس هذا أو ذاك مطلق العنان، يجري حسبما يشتهيه أهل الأهواء.

و عليك بمراجعة ما يأتي من نماذج من تأويلاتهم التي لا تعدو تخيلات.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 537

أيها المدّعي سليمى هواها لست منها و لا قلامة ظفر

إنما أنت في هواها كواو ألصقت في الهجاء ظلما بعمرو

و يجدر بنا أن ننبّه على أن تفاسير الصوفية ليست على نمط واحد من الاعتبار أو السقوط، بل بين رفيع و وضيع، و أسلم تفاسيرهم، هو تفسير القشيري نسبيّا؛ حيث خلوّه عن أكثر شطحات الصوفية المعروفة عنهم. و أسلم منه تفسير الميبدي الموسوم ب «كشف الأسرار و عدة الأبرار» على ما سنذكره.

التنويع في التفسير الباطني

قد ينوّع التفسير الصوفي إلى نوعين: نظري و فيضي، حسب تنويع المتصوّفة إلى تصوّف نظري و عملي، ليكون التصوّف النظري مبتنيا على البحث و الدراسة، أما التصوّف العملي فهو الذي يقوم على التقشّف و التزهّد و التفاني في العبادة (الأذكار و الأوراد).

و عليه فالتفسير الصوفي النظري، تفسير أولئك المتصوّفة الذين بنوا تصوّفهم على مباحث نظريّة فلسفية، ورثوها من يونان القديمة، و من الصعب جدّا أن يجد هؤلاء في القرآن ما يتّفق و تعاليمهم، و هي بعيدة عن روح القرآن و تعاليم الإسلام، اللهم إلّا إذا حملوا نظرياتهم على القرآن و أقحموا عليه إقحاما.

قال الأستاذ الذهبي: و نستطيع أن نعتبر الأستاذ الأكبر محيي الدين بن عربي، شيخ هذه الطريقة في التفسير؛ إذ إنّه أظهر من خبّ فيها و وضع، و أكثر أصحابه معالجة للقرآن على طريقة التصوّف النظري «1».

(1) التفسير و المفسرون، ج 2، ص 339.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 538

و أما التفسير الفيضي، فهو تأويل الآيات على خلاف ما يظهر منها، بمقتضى إشارات رمزيّة، تظهر لأرباب السلوك و الرياضة النفسية، من غير ما دعم بحجة أو برهان.

قال الذهبي: و الفرق بينه و بين التفسير الصوفي النظري من وجهين.

أولا: أنّ النظري ينبني على مقدّمات علمية تنقدح في ذهن الصوفي أوّلا ثم ينزل القرآن عليها بعد ذلك. أما التفسير الفيضي الإشاري فيرتكز

على رياضة روحيّة يأخذ بها الصوفي نفسه حتى يصل إلى درجة تنكشف له فيها من سجف العبارات هذه الإشارات القدسيّة، و تنهل على قلبه من سحب الغيب ما تحمله الآيات من المعارف السبحانية.

ثانيا: أنّ التفسير الصوفي النظري، يرى صاحبه أنه كل ما تحتمله الآية من المعاني، و ليس وراءه معنى آخر يمكن أن تحمل الآية عليه. أمّا التفسير الفيضي الإشاري فلا يرى الصوفي أنه كل ما يراد من الآية، بل يرى أنّ هناك معنى آخر تحتمله الآية، و يراد منها أولا و قبل كل شي ء، و ذلك هو المعنى الظاهر الذي ينساق إليه الذهن قبل غيره «1».

لكنا لا نرى تفاوتا في تفاسير الصوفية، سوى الشدّة و الضعف في تأويلاتهم التي يتكلّفونها حسب أذواقهم و سلائقهم، بلا استناد و لا أساس، و كلّها معدود من التفسير بالرأي المقيت.

إذ لم نر من استند منهم على مقدّمة علمية و لا برهان واضح، سوى سوانح و خواطر عارضة، يحسبونها إشراقات جاءتهم من مكان عليّ، و ليس سوى

(1) التفسير و المفسرون، ج 2، ص 339.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 539

ادّعاءات فارغة كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً، حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً «1».

نعم هناك منهم من يحاول الجمع بين الظاهر و الباطن، تأليفا بين الشريعة و الطريقة، كالقشيري في تفسيره، و منهم من يقتصر على الباطن معرضا عن الظاهر، إما منكرا له كالباطنية المحضة، أصحاب الحسن السبّاح، و هم الملاحدة، و على نظيرهم الخوارج و القرامطة. و كذا بعض تفاسير الصّوفية ممن اقتصروا على محض الباطن، كمحيي الدين بن عربي في تفسيره الباطني المنسوب إليه.

لكنه مع ذلك لم ينكر الظواهر، و قد فسر القرآن أثناء كتبه

تفسيرا آخر حسب الظاهر المعروف «2».

و مثله تفسير أبي محمد الشيرازي «عرائس البيان» جرى في تفسيره على نمط واحد هو التفسير الإشاري، و لم يتعرض للتفسير الظاهر بحال، و إن كان يعتقد أنه لا بدّ منه أوّلا، كما صرّح بذلك في مقدمة تفسيره، و سنذكره.

أهم تفاسير الصوفيّة و أهل العرفان
اشارة

لأهل العرفان الباطني تفاسير متنوعة في البناء على تأويل الآيات، حسب مشاربهم في التصوّف و العرفان، فمنهم من جمع بين تفسير الظاهر و الباطن فاصلا بينهما كلّا على حدّه، و منهم من مزج بين الأمرين من غير فصل بينهما، و ربما حصل خلط من ذلك بحيث لا يعرف القارئ أنه تفسير أو تأويل، و منهم

(1) النور/ 39.

(2) جمعه محمود الغرّاب من علماء دمشق المعاصرين حسبما نذكر.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 540

من اقتصر على مجرد التأويل محضا، حسبما نذكر من تفاسيرهم.

1- تفسير التستري

و لقد بدأ التفسير الباطني اعتمادا على تأويل الآيات منذ القرن الثالث على يد أبي محمد سهل بن عبد اللّه التستري من مواليد سنة (200 ه) و المتوفّى سنة (283 ه). فإن له تفسيرا على طريقة الصوفية جمعه أبو بكر محمد بن أحمد البلدي، و قد طبع بمطبعة السعادة بمصر سنة (1908 م) فيما لا يزيد على مائتي صفحة.

كان التستري من كبار العارفين، و قد ذكرت له كرامات، و لقى الشيخ ذا النون المصري بمكة، و كان صاحب رياضة و اجتهاد وافر. أقام بالبصرة زمنا طويلا، و توفّي بها.

و تفسيره هذا مطبوع في حجم صغير، لم يتعرّض فيه المؤلف لتفسير جميع القرآن، بل تكلم عن آيات محدودة و متفرقة من كل سورة. و يبدو أنّ التفسير مجموعة من أقوال سهل في التفسير، جمعها البلدي المذكور في أول الكتاب، و الذي يقول كثيرا: قال أبو بكر: سئل سهل عن معنى آية كذا، فقال: كذا.

و للكتاب مقدمة جاء فيها توضيح معنى الظاهر و الباطن و معنى الحدّ و المطلع، فيقول: ما من آية في القرآن إلّا و لها ظاهر و باطن و

حد و مطلع. فالظاهر:

التلاوة، و الباطن: الفهم. و الحد: حلالها و حرامها، و المطلع: إشراق القلب على المراد بها، فقها من اللّه عزّ و جل فالعلم الظاهر علم عام، و الفهم لباطنه، و المراد به خاص. و يقول في موضع آخر: قال سهل: إن اللّه تعالى ما استولى وليّا من أمة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلّا علّمه القرآن، إما ظاهرا و إما باطنا. قيل له: إن الظاهر نعرفه،

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 541

فالباطن ما هو؟ قال: فهمه، و إن فهمه هو المراد «1».

و نجده أحيانا لا يقتصر على التفسير الإشاري وحده، بل ربما ذكر المعاني الظاهرة ثم يعقّبها بالمعاني الإشارية. و حينما يعرض للمعاني الإشارية لا يكون واضحا في كل ما يقوله، بل تارة يأتي بالمعاني الغريبة التي يستبعد أن تكون مرادة للّه تعالى، كالمعاني التي يذكرها في تفسير البسملة:

الباء: بهاء اللّه. و السين: سناء اللّه. و الميم: مجد اللّه. و اللّه: هو الاسم الأعظم الذي حوى الأسماء كلها، و بين الألف و اللّام منه حرف مكنّى، غيب من غيب إلى غيب، و سرّ من سرّ إلى سر، و حقيقة من حقيقة إلى حقيقة، لا ينال فهمه إلّا الطّاهر من الأدناس، الآخذ من الحلال قواما ضرورة الإيمان. و الرحمن: اسم فيه خاصية من الحرف المكنّى بين الألف و اللام. و الرحيم: هو العاطف على عباده بالرزق في الفرع، و الابتداء في الأصل، رحمة لسابق علمه القديم «2».

و بهذا النسق فسّر «الم»، و تبعه على ذلك أبو عبد الرحمن السلمي، و من بعدهما من مفسري الصوفية و أهل العرفان «3».

و ربّما فسّر الآية بما لا يحتمله اللفظ، و ليس سوى

الذوق الصوفي حمله على الآية حملا، من ذلك ما ذكره في تفسير الآية وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ «4»:

لم يرد اللّه معنى الأكل في الحقيقة، و إنما أراد معنى مساكنة الهمة لشي ء هو غيره، أي لا تهتمّ بشي ء هو غيري. قال: فآدم عليه السّلام لم يعصم من الهمة و الفعل في الجنة،

(1) تفسير التستري، ص 3.

(2) المصدر، ص 9- 12.

(3) حقائق التفسير للسلمي، ص 9.

(4) البقرة/ 35.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 542

فلحقه ما لحقه من أجل ذلك. قال: و كذلك كل من ادّعى ما ليس له و ساكنه قلبه ناظرا إلى هوى نفسه، لحقه الترك من اللّه عزّ و جل مع ما جبلت عليه نفسه، إلّا أن يرحمه اللّه، فيعصمه من تدبيره و ينصره على عدوّه و عليها. قال: و آدم لم يعصم عن مساكنة قلبه إلى تدبير نفسه للخلود لمّا أدخل الجنة، أ لا ترى أن البلاء دخل عليه من أجل سكون القلب إلى ما وسوست به نفسه، فغلب الهوى و الشهوة العلم و العقل و البيان و نور القلب، لسابق القدر من اللّه تعالى، كما

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الهوى و الشهوة يغلبان العلم و العقل «1».

و فى أغلب الأحيان يجري في تفسيره مع ظاهر الآية أوّلا، ثم يعقّبه بما سنح له من خواهر صوفية يجعلها تأويلا و تفسيرا لباطن الآية. من ذلك تفسيره للآية وَ الْجارِ ذِي الْقُرْبى وَ الْجارِ الْجُنُبِ وَ الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ «2» حيث يقول بعد ذكره للتفسير الظاهر: و أما باطنها، فالجار ذي القربى هو القلب، و الجار الجنب هو الطبيعة، و الصاحب بالجنب هو العقل المقتدى

بالشريعة، و ابن السبيل هو الجوارح المطيعة للّه «3».

و عند تفسيره للآية ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ «4» يقول: مثّل اللّه الجوارح بالبرّ، و مثّل القلب بالبحر، و هم أعمّ نفعا و أكثر خطرا. هذا هو باطن الآية، أ لا ترى أنّ القلب إنما سمّي قلبا لتقلّبه، و بعد غوره «5».

(1) تفسير التستري، ص 16- 17.

(2) النساء/ 36.

(3) تفسير التستري، ص 45.

(4) الروم/ 41.

(5) تفسير التستري، ص 45. و راجع: الذهبي، ج 2، ص 365.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 543

2- حقائق التفسير للسّلمي

و ثاني تفاسير الصوفية التي ظهرت إلى الوجود، تفسير أبي عبد الرحمن السّلمي، المسمّى ب «حقائق التفسير» هو أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين بن موسى الأزدي السّلمي، المولود سنة (330) و المتوفّى سنة (412). كان شيخ الصوفية و رائدهم بخراسان، و له اليد الطولى في التصوّف، و كان موفّقا في علوم الحقائق حسبما اصطلح عليه القوم و كان على جانب كبير من العلم بالحديث، أخذ منه الحاكم النيسابوري و القشيري صاحب التفسير.

و هذا التفسير من أهم تفاسير الصوفية، و يعدّ من أمّهات المراجع للتفسير الباطني لمن تأخر عنه، كالقشيري و الشيرازي و أضرابهما من أقطاب الصوفية.

و هو امتداد للتفسير الصوفي الذي ابتدعه التستري من ذي قبل و تفصيل فيه، و تحرير واسع للذوق الصوفي في فهمه لمعاني كلمات اللّه في القرآن العظيم.

يقول في مقدمته:

«لما رأيت المتوسّمين بعلوم الظاهر قد سبقوا في أنواع فرائد القرآن، من قراءات و تفاسير و مشكلات و أحكام، و إعراب و لغة، و مجمل و مفصّل، و ناسخ و منسوخ، و لم يشتغل أحد منهم بفهم الخطاب

على لسان الحقيقة إلّا آيات متفرّقة، أحببت أن أجمع حروفا استحسنها من ذلك، و أضمّ أقوال مشايخ أهل الحقيقة إلى ذلك، و أرتّبه على السور، حسب وسعي و طاقتي» «1».

غير أنّ الاقتصار على المعاني الإشاريّة، و الإعراض عن المعاني الظاهرة في هذا التفسير، ترك للعلماء مجالا للطعن عليه، و لقى معارضات شديدة من معاصريه و ممن أتوا بعده، فاتّهم بالابتداع و التحريف و القرمطة، و وضع

(1) حقائق التفسير للسّلمي، ص 1- 2.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 544

الأحاديث على الصوفية.

يقول ابن الصلاح «1» في فتاواه و قد سئل عن كلام الصوفية في القرآن:

وجدت عن الإمام أبي الحسن الواحدي المفسّر أنه قال: صنّف أبو عبد الرحمن السّلمي «حقائق التفسير» فإن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير، فقد كفر.

قال: الظن بمن يوثق به منهم أنه إذا قال شيئا من أمثال ذلك أنه لم يذكره تفسيرا، و لا ذهب به مذهب الشرح للكلمة المذكورة من القرآن العظيم، فإنه لو كان كذلك، كانوا قد سلكوا مسلك الباطنيّة، و إنما ذلك ذكر منهم لنظير ما ورد به القرآن، فإن النظير يذكر بالنظير، و من ذلك قتال النفس في الآية الكريمة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ «2» فكأنه قال: أمرنا بقتال النفس و من يلينا من الكفار، و مع ذلك فيا ليتهم لم يتساهلوا في مثل ذلك، لما فيه من الإبهام و الإلباس «3».

قال أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي المتوفّى سنة (463 ه)- و هو قريب عهد به-: قال لي محمد بن يوسف القطّان النيسابوري: كان السّلمي غير ثقة. قال الخطيب: و كان يضع للصوفية الأحاديث «4».

(1) هو الإمام الحافظ العلّامة

شيخ الإسلام في قطره و عصره، تقي الدين أبو عمرو عثمان بن المفتي صلاح الدين عبد الرحمن الكردي الشهرزوري الموصلي. ولد سنة (577 ه) و توفّي سنة (643 ه) بدمشق، و دفن بمقبرة الصوفية، و كان قبره ظاهرا يزار. (سير أعلام النبلاء للذهبي، ج 23، ص 140، رقم 100)

(2) التوبة/ 123.

(3) فتاوي ابن الصلاح، ص 29. (الذهبي، ج 2، ص 368).

(4) تاريخ بغداد، ج 2، ص 248.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 545

و هكذا وصفه أبو العباس أحمد بن تيميّة الحرّاني المتوفّى سنة (728 ه) بالوضع و الاختلاق. قال: و ما ينقل في «حقائق» السّلمي من التفسير عن جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام عامته كذب على جعفر، كما قد كذب عليه غير ذلك «1».

قال الإمام أبو عبد اللّه شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي المتوفّى سنة (748 ه) في «تذكرة الحفاظ»: «ألّف السّلمي حقائق التفسير فأتى فيه بمصائب و تأويلات الباطنيّة، نسأل اللّه العافية» «2».

و قال في ترجمته في «سير أعلام النبلاء»: «و للسّلمي سؤالات للدار قطني عن أحوال المشايخ و الرواة سؤال عارف. و في الجملة ففي تصانيفه أحاديث و حكايات موضوعة. و في «حقائق التفسير» أشياء لا تسوغ أصلا، عدّها بعض الأئمة من زندقة الباطنية، و عدّها بعضهم عرفانا و حقيقة، نعوذ باللّه من الضلال و من الكلام بهوى» «3».

و من ثمّ عدّ السيوطي المتوفى سنة (911) تفسير السّلمي في كتابه «طبقات المفسرين» ضمن التفاسير المبتدعة. قال: و إنما أوردته في هذا القسم لأنه غير محمود «4».

و هكذا ذكر الإمام الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد الداودي المتوفّى سنة (945 ه) في «طبقات المفسرين»، قال: و

كتاب «حقائق التفسير» للسّلمي قد

(1) منهاج السنة، ج 4، ص 155.

(2) تذكرة الحفاظ، ج 3، ص 1046.

(3) سير أعلام النبلاء، ج 17، ص 252.

(4) طبقات المفسرين للسيوطي (ط ليدن) ص 31.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 546

كثر الكلام فيه، من قبل أنه اقتصر فيه على ذكر تأويلات و محامل للصوفيّة، ينبو عنها ظاهر اللفظ «1».

و إليك الآن نماذج من تأويلات السّلمي، مما ينبو عنها لفظ القرآن الكريم:

قال في الآية وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ «2»: قال محمد بن الفضل: اقتلوا أنفسكم بمخالفة هواها، أو أخرجوا من دياركم، أي أخرجوا حب الدنيا من قلوبكم، ما فعلوه إلّا قليل منهم في العدد، كثير في المعاني، و هم أهل التوفيق و الولايات الصادقة «3».

و في سورة الرعد عند قوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ «4» يقول: قال بعضهم: هو الذي بسط الأرض و جعل فيها أوتادا من أوليائه و سادة من عبيده، فإليهم الملجأ و بهم النجاة، فمن ضرب في الأرض يقصدهم فاز و نجا، و من كان بغيته لغيرهم خاب و خسر. سمعت علي بن سعيد يقول: سمعت أبا محمد الحريري يقول: كان في جوار الجنيد إنسان مصاب في خربة، فلمّا مات الجنيد و حملنا جنازته، حضر الجنازة، فلما رجعنا تقدّم خطوات و علا موضعا من الأرض عاليا، فاستقبلني بوجهه، و قال: يا أبا محمد، إني لراجع إلى تلك الخربة، و قد فقدت ذلك السيّد، ثم أنشد شعرا:

و ما أسفي من فراق قوم هم المصابيح و الحصون

(1) طبقات المفسرين للداودي، ج 2،

ص 139.

(2) النساء/ 66.

(3) تفسير السّلمي (حقائق التفسير)، ص 49.

(4) الرعد/ 3.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 547

و المدن و المزن و الرواسي و الخير و الأمن و السكون

لم تتغير لنا الليالي حتى توفتهم المنون

فكل جمر لنا قلوب و كل ماء لنا عيون «1»

و في سورة الحج عند قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً «2»، يقول: قال بعضهم: أنزل مياه الرحمة من سحائب القربة، و فتح إلى قلوب عباده عيونا من ماء الرحمة، فأنبتت فاخضرّت بزينة المعرفة، و أثمرت الإيمان، و أينعت التوحيد، أضاءت بالمحبة فهامت إلى سيّدها، و اشتاقت إلى ربّها فطارت بهمّتها، و أناخت بين يديه، و عكفت فأقبلت عليه، و انقطعت عن الأكوان أجمع. ذاك آواها الحق إليه، و فتح لها خزائن أنواره، و أطلق لها الخيرة في بساتين الأنس، و رياض الشوق و القدس «3».

و في سورة الرحمن عند قوله تعالى: فِيها فاكِهَةٌ وَ النَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ «4» يقول: قال جعفر: جعل الحق تعالى في قلوب أوليائه رياض أنسه، فغرس فيها أشجار المعرفة، أصولها ثابتة في أسرارهم، و فروعها قائمة بالحضرة في المشهد، فهم يجنون ثمار الأنس في كل أوان، و هو قوله تعالى: فِيها فاكِهَةٌ وَ النَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ أي ذات الألوان، كل يجتني منه لونا على قدر سعته، و ما كوشف له من بوادي المعرفة و آثار الولاية «5».

(1) تفسير السّلمي، ص 138.

(2) الحج/ 63.

(3) تفسير السّلمي، ص 212.

(4) الرحمن/ 11.

(5) تفسير السّلمي، ص 344.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 548

و في سورة الانفطار إِنَّ

الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَ إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ «1» يقول: قال جعفر: النعيم: المعرفة و المشاهدة، و الجحيم: النفوس، فإن لها نيرانا تتّقد «2».

و في سورة النصر إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ «3» يقول: قال ابن عطاء اللّه:

إذا شغلك به عمّا دونه فقد جاءك الفتح من اللّه تعالى، و الفتح: هو النجاة من السّجن البشري بلقاء اللّه تعالى «4».

3- لطائف الإشارات للقشيري

هو أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري النيسابوري. ولد في قرية من ضواحي نيسابور سنة (376 ه) و مات أبوه و هو صغير، فاتّجهت به أسرته نحو طلب العلم، فبرع فيه حسبما دارت رحى العلم في ذلك العهد، في الفقه و الحديث و الأدب و الأصول و التفسير. و سار في درب الصوفية على يد أبي الحسن ابن الدقاق المتوفّى سنة (448 ه) من كبار مشايخ الصوفية ذلك العهد، و قد أشار عليه أن يحضر حلقات درس أبي بكر الطوسي، و ابن فورك، و الأسفراييني. و في أثناء ذلك كان يداوم على درس ابن الدّقّاق، و لما توفّي انتقل إلى دروس عبد الرحمن السّلمي المتوفّى سنة (412 ه) حتى أصبح شيخ خراسان في الفقه و الكلام، مع تصدير في الحديث و الوعظ و الإرشاد. و توفّي سنة

(1) الانفطار/ 13- 14.

(2) تفسير السّلمي، ص 385.

(3) النصر/ 1.

(4) تفسير السّلمي، ص 402.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 549

(465 ه) بمدينة نيسابور.

و تفسيره هذا امتداد للتفسير الصوفي الباطني، معتمدا في أكثر الأحيان على تأويلات قد ينبو عنها ظاهر لفظ الآية الكريمة. لكنه مع ذلك حاول أن يوفّق بين علوم الحقيقة- حسب مصطلحهم- و علوم الشريعة، قاصدا أن لا تعارض بينهما، و

أن أيّ كلام يناقض ذلك فهو خروج على كليهما؛ إذ كل شريعة غير مؤيّدة بالحقيقة فغير مقبول، و كل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فغير محصول، فالشريعة أن تعبده، و الحقيقة أن تشهده. كما جاء في «الرسالة القشيريّة» «1».

حاول في هذا التفسير أن يبرهن على أن كلّ صغيرة و كبيرة في علوم الصوفيّة، فإنّ لها أصلا من القرآن. و يتجلّى ذلك بصفة خاصّة حيثما ورد المصطلح الصوفي صريحا في النّص القرآني، كالذكر و التوكّل و الرضا، و الوليّ و الولاية و الحق، و الظاهر و الباطن، و القبض و البسط. فإنك عند خلال قراءة التفسير لا تكاد تملك إلا أن تحكم أن الصوفيّة قد استمدّوا أصولهم و فروعهم من كتاب اللّه الكريم، و أنّ علومهم ليست غريبة و لا مستوردة، كما يحلو لكثير من الباحثين، حين يرون التصوّف الإسلامي متأثّرا بالتيّارات الأجنبيّة، اليونان و الفرس و الهند.

كذلك تلحظ عبقريّة القشيري إزاء اللفظة أو الآية، حينما لا يكون فيها اصطلاح صوفي، فإنّه يستخرج لك من آيات الطلاق إشارات في الصحبة و الصاحب، و من علاقة النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأصحابه إشارات عن الشيخ و مريديه، و من مظاهر الطبيعة كالشمس و القمر و المطر و الجبال إشارات تتّصل اتّصالا وثيقا بالرياضات و المجاهدات، أو بالمواصلات و الكشوفات.

(1) الرسالة القشيريّة، ص 46. و راجع: مقدمة تفسير القشيري، ج 1، ص 18.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 550

و من ثمّ فإنه من أوفق التفاسير الصوفية في الجمع بين الشريعة و الطريقة، و أسلمها عن الخوض في التأويلات البعيدة التي يأباها اللفظ و ينفرها، كما في سائر تفاسيرهم.

و لذلك فإنّ فيه بعض الشطحات أو

التأويلات البعيدة، مما يعدّ تفسيرا بالرأي الممنوع منه شرعا، مثلا عند قوله تعالى: وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ «1» يقول: الأمر في الظاهر بتطهير البيت، و الإشارة من الآية إلى تطهير القلوب. و تطهير البيت بصونه عن الأدناس و الأوضار، و تطهير القلب بحفظه عن ملاحظة الأجناس و الأغيار.

و طواف الحجاج حول البيت معلوم بلسان الشرع، و طواف المعاني معلوم لأهل الحق، فقلوب العارفين المعاني فيها طائفة، و قلوب الموحّدين الحقائق فيها عاكفة، فهؤلاء أصحاب التلوين، و هؤلاء أرباب التمكين «2».

و قلوب القاصدين بملازمة الخضوع على باب الجود أبدا واقفة.

و قلوب الموحّدين على بساط الوصل أبدا راكعة.

و قلوب الواجدين على بساط القرب أبدا ساجدة.

و يقال: صواعد نوازع الطالبين بباب الكرم أبدا واقفة، و سوامي قصود

(1) البقرة/ 125.

(2) التلوين و التمكين لفظان اصطلاحيّان: التلوين صفة أرباب الأحوال، و التمكين صفة أهل الحقائق. فما دام العبد في الطريق فهو صاحب تلوين؛ لأنّه يرتقي من حال إلى حال، و ينتقل من وصف إلى وصف، و هو أبدا في الزيادة. أما صاحب التمكين فوصل ثم اتصل، و أمارة أنه اتصل أنه بالكلّية عن كليّته بطل، و التغيير بما يرد على العبد إما لقوّة الوارد أو لضعف صاحبه، و السكون إما لقوّته أو لضعف الوارد عليه. (الرسالة القشيرية، ص 44).

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 551

المريدين بمشهد الجود أبدا طائفة، و وفود همم العارفين بحضرة العزّ أبدا عاكفة «1».

و قال في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْ ءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ- إلى قوله- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ، وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ «2»: و الإشارة فيه أن من قصد بيتنا فينبغي أن يكون الصيد منه في الأمان، لا يتأذّى منه حيوان بحال؛ لذا قالوا: البرّ من لا يؤذي الذرّ و لا يضمر الشرّ.

و يقال: الإشارة في هذا أنّ من قصدنا فعليه نبذ الأطماع جملة، و لا ينبغي أن تكون له مطالبة بحال من الأحوال. و كما أنّ الصيد على المحرم حرام إلى أن يتحلّل، فكذلك الطلب و الطمع و الاختيار على الواجد حرام ما دام محرما بقلبه.

و يقال: العارف صيد الحق، و لا يكون للصيد صيد.

و إذا قتل المحرم الصيد فعليه الكفّارة، و إذا لاحظ العارف الأغيار، أو طمع أو رغب في شي ء أو اختار لزمته الكفّارة، و لكن لا يكتفي منه بجزاء المثل و لا بأضعاف أمثال ما تصرّف فيه أو طمع، و لكن كفّارته تجرّده على الحقيقة عن كل غير، قليل أو كثير، صغير أو كبير.

قوله عز و جلّ: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيَّارَةِ، وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ «3» قال: حكم البحر خلاف حكم البرّ، و إذا غرق العبد

(1) لطائف الإشارات، ج 1، ص 136.

(2) المائدة/ 94- 95.

(3) المائدة/ 96.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 552

في بحار الحقائق سقط حكمه، فصيد البحر مباح له؛ لأنه إذا غرق صار محوا، فما إليه ليس به و لا منه إذ هو محو، و اللّه غالب على أمره «1».

و قد تقدّم تفسيره للبسملة في كل سورة بمعنى يغاير معناها في سورة أخرى، و هل هذا مستند إلى دليل، أو مجرد ذوق عرفاني

لا أساس له؟!

4- كشف الأسرار و عدّة الأبرار (تفسير الميبدي) المعروف بتفسير الخواجا عبد اللّه الأنصاري
اشارة

أصل هذا التفسير للخواجه عبد اللّه الأنصاري، ثم بسطه و وضّح مبانيه المولى أبو الفضل رشيد الدين الميبدي، كما يقول في المقدمة:

«أما بعد فإني طالعت كتاب شيخ الإسلام، فريد عصره و وحيد دهره، أبي إسماعيل عبد اللّه بن محمد بن علي الأنصاري- قدّس اللّه روحه- في تفسير القرآن، و كشف معانيه، و رأيته قد بلغ به حدّ الإعجاز لفظا و معنى و تحقيقا و ترصيعا، غير أنه أوجز غاية الإيجاز، و سلك فيه سبيل الاختصار، فلا يكاد يحصّل غرض المتعلّم المسترشد، أو يشفي غليل صدر المتأمّل المستبصر، فأردت أن أنشر فيه جناح الكلام، و أرسل في بسطه عنان اللّسان، جمعا بين حقائق التفسير و لطائف التذكير، و تسهيلا للأمر على من اشتغل بهذا الفنّ، فصمّمت العزم على تحقيق ما نويت، و شرعت بعون اللّه في تحرير ما هممت، في أوائل سنة عشرين و خمسمائة، و ترجمت الكتاب بكشف الأسرار و عدّة الأبرار» «2».

(1) لطائف الإشارات، ج 2، ص 143- 144.

(2) كشف الأسرار و عدّة الأبرار، ج 1، ص 1.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 553

أما الخواجا، فهو الإمام القدوة الحافظ الكبير، أبو إسماعيل عبد اللّه بن محمد بن علي بن محمد الأنصاري الهرويّ، من ذريّة صاحب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أبي أيّوب الأنصاري. مولده بهرات سنة (396 ه) و توفّي بها سنة (481 ه) و قبره مزار مشهود هناك. كان على حظّ وافر من العربية و الفقه و الحديث و التواريخ و الأنساب، إماما كاملا في التفسير، حسن السيرة في التصوّف، غير مشتغل بكسب، مكتفيا بما يباسط به المريدين و الأتباع من أهل مجلسه

في العام مرّة أو مرّتين على رأس الملأ، فيحصل على ألوف من الدنانير و أعداد من الثياب و الحليّ، فيأخذها و يفرّقها على اللّحّام و الخبّاز، و ينفق منها، و لا يأخذ من السلطان و لا من أركان الدولة شيئا. و قلّ ما يراعيهم، و لا يدخل عليهم، و لا يبالي بهم، فبقي عزيزا مقبولا قبولا أتمّ من الملك، مطاع الأمر نحوا من ستين سنة، من غير مزاحمة. و قد كان سيفا مسلولا على المتكلّمين، له صولة و هيبة و استيلاء على النفوس ببلده، يعظّمونه و يتغالون فيه، و يبذلون أرواحهم فيما يأمر به. كان عندهم أطوع و أرفع من السلطان بكثير، و كان طورا راسيا في السّنّة لا يتزلزل و لا يلين. و قد امتحن عدّة مرات و أوذي في اللّه. و له مقامات و حكايات ذكرها أرباب التراجم «1».

و أما الميبدي فهو الإمام السعيد رشيد الدين أبو الفضل ابن أبي سعيد أحمد بن محمد بن محمود الميبدي «2»، و كان أبوه جمال الإسلام أبو سعيد قد توفّي قبل الخواجا بسنة- سنة 480 ه- و من ثم فإن المترجم كان قد أدرك

(1) راجع: تذكرة الحفاظ للذهبي، ج 3، ص 1183، رقم 1028. و سير أعلام النبلاء، ج 18، ص 503، رقم 260.

(2) راجع: مقدمة التفسير بقلم الدكتور على أصغر حكمت.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 554

الخواجا، و من ثم وصفه أصحاب التراجم بالتلمذة لديه «1». قد تصدّى تحرير تفسير شيخه عام (520 ه) أي بعد وفاة شيخه بأربعين سنة. و ميبد بلدة من ضواحى يزد- إيران.

و يظهر من تأليفه هذا الفخيم أنه كان على مستوى رفيع من الفضيلة و الأدب

السامي، و لا سيّما في الأدب الفارسي البديع؛ حيث تستجيعه المتين و ترصيفه الرصين، في جزالة و سلاسة و سهولة في التعبير، و لا سيّما في النوبة الثالثة؛ حيث ظرافة الذوق العرفاني العميق و الأدب الرفيع، تجدهما قد امتزجا في كلامه، فجاء شيئا طريفا يستدعي التحسين و الإعجاب.

أما التفسير ذاته فيعدّ من أكبر و أضخم تفسير كتب على الطريقة العرفانية الصوفية، في عشر مجلدات ضخام، وضع على أحسن سبك و أجمل عبارات أدبيّة رصينة، فهو من التفاسير الأدبية الممتازة باللغة الفارسية، و قد كثر تداوله بين الأدباء و أفاضل العرفاء.

و كان منهجه السير في ثلاث نوبات:

النوبة الأولى في التفسير الظاهري على حدّ الترجمة الظاهرية.

و النوبة الثانية في بيان وجوه المعاني و القراءات و أسباب النزول، و بيان الأحكام و ذكر الأخبار، و الآثار الواردة بالمناسبة.

و النوبة الثالثة في بيان الرموز و الإشارات العرفانية، و لطائف الدقائق

(1) راجع: لغت نامه دهخدا حرف الراء، نقلا عن تاريخ أدبي إيران لإدوارد براون ذيل صفحه 375. و هكذا تاريخ أدبيات إيران للدكتور صفا، ج 2، صص 257 و 883 و 930 و 932.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 555

و النكات الظريفة المستفادة من سجف العبارات، و هو بيت القصيد من التفسير.

كل ذلك بعبارات رائعة ذات تسجيع و ترصيف لطيف، كما هو دأب أكثر أصحاب التفسير العرفاني.

و مما حظي به هذا السفر الجليل، كثرة استشهاده بالوجوه و النظائر من الآيات الكريمة، يوردها تباعا في كل مناسبة، مما يدل على إحاطة المؤلّف بمعاني القرآن، و مختلف أنواع آية الكريمة. هذا عند كل مناسبة، نذكر منها ما يلي:

مثلا عند قوله تعالى: وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ «1» يقول: و نظير

ذلك في القرآن كثير، و يذكر الآيات التالية، و يترجم كل آية ترجمة رائعة، نذكرها مع الترجمة:

ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «2» فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ «3».

(بنده من درى برگشاى تا درى برگشايم). (عبدي، افتح بابا حتى أفتح بابا).

.. وَ أَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى «4».

(در انابت برگشاى تا در بشارت برگشايم). (افتح باب الإنابة حتى أفتح باب البشارة).

وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ «5».

(در انفاق برگشاى تا در خلف برگشايم). (افتح باب الإنفاق حتى أفتح باب

(1) البقرة/ 40.

(2) غافر/ 60.

(3) البقرة/ 152.

(4) الزمر/ 17.

(5) سبأ/ 39.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 556

العوض).

وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا «1».

(در مجاهدت برگشاى تا در هدايت برگشايم). (افتح باب المجاهدة حتى أفتح باب الهداية).

ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً «2».

(در استغفار برگشاى تا در مغفرت برگشايم). (افتح باب الاستغفار حتى أفتح باب المغفرة).

لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ «3».

(در شكر برگشاى تا در زيادت نعمت برگشايم). (افتح باب الشكر حتى أفتح باب الزيادة في النعمة).

وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ «4».

(بنده من به عهد من وازآى تا به عهد تو وازآيم) «5». (عبدي أوف بعهدي حتى أوفي بعهدك).

هكذا يحظى هذا السفر الجليل بجودة سبكه و جمال أسلوبه الأدبي، الذي دأب المؤلّف عليه في عامّة تعابيره في التفسير، و لا سيّما في النوبة الثالثة؛ حيث ظرافة الذوق العرفاني اللطيف، و طراوة الأدب الفارسي الرفيع، تجدهما قد

(1) العنكبوت/ 69.

(2) النساء/ 110.

(3) إبراهيم/ 7.

(4) البقرة/ 40.

(5) كشف الأسرار، ج 1، ص 176.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 557

امتزجا معا، فأصبح آية في الجمال و البهاء. و

يبدو براعة المؤلف و سعة تضلّعه الأدبي الفائق، إذا ما وجدنا تلك الطلاوة الرائعة قد أفرغت في قالب الأدب الفارسي الجزل السلس السهل التعبير.

و إليك نموذجا من النوبة الثالثة العرفانية:

هو عند تفسير قوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ «1» يقول:

«پير طريقت گفت: الهى! كار آن دارد كه با تو كارى دارد، يار آن دارد كه چون تو يارى دارد، او كه در دو جهان تو را دارد هرگز كى تو را بگذارد! عجب آن است كه او كه تو را دارد از همه زارتر مى گدازد. او كه نيافت به سبب نايافت مى زارد، او كه يافت بارى چرا مى گدازد.

در بر آن را كه چون تو يارى باشد گر ناله كند سياه كارى باشد» «2»

وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ همان است كه گفت: وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ.

رهبت و تقوى، دو مقام است از مقامات ترسندگان، و در جمله ترسندگان راه دين بر شش قسم اند:

تايبانند و عابدان و زاهدان و عالمان و عارفان و صدّيقان.

تايبان را خوف است، چنان كه گفت: يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ.

(1) البقرة/ 40.

(2) قال شيخ الطريقة: إلهي، لا شغل إلا لمن كان شغله معك. و لا ناصر إلا من كان ناصره مثلك.

و من كان له مثلك في الدارين فلن يدعك. و العجب أن من كان له مثلك كان أكثرهم أنينا و و يئن من لم يجدك بسبب عدم الكشف، أما الذي وجدك فلم يئن و يندب؟!

من كان معينه مثلك و شكا فقد ظلم و جفا

(كشف الأسرار، ج 1، ص 175)

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص:

558

و عابدان را وجل: الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ.

و زاهدان را رهبت: يَدْعُونَنا رَغَباً وَ رَهَباً.

و عالمان را خشيت: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ.

و عارفان را اشفاق: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ.

و صدّيقان را هيبت: وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ «1».

أمّا خوف، ترس تائبان و مبتديان است، حصار ايمان و ترياق و سلاح مؤمن، هركه را اين ترس نيست او را ايمان نيست، كه ايمنى را روى نيست، و هركه را هست به قدر آن ترس ايمان است.

و وجل، ترس زنده دلان است كه ايشان را از غفلت رهايى دهد، و راه اخلاص بر ايشان گشاده گرداند، و أمل كوتاه كند، و چنانك و جل از خوف مه

(1) الّذي قال: وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ (البقرة/ 40) هو الذي قال وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ (البقرة/ 41).

الرهبة و التقوى، منزلتان من منازل الخائفين. و الخائفون في طريق الدّين على ستّ طوائف:

التائبون. العابدون. الزاهدون. العالمون. العارفون. الصّدّيقون.

أمّا التائبون فعلى خوف، كما قال تعالى: يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ (النور/ 37).

و العابدون على وجل: الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ (الحجّ/ 35).

و الزاهدون على رهبة: يَدْعُونَنا رَغَباً وَ رَهَباً (الأنبياء/ 90).

و العالمون على خشية: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ (فاطر/ 28).

و العارفون على اشفاق: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (المؤمنون/ 57).

و الصّدّيقون على حذر: وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ (آل عمران/ 28).

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 559

است، رهبت از و جل مه «1»، اين رهبت عيش مرد ببرد، و او را از خلق ببرد، و در جهان از جهان جدا كند. اين چنين ترسنده همه نفس خود غرامت بيند،

همه سخن خود شكايت بيند، همه كرد خود جنايت بيند. گهى چون غرق شدگان فرياد خواهد، گهى چون نوحه گران دست بر سر زند، گهى چون بيماران آه كند.

و از اين رهبت اشفاق پديد آيد كه ترس عارفان است، ترسى كه نه پيش دعا حجاب گذارد، نه پيش فراست بند، نه پيش اميد ديوار. ترسى گدازنده كشنده، كه تا نداى أَلَّا تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا «2» نشنود نيارامد. اين ترسنده را گهى سوزند و گاه نوازند، گهى خوانند و گاه كشند، نه از سوختن آه كند و نه از كشتن بنالد.

كم تقتلونا و كم نحبّكم يا عجبا كم نحبّ من قتلا «3»

(1) «مه»- بكسر الميم- بمعنى الكبير و يقابله «كه» بمعنى الصغير.

(2) فصلت/ 30.

(3) أمّا الخوف الّذى يمثّل خوف التائبين و المبتدئين، فهو طوق الإيمان، و بلم المؤمن و سلاحه. و من لا خوف له لا إيمان له؛ إذ لا مأمن هناك. و من كان له خوف فإيمانه بمقدار خوفه. و أمّا الوجل، فهو خوف أولى البصائر، ينقذهم من الغفلة، و يفتح لهم باب الإخلاص، و يقصر الأمل؛ و الرهبة أكبر من الوجل كما أنّ الوجل أكبر من الخوف. إنّ الرهبة تذهب بعيش المرء و تجعله وحيدا، تفصله عن الدنيا و هو في الدنيا. هذا الخائف يجد نفسه كلها غرما، و كلامه برمّته شكوى، و عمله جميعه جرما. فهو تارة كالغريق يستصرخ، و أخرى كالنادب يضرب على رأسه. و ثالثة كالعليل يتأوّه.

و الإشفاق وليد هذه الرهبة، التي هي خوف العارفين، ذلك الخوف لا يضع حجابا يحول دون الدعاء، و لا قيدا يحول دون فراسة النفس، و لا حاجزا يحول دون

الرجاء. إنّه خوف ممضّ قاتل، و لو لا قوله تعالى: أَلَّا تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا لمّا قرّ له قرار.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 560

از پس اشفاق هيبت است- بيم صدّيقان- بيمى كه از عيان خيزد، و ديگر بيمها از خبر چيزى در دل تابد چون برق، نه كالبد آن را تابد، نه جان طاقت آن دارد كه با وى بماند، و بيشتر اين در وقت وجد و سماع افتد، چنانك (كليم) را افتاد به (طور) وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً «1» و تا نگويى كه اين هيبت از تهديد افتد كه اين از اطلاع جبّار افتد.

يك ذرّه اگر كشف شود عين عيان نه دل برهد نه جان نه كفر و ايمان «2»

هذا هو المشار إليه

بقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «حجابه النور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل شي ء أدركه بصره» «3».

و نموذج آخر أروع، عند قوله تعالى: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ «4» يقول:

و قد يحرق هذا الخائف حينا، و قد يشفق عليه حينا آخر و قد يقتل و قد يدعى فلا من الحرق يتأوّه و لا من القتل يتوجّع:

كم تقتلوننا و كم نحبّكم يا عجبا كم نحبّ من قتلا

(1) الأعراف/ 143.

(2) تأتي الهيبة بعد الإشفاق- و هي خوف الصّدّيقين- ذلك الخوف المنبعث عن معانية، و غيره منبعث عن خبر يتألّق في القلب، لا الجسم يتحمل ذلك الخوف و لا الروح تطيقه كي تبقى معه. و الأكثر أنّه يتّفق حين الوجد و السماع، كما اتفق للكليم عليه السّلام في جبل طور وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً. فلا تقل: إنّها هيبة عن تهديد، و

إنّما هي عن معرفة الجبار جلّ عزّه.

لو كشفت ذرّة عن عين عيان لا القلب ينجو، لا الروح، لا الكفر و لا الإيمان

(3) كشف الأسرار، ج 1، ص 177- 178.

(4) البقرة/ 112.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 561

«كار كار مخلصان است، و دولت دولت صادقان، و سيرت سيرت پاكان، و نقد آن نقد كه در دستارچه ايشان. امروز بر بساط خدمت با نور معرفت، فردا بر بساط صحبت با سرور وصلت. إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ «1» مى گويد: پاكشان گردانيم و از كوره امتحان خالص بيرون آريم، تا حضرت را بشايند، كه حضرت پاك جز پاكان را بخود راه ندهد، «إنّ اللّه طيّب لا يقبل إلّا الطيّب» به حضرت پاك جز عمل پاك، و گفت پاك بكار نيايد، آنگه از آن عمل پاك، چنان پاك بايد شد، كه نه در دنيا بازجويى آن را و نه در عقبى، تا به خداوند پاك رسى. وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ «2».

سرّ اين سخن آن است كه «بو بكر زقاق» «3» گفت: «نقصان كلّ مخلص فى إخلاصه رؤية اخلاصه، فإذا أراد اللّه أن يخلص إخلاصه أسقط عن إخلاصه رؤيته

(1) ص/ 46.

(2) ص/ 25. العمل عمل المخلصين، و الدولة دولة الصادقين، و السيرة سيرة المطهّرين. و النقد هو ما كان في أيديهم. و هم اليوم على أريكة الخدمة يعلوهم نور المعرفة، و غدا على أريكة الصحبة منعّمين بسرور الوصل «إنّا أخلصناهم بخالصة» أي: طهّرناهم و أخرجنا لهم من يوتقه الاختبار الخالص؟ كي يتأهّلوا للمثول أمام اللّه تعالى «إنّ اللّه طيّب لا يقبل إلّا الطّيّب»؛ إذ لا يليق بساحة الطهارة إلّا

من كان طاهرا في قوله و عمله. و يطهر بذلك العمل الطّاهر الطّيّب فلا تجده في هذه الدنيا و لا في دار العقبى، حتى يصل إلى ساحة قدس طهارته جلّ جلاله وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ.

(3) هو من الطبقة الثالثة، و اسمه أحمد بن نصر، هو من مشايخ الصوفية بمصر، و كان في طبقة الجنيد البغدادي و من أصحابه، و يلقّب بالكبير. أما الزّقاق الصغير فهو بغدادي تلميذ الزّقاق الكبير. راجع: نفحات الأنس للمولى عبد الرحمن بن أحمد الجامي، ص 176- 177. و لمّا توفّي الزّقاق الكبير قال الكتاني بشأنه: «انقطعت حجة الفقراء في ذهابهم إلى مصر».

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 562

لإخلاصه فيكون مخلصا لا مخلصا».

مى گويد: اخلاص تو آنگه خالص باشد كه از ديدن تو پاك باشد، و بدانى كه آن اخلاص نه در دست تو است و نه بقوّت و داشت تو است، بلكه سرّى است ربّانى و نهادى است سبحانى، كس را بر آن اطلاع نه، و غيرى را بر آن راه نه.

احديّت مى گويد: «سرّ من سرّى استودعته قلب من أحببت من عبادى» گفت: بنده را برگزينم و به دوستى خود بپسندم، آنگه در سويداء دلش آن وديعت خود بنهم، نه شيطان بدان راه برد تا تباه كند، نه هواى نفس آن را بيند تا بگرداند، نه فرشته بدان رسد تا بنويسد.

جنيد «1» از اينجا گفت: «الإخلاص سرّ بين اللّه و بين العبد، لا يعلمه ملك فيكتبه، و لا شيطان فيفسده، و لا هوى فيميله.»

ذو النون مصرى «2» گفت: «كسى كه اين وديعت به نزديك وى نهادند نشان وى آن است كه مدح كسان و ذمّ ايشان،

پيش وى به يك نرخ باشد، آفرين و نفرين ايشان يك رنگ بيند، نه از آن شاد شود، نه از اين فراهم آيد. چنان كه مصطفى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شب قرب و كرامت، همه آفرينش منشور سلطنت او مى خواندند، و او به گوشه چشم به هيچ نگرست و مى گفت: شما كه مقرّبان حضرتيد مى گوييد: «السلام على النبي الصالح الذي هو خير من في السماء و الأرض» و ما منتظريم تا ما را به آستانه جفاء بو جهل باز فرستند تا گويد: اى

(1) هو أبو القسم سعيد بن محمد بن الجنيد القواريري البغدادي، ملقب بسلطان الطائفة الصوفية، كان شيخ وقته و فريد عصره في الزهد و التصوّف، مات ببغداد سنة (297 ه).

(2) اسمه ثوبان بن إبراهيم. كان أبوه نوبيا من موالي قريش. هو من الطبقة الأولى من مشايخ الصوفية بمصر، توفّي سنة (245 ه).

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 563

ساحر، اى كذّاب، تا چنانك درّ «خير من في السماء و الأرض» خود را بر سنگ نقد زديم، درّ ساحر و كذّاب نيز بر زنيم، اگر هر دو ما را به يك نرخ نباشد، پس اين كلاه دعوى از سر فرونهيم.

رو كه در بند صفاتى عاشق خويشى هنوز گر بر تو عزّ منبر خوش تر است از ذلّ دار

اين چنين كس را مخلص خوانند نه مخلص، چنانك بو بكر زقّاق گفت:

«فيكون مخلصا لا مخلصا» مخلص در درياى خطر در غرقاب است، نهنگان جان رباى در چپ و راست وى در آمده، دريا مى برّد و مى ترسد، تا خود به ساحل أمن چون رسد و كى رسد. از اينجاست كه

بزرگان سلف گفتند: «و المخلصون في خطر عظيم» و مخلص آن است كه به ساحل امن رسيد. «1»

(1) «علاقة من أودعته هذه الوديعة (السرّ الإلهي) أن يتساوى عنده مدح الآخرين و ذمّهم. و يرى الدعاء له و عليه سيّين لا يسرّه ذلك و لا يحزنه هذا». كما كان النّبيّ المصطفى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليلة القرب و الكرامة، إذ تغنّى عالم الخليقة كلّه بميثاق مكنته، و هو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ينظر بطرف خفيّ، و

يقول: أنتم أيّها المقرّبون، تقولون: «السلام على النّبيّ الصّالح الّذي هو خير من في السماء و الأرض» . و أنا انتظر الإشخاص إلى بوّابة جفاء أبي جهل، كي يقول لي: أيّها الساحر، أيّها الكذّاب. حتى إذا اختبرنا درّ «خير من في السماء و الأرض» بمسبار النقد، توّجنا بدرّة «الساحر الكذّاب». فإذا لم يتكافا عندنا الأمران معا، رفعنا قبّعة الدعوى هذه من رءوسنا. اذهب فإنك في قيد النعوت ما قبئت لعشق نفسك. و إن كان عزّ المنبر أحلى لك من ذلّ الأعواد و من كان كذلك فهو «مخلص» لا «مخلص»، كما قال أبو بكر الزقاق «فيكون مخلصا لا مخلصا».

و المخلص غريق في بحر الأخطار، و قد حاقت به الحيتان المرعبة من كل جانب، و هو يشقّ عباب البحر خائفا حتى يصل إلى ساحل الأمن، و كيف يصل؟ و متى يصل؟ من هنا

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 564

ربّ العالمين، موسى را به هر دو حالت نشان كرد، گفت: إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا «1» هم مخلصا- به كسر لام- و هم مخلصا- به فتح لام- خوانده اند «2».

اگر به كسر خوانى بدايت كار

اوست، و اگر به فتح خوانى نهايت كار اوست.

مخلص آنگاه بود كه كار نبوّت وى در پيوست، و نواخت احديت به وى روى نهاد، و مخلص آنگاه شد كه كار نبوّت بالا گرفت. و به حضرت عزت بستاخ «3» شد. اين خود حال كسى است كه از اول او را روش بود و زان پس به كشش حق رسد، و شتّان بينه و بين نبيّنا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم چند كه فرق است ميان موسى و ميان مصطفى عليهما السّلام كه پيش از دور گل آدم به كمند كشش حق معتصم گشت، چنانك گفت:

«كنت نبيّا و آدم مجبول في طينته».

شبلى «4» از اينجا گفت: در قيامت هركسى را خصمى خواهد بود، و خصم

قال أكابر السلف: «و المخلصون في خطر عظيم». أمّا «المخلص» فهو الواصل إلى مرفا الأمن.

(1) مريم/ 51.

(2) قرأ أهل الكوفة بفتح اللام، و الباقون بالكسر. و الأولى هي المشهورة المعهودة لدى المسلمين، و الاستدلال في المتن بكلتا القراءتين، مبني على حجّية القراءات أجمع، حتى مع التعارض، قياسا على مختلف الروايات. لكنا لا نقول بذلك حتى في متعارض الروايات فضلا عن القراءات، و أنّ الحجة واحدة، و هي قراءة حفص و من تبعه من الكوفيين. راجع: التمهيد، ج 2، ص 161- 166، مباحث القراءات.

(3) «بستاخ» على وزان بستان، بمعنى الجري ء أي العارف المقدام. و هو بالفارسيّة بمعنى «گستاخ».

(4) هو أبو بكر دلف بن جحدر الخراساني البغدادي. تولد في سامراء و نشأ في بغداد. صاحب

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 565

آدم منم كه بر راه من عقبه كرد تا در گلزار وى بماندم.

شيخ

الاسلام انصارى رحمه اللّه از اينجا گفت: دانى كه محقّق كى به حق رسد؟

چون سيل ربوبيّت در رسد، و گرد بشريّت برخيزد حقيقت بيفزايد، بهانه بكاهد، نه كالبد ماند نه دل، نه جان ماند صافى رستة از آب و گل، نه نور در خاك آميخته نه خاك در نور.

خاك با خاك شود، نور با نور. زبان در سر ذكر شود و ذكر در سر مذكور. دل در سر مهر شود و مهر در سر نور. جان در سر عيان شود و عيان از بيان دور. اگر تو را اين روز آرزو است از خود برون آى، چنانكه مار از پوست، به ترك خود بگوى كه نسبت با خود نه نيكو است، همان است كه آن جوانمرد گفت:

نيست عشق لايزالى را در آن دل هيچ كار كو هنوز اندر صفات خويش ماندست استوار

هيچ كس را نامده است از دوستان در راه عشق بى زوال ملك صورت ملك معنى در كنار «1»

جنيد و الحلّاج و خير النساج. كان من كبار مشايخ الصوفية، توفّي ببغداد سنة (334 ه) و دفن بمقبرة الخيزران.

(1) إنّه تعالى قد وسم نبيّه موسى عليه السّلام بكلتا السمتين: «إنّه كان مخلصا و كان رسولا نبيّا». قرئت الآية بكسر اللام و بفتحها. إن قرأتها بالكسر، فهو مستهلّ أمره. و إن قرأتها بالفتح فهو ختام أمره. لقد كان مخلصا حين حظى بمقام النبوة و شملته العناية الرّبّانيّة كان مخلصا حين بلغت نبوّته ذروتها و تشرف و بساحة العزّة مقداما. و هذه هي حالة من انتهج منهج الحق لينال مرتبة الوصل بالحقّ في نهاية المطاف و شتّان ما بين موسى و نبيّنا المصطفى محمد

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذى نال مرتبة الوصل و اعتصم بحبل الحقّ قبل أن يخلق آدم عليه السّلام

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 566

اللّغات الغريبة التي جاءت في هذا التفسير

و من امتيازات هذا التفسير الجليل، استعماله اللغات الفارسية العتيدة، و لكنها جاءت غريبة في هذا العهد، ممّا ينبؤك عن أدب رفيع و إحاطة واسعة كان يحظى بها المؤلف الكبير. و إليك نماذج منها:

جاء بشأن نبي اللّه موسى عليه السّلام ذيل قوله تعالى: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ «1» أنه كان مخلصا و مخلصا، قال:

كما

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «كنت نبيّا و آدم مجبول في طينته». من هنا قال «الشبلي»: لكلّ امرئ في القيامة خصيم، و خصيمي فيها آدم عليه السّلام إذ عرقل طريقي، لأضلّ راسبا في وحله.

قال شيخ الإسلام الأنصاري رحمه اللّه: أو تدري متى يبلغ المحقق الحقّ؟ ذاك حينما ينحدر سيل الربوبيّة، و يرتفع غبار البشريّة، و تزداد الحقيقة، و تقلّ الأعذار، فلا الجسم يبقى و لا القلب، و لا الروح الصافية الخالصة من الماء و الطين، و لا النور الممتزج بالتراب، و لا التراب الممتزج بالنور.

فالتراب يصير مع التراب، و النور مع النور، و اللسان يصبح ذكرا في الرأس، و الذكر مذكورا في الرأس. القلب ينطبع في الرأس، و الانطباع ينقلب في الرأس نورا. الروح تتجلّى في الرأس، و التّجلّي بعيد عن البيان.

فلو كنت ترجو ذلك اليوم فانخلع من نفسك، كما تنخلع الحيّة من جلدها، و دع ذاتك إذ الانتساب إليها مشين، كما قال الشاعر الشّهم:

لا عشق للّه في قلب ما انفكّ حبيس صفاته.

لم يتيسّر الحظّ من ملك المعاني لأحد من العشّاق بدون زوال ملك الصّور.

(كشف الاسرار، ج 1،

ص 327- 329.)

(1) البقرة/ 112.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 567

مخلص آنگاه بود كه كار نبوت وى در پيوست، و نواخت احديت به وى روى نهاد، و مخلص آنگاه شد كه كار نبوت بالا گرفت، و به حضرت عزت بستاخ شد. «1»

استعمل ثلاث كلمات هي من صنعة الأديب العتيد:

1- «در پيوست» أي استقام أمر نبوته.

2- «نواخت احديت» أي نداء الربوبيّة.

3- «بستاخ شد» أي كملت معرفته.

و قد فسّر «بستاخ» به معنى «گستاخ» أي الجري ء، في حين أنّ هذا المعنى لا يناسب المقام؛ لأن فيه شائبة الوقاحة، غير اللائقة بمقام النبوّة. و إنما المراد هو نفس كمال المعرفة (آشنايى كامل). المعرفة بالأوضاع و الأحوال.

و في تفسير سورة الفاتحة: بنده من مرا به بزرگوارى و پاكى بستود، بنده من پشت وا من داد و كار وا من گذاشت، دانست كه به سر برنده كار وى مائيم. «2»

«پشت وا من داد» «وا» به معنى «با» (مع). أي اعتمد ظهره عليّ، و فعل معتمدا عليّ.

«به سر برنده»: پايان رساننده كار وى ماييم. بمعنى: «البالغ أمره».

و في ص 5: استعمل «شكافته» بمعنى «المشتق».

و ص 11: «پيوسيدن» به معنى «اميد داشتن»: «به هرچه پيوسند رسند».

بمعنى «الرجاء»

(1) إنّما المخلص من استقام أمر نبوّته، و بلغه نداء الربوبيّة، و المخلص من ارتقت درجة نبوّته و كملت معرفته.

(2) عبدي مجّدني و نزّه مقامي. عبدي اعتمد عليّ و وكل أمره إليّ، و علم أنّي بالغ به أمره.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 568

و ص 17: «فرا» به معنى «به»: «در خبر است كه مصطفى فرا ابن عباس گفت». بمعنى «قال له».

و ص 96: «گاز» به معنى «البناء». قال في

ترجمة وَ السَّماءَ بِناءً «1»:

«و آسمان گازى برداشته». و قال في ترجمة رَفَعَ سَمْكَها «2»- ص 101-: «گاز آن بالا داد».

و ص 123: «و از او شيد» في ترجمة إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.

و ص 220: «كپيان»: بوزينگان: قردة، في ترجمة كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ «3».

و ص 296: «گوشوانان»: نگهبانان: حرسة.

و في ص 575: «خنور»: الوعاء.

و اللغات من هذا القبيل كثيرة في هذا التفسير.

و الأبدع: أنه ركّب كلمات تركيبات أدبية، مما جعلها تفيد معاني جديدة ابتدعها مفسّرنا العظيم.

من ذلك ما جاء في (ج 1، ص 11): «پس آورد»: عاقبة الأمر.

و في ص 26: «باز بريدن»: الاعتزال.

و في ص 96: «أرپس» في ترجمة «فإن».

و في ص 106: «همسانى» همانندى: مثل.

(1) البقرة/ 22.

(2) النّازعات/ 28.

(3) البقرة/ 65.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 569

و في ص 321: «بر آمد نگاه آفتاب»: المشرق. «فروشد نگاه آفتاب»:

المغرب.

و في ص 355: «فرانياوم» في ترجمة: ثُمَّ أَضْطَرُّهُ «1».

و في ص 589: «بازكاود»: فريضة گزارد: صلّى الصلاة الفريضة.

5- تفسير الخواجا عبد اللّه الأنصاري

قد اسبقنا أن تفسير الميبدي «كشف الأسرار و عدّة الأبرار» وضع على أساس تفسير الخواجا عبد اللّه الأنصاري الذي كان مختصرا ففصّله و زاد عليه.

ثم جاء الاستاذ حبيب اللّه (آموزگار) ليلخص بدوره هذا التفسير الكبير و يستخلص فيما حسب التفسير الأصل الذي صنعه الخواجا، و ذلك في سنة (1385 ه ق 1344 ه ش) و تم له ذلك خلال ثلاث سنوات، و أسماه «تفسير أدبي و عرفاني خواجه عبد اللّه أنصاري» و طبع في جزءين، في مجلد واحد ضخم، الطبعة الأولى سنة (1347 ه ش)، و الطبعة الثانية سنة (1353) في طهران.

6- تفسير ابن عربي
اشارة

هو أبو بكر محي الدين محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد اللّه الحاتمي الطائي الأندلسي، المعروف بابن عربي- بدون أداة التعريف- فرقا بينه و بين القاضي أبي بكر ابن العربي صاحب كتاب أحكام القرآن. و هذا الفرق من اصطلاح المشارقة، أمّا أهل المغرب فيأتون باللام في كلا الموردين.

ولد بمرسيّة سنة (560 ه) ثم انتقل إلى إشبيليّة سنة (568 ه) و بقي بها نحوا

(1) البقرة/ 126.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 570

من (30) سنة تلقّى فيها العلم على كثير من الشيوخ حتى بزغ نجمه و علا ذكره.

و في سنة (598 ه) نزح إلى المشرق و طوّف في كثير من البلاد، فدخل الشام و مصر و الموصل و آسيا الصغرى و مكّة، و أخيرا ألقى عصاه و استقربه النوى في دمشق، توفّي بها سنة (638 ه).

كان ابن عربي شيخ المتصوّفة في وقته، و كان له أتباع و مريدون معجبين به إلى حد كبير، حتى لقّبوه بالشيخ الأكبر و العارف باللّه، كما كان له أعداء ينقمون عليه و يرفضون طريقته و

يرمونه بالكفر و الزندقة، لما كان يصدر عنه من المقالات الموهمة، التي تحمل في ظاهرها معاني الكفر و الإلحاد.

و كان إلى جنب تصوّفه بارعا في كثير من العلوم، فكان عارفا بالآثار و السنن، و كان شاعرا أديبا؛ و لذلك كان يكتب الإنشاء لبعض ملوك الغرب.

و تلك مؤلفاته الكثيرة تدلّ على سعة باعه و وفرة اطّلاعه و تبحّره في العلوم الظاهرة و الباطنة، و كانت له حدّة في النظر و دقّة في الاستنباط، و لكن في الأكثر على مشربه الصوفي الباطني، و من ثم كانت له شطحات ملأ كتبه و مصنفاته.

هل لابن عربي من تفسير؟

كانت له في التفسير و الحديث نظرات، و له فيها مقالات ضمن كتبه و لا سيّما «الفتوحات المكيّة» و «الفصوص» و غيرهما من أمهات كتبه. و لكن هل كان قد ألّف كتابا في التفسير يخصّه؟

يبدو من مواضع من كتبه و لا سيّما «الفتوحات»، أن له تأليفا في التفسير، ففي الجزء الأول من الفتوحات (ص 59) عند الكلام على حروف المعجم في أوائل سور القرآن، يقول: «ذكرناه في كتاب الجمع و التفصيل في معرفة معاني التنزيل».

و في (ص 63) يقول: «و قد أشبعنا القول في هذا الفصل عند ما تكلمنا على

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 571

قوله تعالى: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ «1» في كتاب الجمع و التفصيل».

و في (ص 77) عند كلامه على حروف المعجم، يقول: «من أراد التشفّي منها فليطالع تفسير القرآن الذي سميناه الجمع و التفصيل».

و يقول عن كتاب آخر في التفسير أسماء «إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن» في الجزء الثالث من الفتوحات (ص 64) عند الكلام عن «علم الإصرار»:

«قد بيّناه في كتاب «إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن» في قوله

تعالى في آل عمران: وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا «2» فانظره هناك».

و هذا التفسير قد وجد منه جزء يسير من أوّله إلى الآية 253 من سورة البقرة، و عليه في الخاتمة توشيح المؤلف هكذا:

«انتهى الجزء الثامن من «إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن» و يتلوه في التاسع قوله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ «3». و هذا الأصل بخطّ يدي من غير مسودة، و كتب محمد بن على بن محمد بن أحمد بن العربي الحاتمي الطائي، المترجم يوم الجمعة الثاني و العشرين من ذي القعدة، سنة إحدى و عشرين و ستمائة، و الحمد لله ربّ العالمين و صلى اللّه على محمد خاتم النبيّين، و على آله أجمعين آمين» «4».

و قد طبع على هامش «رحمة من الرحمن» من كلام ابن العربي (الجزء الأول من ص 7 إلى ص 378).

(1) طه/ 12.

(2) آل عمران/ 135.

(3) البقرة/ 253.

(4) راجع: رحمة من الرحمن في تفسير و إشارات القرآن، تأليف محمود محمود الغراب، ج 1، ص 378.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 572

و له أيضا إشارة، إلى تفسيرين، أحدهما بعنوان «التفسير الكبير» حيث يقول فى الجزء الرابع من الفتوحات (ص 194):

«اعلم أنّ كل ذكر ينتج خلاف المفهوم الأول منه، فإنّه يدل ما ينتجه على حال الذاكر، كما شرطناه في «التفسير الكبير» لنا».

و الثاني بعنوان «التفسير» أو «تفسير القرآن» كما جاء في الجزء الأول من الفتوحات (ص 86) و (ص 114) و الجزء الثالث (ص 64).

و هل هما نفس التفسيرين الآنف ذكرهما، أم غيرهما، غير واضح.

غير أنّ الّذي يستفاد من مجموع كلماته، أنّ له في التفسير تأليفا باستقلاله، و قد ضاع مع

الأسف سوى النزر اليسير حسبما ذكرنا.

تفاسير منسوبة إلى ابن عربي

نعم هناك تفاسير تحمل اسم ابن عربي:

1- إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن، و هو في كمال الإيجاز و الاختصار، و قد طبع جزء يسير منه على هامش «رحمة من الرحمن» على ما أسلفنا.

2- رحمة من الرحمن في تفسير و إشارات القرآن، من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي. جمع و تأليف محمود محمود الغرّاب، من علماء دمشق المعاصرين.

و هو تفسير غير شامل، التقطه المؤلف من كلام ابن عربي ضمن تأليفاته، و لا سيّما «الفتوحات» حيثما تكلّم عن تفسير آية أو إشارة إلى معنى من معاني القرآن، و من ثم لم يستوعب جميع آي القرآن.

و قد قام المؤلف بهذا الجمع خلال خمسة و عشرين عاما، قال: و لمحاولة الوقوف على فهم الشيخ الأكبر للقرآن الكريم، قمت بالعمل أكثر من خمس و

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 573

عشرين سنة، في جمع و تصنيف و ترتيب ما كتبه الشيخ الأكبر، في كتبه التي بين أيدينا، مما يصلح أن يكون تفسيرا لبعض آيات القرآن، سواء من الناحية الظاهرة على نسق التفاسير الأخرى من الأحكام الشرعيّة و المعاني العربية، أو ما يصلح أن يكون تفسيرا صوفيا لبعض آيات القرآن، و هو ما يسمّى بالاعتبار و الإشارة في التوحيد و السلوك، و سميته «رحمة من الرحمن في تفسير و إشارات القرآن» تمشّيا مع عقيدة الشيخ الأكبر في شمول الرحمة و عدم سرمدة العذاب «1».

و طبع هذا الأثر في أربع مجلدات، في دمشق سنة (1410 ه- 1989 م).

3- تفسير القرآن الكريم في مجلدين اشتهرت نسبته إلى ابن عربي، و قد راج ذلك منذ زمن سحيق، و هو موضوع على مذاق الصوفية في التفسير

الباطني المحض. و فيه بعض الشطحات مما أثار الريب في نسبته إلى الشيخ، و زعموا أنه من صنع الشيخ كمال الدين أبي الغنائم المولى عبد الرزاق الكاشي السمرقندي المتوفّى سنة (730 ه).

قال الشيخ محمد عبده: من التفسير الإشاري ما ينسبونه للشيخ الأكبر محيى الدين ابن عربي، و إنما هو للقاشاني الباطني الشهير، و فيه من النزعات ما يتبرّأ منه دين اللّه و كتابه العزيز «2».

و أما الحاجي خليفة- صاحب كشف الظنون- فقد نسبه رأسا إلى القاشاني من غير ترديد، قال: كتاب «تأويلات القرآن» المعروف بتأويلات القاشاني، هو تفسير بالتأويل على اصطلاح أهل التصوّف، للشيخ كمال الدين أبي الغنائم عبد

(1) راجع: المقدمة، ص 5.

(2) تفسير المنار، ج 1، ص 18.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 574

الرزاق بن جمال الدين الكاشي السمرقندي، أوّله: «الحمد لله الذي جعل مناظم كلامه مظاهر حسن صفائه» «1». و هذه العبارة هي المبدوء بها في التفسير المذكور.

و النسخة التي كانت عند حاجي خليفة، كانت إلى سورة ص. و توجد نسخ كاملة في سائر المكتبات، منها نسخة كاملة بالمكتبة السليمانية بتركيا تحت رقم (17- 18) و تحمل خاتم عبد الرزاق الكاشاني «2».

و يتأيّد نسبة الكتاب إلى القاشاني بما جاء في تفسير سورة «القصص» عند الآية رقم 32: وَ اضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ، قوله: «و قد سمعت شيخنا المولى نور الدين عبد الصمد قدّس سرّه في شهود الوحدة و مقام الفناء عن أبيه، أنّه كان بعض الفقراء في خدمة الشيخ الكبير شهاب الدين السهروردي «3».

و نور الدين هذا هو: نور الدين عبد الصمد بن علي النطنزي الأصفهاني، و المتوفّى في أواخر القرن السابع، و كان شيخا لعبد الرزاق القاشاني، المتوفّى

سنة (730 ه). و غير معقول أن يكون نور الدين هذا شيخا لابن عربي المتوفّى سنة (638 ه) «4».

التعريف بهذا التفسير

قد أتى المؤلف فيه بالتفسير الرمزي الإشاري على طريقة الصوفية العرفانية و غالبه يقوم على أساس وحدة الوجود، ذلك المذهب الذي كان له أثره السّيّئ في

(1) كشف الظنون، ج 1، ص 187.

(2) مقدمة رحمة من الرحمن، ج 1، ص 4.

(3) التفسير المنسوب إلى ابن عربي، ج 2، ص 228.

(4) راجع: الذهبي، التفسير و المفسرون، ج 2، ص 436- 438، ط. بيروت.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 575

تفسير كلام اللّه، و الذي دعا بالقائلين أنه من صنع ابن عربي؛ حيث مذهبه في وحدة الوجود مشهور.

و هو تفسير مغلق العبارة، لا يفهم معناها، كما لا يوجد لها من سياق الآية أو فحواها ما يدلّ عليها، و لو أنّ المؤلف كان واضحا في كلامه، أو كان جمع بين التفسير الظاهر و التفسير الباطن كما فعله الميبدي لهان الأمر، و لكنه لم يفعل شيئا من ذلك، ممّا جعل الكتاب مغلقا، كأكثر مواضع كتب ابن عربي و لا سيّما كتابه «الفتوحات» و من ثم كان دليلا آخر على احتمال صحّة نسبته إليه. فهو في سورة آل عمران رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ «1»، يقول: ربنا ما خلقت هذا الخلق باطلا أي شيئا غيرك، فإن غير الحق هو الباطل، بل جعلته أسماءك و مظاهر صفاتك، سبحانك، ننزّهك أن يوجد غيرك، أي يقارن شي ء فردانيّتك، أو يثنّي وحدانيّتك. فقنا عذاب نار الاحتجاب، بالأكوان عن أفعالك، و بالأفعال عن صفاتك، و بالصفات عن ذاتك، وقاية مطلقة تامّة كافية «2».

و في سورة الواقعة نَحْنُ خَلَقْناكُمْ

فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ «3» يقول: نحن خلقناكم بإظهاركم بوجودنا و ظهورنا في صوركم «4».

و في سورة الحديد وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ «5» يقول: و هو معكم أينما كنتم لوجودكم به، و ظهوره في مظاهركم «6».

(1) الآية/ 191.

(2) تفسير ابن عربي، ج 1، ص 241- 242.

(3) الآية/ 57.

(4) تفسير ابن عربي، ج 2، ص 593.

(5) الآية/ 4.

(6) تفسير ابن عربي، ج 2، ص 599.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 576

و في سورة المجادلة ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ «1» يقول: لا بالعدد و المقارنة، بل بامتيازهم عنه بتعيّناتهم، و احتجابهم عنه بماهيّاتهم و إنّياتهم، و افتراقهم منه بالإمكان اللازم لماهيّاتهم و هويّاتهم، و تحقّقهم بوجوبه اللازم لذاته، و اتصاله بهم بهويّته المندرجة في هويّاتهم، و ظهوره في مظاهرهم، و تستّره بماهيّاتهم، و وجوداتهم المشخّصة، و إقامتها بعين وجوده، و إيجابهم بوجوبه. فبهذه الاعتبارات هو رابع معهم، و لو اعتبرت الحقيقة لكان عينهم؛ و لهذا قيل: «لو لا الاعتبارات لارتفعت الحكمة»، و

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «العلم نقطة كثّرها الجاهلون» «2» و في سورة المزّمل وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا. رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا «3» يقول: و اذكر اسم ربك الذي هو أنت، أي اعرف نفسك، و اذكرها، و لا تنسها، فينساك اللّه، و اجتهد لتحصيل كمالها بعد معرفة حقيقتها.

ربّ المشرق و المغرب، أي الذي ظهر عليك نوره، فطلع من أفق وجودك بإيجادك، و المغرب الذي اختفى بوجودك، و غرب نوره فيك، و احتجب بك «4».

تلك نماذج تكشف لك عن واقع هذا التفسير، و أنه يقوم

على مذهب صاحبه في القول بوحدة الوجود، الأمر الذي يلتئم و إمكان نسبته إلى ابن عربي القائل بذلك، فليس غريبا منه أن يقوم بتأليف تفسير يعتمد على مذهبه الخاص.

(1) الآية/ 7.

(2) تفسير ابن عربي، ج 2، ص 612.

(3) الآية/ 8 و 9.

(4) تفسير ابن عربي، ج 2، ص 720- 721.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 577

فلا موضع لما استغربه أمثال الشيخ محمد عبده، و أن النزعات أو الشطحات التي تشاهد في هذا التفسير، ليست شيئا غريبا عن روح ابن عربي و مذهبه في وحدة الوجود.

و يقوم مذهب ابن عربي في التفسير- في سائر مؤلفاته- غالبا على نظريّة «وحدة الوجود» التي يدين بها، و على الفيوضات و الوجدانيات التي تنهلّ عليه من سحائب الغيب الإلهي، و تنقذف في قلبه من ناحية الإشراق الرّباني، فنراه في كثير من الأحيان يتعسّف في التأويل، ليجعل الآية تتمشّى مع هذه النظريّة، فهو يبدّل فيما أراد اللّه من آياته و يفسّرها على أن تتضمن مذهبه و تكون أسانيد له، الأمر الذي ليس من شأن المفسّر المنصف المخلص للّه عمله؛ إذ يجب على المفسّر المخلص أن يبحث في القرآن بحثا مجردا عن الهوى و العقيدة، مما قلّ ما يوجد في أهل التصوّف و العرفان.

هذا و قد بالغ ابن عربي في دعواه الإشراقات الرّبانية المنهلّة على قلبه، و يدّعي أنّ كل ما يجري على لسان أهل الحقيقة- و يعني بهم الصوفيّة بالذات- من المعاني الإشاريّة في القرآن هو في الحقيقة تفسير و شرح لمراد اللّه، و أن أهل اللّه- و يعني بهم الصوفيّة- أحق الناس بشرح كتابه؛ لأنهم يتلقّون علومهم عن اللّه مباشرة، فهم يقولون في القرآن على

بصيرة، أما أهل الظاهر فيقولون بالظن و التخمين، و فضلا عن ذلك إنّه يرى أنّ تفاسير أهل الحقيقة لا يعتريها شكّ، و أنّها صدق و حقّ على غرار القرآن الكريم، فإذا كان القرآن الكريم لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه؛ لأنّه من عند اللّه، فكذلك أقوال أهل الحقيقة في التفسير، لا يأتيها الباطل من بين يديها و لا من خلفها؛ لأنها منزلة من عند اللّه يقرّر ابن عربي كل هذه المبادئ و يصرّح بها في فتوحاته.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 578

يقول: «و ما خلق اللّه أشقّ و لا أشدّ من علماء الرسوم على أهل اللّه المختصّين بخدمته، العارفين به من طريق الوهب الإلهي، الذين منحهم أسراره في خلقه، و فهّمهم معاني كتابه و إشارات خطابه، فهم لهذه الطائفة مثل الفراعنة للرسل عليهم السّلام، و لما كان الأمر في الوجود الواقع على ما سبق به العلم القديم- كما ذكرنا- عدل أصحابنا إلى الإشارات كما عدلت مريم عليها السّلام من أجل أهل الإفك و الإلحاد إلى الإشارة. فكلامهم رضى اللّه عنهم في شرح كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، إشارات، و إن كان ذلك حقيقة و تفسيرا لمعانيه النافعة، ورد ذلك كلّه إلى أنفسهم مع تقريرهم إيّاه في العموم و فيما نزل فيه. كما يعلمه أهل اللسان الذين نزل ذلك الكتاب بلسانهم، فعمّ به سبحانه عندهم الوجهين، كما قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ «1»، يعني الآيات المنزلة في الآفاق و في أنفسهم، فكل آية منزلة لها وجهان: وجه يرونه في نفوسهم، و وجه آخر يرونه فيما خرج عنهم، فيسمون ما

يرونه في نفوسهم إشارة، ليأنس الفقيه صاحب الرسوم إلى ذلك، و لا يقولون في ذلك إنه تفسير، وقاية لشرّهم و تشنيعهم في ذلك بالكفر عليه؛ و ذلك لجهلهم بمواقع خطاب الحق، و اقتدوا في ذلك بسنن الهدى، فإنّ اللّه كان قادرا على تنصيص ما تأوّله أهل اللّه في كتابه، و مع ذلك فما فعل، بل أدرج في تلك الكلمات الإلهية التي نزلت بلسان العامّة، علوم معاني الاختصاص التي فهمها عباده حين فتح لهم فيها بعين الفهم الذي رزقهم «2».

و تفاسيره بهذا النمط كثيرة و منبثّة في كتبه لا سيّما في «الفتوحات». خذ

(1) فصلت/ 53.

(2) راجع: الفتوحات المكية، ج 1، ص 279.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 579

لذلك مثلا ما ذكره بشأن قوله تعالى: ن، وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ «1» بما لا يرجع إلى محصّل.

قال في الباب الستين الذي وضعه لمعرفة العناصر و سلطان العالم العلوى على العالم السفلى:

«اعلم أنّ اللّه تعالى لما تسمّى بالملك رتّب العالم ترتيب المملكة، فجعل له خواصا من عباده، و هم الملائكة المهيمنة جلساء الحق تعالى بالذكر لا يستكبرون عن عبادته و لا يستحسرون، يسبحون الليل و النهار لا يفترون. ثم اتخذ حاجبا من الكروبيين واحدا أعطاه علمه في خلقه، و هو علم مفصّل في إجمال، فعلمه سبحانه كان فيه مجلّى له، و سمّى ذلك الملك «نونا» فلا يزال معتكفا في حضرة علمه عزّ و جل و هو رأس الديوان الإلهي، و الحق من كونه عليما لا يحتجب عنه. ثم عيّن من ملائكته ملكا آخر دونه في المرتبة سماه «القلم» و جعل منزلته دون منزلة «النون» و اتّخذه كاتبا، فيعلمه اللّه سبحانه من علمه ما شاءه

في خلقه بوساطة «النون»، و لكن من العلم الإجمالي، و مما يحوي عليه العلم الإجمالي علم التفصيل، و هو من بعض علوم الإجمال؛ لأن العلوم لها مراتب، من جملتها علم التفصيل. فما عند القلم الإلهي من مراتب العلوم المجملة إلّا علم التفصيل مطلقا، و بعض العلوم المفصّلة لا غير، و اتّخذ هذا الملك كاتب ديوانه و تجلّى له من اسمه القادر، فأمدّه من هذا التجلّي الإلهي، و جعل نظره إلى جهة عالم التدوين و التسطير، فخلق له لوحا و أمره أن يكتب فيه جميع ما شاء سبحانه أن يجريه في خلقه إلى يوم القيامة خاصّة، و أنزله منزلة التلميذ من الأستاذ، فتوجهت عليه هنا الإرادة الإلهية، فخصّصت له هذا القدر من العلوم المفصّلة، و له تجلّيات من الحق

(1) القلم/ 1.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 580

بلا واسطة. و ليس للنون سوى تجلّ واحد في مقام أشرف، فإنه لا يدل تعدد التجليات و لا كثرتها على الأشرفيّة، و إنما الأشرف من له المقام الأعم. فأمر اللّه النون أن يمدّ القلم بثلاثمائة و ستين علما من علوم الإجمال، تحت كل علم تفاصيل، و لكن معيّنة منحصرة لم يعطه غيرها، يتضمن كل علم إجمالي من تلك العلوم ثلاثمائة و ستين علما من علوم التفصيل، فإذا ضربت ثلاثمائة و ستين في مثلها، فما خرج لك فهو مقدار علم اللّه تعالى في خلقه إلى يوم القيامة خاصّة، ليس عند اللوح من العلم الذي كتبه فيه هذا القلم أكثر من هذا، لا يزيد و لا ينقص، و لهذه الحقيقة الإلهية جعل اللّه الفلك الأقصى ثلاثمائة و ستين درجة، و كل درجة مجملة لما تحوي عليه من تفصيل الدقائق

و الثواني و الثوالث إلى ما شاء اللّه سبحانه، مما يظهره في خلقه إلى يوم القيامة، و سمي هذا القلم الكاتب.

ثمّ إنّ اللّه سبحانه و تعالى أمر أن يولّى على عالم الخلق اثنا عشر واليا، يكون مقرّهم في الفلك الأقصى منا في بروج، فقسّم الفلك الأقصى اثني عشر قسما، جعل كل قسم برجا لسكنى هؤلاء الولاة، مثل أبراج سور المدينة، فأنزلهم اللّه إليها فنزلوا فيها، كل وال على تخت في برجه، و رفع اللّه الحجاب الذي بينهم و بين اللوح المحفوظ، فرأوا فيه مسطّرا أسماؤهم و مراتبهم و ما شاء الحق أن يجريه على أيديهم في عالم الخلق إلى يوم القيامة، فارتقم ذلك كله في نفوسهم و علموه علما محفوظا لا يتبدّل و لا يتغيّر «1»». و قال في الباب الثاني الذي وضعه لمعرفة مراتب الحروف- الفصل الأول-:

«ثم إنّه في نفس النون الرقمية (ن) التي هي شطر الفلك من العجائب ما لا يقدر على سماعها إلّا من شدّ عليه مئزر التسليم، و تحقق بروح الموت الذي

(1) الفتوحات المكيّة، ج 1، ص 294- 295.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 581

لا يتصور ممن قام به اعتراض و لا تطلّع، و كذلك في نفس نقطة النون أوّل دلالة النون الروحانية المعقولة فوق شكل النون السفلية، التي هي النصف من الدائرة، و النقطة الموصولة بالنون المرقومة الموضوعة، أول الشكل، التي هي مركز الألف المعقولة، التي بها يتميّز قطر الدائرة، و النقطة الأخيرة التي ينقطع بها شكل النون، و ينتهي بها هي رأس هذا الألف المعقولة المتوهمة، فتقدر قيامها من رقدتها فترتكز لك على النون، فيظهر من ذلك حرف اللام، و النون نصفها زاي مع وجود

الألف المذكورة، فتكون النون بهذا الاعتبار تعطيك الأزل الإنساني، كما أعطاك الألف و الزاي و اللام في الحق. غير أنه في الحق ظاهر؛ لأنه بذاته أزلي لا أوّل له، و لا مفتتح لوجوده في ذاته، بلا ريب و لا شك.

و لبعض المحققين كلام في الانسان الأزلي، فنسب الإنسان إلى الأزل، فالإنسان خفي فيه الأزل فجهل؛ لأن الأزل ليس ظاهرا في ذاته، و إنما صحّ فيه الأزل لوجه ما من وجوه وجوده، منها أنّ الموجود يطلق عليه الوجود في أربع مراتب: وجود في الذهن، و وجود في العين، و وجود في اللفظ، و وجود في الرقم. فمن جهة وجوده على صورته التي وجد عليها في عينه، في العلم القديم الأزلي المتعلّق به في حال ثبوته، فهو موجود أزلا أيضا، كأنّه بعناية العلم المتعلق به، كالتحيّز للعرض بسبب قيامه بالجوهر، فصار متحيّزا بالتبعيّة، فلهذا خفي فيه الأزل، و لحقائقه أيضا الأزليّة المجرّدة عن الصورة المعيّنة المعقولة التي تقبل القدم و الحدوث «1».

و قال في الباب (351) في معرفة اشتراك النفوس و الأرواح:

القلم و اللوح أول عالم التدوين و التسطير، و حقيقتهما ساريتان في جميع

(1) الفتوحات المكية، ج 1، ص 53- 54.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 582

الموجودات علوا و سفلا و معنى و حسا، و بهما حفظ اللّه العلم على العالم، و لهذا

ورد في الخبر عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «قيّدوا العلم بالكتابة»

. و من هنا كتب اللّه التوراة بيده، و من هذه الحضرة اتخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و جميع الرسل عليهم السّلام كتاب الوحي، و قال: كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ ... «1»، و

قال: ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها «2»، و قال: وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ «3».

و قال: فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ «4»، و قال: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ «5»، و قال: وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَ آثارَهُمْ ... «6» و الكتب: الضّم، و منه سمّيت الكتيبة كتيبة، لانضمام الأجناد بعضهم إلى بعض. و بانضمام الزوجين وقع النكاح في المعاني و الأجسام، فظهرت النتائج في الأعيان، فمن حفظ عليها هذا الضم الخاص أفادته علوما لم تكن عنده، و من لم يحفظ هذا الضم الخاص المفيد علم لم يحصل على طائل، و كان كلامه غير مفيد «7».

و قال في ديوانه أبياتا بشأن النون و القلم نذكر منها:

إذا جاء بالإجمال نون فإنّه يفصّله العلّام بالقلم الأعلى

(1) الانفطار/ 11- 12.

(2) الكهف/ 49.

(3) يس/ 12.

(4) الواقعة/ 78.

(5) عبس/ 13- 15.

(6) يس/ 12.

(7) الفتوحات المكيّة، ج 3، ص 221.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 583

فيلقيه في اللوح الحفيظ مفصّلا حروفا و أشكالا و آياته تتلى

و ما فصّل الإجمال منه بعلمه و ما كان إلّا كاتبا حينما يتلى

عليه الذي ألقاه فيه مسطّر لتبلى به أكوانه و هو لا يبلى

هو العقل حقّا حين يعقل ذاته له الكشف و التحقيق بالمشهد الأعلى «1»

و أشنع تفسير رأيته في كلامه ما ذكره بشأن إخفائه تعالى أولياءه في صفة أعدائه، فكانوا أولياء في صورة أعداء، و عبادا مخلصين في زيّ عتاة متمردين. يقول في تفسير قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ

اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ «2»: إيجاز البيان فيه، يا محمد! إنّ الّذين كفروا ستروا محبّتهم في، دعهم فسواء عليهم أ أنذرتهم بوعيدك الذي أرسلتك به أم لم تنذرهم لا يؤمنون بكلامك، فإنهم لا يعقلون غيري، و أنت تنذرهم بخلقي و هم ما عقلوه و لا شاهدوه، و كيف يؤمنون بك و قد ختمت على قلوبهم فلم أجعل فيها متّسعا لغيري، و على سمعهم، فلا يسمعون كلاما في العالم إلّا مني. و على أبصارهم غشاوة، من بهائي عند مشاهدتي فلا يبصرون سواي، و لهم عذاب عظيم عندي أردّهم بعد هذا المشهد السنيّ إلى إنذارك، و أحجبهم عنّي، كما فعلت بك بعد قاب قوسين

(1) رحمة من الرحمن، للغراب، ج 4، ص 364 نقلا عن ديوان ابن عربي ص 164.

(2) البقرة/ 6- 7.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 584

أو أدنى قربا، أنزلتك إلى من يكذّبك و يرد ما جئت به إليه منّي في وجهك، و تسمع فيّ ما يضيق له صدرك، فأين ذلك الشرح الذي شاهدته في إسرائك فهكذا أمنائي على خلقي الذين أخفيتهم رضاي عنهم، فلا أسخط عليهم أبدا «1».

و إليك من تفاسير ابن عربي معتمدة على نظرية وحدة الوجود، جاءت في سائر كتبه:

قال في تفسير قوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «2»: لأنه لا ينطق إلّا عن اللّه، بل لا ينطق إلّا باللّه، بل لا ينطق إلّا اللّه منه، فإنه صورته «3».

و في تفسير قوله تعالى: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَ ادْخُلِي جَنَّتِي «4»، يقول: و ادخلي جنّتي الّتي هي ستري، و

ليست جنتي سواك، فأنت تسترني بذاتك الإنسانية، فلا أعرف إلّا بك، كما أنّك لا تكون إلّا بي، فمن عرفك عرفني، و أنا لا أعرف فأنت لا تعرف، فإذا دخلت جنّته دخلت نفسك فتعرف نفسك معرفة أخرى غير المعرفة الّتي عرفتها حين عرفت ربّك بمعرفتك إيّاها، فتكون صاحب معرفتين، معرفة به من حيث أنت، و معرفة به بك من حيث هو لا من حيث أنت، فأنت عبد و أنت ربّ لمن له فيه أنت عبد، و أنت ربّ و أنت عبد لمن له في الخطاب عهد «5».

(1) الفتوحات، ج 1، ص 115.

(2) النساء/ 80.

(3) الفتوحات، ج 4، ص 122.

(4) الفجر/ 27- 30.

(5) فصوص الحكم، ص 91- 93.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 585

و في تفسير قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها «1» يقول: إنّ النفس لا تزكو إلّا بربّها، فيه تشرّف و تعظّم في ذاتها؛ لأن الزكاة ربو، فمن كان الحق سمعه و بصره و جميع قواه، و الصورة في الشاهد صورة خلق، فقد زكت نفس من هذا نعته و ربت و أنبتت من كل زوج بهيج، كالأسماء الإلهية للّه، و الخلق كلّه بهذا النعت في نفس الأمر، و لو لا أنه هكذا في نفس الأمر ما صحّ لصورة الخلق ظهور و لا وجود؛ و لذلك خاب من دسّاها؛ لأنّه جهل ذلك فتخيّل أنه دسّها في هذا النعت، و ما علم أنّ هذا النعت لنفسه نعت ذاتي لا ينفكّ عنه يستحيل زواله، لذلك وصفه بالخيبة؛ حيث لم يعلم هذا؛ و لذلك قال: قد أفلح، ففرض له البقاء. و البقاء ليس إلّا للّه أو لما كان

عند اللّه، و ما ثمّ إلّا اللّه أو ما هو عنده، فخزائنه غير نافدة، فليس إلّا صور تعقب صورا، و العلم بها يسترسل عليها استرسالا «2».

و بعد فإذا كانت النزعات أو الشطحات التي كان الشيخ الأستاذ محمد عبده يستوحشها و يستغرب أن تكون صادرة من مثل ابن عربي، و من ثم استنكر انتساب التفسير إليه، فها هي مثلها أو أشد غرابة، مبثوثة في كتبه و لا سيّما الفتوحات، فأين موضع الاستغراب. و من ثمّ فالأرجح صحة النسبة و لا سيما مع شهرتها و عدم وجود ما ينافي هذه النسبة، نظرا لشدة المشابهة بين محتويات هذا التفسير و سائر مؤلّفات ابن عربي.

و أما ما ذكره الأستاذ الذهبي- لوجه المنافاة- من السماع من نور الدين عبد

(1) الشمس/ 9- 10.

(2) الفتوحات، ج 4، ص 119.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 586

الصمد النطنزي الأصفهاني المتوفّى في أواخر القرن السابع، حيث يصلح أن يكون شيخا للمولى عبد الرزاق الكاشي المتوفّى سنة (730 ه) لا لابن عربي المتوفّى سنة (638 ه).

فيمكن توجيهه، بأن الناسخ و هو المولى عبد الرزاق الكاشي زاد هذا الكلام هنا أو جعله على الهامش، ثم أدخل في المتن على يد النساخ المتأخرين، فلا منافاة.

7- عرائس البيان في حقائق القرآن لأبي محمد الشيرازي

هو أبو محمد روزبهان بن أبي نصر البقلي الشيرازي المتوفّى سنة (666 ه).

هو تفسير إشاري رمزي على الطريقة الصوفية العرفانية، جمع فيه من آراء من تقدّمه من أقطاب الصوفية و أهل العرفان، فكان تفسيرا عرفانيا موجزا، و في نفس الوقت جامعا و كاملا في حدّ ذاته. قال في المقدّمة: «و لما وجدت أنّ كلامه الأزلي لا نهاية له في الظاهر و الباطن، و لم يبلغ أحد إلى كماله و غاية

معانيه؛ لأنّ تحت كل حرف من حروفه بحرا من بحار الأسرار، و نهرا من أنهار الأنوار، فتعرّضت أن أغرف من هذه البحور الأزلية غرفات من حكم الأزليات، و الإشارات و الأبديّات، ثم أردفت بعد قولي أقوال مشايخي مما عباراتها ألطف، و إشاراتها أظرف ببركاتهم، و سمّيته: عرائس البيان في حقائق القرآن».

و هو يجري في تفسيره مع الذوق العرفاني المجرد، حتى نهاية القرآن، و طبع في جزءين يضمّهما مجلد واحد كبير.

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 587

8- التأويلات النجميّة لنجم الدين داية، و علاء الدولة السمناني

ألّف هذا التفسير نجم الدين داية، و مات قبل أن يتمّه، فأكمله من بعده علاء الدولة السمناني.

أمّا نجم الدين فهو أبو بكر عبد اللّه الرازي المعروف بداية. توفّي سنة (654 ه).

كان من كبار الصوفية، و كان مقيما أوّل أمره بخوارزم، ثم خرج منها أيّام هجوم چنگيزخان، إلى بلاد الروم، و يقال: إنه قتل اثناء تلك الحروب.

و أمّا علاء الدولة فهو أحمد بن محمد السمناني، توفي سنة (736 ه). كان أحد الأئمة المعروفين، و كان ينتقص من ابن عربي كثيرا، و كان مليحا ظريفا حسن المجلس حسن المناظرة، عزيز الفتوة، كثير البرّ، و له مصنفات كثيرة ربما تبلغ الثلاثمائة. كان قد دخل بلاد التتار، ثم رجع و سكن تبريز ثم بغداد.

يقع هذا التفسير في خمس مجلّدات كبار، و هو تفسير لطيف، وضع على أسلوب التفسير الإشاري، و لكن في ظرافة بالغة و في عبارات شائقة.

و هناك تفاسير ذوات اعتبار، جعلت قسطا من منهجها للبيان العرفاني الإشاري للقرآن، و ساروا على منهج الاعتدال في هذا المجال، أمثال النيسابوري في تفسيره «غرائب القرآن»، و المولى محسن الفيض الكاشاني في تفسيره «الصافي»، و السيد محمود الآلوسي البغدادي في «روح المعاني». على ما

أسلفنا الكلام عليها، فلا نعيد ذكرها؛ و بذلك قد تمّ مقصودنا من هذا الكتاب، و الحمد للّه.

و قد تمّ بتوفيقه تعالى تبييض هذه الصحائف عصر يوم الجمعة الثالث و العشرين من شهر ربيع الأغرّ سنة ألف و أربعمائة و ستّ عشرة هجرية. في جوار مولانا الإمام أبي الحسن علي بن موسى الرضا- عليه آلاف التحية و الثناء- على يد

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 588

الفقير إلى اللّه الغني محمد هادي معرفة، و الحمد للّه رب العالمين. و الصلاة و السلام على خير خلقه محمد و آله الطاهرين 23/ ع 1/ 1416- 19/ 5/ 1375

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 589

الفهارس

اشارة

* فهرس الآيات القرآنية* فهرس الأحاديث* فهرس الأعلام* فهرس المواضيع* تراجم القرآن الكريم

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 590

فهرس الآيات القرآنية

رقم الآية/ الصفحة (2) البقرة 3 يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ 397 6 سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ 314، 416، 583 7 خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ 316، 380، 583 14 وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ 395 15 اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ 436 18 صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ 380 22 وَ السَّماءَ بِناءً 568 26 إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً 328، 398 30 وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً 24 34 فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى 392، 396، 398 35 وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ 541 36 فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ 165

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 591

40 يا بَنِي إِسْرائِيلَ ... وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ 555، 556، 557، 558 41 وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ 558 65 كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ 568 67 إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً 368، 395 79 لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا 137 102 وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَ مارُوتَ 143، 150، 151، 152 112 بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ 560، 566 124 وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ 426 125 وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ 550 126 ثُمَّ أَضْطَرُّهُ 569 127 وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ 154 152 فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ 555 170 وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا 111 185 شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ 22، 429 187 ثُمَّ أَتِمُّوا

الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ 357 204 وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا 47 205 وَ إِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها 47 207 وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ 47 210 هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ 486 211 سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ 90 232 وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ 358 238 حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى 324 245 عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ 481 248 وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ 157

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 592

251 فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ 160 253 تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ 571 255 وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ 491 260 وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي 187 275 الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي 430، 465 286 لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها 420 (3) آل عمران 18 شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ 499 28 وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ 481، 558 31 قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي 413 36 وَ إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَها 491 105 وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا 498 118 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ 83 135 وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا 571 181 إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ 285 191 رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا 575 (4) النساء 1 يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ 329 2 وَ آتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ 358، 367 6 وَ

ابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ 358 36 وَ الْجارِ ذِي الْقُرْبى وَ الْجارِ 542

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 593

39 ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا 419 57 وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ 438 66 وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا 546 76 إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً 426 80 مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ 584 83 وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ 378، 405 110 ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً 556 155 طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها 380 163 إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ 425 165 رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ 419، 425 (5) المائدة 22 قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ 171، 174 23 قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ ... فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ 172 31 فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ 168 33 إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ 23 54 فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ ... لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ 399 55 إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا 378، 385 64 يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ 285 67 يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ 485 82 لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ 81 94- 95 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ 551 96 أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعامُهُ 551 112 إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ 179، 186

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 594

114 قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً 179، 187 115 قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ 179، 188 (6) الأنعام 25 جَعَلْنا عَلى

قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً 381 38 ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ 449 68 فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ 132 103 لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ 485 125 فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ 409 137 وَ كَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ 494 162- 163 قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ 370 (7) الأعراف 14- 16 قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ 423 53 هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ 486 65 وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً 363 69 وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ 289 73 وَ إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً 363 139 إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ 70 143 وَ لَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ 189، 500، 560 144 يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ 198 145 وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً 192، 198 150 وَ لَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً 196

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 595

157 وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ 420 158 قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ 201، 413 159 وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ 198، 199 163 سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ 90 167 وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ 238 172 أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا 492 189- 190 هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ 202 198 وَ تَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَ هُمْ لا يُبْصِرُونَ 380 (8) الأنفال 1 وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 187 24 يا

أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ 23 58 فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ 314 (9) التوبة 40 فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ 159، 379 93 طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ 381 123 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا 544 (10) يونس 39 بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ 499 61 وَ ما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَ ما تَتْلُوا مِنْهُ 215 74 كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ 381

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 596

94 فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ 81، 89، 92 (11) هود 42- 43 وَ نادى نُوحٌ ابْنَهُ وَ كانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ 172، 174 66 إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ 426 71 فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ 260 (12) يوسف 1- 3 الر، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ 124 4 إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً 213 24 وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها 214، 217 26- 28 إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ 218 32 لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ 218 34- 33 قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ 218 42 وَ قالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ 225 49 ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ 318 51 أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ 217، 221 52 ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ 220، 222 53 وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ 221، 222 (13) الرعد 3 وَ هُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ 546

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 597

12 هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً 301 13 وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ

299، 301 29 الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ 228 33 أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ 215 41 أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها 23 (14) إبراهيم 7 لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ 557 22 وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ 426، 431، 464 (15) الحجر 39- 40 لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ 491 42 إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ 464 47 وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ 73 294 فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ 438 (16) النحل 40 إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ 492 43 وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا ... فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ 82، 89، 93 44 وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ 19، 26، 453 89 وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ 472 108 طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ 381

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 598

(17) الإسراء- بني إسرائيل 4- 8 وَ قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ 230، 232، 237 12 وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ 293 32 وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً 216 46 جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً 381 94 وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى 419 101 وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ 82، 90 104 وَ قُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ 199 107 يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً 364 (18) الكهف 22 فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً 239، 240 37 قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ 379 49 ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً 582 57 جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً

381 83 وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ 240، 242 94 قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ 244 97 فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَ مَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً 247 (19) مريم 51 إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا 564

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 599

(20) طه 12 فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ 571 85 أَضَلَّهُمُ 381 134 وَ لَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ 419 (21) الأنبياء 7 وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا ... فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ 82، 89 19- 20 وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ 149 26- 28 بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ 149 83- 84 وَ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي 282 90 يَدْعُونَنا رَغَباً وَ رَهَباً 558 105 وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ 139 (22) الحج 26 وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ 156 35 الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ 558 39- 41 أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا 361 63 أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ 547 78 وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ 420 (23) المؤمنون 50 وَ آوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَ مَعِينٍ 49

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 600

57 إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ 558 (24) النور 11 وَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ 52 36- 37 يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ 369، 558 39 كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً 539 42 وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ 481 55 وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ 361، 397 63 فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ 413 (25) الفرقان 8 إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً

461 (26) الشعراء 119- 120 فَأَنْجَيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ 174 (27) النمل 35 وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ 251، 483 44 قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً 249 (28) القصص 32 وَ اضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ 574

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 601

(29) العنكبوت 69 وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا 556 (30) الروم 21 خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً 330 41 ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ 542 (31) لقمان 15 وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي 112 20 أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ 24 34 وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً 485 (32) السجدة 7- 8 وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ 364 (33) الأحزاب 21 لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ 413 56 إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ 364 72 إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ 24، 488

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 602

(34) السبأ 20 وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ 423 21 وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ 431 39 وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ 555 (35) فاطر- ملائكة 18 وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ 481 28 إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ 558 (36) يس 7 لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ 416 12 وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَ ... فِي إِمامٍ مُبِينٍ 582 22 وَ ما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي 81 49 ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً 483، 486 69 وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَ ما يَنْبَغِي

لَهُ 170 (37) الصافات 65 كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ 395 99- 113 وَ قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ 254 112 وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ 260 123- 132 إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَ إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ 262

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 603

(38) ص 21- 25 وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ ... فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ 267، 561 34 وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَ أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ 273 41- 44 وَ اذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ ... وَ لا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً 279 46 إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ 561 82- 83 قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ 218 (39) الزمر 17 وَ أَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى 555 22 أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ 409 67 وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ 492 (40) الغافر- المؤمن 51 إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا 426 60 ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ 555 (41) فصلت- سجده 11 فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً 487، 492 15 فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ 289 17 وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى 498 30 أَلَّا تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا 559 53 سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ 578

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 604

(42) الشورى 10 عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ 481 11 لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ 25، 484 53 إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ 481 (43) الزخرف 18 أَ وَ مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَ هُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ 354 45 وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا 89 (44) الدخان 1-

3 حم. وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ 22 (45) الجاثية 13 وَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ 24 (47) محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم 16 طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ 381 23 فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمى أَبْصارَهُمْ 381 24 أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها 19، 405

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 605

(48) الفتح 4 هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ 159 15 يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ 417 26 فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ 159 (49) الحجرات 6 إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا 33 9 وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا 361 (50) ق 1 ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ 307 (51) الذاريات 28 قالُوا لا تَخَفْ وَ بَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ 260 (54) القمر 13 وَ حَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَ دُسُرٍ 73 (55) الرحمن 11 فِيها فاكِهَةٌ وَ النَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ 547

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 606

(56) الواقعة 24 جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ 408 57 نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ 575 78 فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ 582 (57) الحديد 4 وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ 575 (58) المجادلة 7 ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ 576 21 كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي 426 (59) الحشر 19 وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ 23 21 لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً 490 (60) الممتحنة 1 لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ 321 (61) الصف 5 فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ 381

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 607

(66) التحريم

6 لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ 149 (68) القلم 1 ن، وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ 579 (69) الحاقّة 6- 8 بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها 289 (71) نوح 1 إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ 363 26 رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً 174 (72) الجن 18 وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً 25 (73) المزمّل 8- 9 وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ 576 (74) المدثّر 17 ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً 416

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 608

(75) القيامة 12 إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ 481 22- 23 وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ 481 30 إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ 481 (76) الإنسان- الدهر 30 وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ 74، 363 (79) النازعات 28 رَفَعَ سَمْكَها 568 (80) عبس 13- 15 فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ 582 (82) الانفطار 10- 11 وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ، كِراماً كاتِبِينَ 215، 582 12 يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ 582 13- 14 إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَ إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ 548 (83) المطففين 8- 9 وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ 239

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 609

14 كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ 317 15 كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ 363 19- 20 وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ 239 (84) الانشقاق 20 فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ 419 (88) الغاشية 17 أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ 483 (89) الفجر 6- 8 أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ 286 27- 30 يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ

ارْجِعِي ... وَ ادْخُلِي جَنَّتِي 584 (91) الشمس 9- 10 قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها 498، 585 (96) العلق 19 وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ 364

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 610

(97) القدر 1 إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ 22 (110) النّصر 1 إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ 548 (111) تبت 1 تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ 416

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 611

فهرس الأحاديث

النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إن أحب الناس إليّ يوم القيامة إمام عادل 270 ولد لسليمان ولد، فقال للشيطان: تواريه من الموت 278 إن نبي اللّه أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة 283 [إرم ذات العماد] كان الرجل منهم يأتي إلى الصخرة 290 إن اللّه لما أبرم خلقه، فلم يبق من خلقه غير آدم عليه السّلام 293 و كلّ بالشمس تسعة أملاك، يرمونها بالثلج 295 الأرض على الماء 295 مرحبا بالمهاجر الأوّل 296 أما ظلمة الليل، و ضوء النهار 296 المجرة التي في السماء هى عرق حية تحت العرش 298 يا معاذ، إني مرسلك إلى قوم أهل عناد 298 إنّ الشمس و القمر ثوران في النار 116 إنّ اللّه أذن لي أن أحدّث عن ديك 117 النيل و سيحان و جيحان و الفرات من أنهار الجنّة 117 خلق اللّه التربة يوم السبت 118، 119

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 612

إنّ في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلّها 119 لما قال يوسف ذلك قال له جبرئيل عليه السّلام: 221 أشدّ الناس بلاء الأنبياء 226 لو لم يقل- يعني يوسف- الكلمة التي قالها، ما لبث في 227 يا عائشة، إن هذين يموتان

على غير ملّتي 45 يا عائشة، إن سرّك أن تنظري إلى رجلين من أهل النار 45 إنّ آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء 46 لاها اللّه، لا تجتمع ابنة ولي اللّه و ابنة عدوّ اللّه 46 إنّ لكلّ نبيّ حرما، و إنّ حرمي بالمدينة 46 اللّهم اجعله هاديا مهديا 47 اللّهم علّمه الكتاب و الحساب 48 ستفتح عليكم الشام 49 أربع مدائن من مدائن الجنّة: مكة، و المدينة، و بيت المقدس، و دمشق 49 إنّك ستلي الخلافة من بعدي 49 لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحق 50 لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق 50 من قال: لا إله إلّا اللّه، خلق اللّه كل كلمة منها طيرا 59، 132 أنا خاتم النّبيين، لا نبيّ بعدي، إلّا أن يشاء اللّه 63 بعث اللّه جبريل إلى آدم، فأمره 156 إنّ اللّه خلق آدم، و طوله ستون ذراعا 173 إنها نزلت خبزا و لحما، و أمروا أن لا يخونوا 179 خدعهما مرتين: خدعهما في الجنة، و خدعهما في الأرض 203 و لما ولدت حواء طاف بها إبليس 204 يكون في أمتي رجل يقال له: محمد بن إدريس 37

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 613

ما من مولود إلّا يولد على الفطرة 205 حدّثوا عن بني إسرائيل و لا حرج 90، 93، 94، 110، 208، 368 كانت سفينة نوح عليه السّلام لها أجنحة 210 سام أبو العرب، و حام أبو الحبش، و يافث أبو الروم 210 أكرموا قريشا فإنّ عالمها يملأ طباق الأرض علما 38 يخرج النّاس من المشرق إلى المغرب 38 إن سفينة نوح طافت بالبيت سبعا 212 هل أنت مؤمن إن أخبرتك بأسمائها؟ 213 من

كذب عليّ متعمّدا فيتبوّأ مقعده من النّار 41 لا سبق إلّا في خفّ أو حافر أو جناح 42 إن بني إسرائيل لما اعتدوا، و علوا 235 هذا من صنعه حلي بيت المقدس 236 ما لي و ما لهم، ما لي علم إلّا ما علّمني اللّه 242 إنّه كان شابا من الروم، و إنه بني الإسكندرية 243 يأجوج و مأجوج أمّة 245 بعثني اللّه ليلة أسري بي إلى يأجوج و مأجوج 246 إنّ يأجوج و مأجوج من ولد آدم 246 إن يأجوج و مأجوج يحفرون السدّ كل يوم 247 فو الذي نفس محمد بيده إنّ دوابّ الأرض لتسمن 247 الذبيح إسحاق 254، 255 إن داود سأل ربه مسألة، فقال: اجعلني مثل إبراهيم 255 إن اللّه تعالى خيرني بين أن يغفر لنصف أمتي أو شفاعتي 255 قد كثرت عليّ الكذابة و ستكثر 70 الأمناء سبعة: اللّوح، و القلم، و إسرافيل، و ميكائيل، ... و معاوية 71

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 614

أنّ اللّه ائتمن على وحيه جبريل و أنا و معاوية 71 يا عمّ، إنّ اللّه جعل أبا بكر 74 لما عرج بي إلى السماء، قلت 74 أدخلت الجنة فرأيت فيها ذئبا 75 قال له: ما اسمك؟ قال: يزيد بن شهاب 75 قال لبلال: هلمّ، عليّ بالنّاس. فاجتمع الناس 76 قال: أ متهوّكون فيها يا ابن الخطّاب؟! 83، 91 لا تسألوا أهل الكتاب عن شي ء 84 لا تصدّقوا أهل الكتاب و لا تكذّبوهم 85، 90، 141 بلّغوا عنّي و لو آية 88 لا تسألوا أهل الكتاب، فإنّهم لن يهدوكم 91 الخضر هو إلياس 265 إن داود عليه السّلام حين نظر إلى المرأة 268 اقرأ بهذا ليلة،

و بهذا ليلة 95 أ متهوّكون كما تهوّكت اليهود و النصارى 96 لا يقصّ على النّاس إلّا أمير أو مأمور 97 ليلزم كلّ إنسان مصلّاه 105 تقتله الفئة الباغية 112 أطع أباك حيّا و لا تعصه 112 ملك من ملائكة اللّه موكّل بالسحاب 301 اللّهم لا تقتلنا بغضبك 303 إذ سمعتم الرعد فسبّحوا 303 سبحان من يسبّح الرعد بحمده 303 سبحان اللّه و بحمده، سبحان اللّه العظيم 303

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 615

ما هذا في يدك يا عمر؟! ... يا أيها الناس إنّي 124 إنّ المؤمن إذا أذنب ذنبا كان نكتة سوداء في قلبه 317 إنّ الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغفلتها 317 لا تتبعوا هؤلاء فانّهم قد هوكوا و تهوّكوا 125 علىّ و فاطمة و ابناهما 322، 413 فيخبروكم بحقّ فتكذّبوا به 141 ان الملائكة قالت: يا رب كيف صبرك على بني آدم في الخطايا 146 مثل علم اللّه فيكم كمثل السماء الّتي أظلّتكم 422 هل تضارّون في رؤية الشمس و القمر 483 من قال في القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار 352 و اللّه لو كان موسى حيّا ما وسعه إلّا اتّباعي 369 علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل 389 أنت منّي بمنزلة هارون من موسى 389 لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد 397 اللهمّ أدر الحق مع عليّ حيث دار 410 فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها 413 من فسّر القرآن برأيه فإن أصاب فقد أخطأ 528 الهوى و الشهوة يغلبان العلم و العقل 542 حجابه النور لو كشفها لأحرقت 560 كنت نبيّا و آدم مجبول في طينته 564 قيّدوا العلم بالكتابة 582 ما آمن بي من فسّر برأيه

كلامي 351 العلماء ورثة الأنبياء 389

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 616

علي بن أبي طالب عليه السّلام أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سئل عن المسوخ، فقال: 153 حيث ما جاء منه مبهما في موضع منه، قد جاء مفصلا و مبينا في موضع آخر 22 هي ريح فجوج هفّافة، لها رأسان 158 لما قتل ابن آدم أخاه بكى آدم، فقال: 169 و إنّما هو تعلّم من ذي علم ... علم علّمه اللّه 27 خلق اللّه آدم بيده 193 سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: عمر بن الخطاب نور في الإسلام 53 من حدّث بحديث داود على ما يرويه القصّاص جلّدته 272 إنّ كعب الأحبار لكذّاب 98 قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قال اللّه عزّ و جلّ: «ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي» 351 من قال في القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار 352 العلم نقطة كثّرها الجاهلون 576 الباقر عليه السّلام لما مات سليمان النبيّ عليه السّلام وضع الشيطان السحر 150 «أو ينفوا من الأرض» فسّره عليه السّلام بفقد العلماء 23 حافظوا على الصلوات و الصلاة 324 هي أوّل صلاة صلّاها 324 نزلت هذه الآية يوم الجمعة 324 صلاة الظهر 324 أن اللّه مدح قوما بأنّهم إذا دخل وقت الصلاة 370 انّهم الأئمة المعصومون، و قيل: هم أمراء السرايا 378

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 617

الصادق عليه السّلام كان بعد نوح عليه السّلام قد كثرت السحرة و المموّهون 150 البرهان: النبوة التي أودعها اللّه في صدره 224 نزل جبرئيل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و

عليه قباء أسود 44، 71 الصلاة الوسطى الظهر 324 إنّ ظاهرها: الحمد و باطنها: ولد الوالد 325 فالبعوضة: أمير المؤمنين و ما فوقها: رسول اللّه 328 أنّ اللّه مدح قوما بأنهم إذا دخل وقت الصلاة 370 النعيم: المعرفة و المشاهدة 410 الرضا عليه السّلام كذبوا في قولهم: انّهما كوكبان 150 الجواد عليه السّلام أنّه من موضع الأشاجع 25 العسكري عليه السّلام معاذ اللّه من ذلك، إنّ الملائكة معصومون 149

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 618

فهرس الأعلام

(حرف الألف) آدم: 118، 155، 157، 158، 162، 166، 167، 168، 169، 170، 172، 201، 202، 203، 205، 206، 207، 208، 209، 246، 248، 293، 329، 330، 365، 401، 457، 459، 463، 541، 542، 564، 565 آصف بن برخيا: 150، 275 الآلوسي: 148، 170، 184، 185، 192، 194، 195، 200، 202، 300، 302، 309، 435، 437، 496، 587 إبراهيم: 60 إبراهيم عليه السّلام: 80، 89، 108، 118، 154، 155، 156، 157، 158، 162، 187، 218، 254، 255، 257، 258، 259، 260، 261 إبراهيم التفليسي: 512 إبراهيم الحربي: 61، 62، 63 إبراهيم الفضل الأصفهاني: 65 إبراهيم النسفي: 69 إبراهيم بن جابر: 62 إبراهيم بن عثمان العربي: 69 إبراهيم بن هاشم: 325 إبراهيم بن هدبة البصري: 65 إبراهيم بن يزيد: 226، 227 إبليس: 37، 38، 166، 167، 169، 207، 246، 396، 422، 424، 457، 459، 460، 464

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 619

ابن إدريس: 37، 38، 79 ابن إسحاق: 141، 184، 231، 232، 233، 234، 238 ابن الأثير: 63، 262 ابن الأنباري: 507 ابن الجوزي: 36، 37، 40، 42، 43، 44، 51، 53، 54، 57، 64، 78، 79، 147، 154،

245، 278، 292، 294 ابن الخازن: 200 ابن الخطيب: 408 ابن الصّلاح: 544 ابن الطبّاخ: 414 ابن العربي: 366، 437 ابن الغضائري: 374 ابن المنير: 49، 482، 490، 492، 493، 496 ابن المهدي: 43 ابن النجّارة: 24 ابن النّديم: 13، 322، 505 ابن أبان: 269 ابن أبي أصيبعة: 408 ابن أبي الحديد: 45، 98، 369 ابن أبي الدنيا: 143، 308 ابن أبي العوجاء: 34، 58 ابن أبي حاتم: 145، 171، 181، 184، 204، 207، 213، 220، 221، 230، 231، 234، 238، 241، 243، 245، 255، 267، 268، 269، 273، 276، 280، 282، 283، 287، 290، 293، 294، 310، 386 ابن أبي خيثمة: 108 ابن أبي شيبة: 36، 62، 83، 276، 303 ابن أبي عروبة: 120 ابن أبي قلابة: 288 ابن أبي مليكة: 11 ابن أبي يحيى: 60 ابن تيمية: 88، 109، 259، 339، 340، 342، 385، 387، 545 ابن جبير: 12 ابن جريج: 60، 103، 193، 198، 199، 200، 214، 250، 296، 297 ابن جريح: 78، 94، 120، 121 ابن جرير: 18، 19، 21، 63، 99، 102، 120، 129، 136، 142، 143، 145، 147، 152، 157، 162، 164، 168، 169، 171، 173، 175، 179، 195، 197، 198، 199، 202، 203، 204، 205، 209، 210، 212، 213، 219،

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 620

220، 221، 223، 225، 226، 227، 228، 231، 232، 233، 234، 235، 236، 238، 240، 241، 242، 243، 245، 249، 251، 254، 255، 261، 267، 268، 273، 282، 286، 287، 290، 293، 303، 308، 310، 312، 313، 314، 321، 340، 343، 351، 460، 461، 523 ابن جندب (سمرة): 47 ابن جنيد: 37

ابن حبّان: 67، 213، 246، 283 ابن حجر: 12، 51، 56، 78، 91، 95، 101، 104، 108، 283، 284، 298، 308، 386، 407، 414، 485 ابن حنبل: 12، 30، 51، 54، 59، 62، 64، 79، 83، 109، 120، 121، 132، 133، 184، 259، 300، 303، 357، 341 ابن خلدون: 86، 92، 95، 135، 136، 176، 343 ابن خلّكان: 12، 344 ابن داود (أحمد): 65 ابن زيد: 36، 221 ابن سعد: 98، 100، 112، 113 ابن سلمة: 35 ابن سليمان: 60، 63 ابن سيّار: 331 ابن سيرين: 66 ابن شبيب: 295 ابن شهاب: 104 ابن شهبة: 130، 155، 339 ابن شهرآشوب: 391، 514 ابن شيخ (الشيخ أبي علي): 391 ابن طباع: 41 ابن عامر: 243، 494، 495، 496، 497 ابن عباس: 11، 24، 30، 41، 63، 78، 85، 86، 90، 91، 100، 101، 102، 120، 127، 137، 143، 166، 167، 164، 158، 169، 170، 171، 179، 180، 193، 199، 206، 207، 209، 210، 215، 221، 223، 226، 231، 238، 246، 250، 251، 252، 259، 265، 267، 273، 275، 276، 280، 292، 293، 298، 300، 301، 303، 307، 308، 310، 311، 316، 319، 341، 351، 369، 387، 568 ابن عبد الحكيم: 171، 243 ابن عدي: 60، 66، 69، 245

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 621

ابن عربي: 569، 570، 571، 573، 574، 575، 577، 584، 585، 587 ابن عساكر: 169، 210، 245، 246، 262، 264، 280 ابن عطاء اللّه: 548 ابن عطية: 197، 301، 343، 403، 436، 496، 521 ابن عمران الحراني: 296 ابن عوانة: 247 ابن فورك: 548 ابن فيلبس المقدوني: 244 ابن قتيبة: 101، 130،

173، 511 ابن قلابة: 287، 288 ابن قيّم: 174، 259 ابن كثير: 117، 118، 123، 128، 147، 156، 157، 164، 173، 184، 185، 197، 199، 203، 204، 205، 206، 208، 219، 221، 222، 227، 230، 236، 239، 241، 247، 248، 250، 255، 258، 269، 270، 276، 282، 283، 287، 335، 339، 436، 483، 523 ابن كريب: 242، 254 ابن لهيعة: 36، 37، 156، 242، 243، 269 ابن ماجة: 246 ابن مالك: 357 ابن مبارك: 36 ابن مردويه: 143، 153، 204، 205، 209، 210، 213، 221، 238، 245، 246، 265، 278، 291، 293، 294 ابن مسعود: 26، 86، 91، 141، 143، 167، 231، 246، 255 ابن معين: 108، 205، 214 ابن منبّه: 97، 134 ابن مهران (ميمون): 170 ابن ميمون: 11 ابن نجارة: 245 ابن نمير: 62، 66 ابن وكيع: 205، 226 إرميا: 234 إسحاق عليه السّلام: 122، 142 إسحاق: 80، 162، 165، 218، 253، 254، 255، 256، 257، 258، 259، 260، 261 إسحاق بن بشر: 210 إسحاق بن راهبية: 48، 51 إسحاق بن ناصح: 66

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 622

إسحاق بن نجيح: 64، 66 إسحاق بن وهب: 66 الإسفرايني: 548 الإسكافي: 45 الإسكندري 141، 240، 244 الإسكندري الثاني: 244 إسماعيل: 153، 225، إسماعيل: 158، 256، 257، 258، 259، 260، 261 الأصبهاني (نعيم): 78 إلياس عليه السّلام: 142، 262، 263، 264 إيشاء: 161 أبا صلت: 259 أبان البصري: 65 أبان بن تغلب: 505 ابن حجر: 12، 51، 56، 78، 91، 95، 101، 104، 108، 283، 284، 298، 308، 386، 407، 414، 485 أبو إسحاق مولى أسلم: 61، 189 أبو الأشنان: 66 أبو الأعلاء: 104،

205 أبو البختري: 42، 43، 44، 69 أبو البقاء: 506 أبو الجارود ابن المنذر: 141، 143، 145، 213، 220، 241، 246، 287، 325، 326 أبو الجماهير: 207 أبو الحجّاج المزي: 236 أبو الحسن: 412 أبو الحسين البصري: 418، 420 أبو السعود: 148، 436 أبو الشيخ: 209، 210، 213، 220، 241، 243، 308 أبو العالية: 341 أبو العبّاس محمد بن يزيد: 505 أبو الفتح الخشاب: 68 أبو الفداء: 113 ابو الفضل العباس بن محمد: 325، 326، 331 أبو الهذيل: 199 أبو بكر: 98، 103، 113، 122، 379 أبو بكر الصّاغاني: 62 أبو بكر الطوسي: 548 أبو بكر بن مردويه: 386 أبو بكر محمد بن أحمد البلدي: 540 أبو جعفر: 46، 47، 166 أبو جهل: 46 أبو حنيفة: 37، 38، 41، 58، 66، 357

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 623

أبو حيّان: 15، 148، 301، 302، 311، 344، 436، 496، 524، 525 أبو داود: 160، 303 أبو ذر: 387 أبو ريّة: 34، 35، 37، 38، 39، 44، 47، 48، 49، 50، 55، 98، 102، 118، 119، 113 أبو زبيد الطائي: 318 أبو زرعة: 41، 204، 243 أبو سعيد: 553 أبو شاهد: 39 أبو شهبة: 134، 137، 147، 159، 164، 170، 174، 185، 223، 237، 244، 277 أبو شهيبة: 123 أبو صالح: 56، 259، 290 أبو صخرة: 171 أبو طالب: 108 أبو طلحة الناقط: 504 أبو عاصم: 180 أبو عبد الرحمن السّلمي: 16، 54، 545، 548 أبو عبد اللّه السّلمي: 541، 543، 544، 546 أبو عبيد: 6، 506 أبو عبيد (القاسم بن سلام): 62، 103، 506 أبو عبيدة معمّر بن المثنّى: 506 أبو عمر: 78 أبو عمرو بن

العلاء: 259 أبو محمد الحريري: 546 أبو محمد الغزالي: 132، 204 أبو محمد مكي بن أبي طالب: 508 أبو مسلم الأصفهاني: 407 أبو معاوية: 276 أبو مغيرة: 69 أبو موسى: 297 أبو نجيح: 12 أبو نصر سابور: 374 أبو نعيم: 103، 213 أبو هاشم: 424 أبو هريرة: 37، 42، 46، 48، 49، 50، 55، 85، 90، 94، 101، 109، 112، 113، 114، 115، 116، 117، 118، 119، 122، 128، 129، 180، 246، 248، 255، 278، 303، 317، 465 أبو يعلى: 116، 123، 213 أبي المعالي: 39

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 624

أبي أمامة الباهلي: 50، 295 أبي بديل الوضّاحي: 504 أبيّ بن كعب: 36، 40، 128، 207 أبي حاتم: 12، 37، 295 أبي حامد: 39 أبي سعيد الخدري: 254 أبي عثمان المهدي: 181 أبي عصمة: 41 أبي علي الفارسي: 496 أبي عيينة: 199 أبي قلابة: 54 أبي يعقوب يوسف بن محمّد: 331 أثير الدين محمد بن يوسف (اندلسي نحوي): 501 أحمد: 91، 107، 108، 117، 118، 119، 204، 249، 270، 280، 281، 298 أحمد الإسكندري: 501 أحمد الهمداني المعتزلي: 513 أحمد أمين: 14، 99، 101، 102، 104، 135، 136 أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي: 124 أحمد بن عيسى: 511 أحمد بن محمد: 60 أحمد بن محمد بن غالب الباهلي: 66 أحمد بن معرّب: 434 أحمد بن يحيى: 60 أحمد بن يوسف: 496 الأحنف بن قيس: 254 الأخفش: 506 الأزرقي: 155 أرستاطاليس: 244 الأرناءوط: 96، 101 أسباط: 173 الأسترابادي: 66، 391 الأسلمي: 95 الأشعري: 483 الأعمش: 46، 56، 108 أفلاطون: 448 أمّ كلثوم: 99 أميني (علّامة): 48، 64، 69 أنس بن مالك: 63، 65، 115، 132،

221، 265، 268، 269، 283، 284، 387 أوريا: 271 الأوزاعي: 145 الأهوازي: 66، 297 أيوب عليه السّلام: 142، 185، 225، 279، 280،

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 625

281، 282، 283، 284 (حرف الباء) الباقر عليه السّلام: 23، 61، 78، 150، 259، 324، 325، 370، 378، 387، 411، 505، 510 بانو أمين: 478 البحراني: 19، 330 بحيرة الطبرية: 106 البخاري: 45، 48، 50، 51، 66، 84، 88، 91، 101، 110، 111، 113، 118، 127، 155، 214، 258، 303، 436، 453، 463، 483 بختنصر: 225، 231، 234، 235، 237 البرقاني: 19، 334 البزّار: 108، 213، 295 البزّار: 83، 116 بسر بن سعيد: 114 بشر: 205 بطيانموس: 235 البغدادي: 544 البغوي: 157، 160، 164، 189، 191، 192، 193، 195، 197، 199، 200، 202، 219، 224، 225، 231، 249، 251، 254، 262، 267، 268، 270، 273 بكر بن عبد اللّه: 205 البكري: 65 البلاغي: 437، 438 بلقيس: 249، 251، 252 بو بكر زقاق: 561، 563 البهائي: 338، 402 البيضاوي: 337، 402، 430 البيهقي: 213، 243، 265 البيهقي النيسابوري: 48، 65، 143، 145، 172، 184، 194، 221، 246، 362 (حرف التاء) تبيع: 101 الترمذي: 47، 113، 180، 185، 204، 247، 268، 270 التستري (سهل بن عبد اللّه): 540، 543 التستري (نور اللّه): 392 التفتازاني: 534 (حرف الثاء) الثعالبي: 114، 343، 345، 335

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 626

ثعلب (أبو العباس): 13، 504 الثعلبي: 16، 157، 160، 189، 191، 192، 197، 202، 219، 225، 249، 251، 269، 273، 286، 293، 335 ثماقة بن الأشرس المعتزلي: 503 (حرف الجيم) جابر بن عبد اللّه: 16، 356، 359، 360، 366 جالوت: 159،

160، 161، 162، 164 الجبائي: 16، 378، 379، 407، 423 جبرائيل: 43، 44، 154، 156، 199، 213، 221، 225، 226، 253، 268، 281، 293، 396، 429، 518 جبير بن نضير: 124 جرادة: 274، 278 الجرجاني (سيد أبو طالب): 382 الجريري: 104 الجزائري: 39، 327 الجزائري (عبد النبي): 372 الجصّاص: 16، 356، 359، 360، 366 جعفر: 547 جعفر بن أبي طالب: 113 جعفر بن سليمان: 36 جلال الدين المحلي: 521 جمال الدّين عبد الصمد: 502 الجنيد: 546، 562 الجواد عليه السّلام: 25 الجواد الكاظمي:

جوزجاني: 214 الجويباري (أحمد بن عبد اللّه): 41، 64 الجويني (عبد اللّه): 365، 434 (حرف چ) چنگيزخان: 587 (حرف الحاء) حاجي خليفة: 382، 573 الحاكم الحسكاني: 323، 382، 383 الحاكم النيسابوري: 41، 68، 117، 143، 145، 204، 213، 221، 246، 264، 265، 266، 386، 587 الحاكم أبو أحمد: 219 حام بن نوح: 210، 211 حامد حفني: 518 حبيب اللّه آموزگار: 559، 569 حجّاج: 198

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 627

حذيفة: 235، 236، 245 حرملة: 364 حسّان بن ثابت الأنصاري: 386، 399، 411، 501 الحسن: 41، 78، 116، 179، 193، 204، 205، 206، 210، 227، 254، 262، 263، 264، 269 الحسن عليه السّلام: 49، 53، 54، 412، 413 الحسن البصري: 12، 105، 132، 208، 225، 259 الحسن السّباح: 539 الحسن بن دينار: 254 الحسن بن سهل: 13، 504 الحسن بن قزعة: 180 الحسن بن يحيى: 511 حسن عباس زكي: 532، 535 الحسين عليه السّلام: 53، 54، 399، 412، 413 الحسين بن الواقد: 108 الحسين بن حميد بن ربيع: 67 الحسين بن ذكوان: 105، 108 الحسين بن محمد البذري: 67 الحسين القايني: 382 الحكم

بن ظهير: 214 حكيم بن جابر: 22 حماد بن سلمة: 104 حمّاد بن عمر النصيبي: 67 حمدان بن الأصبهاني: 60 حميد: 63 حواء: 163، 201، 202، 203، 204، 206، 207، 208، 209، 329، 330 الحويزي: 18، 327 (حرف الخاء) الخازن: 16، 249 خالد بن عرقطة: 123 خديجة عليها السّلام: 296 خزيمة بن ثابت: 296، 297، 298 خصيف: 206 خضر عليه السّلام: 64، 65 الخطيب: 38، 143، 145، 169، 296 خلاس: 180 خليل: 42، 66 خليل ياسين: 515 الخوئي: 409 الخوئي الدمشقي: 407، 408 الخوئي (شمس الدين): 408 خوئي (شهاب الدين): 409 الخواجا عبد اللّه الأنصاري: 552، 553،

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 628

554، 565، 566 الخوارزمي: 319 الخوانساري: 338، 402 (حرف الدال) الدارقطني: 255، 368 الداري (تميم): 94، 103، 104، 105، 106، 122 دانيال عليه السّلام: 124 داود عليه السّلام: 139، 142، 159، 161، 162، 163، 164، 255، 266، 269، 270، 271، 272 داود بن الحصين: 206 داود بن المحبّر: 67 الداودي: 271، 545 الدّجّال: 107، 294 الدربندي: 40 الدّوري: 108 الديلمي: 153، 221، 254، 255 (حرف الذال) ذو القرنين: 240، 241، 242، 243، 245، 248 ذو النون مصري: 562 الذهبي: 29، 34، 52، 62، 65، 82، 92، 95، 102، 104، 116، 120، 126، 169، 214، 266، 297، 308، 313، 357، 358، 359، 360، 361، 362، 366، 387، 388، 389، 390، 408، 448، 449، 455، 457، 462، 464، 467، 490، 493، 497، 517، 537، 538، 545، 584، 585 (حرف الراء) الرازي (الخزاعي): 390 الرازي (الفخر): 15، 148، 302، 392، 406، 407، 408، 409، 415، 418، 420، 421، 422، 424، 427، 428، 431، 432، 436

الرازي (أبو الفتوح): 390، 392، 393، 407، 414 الرازي (أبو الوفاء): 382 الرازي (أبو جعفر): 295 الرازي (أبو حاتم): 205 الراغب: 431، 512 الرافعي (مصطفى صادق): 115، 445

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 629

الراوندي (هبة اللّه): 369 الربيع: 143، 175، 199، 212 ربيع بن أنس: 194، 259، 295 ربيع بن حراش: 235 ربيع بن محمود المارديني: 67 رشيد رشدي العابري: 446 رشيد رضا: 119، 454، 455، 465 الرشيد (مأمون): 63، 149، 503 الرشيد (هارون): 42، 43، 44 الرضا عليه السّلام: 134، 149، 338، 401، 411، 587 الرمّاني: 16 (حرف الزاء) الزبيدي: 505 الزبير: 56 الزبير بن بكار: 53، 153 الزجّاج: 15، 379، 508 زرارة: 324 زروق: 534 زكريّا عليه السّلام: 313، 233، 235 زكريا ابو سعيد العدوي (الحسن بن علي):

67 زكريا بن يحيى: 43، 67 زليخا: 217، 219 الزمخشري: 16، 170، 175، 191، 192، 286، 311، 321، 338، 391، 402، 430، 431، 433، 436، 436، 480، 482، 487، 489، 490، 491، 493، 494، 496، 497، 498، 499، 521 الزهري: 45، 60، 105، 177، 183، 184 زيد بن اسلم: 277 زيد بن الثابت: 316 زيد بن حباب: 242، 254 زيد بن علي: 511 زينب بنت جحش: 142 (حرف السين) السائب بن يزيد: 105 الساجي: 112 سالم: 129 سالم بن عبد اللّه: 147 سام: 210 بسرة بنت غزوان: 113 السدي: 46، 88، 131، 143، 167، 173، 199، 207، 221، 250، 267، 283، 341، 387 سعيد: 145، 205

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 630

سعيد (بن بشير): 207 سعيد بن المسيّب: 98، 231، 259، 277، 287 سعيد بن منصور: 213، 221 سفيان: 238 سفيان بن وكيع، 227

السلطان (عبد المجيد خان): 436 سلمان: 179، 181 سلمة: 234 سليمان بن بريدة: 105، 108 سليمان عليه السّلام: 2، 142، 150، 151، 178، 235، 249، 250، 251، 252، 253، 273، 274، 277، 278، 279 سليمان التيمي: 205 سليمان عتر التجيبي: 131 السمرقندي: 335، 573، 574 سمرة: 204، 205 سمرة بن جندب: 201، 205 سنجاريب: 233، 234، 237 سواد بن عمر: 78 سواد بن قزية، 78 سواد بن قيس: 78، 79 السهروردي: 574 سهل بن السري: 64 السيّد أحمد الحسيني: 370 (حرف الشين) شاذ بن فياض: 204 الشاذكوني (سليمان بن داود): 67 الشافعي: 37، 58، 60، 62، 63، 112، 357، 359، 360، 362، 363، 364، 365، 366، 367، 413 شبّر: 335، 517، 519 شبني: 564 شرف الدين النصيبي المالكي: 415 شريك: 206 شعبه: 115 الشعبي: 83، 105، 107، 108، 133، 259 الشعراني: 401 شعياء بن امصيا: 233 شمعون: 182 شمويل: 158، 163 الشهاب (العراقي): 147 الشهرستاني: 445 الشهيد الثاني: 502 الشيباني (أحمد بن عبد اللّه): 65 الشيرازي: 141

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 631

الشيرازي (أبو محمد): 539، 543، 586 الشيرازي (السيد محمد): 524 (حرف الصاد) الصابوني: 522 صاحب بن عبّاد: 419 الصادق عليه السّلام: 23، 43، 44، 59، 61، 62، 63، 150، 223، 224، 324، 325، 328، 341، 370، 410، 411، 510، 511 صالح بن بشير: 68 صباح بن الأشرس: 298 صدقة: 199 الصدوق: 78، 79، 351 صديقة: 239 صعب بن عبد اللّه: 62 الصفدي: 501، 514 الصنعاني (عبد اللّه بن حارث): 68 (حرف الضاد) الضبي (محمد بن العباس): 64 ضحاك: 63، 199، 221 (حرف الطاء) الطائي (الهيثم): 42 طالوت: 159، 160، 161، 162، 163،

164 الطباطبائي (محمد حسين): 454، 470 الطباطبائي (يزدى): 372 الطبراني: 65، 117، 154، 194، 246، 278، 295، 296، 297، 298 الطبرسي: 18، 286، 323، 331، 338، 382، 388، 389، 402، 523 الطريحي (فخر الدين): 512 طنطاوي (جوهري): 446، 473 الطوسي (جعفر): 61، 63، 373، 374، 375، 376، 378، 382، 390، 505 الطوسي (خواجه نصير الدين): 484 الطوفي: 414، 415 طيطوس: 237 (حرف العين) عائشة: 43، 45، 115، 145، 177، 485 عاد بن إرم: 288، 289، 290 عامر بن صالح: 68

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 632

عامر بن عبد اللّه: 101 العاملي (بهاء الدين): 414 العباس: 45 العباس بن عبد المطلب: 254 العباسي (المهدي): 36، 43، 58 عتبة بن أبي حكيم: 387 عبد الأعلى أبي سمرة: 298 عبد الجبّار: 16، 420، 484، 513، 514 عبد الحارث: 205، 206، 207 عبد الرحمن: 212 عبد الرحمن بن زيد أسلمي: 211، 255 عبد الرحمن بن زياد بن أنعم: 242 عبد الرحمن السلمي: 296، 297 عبد الرحمن بن جبير: 281 عبد الرزاق: 65، 78، 91، 132، 147 عبد الرزاق الكاشي: 586 عبد الصمد بن عبد الوارث: 204 عبد الكريم الشيرازي: 477 عبد اللّه: 108 عبد اللّه الكواكبي: 445 عبد اللّه باشا فكري: 445 عبد اللّه بن أحمد محمود النسفي: 295، 433 عبد اللّه بن الزبير: 101 عبد اللّه بن بريدة: 108 عبد اللّه بن سلام: 87، 94، 95، 96، 129، 134، 135، 136 عبد اللّه بن علّان بن رزين الخزاعي: 68 عبد اللّه بن علي: 37 عبد اللّه بن عمر: 55، 83، 88، 101، 111، 112، 122، 128، 129، 145، 147، 246، 295، 303، 330، 341 عبد اللّه بن

عمرو بن العاص: 28، 55، 88، 91، 94، 110، 134، 137، 143، 145، 155، 156، 246 عبد اللّه بن قيس: 315 عبد اللّه بن مبارك: 206 عبد اللّه بن يزيد المعري: 37 عبد اللّه صالح: 103 عبد اللّه بن موسى: 511 عبد الملك بن مروان: 12، 154 عبد المنعم بن إدريس اليماني: 68 عبد بن حميد: 248، 287، 485 عبيد اللّه: 206 عبيدة: 341 عثمان: 34، 55، 56، 97، 105، 113، 115 عدنان (جد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم): 259

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 633

عروة بن زبير: 45 العزيز: 216 العسكري عليه السّلام: 149، 331 عصام بن داود بن الجرّاح: 235 عطاء: 63، 155، 179، 296 عطاء بن سعيد: 546 عطاء بن يسار: 255 عفّان: 104 عقبة: 207 عقير بن معدان: 295 العقيلي: 213 عكرمة: 41، 180، 206، 207، 221، 226، 250، 287، 216، 460 علاء الدولة السمناني: 587 علقمة: 108 علم الهدى: 374، 395، 408 علي عليه السّلام: 22، 27، 34، 35، 45، 46، 47، 50، 51، 52، 53، 54، 55، 56، 85، 98، 99، 105، 113، 114، 115، 132، 143، 153، 158، 169، 215، 259، 315، 322، 324، 328، 329، 341، 351، 362، 378، 385، 387، 388، 389، 394، 399، 400، 410، 411، 412، 413، 414، 502، 576 علي أبي طلحة: 310، 319 علي بن إبراهيم: 325، 326، 331، 332 علي بن زيد بن جدعان: 254 علي بن سعيد: 546 على بن محمد: 286 العماد (المصطفى): 434 عمّار: 112، 179، 180، 361، 387 عمر: 53، 54، 55، 84، 91، 96، 97، 98، 99، 100، 103، 104، 105،

113، 115، 121، 122، 123، 124، 125، 130، 154، 411 عمر بن إبراهيم: 204، 205 عمر بن بكير: 13، 504 عمر بن عبد العزيز: 261 عمرو: 163، 205 عمرو العاص: 45، 111 عمرو بن ايفاد: 226 عمرو بن دينار: 226 عمرو بن عبد الرحمن: 167 عمرو بن عبيد: 12 عمرو بن علي: 107 عمرو بن محمد: 226 عوج بن عوق: 171، 172، 174 العوفي: 180، 206

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 634

عويلم (أسد): 399، 401 العياشي: 322، 323 عيسى عليه السّلام: 50، 179، 181، 182، 183، 184، 186، 187، 188، 194، 199، 210، 211، 233 (حرف الغين) الغنوي: 112 غياث (ابن إبراهيم): 43، 58، 64 (حرف الفاء) الفارابي (محمد بن تميم): 64 الفاروق: 123 الفاضل المقداد: 371 فاطمة عليها السّلام: 322، 324، 412، 413 فاطمة بنت قيس: 105 فاقس بن اسبايوس: 236 الفرّاء: 13، 14، 503، 504، 505، 506، 507 الفرج بن فضالة: 319 الفريابي: 220 الفضل بن المختار: 298 الفيروزآبادي: 387 الفيض الكاشاني: 16، 335، 338، 339، 402، 430، 520، 587 (حرف القاف) قابيل: 167، 170 القادر باللّه العباسي: 374 القاسم: 198 قاسم بن إبراهيم: 511 القاسمي: 466 قاضي أبو بكر بن العربي: 569 القاضي (عياض): 147، 261، 271، 276 القاضي (ناصر الدين ابو الخير): 430 القانوني (سليمان): 434 قتادة: 132، 180، 191، 196، 197، 204، 205، 207، 221، 227، 247، 252، 275، 279، 283، 290 القرطبي: 16، 18، 38، 40، 53، 157، 185، 192، 197، 202، 203، 245، 344، 403، 404 القشيري: 16، 437، 528، 536، 539، 548 القطّان (يحيى بن سعيد): 40 قطر بن المستنير: 506 القمولي: 407، 409

التفسير و

المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 635

قيس بن خرشمة: 194 (حرف الكاف) الكاشاني (عبد الرزاق): 573، 574 الكاشاني (فتح اللّه): 346 الكاظم عليه السّلام: 411 كالب بن يوحنا: 171 الكبار: 60 كثير بن عبد اللّه: 68 الكسائي: 503، 505، 506 كسرى: 109 الكشي: 322 كعب: 101، 102، 115، 116، 117، 118، 119، 120، 126، 128، 147، 168، 172، 179، 206، 247، 250، 264، 265 كعب الاحبار: 48، 49، 50، 55، 56، 84، 87، 94، 96، 98، 99، 100، 122، 123، 129، 134، 135، 153، 159، 168، 180، 194، 197، 216، 226، 329، 246، 247، 254، 256، 267، 275، 287، 341 الكعبي: 420 الكلبي: 64، 68، 179، 193، 199، 226، 520 الكليني: 325، 326 الكواشي: 496 كورش: 235 الكوفي (الحسن بن عمارة): 67 الكوفي (أبو يسار): 12 (حرف اللام) لبيد بن أحسن: 318، 461، 462، 464 (حرف الميم) ماروت: 128، 142، 143، 145، 146، 147، 149، 152، 153، 154، 284، 329، 337، 339، 340، 341 المازنى: 510 مالك: 121، 184، 369 مالك بن دينار: 225 الماوردى: 223، 404 مأجوج: 117، 241، 243، 244، 245، 246، 247، 248 مأمون بن أحمد الهروي: 64 مجالد: 83 مجالد بن سعيد: 107

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 636

مجاهد: 11، 17، 63، 111، 143، 158، 167، 172، 179، 207، 215، 221، 238، 250، 251، 252، 259، 275، 277، 310، 317، 341، 387، 437، 485 المجلسي: 323، 328، 338، 402 محارب: 108 محقق القمي: 514 محمد: 108 محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: 21، 26، 27، 29، 32، 34، 35، 36، 37، 38، 39، 41، 42، 43، 44، 45، 46، 47،

48، 49، 50، 53، 54، 55، 59، 63، 64، 65، 67، 68، 69، 79، 81، 83، 85، 86، 88، 89، 90، 91، 92، 94، 95، 96، 97، 98، 103، 105، 107، 110، 111، 112، 113، 114، 115، 116، 117، 118، 119، 121، 122، 123، 123، 125، 127، 128، 129، 131، 132، 145، 146، 147، 148، 152، 153، 154، 156، 159، 165، 170، 173، 179، 186، 196، 197، 198، 199، 200، 202، 204، 206، 209، 210، 212، 213، 216، 220، 221، 226، 227، 233، 234، 235، 236، 240، 242، 243، 245، 246، 247، 254، 255، 256، 259، 265، 266، 268، 269، 270، 278، 279، 282، 283، 290، 291، 292، 293، 294، 295، 296، 298، 299، 301، 303، 308، 310، 315، 317، 319، 320، 321، 322، 324، 328، 329، 333، 334، 335، 341، 350، 351، 362، 364، 365، 368، 369، 378، 379، 386، 388، 390، 400، 410، 411، 412، 413، 414، 422، 428، 429، 441، 462، 464، 465، 468، 473، 485، 496، 497، 498، 501، 523، 527، 534، 540، 549، 562، 564، 568، 571، 582، 583 محمد الشيرازي: 454 محمد الصادقي: 454، 472 محمد النسفي الحنفي: 434 محمد أبي محمد: 316 محمد أحمد الغمراوي: 304 محمد باقر الناصري: 522 محمد باقر حجتي: 447 محمد بن اسحاق: 41، 158، 206، 276، 316

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 637

محمد بن الجهم: 504 محمد بن السائب الكلبي: 64، 510 محمد بن العلاء: 276 محمد بن المثني: 204 محمد بن أبي بكر الرازي: 515 محمد بن أحمد الإسكندراني: 443، 444، 446 محمد بن بشار بندار: 204 محمد بن ثور: 12،

205 محمد بن حبّان: 108 محمد بن حميد: 316 محمد بن خالد: 58 محمد بن سعيد: 58، 60، 64 محمد بن سليمان: 35 محمد بن سهل بن عسكر: 233 محمد بن شجاع: 68 محمد بن عبد الملك زنجويه: 233 محمد بن عكاشة الكرماني: 41، 64 محمد بن علي: 511 محمد بن علي بن محمد الحاتمي الطائي:

571 محمد بن فضل: 546 محمد بن قاسم الكانكاني: 64 محمد بن كعب القرظي: 94، 109، 250، 287 محمد بن مسلم: 324 محمّد بن يزيد: 194 محمد بن يعقوب: 296، 297 محمد بن يوسف القطان النيسابوري: 544 محمد تقى المدرسي: 454، 473 محمد جواد مغنية: 454، 477 محمد حسين فضل اللّه: 454، 474 محمد عبد المنعم الجمال: 446، 449 محمد عبده: 34، 222، 313، 314، 453، 454، 455، 456، 460، 467، 573، 577، 585 محمد علي الصابوني: 454 محمد على امين: 478 محمد عليان: 482 محمد علي أيازي: 479 محمد علي دخيل: 523 محمد محمد القاسمي: 454 محمد هادي معرفة: 588 محمود الذّاب: 572 محمود بن غيلان: 40 محيي الدين عربي: 16، 537، 539، 572 المراغي: 454، 467، 482 المروزي (سليمان بن بشير الخراساني):

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 638

63 المروزي (محمد بن سعيد): 38 المروزي (نوح بن أبي مريم): 40، 41، 66 مريم عليها السّلام: 491، 578 مريم: 463 مسروق: 108 المسعودي: 176، 178 مسلم: 40، 45، 101، 105، 107، 108، 113، 114، 118، 453 مسيب بن واضح: 41 المشهدي: 335، 338، 401 مصعب بن عبد اللّه: 62 مصطفى صادق الرافعي: محمد بن يزيد الثقفي: 194 المصلوب (محمد بن سعيد): 63، 64 معاذ بن جبل: 298 المعافي التميمي:

43 معاوية: 34، 44، 45، 46، 47، 48، 49، 50، 51، 52، 54، 55، 56، 84، 85، 97، 101، 111، 112، 114، 119، 126، 130، 131، 185، 194، 214، 287، 360، 361، 362 معاوية بن حرمل: 104 معاوية بن صالح: 290 المعتمر: 205 معمّر: 65، 78، 132، 205 معن بن زائدة: 35 معن بن عيسى: 62 المغيرة بن سعيد الكوفي: 64 مقاتل: 179، 194 مقداد: 378 المقدام بن معديكرب: 290 المقدس الأردبيلي: 371 المقري: 391، 511 منتجب الدين: 391 منصور بن المعتمر: 235 المنهال بن عمرو: 276 موسى عليه السّلام: 82، 83، 84، 139، 157، 158، 162، 171، 172، 173، 174، 175، 176، 177، 178، 188، 189، 190، 191، 192، 193، 194، 195، 196، 197، 198، 199، 200، 369، 389، 394، 564، 566 موسى بن عقبة: 129، 147 المهدي عليه السّلام: 236، 325، 397 مهدى محقق: 514 الميبدي: 552، 553 ميسرة بن عبد ربه: 41

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 639

(حرف النون) ناصر مكارم (الشيرازي): 454، 475، 476 نافع بن بديل: 54، 390 النجاشي: 325، 374، 505 نجم الدين داية: 587 النحوي (تاج الدين): 525 النخعي: 65، 68 النراقي (مهدي): 40 نسائي: 51، 52، 60، 118، 269، 273، 295، 300، 303 النسفي: 203 النطنزي الأصفهاني: 514، 586 النعماني: 322 نعيم: 103 نعيم بن حماد: 41 نوح: 150، 172، 173، 174، 209، 210، 211، 212، 289 نوح بن أبي مريم: 294 النّووي: 104 النهاوندي (أبو عبد اللّه): 42 النيسابوري: 437، 543 (حرف الواو) الواحدي: 15، 219، 544 الواقدي: 60، 61، 62، 343 وكيع: 56 وليد بن عتبة: 119 الوليد بن مسلم: 255 وهب: 69،

111، 193، 194، 228، 230، 250، 252، 253، 264، 265 وهب بن جرير: 107 وهب بن منبه: 78، 79، 87، 94، 109، 119، 135، 157، 158، 159، 162، 165، 179، 180، 181، 189، 206، 216، 225، 231، 232، 234، 238، 240، 241، 262، 267، 270، 276، 282، 283، 284، 287 وهب بن وهب القاضي: 64 (حرف الهاء) هابيل: 168، 170 هاجر: 257 هاروت: 128، 142، 143، 145، 146، 147، 149، 152، 153، 154، 284، 329، 337، 339، 340، 341

التفسير و المفسرون(للمعرفة)، ج 2، ص: 640

هارون: 140، 162، 389 هارون بن رباب: 145 هاشم: 412 الهراسي: 365 هشام بن عبد الملك: 52 هشام بن عروة: 43 الهلال: 205، 294 هلال بن فياض: 204 همام بن منبّه: 111 هود: 289 الهيثمي: 297، 298 (حرف الياء) يافث: 210 يأجوج: 117، 241، 243، 244، 245، 246، 247، 248 يحيى: 79 يحيى بن سعيد: 60، 107، 108 يحيى بن معين: 43، 44، 59، 62، 67، 132 يحيى بن هاشم الغساني: 69 يزيد: 205 يزيد بن أبان الرقاشي: 269 يزيد بن أسلم: 171 يزيد بن هارون: 62، 115 يعرب بن قحطان: 170 يعقوب: 79، 80، 158، 162، 213، 215، 218، 255، 260 يعقوب بن سفيان: 61 يوسف: 121، 141، 142، 178، 213، 214، 215، 216، 217، 219، 220، 222، 223، 224، 225، 226، 227، 411 يوسف بن عمر: 109 يوشع بن نون: 171، 194 يونس بن عبد الأعلى: 62

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.